الإخشيديون
اخشيديون
Ikhshidides - Ikhshidides
الإِخشيديون
(323- 358هـ/ 935- 969م)
حكام الدولة التي عرفت في التاريخ باسم الدولة الإِخشيدية, وقد تأسست في مصر والشام, وامتدت إِلى الحجاز واليمن وحكامها من الترك. مؤسسها محمد بن طُغج, الملقب بالإِخشيد. وقد نال هذا اللقب سنة 326 أو 327هـ/937 أو 938م بناء على التماس منه للخليفة الراضي بالله. وهو لقب من ألقاب ملوك فرغانة القدماء, الذين يزعم الإخشيديون أنهم من نسلهم. وقد أعطى المؤرخون لهذا اللقب معاني عدة.
أول من عرف من أفراد هذه الأسرة جفّ بن يلتكين, الذي يقال إِنه صاحب سرير الذهب. قدم جفّ إِِلى العراق إِثر توجيه المعتصم إِليه من أحضره لكثرة ما وصف به من الشجاعة والإِقدام في الحروب, في الوقت الذي بدأ فيه المعتصم يعتمد على الأتراك في جيشه.
انضم جف لجيش المعتصم في سامراء, وأقطع بها قطائع, واستمر كذلك في عهد كل من الواثق والمتوكل, وتوفي سنة 247هـ/861م.
كان لجف عدد من الأبناء على رأسهم طغج ومعناه عبد الرحمن وأخوه بدر. وقد التحقا بالدولة الطولونية, فأصبح بدر من القادة, على حين تقلد طغج عدة أعمال إِدارية, ونال مكانة عند خمارويه, فقلده حكم دمشق وطبرية.
تمرد طغج على سيده خمارويه, ولم ينفذ ما كلفه إِياه من قتل راغب الخادم والي الثغور, وأخذ يتلمس المعاذير لنفسه. إِلا أن خمارويه عزم على الفتك به, غير أن خمارويه قتل قبل تحقيق ذلك.
ظل طغج بن جف والياً على دمشق وطبرية في عهد جيش بن خمارويه الطولوني. وما لبث أن شق مع أخيه بدر عصا الطاعة على جيش, وقتلاه, ووليا هارون بن خمارويه مكانه.
حكم طغج بلاد الشام في عهد هارون بن خمارويه حكماً مستقلاً إِلى حد كبير. وكان له شأن بارز في أحداث المنطقة, وأثر كبير في تحريض بعض قواد الطولونيين على أمرائهم.
وكان لهؤلاء القواد الذين انضموا للجيش العباسي أثر كبير في القضاء على الدولة الطولونية.
تولى طغج بن جف بعد القضاء على الطولونيين ولاية قنسرين ثم تركها, وذهب إِلى بغداد حيث سجن مع ولديه محمد وعبيد الله.
تأسيس الدولة الإِخشيدية
خرج محمد بن طغج الإِخشيد من السجن, فتوجه إِلى الشام, وتقلب في المناصب, وبرز اسمه في مجالات عدة قيادية وإِدارية قبل تأسيس الدولة, فتولى طبرية ثم الرملة ثم دمشق. وعلى الرغم مما حققه لنفسه في الشام, فقد كان يطمح بولاية مصر, وعمل جاهداً للحصول عليها. ودعي له لأول مرة على منابرها سنة 321هـ/933م مدة شهر ويومين من دون أن يدخلها. ثم ما لبثت الخطبة أن توقفت وسنحت له الفرصة ثانية في عهد الخليفة العباسي الراضي بالله, الذي منحه ولاية مصر, فدخلها في 23 رمضان سنة 323 هـ/27 آب 935م.
اتخذ ابن طغج الإِخشيد من مصر مركزاً لحكمه, وعين نواباً في المناطق الأخرى التابعة له, وتعرض في أثناء حكمه للمنافسة من الأمراء المحيطين والطامعين. وكان على رأسهم بدر الخرشني, والحسين بن أبي العلاء بن حمدان, وعبد الله بن حمدان, وعلي بن حمدان, وتكين الخادم, وابن رائق, ويانس المؤنسي, فثبت لهم جميعاً.
