الأرتقيون
ارتقيون
Artuqids - Artukides
الأُرْتُقيون
(495-812هـ/1101-1409م)
تنتسب الأسرة الأُرْتُقية إلى مؤسسها أُرْتُق ابن أَكْسَك أو أكسب الملقب بظهير الدين، وهو من قبيلة الدُقِر Doger إِحدى العشائر الكبيرة التي تنتمي إلى الغز التركمان، وقد شاركت هذه القبيلة في بناء كيان الدولة السلجوقية، ثم أتيح لها أن تؤسس دولة في جهات ديار بكر ومارِدِين وحصن كَيْفا وخَرْتَبِرت (وهو حصن زياد) وميّافارقين، ومنبج، وامتد سلطانها في بعض الأزمنة إِلى حلب. وقد عمرت هذه الدولة طويلاً فامتد حكمها من أواخر القرن الخامس إلى أوائل القرن التاسع الهجريين/ الحادي عشر - الخامس عشر الميلاديين. وانقسمت إلى ثلاث دول: أراتقة كَيْفا وآمد، وأراتقة مارِدِين، وأراتقة خرتبرت. وكانت هذه الدويلات تستقل تارة وتخضع للدول الكبرى المجاورة تارة أخرى كالسلاجقة والأيوبيين والمماليك والمغول، كما كانت تسالم الفرنجة الصليبيين حيناً وتحاربهم أحياناً.
تأسيس الدولة
عمل السلاجقة علىاستمالة قبيلة الدقر بمنحها الإقطاعات، وفوضوا إلى أفراد منها قيادة بعض الحملات العسكرية، فبرز منهم أُرْتُق الذي كان من أبطال المغامرين، ثم أصبح من مماليك السلطان السلجوقي ملك شاه بن ألب أرسلان، وقدم له خدمات عسكرية كبيرة في جهات عدة فقاتل البيزنطيين في آسيا الصغرى سنة 465هـ/1072م، وقاتل قرامطة البحرين سنة 470هـ/1077م، وأخضع المنطقة للسلاجقة، واستولى على حُلْوان والجبُّل وما جاورهما شرقي العراق، فولاه ملك شاه على حلوان وماوليها من العراق حتى سنة 477هـ/1084م. وشارك في حملة السلاجقة الثانية على بلاد الشام وديار بكر، وكان له دور مهم في الاستيلاء على الموصل. ثم نقل خدماته إلى الشام ودخل في طاعة تاج الدولة تُتُش بن ألب أرسلان وساعده في قتاله مع سليمان بن قتلمش. ونظراً لما اتصف به أُرْتُق من الشجاعة والإِقدام وحسن التوفيق في الحروب فقد أقطعه تُتُش القدس سنة 479هـ/1086م، لما لها من أهمية دينية من جهة، ولوقوعها على الخطوط الأمامية في الصراع بين السلاجقة والفاطميين من جهة أخرى، وتوفي أُرْتُق فيها سنة 484هـ/1091م، تاركاً حكمها لولديه سُقمان (سكمان) وإِيلغازي.
يعد أُرْتُق واضع الكيان السياسي للأُراتقة، لأن القدس أصبحت مركز تجمعهم وحجر الزاوية في نشاطهم السياسي والعسكري. وبقي أبناؤه فيها حتى سنة 491هـ/1097م، وكان لهم شأن مهم في الصراع الذي شهدته بلاد الشام والمناطق التابعة للسلاجقة، فقد ظلوا على موالاتهم لتتش حتى مقتله سنة 488هـ/1095م، وأسهم سُقمان وإِيلغازي بعد تُتُش في أحداث الصراع الذي نشب بين ولديه رضوان ودُقاق.
وقد حاول رضوان ضم الأراتقة إلى صفه في صراعه مع أخيه دُقاق، فأقطع سُقمان معرة النعمان وأعمالها سنة 489هـ/1095م، وكان تُتُش قد أقطعه سروج قبل ذلك. ونتيجة انتصار سُقمان في معركة القويق سنة 490هـ/1097م على دقاق وحليفه يغي سيان (ياغي سيان) صاحب أَنطاكية، أصبح له نفوذ كبير على رضوان. وبعد سقوط القدس بأيدي الفاطميين سنة 491هـ/1098م، (استولى الصليبيون على القدس بعد أحد عشر شهراً من ذلك الحين) سمح الأفضل بن بدر الجمالي لسُقمان وإِيلغازي بالخروج آمنين إلى دمشق ومعهما ابن أخيهما ياقوتي، وابن عمهما سونج، فمضى سُقمان إلى ديار بكر وانفرد بالسلطة فيها لكثرة التركمان في المنطقة، ومكنته الظروف من الاستيلاء على حصن كَيْفا سنة 495/1101م، فاتخذه قاعدة لتوسيع ممتلكاته هناك فاستولى على حصن دارا القريب، وسيطر على بعض المقاطعات في أقصى الشمال، ثم استولى في السنة التالية على مارِدِين وأتبعها برأس العين وهكذا استطاع سُقمان في غضون سنتين فقط أن يضم إليه عدداً من المراكز العسكرية والاقتصادية المهمة في ديار بكر واتبع سياسة ودية مع الحكام المحيطين بإمارته ليثبت أقدامه في المنطقة فاعترف باستيلاء قليج أرسلان على ميّافارقين سنة 498هـ/1105م، إلا أن حكم سُقمان لديار بكر لم يدم طويلاً فقد توفي في السنة نفسها.
أما إِيلغازي ففارق أخاه بعد لجوئهما إلى دمشق وسار إلى بغداد وحصل على حلوان، التي كانت لأبيه، إقطاعاً له، وتسلم «شحنة» بغداد فلم يحسن السيرة فيها وتسببت فتنة سنة 496هـ/1102م في خروجه منها، فارتد إلى حلوان، وما إِن علم بوفاة أخيه سُقمان حتى سار إلى ديار بكر واستولى على مارِدِين وبعض الحصون الأُرْتُقية الأخرى. على حين أخذ ابن أخيه إِبراهيم بن سُقمان حصن كَيْفا، فانقسمت إِمارة الأراتقة في ديار بكر إِلى قسمين فكانت مارِدِين قاعدة إِيلغازي بن أُرْتُق وأبنائه، وكان حصن كَيْفا قاعدة أبناء سُقمان بن أُرْتُق، وكان يتبع كلاً من هاتين الإِمارتين عدد من الحصون والقرى، التي كانت تتسع أو تتقلص بحسب قوة الأراتقة وضعفهم من جهة، وبحسب الظروف العامة التي كانت تعيشها المنطقة من جهة أخرى. ولم يحاول أي من الطرفين في البداية توحيد الإِمارتين لمجابهة الأخطار المحدقة بهما، بل كثيراً ما كانت العلاقات تسوء بين الإِمارتين إلى درجة الحرب والغزو.
