جان بابتيست شاردان Jean Baptiste Chardin مصوِّر فرنسي، ولد وتوفي في باريس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • جان بابتيست شاردان Jean Baptiste Chardin مصوِّر فرنسي، ولد وتوفي في باريس

    شاردان (جان بابتيست ـ)
    (1699 ـ 1779)

    جان بابتيست شاردان Jean Baptiste Chardin مصوِّر فرنسي، ولد وتوفي في باريس حيث أمضى كل حياته الفنية فيها، وقطن كثيراً من منازلها، في شارع السينSeine حيث ولد، وفي شوارع برانسيسPrincesse والفور Four، إلى أن استقر به المقام في متحف اللوفر من عام 1757حتى وفاته.
    ولد شاردان برجوازيَّاً في جوٍّ من الصراع الطبقي المحتدم بين الطبقة المتوسطة والثرية (الأرستقراطية) المسرفة، وفي محيط من الحرفيين النشيطين المهرة، وبيئة من النزاهة والجدية الصارمة وسمت أعماله ورسمت لـه حدودها ومستقبلها. وكان أبوه معلم نجار، وذا مكانة عالية، أراد لابنه أن يخلفه في مهنته، فلم يُعنَ بتعليمه قدر عنايته بتدريبه على الأعمال اليدوية، مما حال بين شاردان والاطلاع على الفنون القديمة، فولَّى وجهه شطر الأشياء التي حوله في البيت والمصنع، وسرعان ما أحب الرسم وتلهف على التصوير.
    صوَّر شاردان بمنأى عن زمانه، وعلى هامش عصره، منصرفً عما كان رائجً وصاخبً. لم يكن يتطلع إلى أن يكون مصوِّرً من الطراز الأول، أو خلفاً لمصور عظيم، حسبه أن يقدم لوقائع الحياة وأشيائها البسيطة (تفاحة، إبريق عتيق، طريدة صيد) سر الحياة الصامتة وديمومتها غير المحدودة، بعيداً عن السرد والوصف والرمز، باستخدام طبقات لونية كثيفة يضعها تباعاً على قماش لوحته الخشن.
    لم يتلق شاردان تعليمه في المدارس الرسمية ولا في المنشآت العائدة للأكاديمية الملكية، ولم يتتلمذ لمعلم واحد، بل كان تعليمه محصلة مراحل متعاقبة: عند بيير ـ جاك كاز Pierre - Jacques Cazes تعلم نسخ أعمال القدماء من الرومان واليونان، وعلى يد نويل نيقولا كويبل Noël- Nicolas Coypel اكتشف كثافة الأشياء وأضواءها، أما ج. ب. فان لو J.B.Loo فقد استدعاه، لمد يد العون له، ليساعده في ترميم جداريات روسوRosso وبريماتيس Primatice في قصر فونتينبلو Fontainebleau.
    لم يكن شاردان الشاب سعيداً بالنسخ عن النماذج التقليدية، إذ بدت له بعيدة كل البعد عن الحياة التي عرفها وألفها، وعندما طلب إليه صديق والده الحلاق الجراح أن يرسم لـه لافتة تعبر عن مهنته وتبرز أدواتها، رسم لـه لافتة كبيرة فيها رجل جريح، يقوم على العناية به جراح ومساعده، وأضاف إلى هذا سقاءً وشرطيَّاً وبعض حراس الليل، وامرأة تطل من نافذتها، وحشدً من المتفرجين يحملقون من فوق الرؤوس. غضب الجراح ورأى أن يُلقى باللافتة عرض الحائط، ولكنها جذبت انتباه المارة إلى حد كبير، مما دفع الجراح إلى استبقائها ووضعها على بابه.

    الشكل (1)
    راح شاردان يسير حثيثاً نحو امتلاك أدواته ووسائله، فبرع في استخدامه لها وافتنَّ في تقاناتها، ودليل ذلك اللوحات التي عرضها في ساحة دوفين Dauphine بمناسبة عيد القربان عام 1728، وكان من أبرزها: لوحة «سمك الورنك» (الشكل ـ1) ولوحة «صوان السفرة» اللتان أدهشتا مصوري الأكاديمية الملكية، ولاسيما المصور لارجيليرLargillière، فاستدعاه بعض أعضاء الأكاديمية على الفور ليَطلب الانضمام إلى عضويتها، واتفقوا أن تُعرَض مجموعة من لوحاته غفلاً من اسمه، فأعلن مشاهدوها أنها تحف رائعة، وفاز بعضوية الأكاديمية عام 1728 بوصفه مصوراً «بارعاً في تصوير الحيوانات والفواكه»، مع أن طموحه ما كان ليتجاوز العضوية التي فاز بها عام 1724 في أكاديمية القديس لوقا Saint-Luc.
    بعد أن تحرر شاردان من مشكلات اللون، وتمكن من تطويع المادة، راح يسعى إلى التصوير بإحساسه، لترتفع أعماله وموضوعاتها المتواضعة إلى مصاف الأعمال العظيمة، فإذا ما نظر المرء إلى هذه الأشياء الطبيعية الصامتة، أحس بأنها تنبض بالحياة وبأنه لم يرها رؤية صادقة كما يراها الآن، فالمشاهد لها لم يجد الشعر فقط في إناء من الأزهار، أو عنقود من العنب، بل في مرجل قديم محطم، وفي جوزة وفي قشرة برتقالة، وفي فتات كسرة خبز جاف،إن فيها جميعاً شعراً لم يخطر على بال أحد في فرنسا قبل شاردان، إن شعوره القوي وبصيرته النافذة، حتى فقره، جعلت من مخزن حفظ الأطعمة قصيدة غنائية، ومن قائمة الطعام ملحمة شعرية.
    كان شاردان رسمياً مصور فواكه وحيوانات، فهو لم يتطرق إلى رسم الوجوه والأشخاص إلا بعد عام 1731، عام زواجه الأول بمارغريت سانتار Marguerite Saintardالتي أنجبت له ولدين، وتوفيت عام 1735، وفقد ابنته أنييس Agnès في العام ذاته، ومع الأيام آل مسكنه إلى حالة شديدة من الفوضى وسوء النظام، فألح عليه أصدقاؤه أن يتزوج ثانية، وتزوج الأرملة مرغريت بوجيه M.Pouget بعد تردد دام تسع سنوات، وكانت سيدة فاضلة ومحبة، وتعلم هو أن يحبها شاكراً ممتناً.