أمراء الدولة بعد الإخشيد
توفي الإِخشيد في ذي الحجة سنة 334هـ/ تموز 946م وهو في دمشق, ودفن في بيت المقدس. وقد خلف تركة كبيرة جمعها من المصادرات. وتولى حكم الإِمارة بعده أبو القاسم أونوجور, وكان عمره حينئذ لا يتجاوز الخامسة عشرة. وتولى كافور الوصاية عليه, وترك أونوجور في القصر بعد أن حدد له مخصصات تكفيه للإِنفاق, وقدرها أربعمئة ألف دينار في العام.
حكم كافور البلاد في أثناء وصايته بقوة, وتعرض في مطلع وصايته إِلى ثورة أهالي دمشق, فقد استغلوا موت الإِخشيد, وأشعلوا نيران ثورة عارمة, وقام العامة بنهب خزائن الإِخشيد, والظاهر أن قسطاً وافراً من أموال الإِخشيد لم تصل إِلى أيدي العامة, لأن الإخشيد كان يوصي بألا توضع هذه الأموال في صناديق ينشدها الثوار واللصوص, بل في أكياس من الأمتعة لا ينتبه إِليها أحد. وأفادت هذه الفكرة في حفظ أمواله عند وفاته, إِذ أمر كافور حين قامت الفتنة بإِلقاء هذه الأكياس في بركة الماء, وظلت فيها حتى سكنت الفتنة. استمر كافور مسيطراً على الحكم, ولما بلغ أونوجور السن القانونية, أراد أن يحكم البلاد بنفسه فلم يستطع. وظل الأمر كذلك حتى وفاته في ذي القعدة سنة 349هـ/ كانون الثاني 961م. ويقال إِنه مات مسموماً, ونقل جثمانه إِلى بيت المقدس.
خلف أونوجور في الإِمارة أبو الحسن علي بن محمد الإِخشيد. وكان عمره حين تولاها ثلاثة وعشرين عاماً. وعلى الرغم من ذلك, فإِنه كان تحت وصاية كافور الذي ترك له كأخيه مخصصات ينفقها. وحجره في القصر, ولم يدع له فرصة للظهور أمام الجمهور.
حاول علي بن الإِخشيد كأخيه, إِبعاد كافور عن الحكم, والتفرد به, فلم يستطع لأسباب كثيرة. وأدت المحاولة إِلى تضييق كافور عليه, حتى مات في المحرم 355هـ/ كانون الأول 965م. واتهم كافور بدس السم له, وحمل جثمانه إِلى بيت المقدس, حيث دفن هناك مع أبيه وأخيه.
بقيت البلاد من دون أمير أياماً إِثر وفاة علي, ودعي للخليفة العباسي المطيع فقط. ثم أظهر كافور وثيقة تظهر توليه الإِمارة من قبل الخلافة, فدعي له على المنابر باسم الخليفة, ولكن الأمر لم يطل, فقد توفي في جمادى الأولى سنة 357هـ/23 نيسان 968م.
عقدت الولاية بعد كافور لأحمد بن علي ابن محمد الإِخشيد, وكان صبياً لا يستطيع الحكم بمفرده. وخرج عليه في الشام قريبه الحسن بن عبيد الله بن طغج طامعاً في الإِمارة.
واستولى على الأموال فيها. وما لبثت الأمور أن سويت, على أن يدعى لأحمد بن علي الإِخشيد على منابر مصر والشام والحرمين, ثم من بعده للحسن بن عبيد الله بن طغج. إِلا أن الأمر لم يطل بعدئذ فقد تعرضت مصر لهجمات الفاطميين, وسقطت الإِمارة الإِخشيدية في مصر سنة 358هـ/969م, وفي الشام سنة 359هـ/970م.