أما علاقة الأراتقة الرسمية بالخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية منذ تأسيسها حتى سنة 521هـ/1127م، فقد كانت ودية فيما عدا مرات قليلة، وكانوا يخطبون للخلفاء العباسيين، وللسلاطين السلاجقة معاً ويضربون السكة باسمهم، ويقدمون لهم الطاعة والخضوع الاسمي، فضلاً عن وضع قواتهم، ولو اسمياً بتصرف السلاجقة. وربما أدوا إِليهم قطيعة (إِتاوة) سنوية بحسب ما هو مقرر في النظام الإِقطاعي السلجوقي.
توسع دولة الأُرْتُقيين
سار إِيلغازي أمير مارِدِين على سياسة أخيه سُقمان في استغلال الأحداث السياسية والعسكرية في ديار بكر، وفي الانضمام إِلى بعض الأمراء على البعض الآخر، وتشكيل الأحلاف والتكتلات من أجل توسيع ممتلكاته في المنطقة. فقد استغل وفاة صاحب الموصل سنة 500هـ/1107م وما نجم عنها من خلافات بين ورثته فضم نصيبين إلى أملاكه. ولما تولى الموصل مودود بن التونتكين سنة 502هـ/1108م أخذها منه مقابل إِقطاعه حرَّان ثم ضم إِليه الضياع التي كانت حول ميّافارقين.
وساعدته الظروف سنة 511هـ/1117م على ضم حلب وما يحيط بها بدعوة من أهلها لعجز أمرائها من أحفاد رضوان بن تُتُش وأوصيائهم عن حمايتها من الصليبيين، وبعد أن تم له الأمر عوض بعض أمرائها عدداً من المواقع والحصون المجاورة كبالس والقُلَيعة. وبهذا بلغت إِمارة مارِدِين أقصى اتساعها.
لم يستطع إِيلغازي الاستقرار في حلب فكان يتردد بينها وبين مارِدِين وأناب عنه على حلب ابنه حسام الدين تمُرتاش، من دون أن يتخذ الإِجراءات الكفيلة بتعزيز دفاعها أمام الصليبيين، كما أن أبناءه لم يحسنوا الإِدارة فيها، وكانت لهم فيها مظالم ومصادرات، إِضافة إِلى اختلافهم فيما بينهم. فقد خلع سليمان بن إِيلغازي طاعة أبيه في حلب، فاضطر أبوه إِلى التوجه إِليها على جناح السرعة سنة 515هـ/1122م، ودخل حلب وسط مظاهر الحفاوة، فأحسن إِلى أهلها، ورفع عنهم بعض الضرائب، ثم ارتد إِلى مارِدِين في المحرم من سنة 516هـ/1122م لخطر أحاق بها. ولم يلبث أن توفي في السنة نفسها ودفن في ميّافارقين، فانقسمت إِمارة مارِدِين وخَرْتَبِرت، وسارعت القوى المحيطة إلى اقتطاع أجزاء منها إِلا أن حسام الدين تِمُرتاش بن إِيلغازي تمكن سنة 518هـ/1124م من إِعادة توحيد إِمارة أبيه واستعاد بالتدريج، ما سلخ منها.
لم تتضح في هذه المرحلة طبيعة العلاقات بين إِمارة مارِدِين، وإِمارة حصن كَيْفا، ويبدو أن إِمارة كَيْفا كانت تتبنى سياسة انعزالية، فلم تسهم في الأحداث العامة سواء في ديار بكر أم في شمالي الشام.
علاقة الأُرْتُقيون مع القوى المجاورة
علاقتهم مع الزنكيين: تسلم عماد الدين زنكي سنة 521هـ/1127م إِمارة الموصل، فتغير ميزان القوى في الموصل وديار بكر والشام، ودخل الأراتقة مرحلة جديدة من حياتهم السياسية وعلاقاتهم الخارجية ونشاطهم العسكري.
