استشراق
Orientalism - Orientalisme
الاستشراق
لم ترد كلمة «الاستشراق» orientalism، المشتقة من مادة «ش ر ق» في أي من المعاجم العربية القديمة، وربما كان المعجم العربي الحديث الوحيد الذي يشير إلى واحد من مشتقاتها هو معجم «متن اللغة» للشيخ أحمد رضا الذي يورد فعلها «استشرق» ويتبعه بشرحه له وهو «طلبَ علوم الشرق ولغاتهم» واصفاً الكلمة بأنها «مولدة عصرية» تطلق على من «يعنى بذلك من علماء الفرنجة». وفعل «استشرق» العربي مشتق من كلمة «الاستشراق» المترجمة لكلمة «orientalism» الإنكليزية و«orientalisme» الفرنسية، الحديثتي العهد، واستخدمت كلمة «مستشرق» ترجمة لكلمة «orientalist» لتصف المشتغل بهذا الحقل المعرفي.
ومما يجدر ذكره أن أول استعمال لكلمة «مستشرق» في اللغات الأوربية يعود إلى عام 1630 عندما أطلق على أحد أعضاء الكنيسة الشرقية أو اليونانية. وقد ظهرت كلمة «مستشرق» أول ما ظهرت في اللغة الإنكليزية نحو عام 1779، في حين لم تدخل كلمة «الاستشراق» «معجم الأكاديمية الفرنسية» Dictionnaire de l’Académie Française إلا عام 1838.
وعلى الرغم من التحفظات الكثيرة التي يواجهها هذان المصطلحان (المستشرق والاستشراق) منذ مدة، فإنهما شائعان شيوعاً كبيراً عززه ظهور طائفة من الكتب في الاستشراق والمستشرقين أبرزها كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» عام 1978. والحقيقة أن هذه التحفظات لا تقتصر على استخدام المصطلحين بل تشمل دلالتهما أيضاً. وعلى حين يتوسع بعضهم في هذه الدلالة يضيقها بعضهم الآخر ويقصرها على حقل صغير من حقول المعاني التي يمكن أن تشتمل عليها هذه الدلالة.
والمتتبع لمصطلح «الاستشراق» في الثقافتين العربية والغربية يلاحظ أنه يستخدم ليشير إلى جملة أمور من أهمها ما يأتي:
إنه يشير إلى البحوث في مختلف أنواع المعارف والعلوم التي أنتجها المتخصصون بدراسة الشرق، وكتب الرحلات وسواها التي أنتجها من اتصلوا بالشرق من دبلوماسيين ورحالة ومبعوثين وموظفين في دوائر الدول الغربية التي استعمرت مختلف أقطاره مدداً متفاوتة وبدرجات مختلفة وخاصة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كما يشير إلى النزعة التي غلبت على فن الرسم الأوربي التي قامت على استلهام الشرق باتخاذه موضوعاً فنياً أثيراً لديها، وهذه النزعة جزء من الثورة الإبداعية الأوربية التي ضاقت بهيمنة الاتباعية الجديدة في مختلف الفنون الجميلة ومن بينها الرسم والموسيقى.
ثم إنه يشير إلى اتخاذ الشرق موضوعاً للمؤلفات الأدبية أو «الهجرة إلى الشرق على الورق» كما في «الديوان الشرقي» لمؤلِّفه الغربي غوته[ر] (1819)، وفي أعمال سواه مثل صموئيل تيلور كولريدج[ر] وغونر إيكيلوف[ر]. وهذه الظاهرة قديمة قدم الأدب الأوربي ومستمرة استمراره.
ومعنى هذا كله أن الاستشراق في جوهره معرفة ينتجها، غير الشرقي، عن الشرق، وهذه المعرفة قد تتخذ صورة الإنشاء في البحوث والكتب وصورة العمل الفني (اللوحة أو القطعة الموسيقية أو ماشابههما)، وأن إنتاج هذه المعرفة تحفزه المواجهة التي تقوم بين غير المجتمع الشرقي والشرق، وأن هذا الإنتاج يستهدف خدمة مجتمعات غير المجتمع الشرقي في هذه المواجهة، إذ هي المقصودة به في نهاية المطاف.
ومع ما للاستشراق من أهمية باستلهامه الشرق في الأدب والفن، فإن هذا البحث سينصرف إلى تفحص الاستشراق بالمعنى الأول للكلمة.