علاقة الدولة الإِخشيدية مع القوى المجاورة
العلاقة مع الخلافة العباسية:
نال محمد بن طغج الإِخشيد ولايته برضا الخلافة العباسية. فقد منحه الخليفة العباسي الراضي بالله تقليدا بولاية مصر والشام والثغور. واستمرت علاقات أفراد الأسرة الإِخشيدية حسنة بوجه عام مع الخلافة العباسية. وكانت لهذه العلاقات الحسنة أسباب دعت إِليها من أهمها:
أ - نجاح الإِخشيد في التصدي لحملات الفاطميين: فقد أرسل إِليهم جيشاً هزمهم,وأرغمهم على العودة إِلى شمالي إِفريقية, بعد أن كانوا قد دخلوا الإِسكندرية فيما بين سنتي 321-324هـ/933-936م.
ب - أخلاق الإِخشيد الحسنة, ومقدرته في تصريف الأمور: وقد أدى ذلك إِلى منح الراضي إِياه لقب الإِخشيد. وهو اللقب الذي اشتهر به, وعرفت به الإِمارة.
استمرت علاقات الإِخشيد حسنة في عهد خلفاء الراضي. فقد أقره الخليفة المتقي لله على ما بيده من أملاك, وأرسل له الخلع. كما استنجد به من دون سائر الأمراء حين فر من بغداد من ظلم أمير الأمراء توزون. فسار الإِخشيد إِلى الشام في رجب سنة 332هـ/ آذار 944م حتى بلغ مدينة الرقة, والتقى الخليفة, وأظهر الخضوع له, وامتنع عن الركوب بين يديه, وقدم له الهدايا والأموال, وفعل مثل ذلك مع أصحاب الخليفة وحاشيته. وطلب الإِخشيد من الخليفة المتقي لله أن يسير معه إِلى مصر والشام فأبى. وكان يبغي من ذلك أن يجعل مصر قاعدة للخلافة. فلما لم ينجح, فكر في أن يتسلم إِمرة الأمراء في بغداد, لولا نصيحة بعض المخلصين.
لم يطرأ أي تغيير على علاقة الإِخشيد بالخلافة العباسية في بغداد في عهد كل من المستكفي والمطيع. وشغل الإِخشيد في هذه الحقبة بنزاعه مع سيف الدولة الحمداني. وتوضح السكة المسكوكة في عهد الإِخشيد العلاقات بينه وبين خلفاء العباسيين. ففي الحقبة الأولى من إِمارته, حتى سنة 329هـ/ 940-941م, كان الإِخشيد يدين بالطاعة التامة للخليفة الراضي بالله, ثم للخليفة المتقي لله. وكان ينقش على السكة أسماءهم فقط. ثم ضرب ديناراً في العام نفسه نقش عليه اسمه فقط, ثم عاد بعد ذلك لينقش اسم الخليفة, ثم اسمه بعده كغيره من أمراء الولايات الكثيرة.
عمل خلفاء الإِخشيد على أن تبقى علاقاتهم جيدة مع العباسيين, وكان لأمراء هذه الدولة وكلاء في بغداد يعملون على السهر على شؤون الإِمارة, ويراقبون ما يجري في دار الخلافة. وقد ذكرت كتب التاريخ بهذا الخصوص, اسم مولى لمحمد بن طغج الإِخشيد, وآخر لمولاه كافور من بعده.
ويمكن القول أخيراً إِنه كان يربط بين الخلافة العباسية والإِمارة الإِخشيدية روابط قوية.فقد كانت أسماء خلفاء العباسيين تنقش على السكة, ويدعى لهم على المنابر في المناطق التابعة للإِمارة. وشارك الإِخشيديون الخلافة العباسية في دفع النفقات اللازمة لفداء أسرى العرب المسلمين. وكانت الدولة الإِخشيدية ترسل بعض الأموال لمركز الخلافة, إِلا أن هذه الأموال لم تكن محددة المقدار ولم يكن إِرسالها منتظماً. وكان ذلك يتوقف على الحالة الاقتصادية والعسكرية للدولة الإِخشيدية.