فقد حل زنكي محل الأراتقة في حلب، وكان عليه أن يوجد جسراً بينها وبين الموصل، وكانت إِمارات الأراتقة في ديار بكر قلب ذلك الجسر. فبدأ سنة 523هـ/1129م بالاستيلاء على نصيبين، وأدرك الأراتقة مدى الخطر الذي يحيق بممتلكاتهم من صاحب الموصل، فوحدوا جهودهم وتحالفوا سنة 524هـ/1130م مع التركمان في المنطقة فقاتلهم زنكي بالقرب من دارا وهزمهم، واستولى على دارا وغيرها. ومع ذلك فضل عماد الدين زنكي اللجوء إلى الأساليب السياسية، وعمل على بث الفرقة في صفوف الأراتقة لتحقيق أغراضه، فتحالف مع تِمُرتاش صاحب مارِدِين على ابن عمه داود بن سُقمان صاحب حصن كَيْفا الذي تولى الحكم بعد وفاة أخيه إبراهيم سنة 503هـ/1109م. وتعاون زنكي وتِمُرتاش على حصار آمد سنة 528هـ/1134م كما استوليا معاً على قلعة الصور في السنة نفسها، وتخلى عنه زنكي لحسام الدين تِمُرتاش تقديراً لمساعداته وتأكيداً لتحالفهما. وأدى هذا التعاون إلى ازدياد حدة الصراع بين فرعي الأراتقة. كذلك ساعد زنكي تِمُرتاش على الاستيلاء على جبل جور والسيوان، وسلم له حصن دارا، في حين استولى تِمُرتاش بنفسه على قلعة الهتَّاخ من الدولة المروانية سنة 530هـ/1135م. ولما أدرك الأُرْتُقيون أن الخلاف الناشب بينهم لم يكن إِلا في مصلحة زنكي سعوا في بداية سنة 536هـ/1141م، إِلى تبادل الرسل، ودارت مفاوضات آلت إِلى إِقرار الصلح بينهم. وبادر زنكي الذي أدرك ما يحاك من ورائه إِلى العمل السياسي مرة أخرى فتقرب من عدوه بالأمس صاحب حصن كَيْفا الأُرْتُقي وصالحه، وأقر له الأُرْتُقي بالطاعة، وخطب له بعد أن كان من أشد أعدائه في المنطقة، ونُبذ صاحب حصن مارِدِين فانعزل عنهما. وقد أدت هذه الخطوات إِلى زيادة نفوذ عماد زنكي في ديار بكر، فاستولى على عدد من القلاع والحصون في أقصى شمالي ديار بكر، ورتب أوضاعها، وأقام حامية عسكرية في كل منها، ثم صب جهوده لتصفية الإِمارات الأُرْتُقية، وتهيأت له الظروف بوفاة صاحب حصن كَيْفا داود بن سُقمان سنة 539هـ/1144م، فاستولى على مناطق مهمة من إمارة كَيْفا الأُرْتُقية واسترد بعض الحصون التي كان قد وهبها لحسام الدين تِمُرتاش مثل جور وسيوان، وسيطر على أهم المناطق الاستراتيجية في ديار بكر واستقر له الأمر فيها. ولكن انشغال زنكي سنة 539هـ/1144م بتحرير إِمارة الرها من الصليبيين أتاح الفرصة لِتمُرتاس الأُرْتُقي صاحب مارِدِين، كي يوثق علاقاته بالإِمارات المحلية المجاورة له بسلسلة من المصاهرات بين أفراد الأسرة الأُرْتُقية، وخلا الجو لتِمُرتاش وابن عمه قره أرسلان بن داود بمقتل زنكي سنة 541هـ/1146م وهو يحاصر قلعة جعبر. فسعيا إلى استرداد المواقع التي استولى عليها زنكي في ديار بكر، وحققا في مسعاهما نجاحاً مؤقتاً، إِذ تصدى لهما سيف الدين غازي ابن زنكي (ت 544هـ/1149م) من الموصل واسترد معظم ما استولى عليه صاحبا حصن كَيْفا ومارِدِين. وتابع أخوه نور الدين محمود ابن زنكي المهمة من عاصمته في حلب فتحالف مع صاحب حصن كَيْفا، وأفسح له في المجال لتصفية بعض إِمارات المناطق المحيطة به. توفي حسام الدين تِمُرتاش سنة 547هـ/1152م، وتولى الإِمارة من بعده ابنه نجم الدين ألبي، فسيطر على جميع أملاك أبيه، ولم يختلف عليه أحد، ولم يعص عليه موضع. وظلت علاقات نور الدين محمود مع صاحب حصن كَيْفا قره أرسلان بن داود جيدة حتى وفاة قرة أرسلان سنة 562هـ/1166م واستمرت هذه العلاقة على حالها مع صاحب كَيْفا الأُرْتُقي الجديد محمد بن قره أرسلان، الذي ساعد نور الدين محمود على بسط سيطرته على الموصل. وبعد وفاة نور الدين محمود سنة 569هـ/1173م تعرضت المواقع القريبة من مارِدِين لهجمات أمير الموصل، إِلا أنه لم يتعرض لمارِدِين نفسها.
وهكذا يبدو أن إِمارتي مارِدِين وحصن كَيْفا دخلتا في طاعة نور الدين من الناحية الرسمية (الخطبة والسكة) على اختلاف مواقفهما منه وقد تأكد ذلك في صورته النهائية سنة 568هـ/1172م، عندما أرسل نور الدين محمود إِلى الخليفة العباسي في بغداد رسالة يطلب منه فيها تقليداً بما في يده من البلاد وما في طاعته كديار بكر، فأجابه الخليفة إلى طلبه. كذلك ظل الأراتقة يخطبون لسلاطين السلاجقة، ويضربون السكة باسمهم، طول مدة حكم زنكي ونور الدين ولم تعد العلاقات بين الأراتقة والزنكيين بعد وفاة نور الدين على جانب من الأهمية لانشغال الزنكيين في الموصل بالنزاع مع الأيوبيين.
علاقة الأرتقيين مع الأيوبيين: عمل صلاح الدين الأيوبي على توحيد مصر وبلاد الشام وفيها الجزيرة والموصل تحت قيادته ليتسنى له جهاد الصليبيين، وقد وقف الأراتقة في بداية حكمه إِلى جانب الأمراء المحليين في المنطقة، إِلا أن ما أحرزه صلاح الدين من انتصارات على هؤلاء الأمراء وفي مقدمتهم صاحب الموصل اضطر معظم الأراتقة إِلى التخلي عن موقفهم العدائي لصلاح الدين فدخلوا في طاعته وتوجه وفد مشترك من الموصل ومارِدِين وكَيْفا إِلى دمشق سنة 572هـ/1176م لتقديم فروض الطاعة.
وقد توثقت علاقات صلاح الدين مع الأُرْتُقيين بعد ذلك حتى إِنهم كانوا في بعض الحالات يطلبون معونته على أعدائهم من سلاجقة الروم. وكان صلاح الدين يقدم لهم المعونة ليضمن بقاء المنطقة على خضوعها. وقد توصل صلاح الدين في سنة 576هـ/1180م إِلى عقد صلح شامل شارك فيه أمراء الموصل وديار بكر والأُرْتُقيون وسلاجقة الروم. ويتمتع الأُرْتُقيون بموجبه بحماية صلاح الدين الكاملة، وقد اضطره هذا الأمر إلى استخدام القوة أكثر من مرة لفض المشاكل بين الأراتقة وجيرانهم.