نشأة الاستشراق وتطوره
الاستشراق معرفة ينتجها غير الشرقي عن الشرق، تحفزه على ذلك المواجهة بين مجتمعه أو قومه أو دولته أو امبراطوريته أو جماعته الدينية من جهة والشرق من جهة أخرى. ومعنى هذا أن تاريخ هذه المعرفة مرتبط على نحو عضوي بتلك المواجهة. ولعل السبب في إرجاع بعض الباحثين نشأة الاستشراق إلى مرحلة مبكرة من التاريخ الإنساني توغُّلُه في القدم إلى زمن الاسكندر المقدوني. وعلى الرغم من أهمية المواجهات التي شهدتها البشرية بين الشرق والغرب منذ ذلك العصر، فمما لاشك فيه أن المعرفة الاستشراقية المحفوزة بالمواجهة المذكورة لم تتبوأ مكانة بارزة إلا بدءاً من القرن الحادي عشر الميلادي الذي عرف بداية حركة استعادة كل من شبه الجزيرة الأيبرية وصقلية من يد العرب المسلمين، هذه الحركة التي حفزت على الاهتمام بالعرب والمسلمين وعقائدهم وتاريخهم وثقافتهم لأسباب سياسية ودينية وأيديولوجية وعلمية كذلك. وقد تعزز هذا الاهتمام بقيام الحروب الصليبية إذ كان من الضروري في نظر من كان وراءها فهم معتقدات المسلمين وممارساتهم الدينية وسواها ومواجهتها بوصفها بدعاً تجب مناهضتها، وربما السعي إلى تحويل معتنقيها إلى المسيحية. والحقيقة أن سقوط طليطلة عام 1085م، وما تلاه من الجهود التي نسقها ورعاها بطرس المبجّل (أو المكرَّم) (1092-1157) Petrus Venerabilis بهدف الوصول إلى إدراك لحقيقة الإسلام ومواجهته والتي كان من أبرزها وأهمها ترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينية ترجمة مشوهة على يد فريق كان من بين أعضائه القس الإنكليزي روبرت من كيتون Robert of Ketton عام 1143م [ويسمى أيضاً: روبرت مِنْ تشيستر، وروبرت من ريدنغ (كان حياً 1141-1150م)]، وترجم مايكل سكوت، في إسبانية، القرآن الكريم إلى اللاتينية بطلب من بطرس المكرَّم نحو عام 1142م ضمن مجموعة من الكتب الإسلامية بهدف عرض الإسلام وتفنيد أفكاره من وجهة النظر المسيحية في أوربة. هذه كلها تمثل البداية الحقيقية للإنتاج الجدي للمعرفة الاستشراقية وبحجم لم تعرفه القرون الماضية. وسرعان ما تنبه منتجو هذه المعرفة إلى ما تنطوي عليه المؤلفات العربية والإسلامية من ثروة معرفية كانوا في أمس الحاجة إليها. فعمدوا إلى ترجمة الكثير من هذه المؤلفات ولاسيما المتصلة منها بالفلسفة والعلوم والطب، ورأوا فيها الطريق الأمثل لمعاودة صلتهم بالآثار اليونانية التي كان قد فقد أكثرها. وهكذا ظهر الكثير من هذه الترجمات وعلى رأسها ترجمة كتاب «الشفاء» لابن سينا في نهاية القرن الثاني عشر، وكتاب الجبر للخوارزمي في عام 1145م.
ويذكر أن هذا الموقف المتكافئ الضدين تجاه العرب والمسلمين ظل سائداً على نحو ما في الأوساط الاستشراقية حتى هذا اليوم، وظل يعبر عن نفسه بازدواجية في الأغراض والوسائل والممارسات. فحيث وجد الإسلام عقيدةً ومبادئ وقيماً ومثلاً كان الموقف السلبي المشحون بالتعصب والخرافات والأساطير الشعبية والرواسم الجاهزة، وحيث وجد الإسلام مهداً للعلم والطب والفلسفة كان الموقف الإيجابي، والنظر العلمي الموضوعي، والسعي للإفادة والتعلم. وكانت فصول المواجهة المتتالية تعزز باستمرار الموقف الأول الذي كاد يطبع كل معرفة بطابعه حتى نهاية القرن السابع عشر. وكان الاستثناء الوحيد فريدريك الثاني الصقلي الذي حالت روحه المتنورة بينه وبين الموقف المزدوج تجاه الإسلام والعرب والمسلمين في ذلك الزمن المبكر.