ويبدو أن تساهل الخلافة العباسية في الأموال, كان بسبب تسلم الإِخشيديين أمر الدفاع عن العباسيين في الجبهة الشمالية والغربية. فقد كان عليهم في المرحلة الأولى حتى سنة 333هـ/ 944-945م, الدفاع عن الثغور أمام البيزنطيين, إِلى جانب وقوفهم في وجه الفاطميين طوال مدة حكمهم.
العلاقة مع الخلافة الفاطمية:
بدأ الإِخشيد عمله في إِمارته بقتال الفاطميين في الإِسكندرية وإِخراجهم منها. ولما رأى الخليفة الفاطمي القائم بأمر الله بلاء الإِخشيد وقوته, أراد أن يستميله إِليه, عسى أن يحقق بالسياسة ما عجز عن تحقيقه بالقوة. فكتب إِلى الإِخشيد كتاباً أرسله مع رسوله يستميله إِليه, ويطلب منه الخروج عن طاعة العباسيين, والدخول في طاعته.
استخدم الإِخشيد السياسة والحنكة في الإِجابة عن الرسالة مشافهة, ووعد أن يكتب إِليه فيما بعد, وأن يسلك من حسن الموالاة ما لم يكن غيره يسلكه. وفكر الإِخشيد بعدئذ في الانحياز للفاطميين إِثر خلافه مع ابن رائق, وظهور الخليفة العباسي بمظهر العاجز عن حمايته في أملاكه. ومن المرجح أنه لم ينفذ ما فكر به, إِلا أنه عمل على كسب ود الفاطميين, فعرض زواج ابنته من ولي عهد الخليفة الفاطمي. وكان الإِخشيد يطمح من وراء هذا الزواج إِلى تمتين صلته بالفاطميين وعدم التعرض لهجماتهم, إِضافة إِلى مكاسب أخرى. إِلا أن الخليفة الفاطمي كتب إِليه يعلمه بأنه وافق على عرضه, وطلب منه أن يدع ابنته وديعة عنده, وأن يمهرها من واردات مصر والشام مئة ألف دينار. وهذا يشير إِلى أن الخليفة الفاطمي أراد أن يفهم الإِخشيد أنه أصبح تابعاً له في ولايته.
عمل كافور بعد سيده الإِخشيد على استخدام السياسة في علاقاته مع الفاطميين, فقد كان يهادي المعز صاحب المغرب, ويظهر ميله إِليه, ويذعن بالطاعة لبني العباس, ويداري ويخادع هؤلاء وأولئك حفاظاً على الإِمارة. وقد قام الفاطميون نتيجة لذلك باتباع أساليب كثيرة. فتارة يكتفون بمراقبة أوضاع مصر ونشر الدعوة لأنفسهم فيها, وأخرى يسفرون عن عدائهم فيرسلون جموعاً من جنودهم يعيثون في أراضيها.
وحقيقة الأمر أن الفاطميين استطاعوا في العهد الإِخشيدي نتيجة للدعاية المنظمة, واستغلال الأوضاع أن يجعلوا عدداً كبيراً من سكان مصر يدينون بمذهبهم, ويبايعون الخليفة الفاطمي. ويبدو أن الجو في مصر أصبح مهيأً لدخول الفاطميين إِليها عقب وفاة كافور الذي كان يُعَدّ العقبة الوحيدة في طريقهم. حتى إِن دعاة الخليفة الفاطمي المعز لدين الله في مصر كانوا يقولون: «إِذا زال الحجر الأسود ملك مولانا المعز لدين الله الأرض كلها» ويقصدون كافوراً الإِخشيدي. وكان أن قام الفاطميون بالقضاء على الدولة الإِخشيدية بعد وفاة كافور بمدة لا تزيد على السنة إِلا قليلاً.