ولم يستمر هذا الاستقرار طويلاً، إِذ أدى الشقاق بين الإمارات الأُرْتُقية بسبب تضارب المصالح والأهداف إلى سياسة متعارضة، فاستمر أمير حصن كَيْفا على ولائه لصلاح الدين، وحصل من جراء ذلك على مكاسب مهمة في حين حاول صاحب مارِدِين الانضمام إلى الأحلاف المعادية لصلاح الدين. وكان من نتائج ذلك أن توجه صلاح الدين سنة 578هـ1182م إِلى الجزيرة الفراتية فاستولى على عدد من مدنها، ثم تقدم إِلى الموصل وحاصرها، وكان لأمير كَيْفا دور مهم في حصارها، وحصل لقاء موقفه هذا على عدد من الحصون المهمة في ديار بكر، كقلعة الهيثم، وقلعة الجديدة القريبة من نصيبين، كما حصل سنة 579هـ/1183م على آمد التي غدت لمناعتها مركزاً آخر لأُرْتُقيي كَيْفا. وقد شجعت المكاسب التي حصل عليها الأُرْتُقي من صلاح الدين صاحب مارِدِين على الدخول في طاعة صلاح الدين وطلب حمايته. فأقر الأراتقة على ما بأيديهم، وشرط عليهم أن يراجعوه فيما يفعلونه، ويصدروا عن أمره ونهيه. ورتب معهم من يراقب مدى تنفيذ التزاماتهم تجاهه، وخُطب له في الولايات الأُرْتُقية، وضربت النقود باسمه. واستمر الهدوء حتى عيّن صلاح الدين ابن أخيه المظفر تقي الدين عمر على كل المناطق الواقعة شرقي الفرات، بعد أن اشترط عليه المحافظة على أميري كَيْفا ومارِدِين فلم يفعل، ولما توفي المظفر وضع ابنه ناصر الدين يده على بلاد الجزيرة، فأخرجه صلاح الدين منها، وبرزت إِلى الوجود في هذه الأثناء إِمارة أُرْتُقية جديدة أسسها عماد الدين بن قره أرسلان في خَرْتَبِرت. وكان عماد الدين هذا قد ناب عن أخيه نور الدين صاحب كَيْفا وآمد في حصار الموصل إِلى جانب صلاح الدين سنة 581هـ/1185م، ولما توفي نور الدين في السنة نفسها استتب الأمر في حصن كَيْفا لأكبر أبنائه قطب الدين سُقمان، فانتقل عماد الدين قره أرسلان إِلى خَرْتَبِرت، وهي من أملاك الإِمارة، فاستولى عليها وجعلها إِمارة له استمرت حتى عام 631هـ/1233م، وكانت تلوذ بسلاجقة الروم كلما حاق بها خطر، وكان سقوطها على أيديهم أيضاً، ولم يكن لها شأن يذكر في أحداث المنطقة سوى كونها إِمارة حاجزة في أقصى شمالي ديار بكر.
وبعد وفاة صلاح الدين سنة 589هـ/1193م حاول صاحب مارِدِين الخروج عن طاعة الأيوبيين مع غيره من أمراء المنطقة لكنه أخفق وعقد مع الملك العادل صلحاً على جميع شروط صلاح الدين. إِلا أن محاولات صاحب مارِدِين للخروج عن طاعة الأيوبيين لم تلبث أن تجددت في عهد حسام الدين يولق سنة 594هـ/1197م، فأرسل العادل قوات من الشام استولت على بعض مدن الإِمارة وألقت الحصار على مارِدِين، ولكن وفاة الملك العزيز بن صلاح الدين في السنة التالية، وانشغال العادل في أحداث مصر والشام، اضطراه إلى رفع الحصار عن مارِدِين، في حين ظل أمير كَيْفا الأُرْتُقي على الحياة، وبعد سنتين من رفع الحصار عاد أمير مارِدِين إِلى إِثارة المشاكل في وجه الأيوبيين مستغلاً الخلافات المستحكمة بينهم وجعل من حاضرته ملجأ للخارجين على العادل من أمرائهم، فقرر الملك العادل تصفية هذه الإِمارة نهائياً وسير في عام 599هـ/1202م جيشاً بقيادة ابنه الملك الأشرف موسى وكلفه الاستيلاء على مارِدِين، ولم ينجح الحصار مرة أخرى لمناعة أسوار المدينة، وقبل العادل عقد صلح مع صاحبها على أن يحمل إِليه 150 ألف دينار كل سنة، وأن يخطب له في بلاده، ويضرب اسمه على السكه، وأن تكون قواته في خدمة الملك العادل في أي وقت يطلبها. في حين ظل صاحب كَيْفا وآمد ملتزماً سياسته الودية التقليدية مع الأيوبيين.
وبعد وفاة الملك العادل اجتمع الأُرْتُقيون والخورازمية على الخروج على طاعة الملك الأشرف الأيوبي سنة 623هـ/1226م، ولكن دخول سلاجقة الروم في النزاع أدى إلى عودة الأراتقة إِلى طاعة السلطان الكامل بن العادل الذي غدت الجزيرة من ممتلكاته. ولم يكتف الكامل بهذه الطاعة فتوجه إِلى آمد على رأس جيش ضم أمراء الأيوبيين سنة629هـ/1232م، فاستولى عليها وعلى كل الحصون التي كانت تتبع إِمارة كَيْفا وآمد من دون مقاومة تذكر، ثم حاصر حصن كيفا الذي سقط في يده سنة 630هـ/1232م منهياً بذلك إِمارة كَيْفا وآمد الأُرْتُقية التي عاشت نحو قون ونصف (495-630هـ/1101-1232م) وتبعها في السقوط إِمارة خَرْتَبرت بعد سنة، في حين استمر بقاء إِمارة مارِدِين ما يقرب من القرنين بعد ذلك. إِذ أتاح سقوط كَيْفا وآمد في المجال لماردين لتوسيع نفوذها ولاسيما أن الملك الصالح أيوب - حاكم المنطقة زمن سقوط إِمارتي كَيْفا وخَرْتَبِرت - كان ما يزال صبياً، ولم تكن لديه القوة والدراية بعد. فوقف منه صاحب مارِدِين ناصر الدين أُرْتُق أرسلان المنصور موقف العداء ساعياً إِلى زيادة أملاكه على حساب الأملاك الأيوبية بمفرده تارة أو بالتحالف مع جيرانه تارة أخرى، وزاد في تماديه بعد وفاة الكامل سنة 635هـ/1237م، فهاجم المواقع الأيوبية مستعيناً بالمرتزقة الخوارزمية فعمت الاضطرابات المنطقة من جديد، وانحصر الصراع ما يقرب العقد والنصف على نصيبين بين صاحب ماردين الأُرْتُقي وصاحب الموصل الأيوبي، ولم يتوقف الصراع بينهما إِلا بتدخل صاحب حلب الأيوبي ورسل الخليفة العباسي لتوحيد الصفوف أمام هجمات المغول المتكررة. وكان ذلك في عهد نجم الدين غازي الأول السعيد. وقد أدى هذا الصراع إِلى إِضعاف إِمارات المنطقة وساعد المغول على تثبيت أقدامهم في الجزيرة الفراتية.