    الشكل (2)
    أبدى شاردان دهشته عندما رفض صديقه المصور أفيد Avid قبول 400 جنيه أجراً لرسم لوحة لأحد الأشخاص، فما كان من أفيد حيال ذلك إلا أن يتحداه قائلاً: «ليس رسم الأشخاص كرسم النقانق المطبوخة ومرق التوابل»، وكانت سخرية لاذعة ولكنها مفيدة، إذ اندفع شاردان على إثرها قابلاً التحدي، فكشف في نفسه عن عبقرية في رسم الأشخاص، ورسم لوحة لصديقه «المتفاخر» أفيد نفسه، وأتبعها بلوحة أحسن منها «دار لعب الورق»، وبمشاهد حياتية حميمة مثل: «صلاة المائدة» (الشكل ـ2) و«زينة الصباح»، مستحضراً حياةً عائلية كان قد فقدها. وفي لوحة «الطفل والبلبل» خطا شاردان خطوات أخرى إلى أمام، سرعان ما أتبعها بتحفتين رائعتين هما «بنت تلعب تنس الريشة» وأخرى «تتسلى بتناول غذائها».
    كان شاردان يوزع أشكاله في حيز مغلق على ذاته، فهو على النقيض من الأسلوب الهولندي الذي اقترب منه في بعض الجوانب، لا يرى المُشاهد في لوحاته نافذة مفتوحة، أو إطلالة على العالم الخارجي، والأشياء الثابتة في عالمه المغلق هذا تحركها حياة صامتة، كالحركة في «كاشطة الزبدة» و«فتى الحانة» و«السيدة التي تختم الرسالة»، حتى الوقفة في «متعهدة التموين» تنم على أن المصور فاجأ المتعهدة متلبسة بعملها، فتوقفت وطال مكوثها ليتسنى للمصور أن يلتقط من هذا الرمز ما لا يمكن التعبير عنه، ليحتل مكانه، بعد تأمل المصور العميق العميق، في حيز مغلق، لا تغيره صروف الدهر ولا تقلبات الحدثان، لأن كل شيء قد احتل مكانه على نحو نهائي، وبانسجام وتآلف سريين، فجاءت الأشكال مغشاة بسحر يستحيل تحديده وتعريفه.


    الشكل (3)
    عُيّن شاردان في عام 1752 أميناً للأكاديمية، كما عُهد إليه ترتيب اللوحات في قاعات العرض، وفي عام 1757 خُصصت له غرفة في متحف اللوفر. ومع تقدمه في السن أصابه الوهن، وها هو ديدرو Diderotفي عام 1767 يرحب بعمله ويثني عليه بوصفه «روح الطبيعة والحقيقة» ويقول في أسى: «إن شاردان رسام ممتاز لمشاهد الحياة اليومية، ولكنه يذوي ويذبل». انصرف شاردان عن التصوير بالألوان الزيتية التي تتطلب الكثير من العناية والتدقيق، وراح يرسم بالطباشير (Pastel)، فأبدع لوحتين لشخصه من أعظم الإنتاج في اللوفر جاذبية وروعة وإتقاناً، إحداها تمثله في قلنسوة قديمة ضيقة، وقد وضع نظارتيه في أعلى أنفه، وربطة عنق مربوطة بإحكام حول عنقه (الشكل ـ 3)، وأتبعهما بلوحة لزوجه الثانية وهي آنذاك في الثامنة والستين: وجه كريم وجميل، أخرجه بمهارة متسمة بالحب، وفيها يصدق قول الفيلسوف والأديب ديدرو: «كان شاردان أعظم ساحر لدينا».
    أنتج شاردان أكثر من 1000 لوحة، مع أن معاصريه كانوا ينعتونه «بالمنتج الكسول»، وتتوزع اللوحات هذه متاحف العالم، ويضم اللوفر الكثير منها.
    فائق دحدوح
يعمل...
X