العلاقة مع ابن رائق:
محمد بن رائق هو أول أمراء الأمراء. وقد دفعته ظروف التنافس على هذا المنصب إِلى ترك بغداد, والتوجه نحو بلاد الشام بعد أن حصل على تقليد من الخليفة بحكم طريق الفرات وديار مضر وجند قنسرين والعواصم.
بدأت الاصطدامات بين ابن رائق والإِخشيد, منذ أن استولى ابن رائق على حلب سنة 327هـ/939م, ومطالبة الإِخشيد بدفع مقدار من المال على ممتلكاته في الشام. حاول الإِخشيد في البداية استرضاء ابن رائق بالمال, ولكنه لم يفلح, وأخذ الأخير يستولي على الثغور والرقة وحمص ودمشق وغيرها وأتبعها بالرملة في آخر ذي الحجة سنة 327هـ/ أيلول 939م.
لم يجد الإِخشيد بداً من إِعداد العدة لقتال ابن رائق, والتحم الجيشان عند العريش في منتصف شهر رمضان 328هـ/25 حزيران 940م, وكاد جيش ابن رائق أن ينتصر لولا خروج كمين الإِخشيد عليه, فانهزم ابن رائق وتراجع إِلى دمشق, فبعث إِليه الإِخشيد أخاه أبا نصر في جيش كثيف, فلما سمع بهم ابن رائق سار إِليهم من دمشق فالتقوا باللجون, وانهزم جيش أبي نصر وقتل هو, فأرسل ابن رائق جثمانه مع ابنه مزاحم وكتب إِليه بالعزاء والاعتذار وأن مزاحماً فداؤه, فخلع عليه الإِخشيد ورده إِلى أبيه. وتم الصلح بينهما على أن يحكم ابن رائق الولايات الشامية إِلى الشمال من الرملة وعلى أن يدفع الإِخشيد إِليه مئة وأربعين ألف دينار كل سنة عن الرملة.
وما لبثت ظروف الخلافة العباسية, والنزاع على منصب إِمرة الأمراء أن ساعدت في عودة بلاد الشام إِلى الإِخشيد. فقد سار ابن رائق في رمضان سنة 329هـ/حزيران 941م إِلى بغداد ليتولى منصب إِمرة الأمراء واستخلف ابنه على أعماله في الشام, ولكنه قتل على يد الحمدانيين.
العلاقة مع الحمدانيين:
كانت حلب تابعة للإِخشيديين, فطمع الحمدانيون بها, ودخلها سيف الدولة سنة 333هـ/945م, وبدأ بعدئذ التنافس جلياً بين الطرفين, وتوالت الحملات العسكرية. فقد كان سيف الدولة يحلم بحكم بلاد الشام كلها, وبدأ يعمل على ضم دمشق إِليه, فأرسل له الإِخشيد جيشاً التقاه في الرستن, وكان النصر لسيف الدولة, وتقهقر جيش الإِخشيد إِلى دمشق, وخرج منها قاصداً الرملة, ودخل سيف الدولة دمشق.
عزم الإِخشيد على لقاء سيف الدولة بنفسه واستعادة دمشق, وقد تمكن من تحقيق ما عزم عليه بمساعدة بعض العوامل منها: أن أهالي دمشق لم يكونوا يميلون إِلى سيف الدولة, ووجود سيف الدولة خارج دمشق في ذلك الوقت لتأديب الأعراب الخارجين عليه, ووجود أنصار للإِخشيد داخل دمشق وقدرته على الاستفادة منهم.
وسار الإِخشيد من دمشق إِلى حمص ثم إِلى قنسرين, والتقى سيف الدولة فيها في شوال سنة 333هـ/ 945م, وعلى الرغم من انتصار سيف الدولة في الجولة الأولى, فإِنه ما لبث أن انهزم ودخل الإِخشيد حلب حاضرة الحمدانيين. ثم جرت مفاوضات للصلح بينهما أسفرت عن أن يكون لسيف الدولة حلب وما يليها من بلاد الشام بدءاً من جوسية وحمص. وعقدت مصاهرة بين الطرفين, وتزوج سيف الدولة ابنة أخ الإِخشيد. أما الأسباب التي دعت الإِخشيد لعقد الصلح فهي:
ـ أن الخطر كان يحدق بمصر من جهة الفاطميين الذين تزايدت قوتهم في المغرب. وأخذوا يرسلون الحملات المتتالية لاحتلال مصر.