علاقات الأُرْتُقيين مع المغول والمماليك: أسهم الأُرْتُقيون في تفتيت وحدة المنطقة بالأحلاف والتكتلات التي أقاموها في وجه الأيوبيين وللحصول على أسلاب جديدة. وكان صاحب مارِدِين يعتقد أنه قادر على توسيع سلطانه على حساب أبناء عمومته. وفي هذه المرحلة، ظهر الخوارزميون الفارون من وجه المغول ويقودهم سلطانهم جلال الدين منكبرتي قوة جديدة في تيار أحداث الجزيرة وأرمينية، وكان الأُرْتُقيون وجيرانهم من الأمراء المحليين ينضمون إِلى جلال الدين الخوارزمي على الأيوبيين وأنصارهم تارة أو ينضمون إِلى الأيوبيين على الخوارزميين تارة أخرى. وقد فتت هذا الصراع قوى هذه الإِمارات الصغيرة، فمكن للمغول في المنطقة. وبعد أن نجح هؤلاء بالقضاء على جلال الدين منكبرتي، انفتح الطريق أمامهم إِلى ديار بكر، فدخل الأُرْتُقيون سنة 650هـ/1252م في طاعة المغول وحمايتهم، وأسرع الملك السعيد صاحب مارِدِين إلى تقديم فروض الطاعة لخان المغول، ولكن هولاكو لم يثق به وقرر احتلال مارِدِين، فحاصرها في جمادى الأولى سنة 658هـ/1260م وتمكن من دخولها بعد أيام، وظل القتال دائراً في شوارع المدينة ثلاثة وستين يوماً، واستعصت القلعة فلم تسقط إِلا في رمضان سنة 659هـ/1261م، وكان الملك السعيد قد توفي في أثناء الحصار، وخلفه ابنه المظفر قرة أرسلان، فسلمه هولاكو حكم مارِدِين وضم إِليه بعض مدن ديار بكر، وأبقى فيها قوة لحفظ المعابر، فغدت إِمارة مارِدِين الأُرْتُقية ولاية مغولية، تلتزم ما يطلبه منها سلاطين المغول ونوابهم في ديار بكر، وتقدم لهم المال والإِمدادات العسكرية، وتضرب السكة باسمهم وتخطب لهم. وتحولت الإِمارة إِلى مركز من مراكز تجمع المغول وقاعدة خلفية تحمي مؤخراتهم في توغلهم في بلاد الشام وفي صراعهم مع المماليك. وقدم الأُرْتُقيون خدمات جليلة للمغول في حصار الموصل سنة 1261م. كما قاتل صاحب مارِدِين إِلى جانب المغول حين قدمت قوات المماليك إِلى ديار بكر لقتال المغول في السنوات 673 - 674- 675هـ/1274-1275-1276م. وأسهم كذلك في الهجمات التي قام بها المغول على الشام سنة 679-680هـ/1280-1281م، وفي سنة 681هـ/1282م حدث تحول في مجرى العلاقات السياسية والعسكرية بين المغول والمماليك إِثر إِعلان بكدار بن هولاكو إِسلامه، فتسمى باسم أحمد. وتغيرت تبعاً لذلك علاقات إِمارة مارِدِين مع المماليك فدخل المغول والمماليك في مفاوضات في زمن السلطان قلاوون، وكان وزير الأُرْتُقيين في مارِدِين بين أعضاء الوفد المفاوض، ولكن مقتل أحمد بن هولاكو في أثناء تلك المفاوضات أدى إِلى إِنهائها، وبقي وزير صاحب مارِدِين معتقلاً. ولجأ أصحاب مارِدِين في هذه المرحلة إِلى اتباع سياسة مزدوجة بسبب تحول ديار بكر إِلى منطقة احتكاك دائم بين المماليك والمغول، فكانوا يقاتلون إِلى جانب المغول ثم يخذلونهم في آن واحد، وهذا ما حدث عندما حاصر المغول قلعة الرحبة (قرب الميادين في سورية اليوم) سنة 712هـ/1312م، وأمدهم صاحب مارِدِين محمود بن غازي بقواته ومعداته ثم انسحب خوفاً من بطش المماليك، بعد أن أوهم المغول بضخامة إِمكانات المماليك ليضطرهم إِلى التخلي عن الحصار من دون قتال، كذلك صاهر محمود بن غازي المغول وذهب بنفسه سنة 715هـ/1315م إِلى حاضرتهم في بلاد فارس حاملاً معه المبالغ النقدية والعينية المقررة بين الطرفين، فأكرم خان المغول وفادته، ولما عاد إِلى مارِدِين أرسل رسوله إِلى القاهرة في العام نفسه، حاملاً رسالة شخصية إِلى السلطان الملك الناصر. وقد قبل المماليك هذا الولاء المزدوج من صاحب مارِدِين في البداية، ولكنهم رفضوه بعد أن أصبحوا قوة لا يستهان بها، في حين أخذت عوامل الضعف تعمل في دولة المغول، وانتهى الأمر بصاحب مارِدِين إِلى الخضوع للمماليك سنة 736هـ/1335م والخطبة لهم وضرب السكة باسمهم إِثر وفاة أبي سعيد خان المغول في فارس والعراق وظلوا على ولائهم هذا حتى سقوط دولة الأُرْتُقيين في مارِدِين.
وقد نعم الأُرْتُقيون في هذه المدن ببعض الهدوء والاستقرار باستثناء حالات قليلة، وتعرض الأُرْتُقيون في أثناء ذلك إِلى ضغط بعض فروع المغول في بغداد والمشرق، فهاجم حسن الجلائري سنة 746هـ/1345م إِمارة مارِدِين، واستولى على عدد من ضياعها، كما استحكم العداء بين الأُرْتُقيين وحكام الموصل وسنجار في سنة 754هـ/1353م.