وكان مما دعّم الدراسات الاستشراقية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر تَبَيُّنُ أن التعامل مع المسلمين لأي غرض من الأغراض يقتضي تعلم اللغات الشرقية، ويتضح هذا بوجه خاص في موقف كل من روجر بيكون Roger Bacon وريموند لَل Raymond Lull، وفي موافقة مجلس كنائس فيينة عام 1312 على إنشاء سلسلة من الكراسي للغات العربية واليونانية والعبرية والسريانية في جامعات باريس، وبولونية، وأفينيون، وسلمنقة، وغيرها للمساعدة على القيام بهذه المهمة.
والواقع أن ثمة عوامل مختلفة عززت السعي نحو فهم أفضل للإسلام والمسلمين في عصر النهضة ربما كان من أهمها «النزعة الإنسانية» Humanism، والروح العالمية لهذا العصر، فضلاً عن البحث المتطلع إلى آفاق جديدة في المعرفة الإنسانية، وتَبَيُّنُ أن النظرة المركزية الأوربية إلى العالم والكون لم تعد ممكنة بعد الاكتشافات العظيمة للعالم الجديد، وانطفاء جذوة الحروب الدينية التي استعرت لقرون عدة بلا جدوى. وهكذا شهد القرن السادس عشر تشجيعاً ملحوظاً من البابوية الرومانية على تعلم اللغات الشرقية لأسباب تبشيرية، فضلاً عن أهمية ذلك في مسألة إعادة التوحد مع الكنائس المسيحية الشرقية التي كانت تستخدم العربية أو السريانية أو القبطية لغة للشعائر الدينية. كما شهد إنشاء أول كرسي للغة العربية في «الكوليج دوفرانس» Collège de France عام 1539 تولاه أول ماتولاه غيوم بوستل Guillaume Postel (ت1581م) ثم تلميذه جوزيف سكاليجيه Joseph Scaliger (ت 1609م) وعدد آخر من كبار المستشرقين، وإقامة أول مطبعة عربية عام 1586 في رومة على يد فرديناند دومديتشي كبير دوقات توسكانية يسرت طباعة الكثير من المؤلفات العربية المهمة التي ربما كان من أبرزها آثار ابن سينا في الطب والفلسفة والقواعد العربية.
وكان للصلات السياسية والدبلوماسية والتجارية بالامبراطورية العثمانية، والصلات التجارية المتنامية بشرق المتوسط، فضل كبير في النهوض بالدراسات العربية التي شهدت ازدياداً ملحوظاً في القرن السابع عشر ربما كان من أهم أدلته القيام بجمع المخطوطات العربية والإسلامية في مختلف حواضر القارة الأوربية على يد الأمراء والحكام ومشجعي العلم والثقافة والفن، وكانت حصيلتها العملية أن سُلبت من المسلمين جملة كبيرة من أهم مصادر دراسة ماضيهم وتراثهم الحضاري. وكان من حصيلتها كذلك إنشاء الكثير من الكراسي الجامعية لدراسة العربية وسواها من اللغات في الجامعات الأوربية المهمة. ففي عام 1632 أنشىء أول كرسي لدراسة العربية في كمبردج على يد توماس آدمز Thomas Adams، وأنشئ نظيره في أكسفورد على يد لود Laud عام 1634 وأخذت تظهر بالتدريج أعمال مهمة عن الإسلام بوصفه مؤسسة دينية مهمة، وعن الثقافة الإسلامية، وعن الآداب واللغات الإسلامية وكان بين هذه الأعمال ما غلبت عليه الروح الموضوعية، ولاسيما في فرنسة وإنكلترة وبعض أجزاء القارة الأوربية. ومع ذلك فقد ظل الاستشراق في كل من هولندة وألمانية مرتبطاً بالدراسات اللاهوتية المسيحية لما يقدمه من عون على دراسة نصوص العهد القديم، ولاسيما تفهم الناحيتين الدلالية والصرفية في اللغة العبرية.
ومع حلول القرن الثامن عشر تحول الاستشراق إلى مؤسسة ضخمة سعت أوربة عن طريقها إلى السيطرة على الشرق سياسياً واجتماعياً وعسكرياً وأيديولوجياً وعلمياً في مرحلة ما بعد عصر التنوير، على حد تعبير إدوارد سعيد هذه المرحلة التي شهدت تنامي التوسع الاستعماري في الوطن العربي بوجه خاص، حتى كاد يشمله تماماً مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان الاستشراق فيها، أراد ذلك أم لم يرد، «المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق: التعامل معه بإصدار تقريرات عنه، وإجازة الآراء فيه، وإقرارها، وبوصفه، وتدريسه، والإقامة فيه، وحكمه. وباختصار: الاستشراق بوصفه أسلوباً غربياً للسيطرة على الشرق، وإعادة بنائه وامتلاك السلطة عليه».