ـ أن الدولة الحمدانية يجب أن تبقى حصناً منيعاً بينه وبين البيزنطيين, فلا يستطيع هؤلاء التعرض لأملاكه من وقت إِلى آخر.
ـ أن هذا الإِقليم يعد المجال الحيوي لاتساع سلطان الحمدانيين الذي أسسوا دولتهم في الموصل.
ـ أن انتصار الإِخشيد لم يكن حاسماً, والحرب ستظل قائمة بينه وبين الحمدانيين إِن لم يعقد المعاهدة.
استغل سيف الدولة فراغ دمشق من حامية إِخشيدية قوية إِثر وفاة الإِخشيد, فنقض الصلح, واتجه بجيشه إِليها ودخلها في صفر سنة 335هـ/ أيلول 946م, وأتبعها بالرملة.
لم يرغب أهالي دمشق بحكم سيف الدولة, ولاسيما بعد أن علموا طمعه بالاستيلاء على غوطة دمشق, فاستدعوا كافوراً, فجاء مسرعاً والتقى سيف الدولة في منطقة أكسال بنواحي الأردن في 24 جمادى الأولى سنة 335هـ/ 22 كانون الأول 947م, وكان النصر حليف الإِخشيديين, كما أحرزوا نصراً آخر في مرج عذراء. وتابع كافور تقدمه حتى دخل حلب في ذي الحجة سنة 335هـ/947م.
ترددت الرسل بين الطرفين، وانتهت المفاوضات بعقد معاهدة الصلح بالشروط نفسها التي كانت بين الإِخشيد وسيف الدولة، ما عدا الجزية فإن كافور لم يقبل بدفعها. وانتهت الحروب بين الطرفين على إثر هذا الصلح، وساد الصفاء بينهما.
العلاقة مع القرامطة: تعرضت سيادة الإِخشيديين على بلاد الشام للخطر من جانب قرامطة البحرين. الذين أغاروا على بلاد الشام منذ سنة 316هـ/928-929م. وهاجموها سنة 353هـ/964م وانتصروا على الإِخشيديين في حملة طبرية، وفرضوا عليهم مبلغاً من المال. وأغاروا في سنة 357هـ/967-968م ثانية، وعجز الحسن بن عبيد الله الإِخشيدي حاكم الشام عن صدهم، فسقطت الرملة في أيديهم، وتعهد لهم الحسن بن عبيد الله بإتاوة سنوية قدرها ثلاثمئة ألف دينار. وبذلك امتد نفوذ القرامطة إلى بلاد الشام في أواخر حكم الإِخشيديين.
العلاقات مع البيزنطيين: كان لأفراد الأسرة الإِخشيدية خبرة في قتال البيزنطيين، إذ تولى عدد من أمرائهم قتال البيزنطيين قبل قيام الإمارة. ففي سنة 281هـ/894-895م قام طغج بن جف بغزو البيزنطيين، وتابع ابنه محمد الاهتمام بأمر الحدود مع البيزنطيين منذ أن عمل على إنشاء الإمارة الإِخشيدية. واتسمت سياسة هذه الدولة عامة مع البيزنطيين بالمهادنة. فقد وافق الإِخشيد على هدنة مع البيزنطيين، بناء على كتاب من الامبراطور البيزنطي في سنة 325هـ/936-937م. واشترك الإِخشيديون مع الخلافة العباسية في دفع النفقات اللازمة لفداء الأسرى، وأول فداء اشترك فيه الإِخشيد كان في سنة 326هـ/937-938م. وعمل الإِخشيد على تنظيم فداء آخر، ولكنه ما لبث أن توفي، فعمل كافور على إتمامه، ودفع إلى القائمين به ثلاثين ألف دينار، وتوجه هؤلاء إلى طرسوس، إلا أنهم وجدوا والي الثغور يدعو لسيف الدولة الحمداني، فأتم الفداء ونسب إليه.