موقف الأُرْتُقيين من تيمورلنك وسقوط إِمارة مارِدِين: أثر ظهور تيمورلنك تأثيراً مباشراً في سير الأحداث في منطقة ديار بكر، وفي علاقات الأُرْتُقيين مع الدول الأخرى. فقد غدت مارِدِين مركزاً لاستخبارات المماليك واستطلاعاتهم عن تحركات تيمورلنك، وسعى تيمورلنك من جانبه إِلى فرض سيطرته على مارِدِين فبدأ بمراسلة صاحبها وإِغرائه بالطاعة له، ولكنه اعتذر لارتباطه بالمماليك. إِلا أن الأوضاع سرعان ما تبدلت عندما هاجم تيمورلنك بغداد سنة 795هـ/1393م ودخلها، ثم تقدم إِلى تكريت فالموصل، واستولى على عدد كبير من مدن ديار بكر وحصونها، وخرب مناطق كثيرة منها، وأطاعه عدد من حكام المنطقة. ولما لم يحرك المماليك ساكناً، وجد صاحب مارِدِين الملك الظاهر عيسى الأُرْتُقي نفسه مضطراً إِلى تقديم فروض الطاعة إِلى تيمورلنك وطلب الأمان منه، إِلا أنه لم يقبل بتسليم مارِدِين وقلعتها على الرغم من تهديده بالقتل فأبقاه تيمورلنك أسيراً لديه.
هاجم تيمورلنك مارِدِين سنة 796هـ/1394م. فاستعصت القلعة عليه واضطر إِلى فك الحصار عنها، ثم لجأ إِلى الحيلة للسيطرة على ديار بكر، فأخرج الملك ظاهر عيسى من سجنه سنة 798هـ/1396م وأعطاه حكم مناطق عدة في ديار بكر، واشترط عليه أن يكون في حمايته وأن يساعده عسكرياً، وأن يلبي دعوته بالقدوم إِليه كلما طلب منه ذلك، وأن يضرب السكة باسمه، وأن يخرج عن طاعة المماليك ويقبض على أمير مارِدِين الذي ناب عنه في أثناء سجنه علاء الدين الطنبغا. فحلف له الظاهر على ذلك. وهكذا خضع الأُرْتُقيون لتيمورلنك اسمياً، ولكنهم تمتعوا بنوع من الاستقلال بسبب انشغال تيمورلنك عنهم بمشاكل كثيرة. بل إِن الظاهر عيسى أعاد الخطبة للسلطان المملوكي برقوق سنة 802هـ/1399م. وأبى تلبية دعوة تيمورلنك للحضور بين يديه سنة 803هـ/1400م. فحاصر تيمورلنك مارِدِين ثانية، ولكنه أخفق من جديد في الاستيلاء عليها، وأثبتت مارِدِين مرة أخرى قدرتها على مقاومة أقوى دولة في الشرق آنذاك، ولكن الحصار ألحق أضراراً بالغة بالإِمارة وأحالها إِلى خراب، فغادرها عدد كبير من سكانها ولم تنهض من كبوتها أو تستعيد ازدهارها وعمرانها بعد ذلك، فلجأ أصحابها إِلى اتباع سياسة الحياد، وعدم استفزاز تيمورلنك أو المماليك. وكثر الطامعون بالإِمارة التي كانت تتعرض باستمرار لهجمات القبائل التركمانية في المنطقة، ولاسيما الآق قوينلو، فزاد ذلك من ضعفها، وعم الخراب ربوعها، وفقدت كل مقوماتها الدفاعية، وتمكن قره يوسف أمير دولة القره قوينلو من إِسقاطها سنة 812هـ/1409م، فقتل عدداً كبيراً من أبناء البيت الأُرْتُقي، ودس السم لآخر أمرائها.
علاقة الأُرْتُقيين بالصليبيين: كان الأراتقة في غالب الأحيان ينضوون تحت لواء حلف مسلم لمجابهة خطر الصليبيين، أو يتزعمون في أحيان أخرى حركة الجهاد ضدهم. إِلا أن ظروفاً معينة كانت تدفعهم إِلى الانحياز إِلى جانب الصليبيين مدة قصيرة أو التحالف معهم على القوى العربية الإِسلامية، ثم يرتدون بعد ذلك إِلى حظيرة المسلمين في ظل شخصية عربية إِسلامية قوية تجاهد الصليبيين. ففي المرحلة الأولى من الاحتلال الصليبي لسواحل بلاد الشام استجاب الأُرْتُقيون إِلى نداءات الأمراء المسلمين وتحالفوا معهم لمجابهة ذلك الخطر. وأرسلوا قوة سنة 491هـ/1098م لمنع احتلال الصليبيين لأنطاكية لكنها انهزمت عند حارم. كذلك انضم الأُرْتُقيون إِلى حلف كربوقا أمير الموصل وظلوا يقاتلون الصليبيين إِلى جانبه إِلى أن فقدوا الأمل في النصر فآثروا الانسحاب. وخسر الأُرْتُقيون في موجة التوسع الصليبي الأولى مدينة سروج، وتبادلوا الهجمات، بينهم وبين الصليبيين الذين استولوا على الرها.
كذلك قاتل الأُرْتُقيون الصليبيين إِلى جانب حاكم الموصل جكرمش سنة 497هـ/1103م في معركة عرفت باسم معركة البليخ أو حران، فهزموا الصليبيين وأسروا كلاً من بلدوين وجوسلين، وحرر سُقمان الأُرْتُقي عدداً من حصون المنطقة، وقد قضت هذه المعركة على آمال الصليبيين في التوسع شرقاً باتجاه العراق. واستطاع سُقمان في السنة نفسها أن يسحق قوة صليبية خرجت من الرها تريد الرقة. كما انضم بعد سنة إِلى قوة قدمت لنجدة فخر الملك ابن عمار وردت الصليبيين عن طرابلس.