مؤسسات الاستشراق وأهم إنتاجاتها
لعل من أهم التطورات التي لحقت مؤسسة الاستشراق هذه في أواخر القرن الثامن عشر، أي منذ بداية عملية توظيفه توظيفاً منظماً واعياً لتسهيل السيطرة على الشرق ومقدراته، تأليف الجمعيات والروابط والتجمعات التي عززت أهميته في المجتمعات الأوربية المنتجة له. وكان إنشاء «مدرسة اللغات الشرقية الحية» Ecole des langues Orientales عام 1795م في فرنسة (إذ لم يعد الإلحاح على دراسة هذه اللغات الشرقية لأغراض علمية وتاريخية وحسب، بل تعداه ليشمل إتقان استعمالها كتابة وقراءة وحديثاً) بداية ظهور مؤسسات لا تكاد تحصى في المجتمعات الغربية لتدبّر الشرق من جميع نواحيه، وإقامة حقل معرفي خاص به هو الاستشراق الذي ظهر مصطلحاً في معجم الأكاديمية الفرنسية عام 1838م.
ويبدو أن عدد الباحثين المعنيين بدراسة الشرق بمدلوله العام كان كافياً في تلك المرحلة للتفكير في إنشاء التجمعات المهنية. وهكذا شهدت هولندة في عام 1778، ولادة أول جمعية علمية لدراسة الشرق هي «الجمعية البتافية للفنون والعلوم»، لتتلوها «جمعية البنغال الآسيوية الملكية» التي أسست في كلكتة عام 1784م. وبعدها تعاقبت الجمعيات والروابط في مختلف أنحاء العالم ولاسيما أوربة وأمريكة، فتكونت في باريس عام 1822م «الجمعية الآسيوية» التي أصدرت مجلتها الخاصة بها وهي «المجلة الآسيوية» في العام نفسه، وكراساتها الموسومة بـ«كراسات الجمعية الآسيوية» بدءاً من عام 1833م. وفي عام 1823م ظهرت إلى النور «الجمعية الملكية الآسيوية لبريطانية العظمى وإيرلندة» التي أصدرت مجلتها الموسومة بـ«مجلة الجمعية الملكية الآسيوية لبريطانية العظمى وإيرلندة» عام 1834م، وتلتها بعد ذلك «الجمعية الشرقية الأمريكية» التي تأسست عام 1842م، وأصدرت مجلتها المسماة «مجلة الجمعية الشرقية الأمريكية» في العام التالي. أما في ألمانية فقد تألفت «الجمعية الشرقية الألمانية» في عام 1845م، وأصدرت مجلتها المشهورة بمختصراتها «ZDMG» في عام 1847م. وقد شهدت الهند (وكانت جوهرة التاج البريطاني) في المدة نفسها تقريباً تأسيس جمعيتين آسيويتين على غرار «الجمعية الملكية الآسيوية» هما «جمعية البنغال الآسيوية» و«جمعية بومبي الآسيوية» اللتان أصدرتا مجلتين خاصتين بهما في عام 1832م و1841م على التوالي، لتحلا محل مجلة «أبحاث آسيوية» التي كانت تصدرها جماعة المستشرق الإنكليزي المشهور ويليام جونز William Jones في «كلكتة» منذ عام 1788م.
وفضلاً عن المجلات والدوريات المختلفة التي كانت تصدرها هذه التجمعات الاستشراقية، فقد ظهرت في أوربة وأمريكة الشمالية دوريات كثيرة تعنى بالشرق وشؤونه، أقدمها مجلة «صندوق الكنوز الشرقية» التي أصدرها في فيينة بين عامي 1809 و1818 المستشرق جوزيف فون هامر ـ بورغشتال (Joseph von Hammer- Purgstall (1865-1774، والتي «كان يكتب فيها معظم المستشرقين الأوربيين، إضافة إلى بعض العلماء الشرقيين» عن أمور تشمل الماضي والحاضر. أما أبرز الدوريات الأحدث فهي «مجلة الإسلام» (1895)، و«مجلة العالم الإسلامي» (1906) التي كانت تصدرها «البعثة العلمية المغربية» وتحولت فيما بعد إلى «مجلة الدراسات الإسلامية» المعروفة. وهناك من المجلات الأخرى المجلة المرموقة «الإسلام» التي تصدر في ستراسبورغ منذ عام 1910، و«مجلة العالم الإسلامي» القصيرة العمر والتي صدرت في سانت بطرسبورغ في عام 1912، ومجلة «العالم الإسلامي» التي تصدر في لندن منذ عام 1911.