وعند وفاة سُقمان سنة 498هـ/1104م، تسلم أخوه إِيلغازي مهمة قتال الصليبيين، فتحالف مع بقية الأمراء المسلمين على الصليبيين، وتولى بنفسه قيادة هذا الحلف أكثر من مرة. كما انضم سنة 503هـ/1109م إِلى حلف حاكم الموصل مودود بن التونتكين لقتال الصليبيين، وحاصر معه الرها، وأرسل ابنه على رأس قوة للانضمام إِلى جيوش المسلمين التي حاصرت الرها وتل باشر أواخر سنة 505هـ/1111م، وأعاد الكرة سنة
507هـ/1113م. وبعد هذا التاريخ مال إِيلغازي إِلى مهادنة الصليبيين، بسبب العداء بينه وبين البُرْسُقي الذي قاد حركة الجهاد. وقد أدى موقفه هذا إِلى انتصار الصليبيين في معركة تل دانث، وأدرك إِيلغازي خطأه، فأخذ في السنوات التالية يكيل لهم أقسى الضربات بالاشتراك مع حليفه طغتكين أتابك دمشق ثم تسلم مركز الزعامة في قتالهم بعد توليه حكم حلب سنة 511هـ/1117م وقاد بنفسه القتال في معركة ساحة الدم الشهيرة (قرب عفرين) سنة 513هـ/1119م والتي قتل فيها روجر أمير أنطاكية ومعظم رجاله وفرسانه. وأعقب ذلك بسلسلة من الانتصارات أبعدت الصليبيين عن حلب. وتابع بَلك بن بهرام ابن أخي إيلغازي سياسة عمه. فانتصر على جوسلين أمير الرها وأسره، كما أسر بلدوين الثاني سنة 517هـ/1123م في قلعة خَرْتَبِرت، وكان بلدوين هذا ملك بيت المقدس، ووصياً على إِمارتي الرها وأنطاكية، واستمر بَلك على قتال الصليبيين إِلى أن قتل بسهم أصابه عند حصن منبج سنة 518هـ/1124م وانتهت بمقتله مرحلة قيادة الأُرْتُقيين لحركة الجهاد، وانشغلوا بمسائل إِمارتهم الداخلية.
وعلى الرغم من عزلة الأُرْتُقيين في هذه المرحلة، فإِنهم عملوا على مساعدة عماد الدين زنكي والإِفادة من الانتصارات التي حققها على الصليبيين في إِمارة الرها، ومن الاضطراب الذي عم الإِمارة.
ولما قضى عماد الدين زنكي على إِمارة الرها سنة 539هـ/1144م استولى الأُرْتُقيون على البيرة، وكركر، وحصن منصور وسميساط. وبعد وفاة عماد الدين انضم الأُرْتُقيون إِلى نور الدين محمود بن زنكي في قتاله للصليبيين وأخلصوا له، وغدت القوة الأُرْتُقية جزءاً مهماً من جيشه المقاتل للصليبيين، وكذلك فعلوا في أثناء سلطنة صلاح الدين الأيوبي. وقد استطاع الأُرْتُقيون في هذه المرحلة انتزاع بعض المواقع الصليبية القريبة من إِمارتهم ولاسيما تلك التي بقيت بأيدي الصليبيين من إِمارة الرها.
وعلى ذلك فقد كان للأرتقيين دور مهم في قتال الصليبيين في عهد الزنكيين والأيوبيين، إِذ مكنوا صلاح الدين من تعزيز قواته وتحقيق سلسلة من الانتصارات على خصومه. وقدمت إِمارة كَيْفا في هذه المرحلة أكثر مما قدمته إِمارة مارِدِين، وكان الدافع الرئيسي لذلك تعرض إِمارة مارِدِين لضغط صلاح الدين في تحركاته في منطقة الجزيرة، وانتزاعه بعض ممتلكاتها ومنحها أمراء حصن كَيْفا.
استمرت مواقف الأُرْتُقيين من الصليبيين تترجح بين مناهض ومهادن بعد وفاة صلاح الدين، كما حدث فـي الأعوام 589- 593- 604- 608- 618هـ/1193- 1196- 1207-1211-1221م.
أهم مظاهر الحضارة في زمن الأُرْتُقيين
تنوع سكان البلاد التي دانت للأُرْتُقيين ما بين التركمان والعرب والأكراد من مسلمين ومسيحيين على اختلاف طوائفهم، وبعض اليهود والصابئة. وقد عامل الأُرْتُقيون رعاياهم على اختلاف مذاهبهم معاملة طيبة وعرف عنهم تسامحهم في هذا المجال.
وكان نظام الحكم في الإِمارات الأُرْتُقية وراثياً، ولم يُشذ عن هذه القاعدة إِلا في عهد قطب الدين سُقمان أمير آمد وحصن كَيْفا، إِذ عهد بولاية العهد إِلى مملوك له يدعى إِياز. وتسمى الأُرْتُقيون في البدء بالأمراء ثم بالملوك، وأول من حمل منهم لقب ملك هو أُرْتُق أرسلان سنة 601هـ/1204م فتسمى بالملك المنصور ثم اتخذوا بعد ذلك لقب السلطنة، وأول من تسلطن منهم نجم الدين المنصور غازي (ت 712هـ/1312م). واستمر خلفاؤه يحملون هذا اللقب حتى سقوط إِمارة مارِدِين. وكانوا يضيفون نعتين إِلى أسمائهم.
كانت السلطة بيد الأمير أو الملك، ويساعده جهاز إداري على رأسه الوزير الذي تمتع بصلاحيات واسعة في العهود الأولى من حكم الأُرْتُقيين، وهو الذي يعين بعض كبار الموظفين كالشحنة والمشرف على الوقف وغيرهما، وكان الأُرْتُقيون يتوخون في وزرائهم العلم والثقافة، وقد أحدث منصب نائب السلطنة في مارِدِين في زمن متأخر. أما الولاة على المدن والقلاع فكانوا يكلفون حفظها وصيانتها وتفقد أسوارها وفتح أبوابها وإغلاقها، ولم يكن بقاؤهم في مناصبهم يدوم طويلاً، ومن كبار موظفي الدولة ناظر الديوان، ويساعده في تسيير شؤون ديوانه من الموظفين كالوكيل ومستوفي الدولة والناصح، ومنهم كذلك الحاجب وكاتب الإِنشاء والمحتسب. وقد حظي القضاء وبعض المناصب المرتبطة به كالخطابة والإِفتاء بعناية كبيرة. وكان للقضاة دور مهم في السفارات السياسية، واشتهر عدد كبير منهم.
كانت الزراعة أهم المجالات الاقتصادية لخصب المناطق التابعة للأُرْتُقيين، وكانت المنطقة كثيرة البساتين والضياع والقرى والرساتيق الزراعية، فقد كان لميّافارقين وحدها في مطلع القرن السادس الهجري مئتان وخمس وستون قرية وضيعة زراعية. وكان الإِنتاج الزراعي متنوعاً وأهم المحاصيل الفواكه المتنوعة والبقول والخضروات والقطن. وساعد على ازدهار المنطقة زراعياً ما كان فيها من ثروة مائية واسعة، وسهول فسيحة، إِلا أن الأحداث السياسية والعسكرية كانت تلقي بظلالها على الزراعة إِضافة إِلى العوامل الطبيعية.
وكانت حركة التجارة عند الأُرْتُقيين نشطة، وساعد في نشاطها الاتفاقيات التجارية مع الإِمارات المجاورة ووقوع عدد من أهم مدن ديار بكر، كدنيسر ونصيبين وغيرهما، على الطرق التجارية الرئيسية بين العراق والجزيرة وأرمينية والشام وفارس. وقد شملت التجارة المنتجات الزراعية والمواد الخام، والمصنوعات.
اهتم الأُرْتُقيون ببناء المدارس في مختلف مدنهم وأنفقوا عليها مبالغ كبيرة، ورتبوا لها الأرزاق والوظائف والأوقاف ولاسيما في مارِدِين وحلب وغيرهما. كذلك اهتموا ببناء المساجد وتجديدها. وببناء القصور الفخمة كقصر مارِدِين. وكان بلاط الأُرْتُقيين قبلة لكبار الشعراء مثل صفي الدين الحلي الذي مدح نجم الدين غازي الثاني المنصور بتسع وعشرين قصيدة بعدد حروف المعجم، وقد عد «لا» حرفاً منها بين الواو والياء وسماها «درر النحور في مدائح الملك المنصور» وعرفت بالأُرْتُقيات، كما سميت «الروضة» وكذلك قصد بلاط الأُرْتُقيين الأمير أسامة بن منقذ[ر]، والحسن بن خالد ابن محضر النصراني المارِدِيني الملقب بالوحيد، والديار بكري المشهور يحيى بن سلامة الحصفكي، الذي برع في فنون عدة ولاسيما الشعر، كما برز مار يوحنا في علوم الهندسة والمساحة، وأسهمت المؤسسات الكنسية بنصيب وافر في الحركة الثقافية التي ازدهرت في ديار بكر، فألف رجال الدين الكتب واستنسخوها وجمعوها، وأنشؤوا المكتبات والمعاهد الدينية في العلوم المختلفة العقلية والنقلية. كما كانت الندوات الأدبية تعقد في مجالس الملوك، وتمنح الجوائز للمبرزين. وخرجت ديار بكر عدداً من الأدباء والعلماء، عم نشاطهم العلمي والأدبي مختلف أنحاء العالم الإِسلامي، وأسهموا في تنشيط الحركة الثقافية، وتحفل كتب التاريخ بأسماء عدد كبير منهم. وكان بعض ملوك الأُرْتُقيين من العلماء كحسام الدين تمرتاش الذي برع في الحكمة والفلسفة، ووقف على المشهد الذي بناه كتباً حكمية، وظهر في ديار بكر عدد من المتصوفة الذين لقوا تشجيعاً كبيراً في المنطقة وبنيت لهم الربط والخانقاوات وذاعت طرقهم الصوفية في بقية البلاد، كذلك اتخذ الأُرْتُقيون المغنين والموسيقيين والجواري ومالوا إِلى حفلات السمر واللهو، وكانت لهم جولات للصيد والقنص واحتفالات في المناسبات والأعياد.
أمراء الأُرْتُقيين وسني ملكهم في كل إِمارة
أُرْتُقيو كَيْفا وآمد
1 - سُقمان بن أُرْتُق معين الدولة
495 -498هـ/1101-1104م
2 - إبراهيم بن سُقمان
498 -502هـ/1104-1108م
3 - داود بن سُقمان ركن الدولة
502-543هـ/1108-1148م
4 - قره أرسلان بن داود فخر الدين
543 -570هـ/1148-1174م
5 - محمد بن قره أرسلان نور الدين
570-581هـ/1174-1185م
6 - سُقمان بن محمد قطب الدين
581 -597هـ/1185-1200م
7 - محمود بن محمد ناصر الدين
597-619هـ/1200-1222م
8 - مودود بن محمود المسعود ركن الدين
619 -630هـ/1222-1232م
أُرْتُقيو مارِدِين
1 - إِيلغازي بن أُرْتُق نجم الدين
502 -516هـ/1108-1122م
2 - تِمُرتاش بن إِيلغازي حسام الدين
516 -547هـ/1122-1152م
3 - ألبي بن تِمُرتاش نجم الدين
547-572هـ/1152-1176م
4 - إِيلغازي بن ألبي قطب الدين
572-580هـ/1176-1184م
5 - يولق أرسلان بن إِيلغازي حسام الدين
580-597هـ/1184-1200م
6 - أُرْتُق أرسلان إِيلغازي ناصر الدين المنصور
597-637هـ/1200-1239م
7 - غازي بن أُرْتُق نجم الدين السعيد
637 -658هـ/1239-1260
8 - قره أرسلان بن غازي المظفر
658-691هـ/1260-1292م
9 - داود بن قرة أرسلان شمس الدين
691 -693هـ/1292-1294م
10 - غازي بن قره أرسلان نجم الدين
693 -712هـ/1294-1312م
11 - علي ألبي بن غازي عماد الدين العادل
712 هـ/1312م
12 - محمود بن غازي شمس الدين الصالح
712 -765هـ/1312-1363م
13 - أحمد بن محمود المنصور
765 -769هـ/1363-1367م
14 - محمود بن أحمد الصالح
769 هـ/1367م
15 - داود بن محمود المظفر
769 -778هـ/1367-1376م
16 - عيسى بن داود مجد الدين الظاهر
778-809هـ/1376-1406م
17 - أحمد بن السعيد اسكندر الصالح شهاب الدين
809-812هـ/1406-1409م
أُرْتُقيو خَرْتَبِرت
1 - بلك بن قره أرسلان أبو بكر عماد الدولة
581 -600هـ/1185-1203م
2 - إبراهيم بن أبو بكر نظام الدين
600 -620هـ/1203-1223م
3 - الخضر بن إبراهيم عز الدين
620 -631هـ/1223-1233م
4 - أُرْتُق شاه بن الخضر نور الدين المعز
631 توفي 660هـ.
أمينة بيطار