وقد استمرت هذه التجمعات والدوريات في أداء مهمتها في إنتاج المعرفة المتصلة بالشرق، ونشرها في المجتمعات الأوربية والأمريكية وغيرها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لتشهد المرحلة التي تلتها قيام تجمعات جديدة، وتطورات نوعية مهمة في طبيعة الدوريات المرتبطة بها، أو تلك التي ظهرت بعيداً عن أي تجمع مهني. ففي عام 1946 ولدت «رابطة المستشرقين البريطانيين» مع نشرتها السنوية، ولكن يبدو أن ازدياد التخصص المعرفي سرعان ما امتدّ إلى الاستشراق وروابطه مما أفسح في المجال لظهور تجمعات أقل شمولاً ودوريات أكثر تخصصاً. وهكذا ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية «رابطة شمالي أمريكة لدراسات الشرق الأوسط» عام 1966، منافساً قوياً للجمعية القديمة، ليس على صعيد استقطاب الأجيال الجديدة من العاملين في حقل دراسات الشرق الأوسط فحسب، بل على صعيد النشر أيضاً وذلك عندما أصدرت مجلتها الواسعة الانتشار «المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط» عام 1970، التي تتولى طباعتها وتوزيعها مطبعة جامعة كمبردج المشهورة، ولها نشرتها نصف السنوية أيضاً. وفي عام 1973 ظهر النظير البريطاني لها عندما تأسست «الجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط» التي بدأت بإصدار نشرتها نصف السنوية منذ عام 1974، وقد طوَّرتها في عام 1991 إلى مجلة مرموقة تضارع نظيرتها الأمريكية.
أما النظير الفرنسي للتجمعين السابقين فهو «الرابطة الفرنسية لدراسة العالم العربي والإسلامي» التي ألفت حديثاً في إكس آن بروفانس. وربما كانت «جمعية الدراسات المغربية» التي عقدت مؤتمرها التأسيسي في 9 تشرين الأول من عام 1990 و«الرابطة الأوربية لدراسات الشرق الأوسط» التي ظهرت إلى الوجود في العام نفسه من أواخر هذه التجمعات المهنية الحديثة.
وفضلاً عن الدوريات المرتبطة بهذه التجمعات الإقليمية فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين ظهور عدد من المجلات المتخصصة التي ربما كان من أبرزها «مجلة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للشرق» التي صدرت عام 1958، و«مجلة الأدب العربي» (بملحقيها) التي ظهرت عام 1970، و«مجلة المغرب»، ومجلة «أدبيات»، وأخيراً «مجلة الدراسات الإسلامية» التي يصدرها مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية منذ عام 1990، ويقوم على تحريرها محرر مسلم وهيئة تحرير تجمع بين الدارسين العرب والمسلمين والمستشرقين.
وقد يسر المستشرق البريطاني والبيبلوغرافي المشهور ج.د. بيرسون J.D.Pearson أمر العودة إلى الدوريات المعنية بدراسة الشرق والإسلام بإصداره «الفهرست الإسلامي» الذي يضم فهرسة لمقالات ماينوف على خمسمئة دورية تعنى بالدراسات الإسلامية في مختلف اللغات غير الشرقية.
ولعل من المناسب الإشارة هنا إلى أن معظم الروابط والتجمعات الآنفة الذكر تعقد مؤتمرات دورية لها في أماكن مختلفة من العالم تمليها الظروف، وكثيراً ما تنشر وقائع هذه المؤتمرات ـ التي ربما كانت من أهم الوسائل في حفز المعرفة الاستشراقية إنتاجاً ونشراً ـ في المجتمعات الغربية خاصة.
وكذلك فإن من الملاحظ التزايد المستمر في إسهام الشرقيين في فعاليات هذه الروابط. وحسب المرء أن ينظر في سجلات هذه الروابط ووقائع فعالياتها المختلفة حتى يتبين حجم هذا الإسهام الذي بات كافياً لخلق مستويات جديدة من المعرفة الاستشراقية مع أنها تكاد تكون محددة في بعض الحقول المعرفية النوعية ولاسيما الأدب والتاريخ.