سقوط الإمارة الإِخشيدية
من الممكن تلخيص أسباب سقوط الإمارة الإِخشيدية بمايلي:
1ـ الخلافات بين أفراد الأسرة الإِخشيدية، وتنافسهم فيما بينهم على الوصول إلى عرش الإمارة، إلى جانب اختلاف القواد على تولي أمر الجند، وترقب بعضهم الإيقاع ببعض. وقد أدى ذلك إلى فرار قسم كبير من الجنود من مصر واللحاق بالحسن بن عبيد الله في الشام.
2ـ ارتفاع الأسعار واضطرابها، وندرة السلع وانتشار الأوبئة، واستمرار ذلك مدة حددها الأنطاكي من سنة 353-357هـ/964-968م. في حين ذكر المقريزي أنها دامت تسع سنين متتابعة، ابتداء من سنة 352هـ/963م.
3ـ عانت الدولة الإِخشيدية من كثرة الحروب التي اضطرت إلى خوضها. وحين جاء الفاطميون وجدوا البلاد في حالة شديدة من الضعف، فسهل عليهم تحقيق هدفهم في القضاء على الدولة الإِخشيدية وضمها إلى أملاكهم.
أهم مظاهر الحضارة في العصر الإِخشيدي
انقسم الناس في العهد الإخشيدي بحسب الثروة إلى فئتين، فئة غنية وفئة فقيرة. وتضم الفئة الأولى أفراد الأسرة الإِخشيدية، وبعض التجار الأغنياء والمُلاك، وطبقة الأشراف من العباسيين والطالبيين والعلويين، الذين كان لهم نصيب في المدن الكبرى. وقد عاشت هذه الفئة عيشة كلها إسراف في الطعام والشراب واللباس، يرتدون الفراء الفاخرة. ويتطيبون بالعنبر. وكانت مجالسهم حافلة بالمغنين والمغنيات، والجواري الحسان. وكانوا يبالغون في الإسراف في حفلاتهم، فينثرون النقود على الحاضرين، وكانوا يقومون برياضة الصيد وسباق الخيل، ويجمعون الخيول الأصيلة المدربة.
وكان يحيط بأفراد هذه الفئة عدد كبير من المماليك والغلمان والأتباع، كما كان لهم حجاب يحجبونهم عن الناس، وحراس لحمايتهم. وأكثر ما يشير إلى ترف هذه الطبقة مواكبهم التي كانوا يسيرون فيها. فقد كان الإِخشيد يسير وبين يديه خمسمئة غلام بالدبابيس، وبين يديه الشمع والمشاعل.
أما فئة العامة، فلا يكاد يسمع عنها شيء. ويبدو أنها كانت تعيش على هامش الحياة، تقبل بما يصل إليها. وكانت هناك صلة بين الفئتين تتمثل فيما يصل من إنعام الفئة الغنية إلى الفئة الأخرى. فقد كانت كثرة منهم تغدق الخير والإحسان على الفقراء والمحتاجين. وكان لمحمد بن علي الماذرائي ديوان كبير يشرف على نحو ستين ألف محتاج تجري عليهم الأرزاق.
عاش أهل الذمة عيشة جيدة، وسيطروا على الشؤون المالية في البلاد. فاغتنوا، ووصل بعضهم إلى أرقى درجات السلم الاجتماعي.
زخر العصر الإِخشيدي بطائفة من الأدباء والعلماء والفقهاء، وكان هؤلاء يلتقون علية القوم في مجلس الأمراء، كما كانوا يلتقون في المساجد للمناظرة وبحث المسائل الفقهية والأدبية، ولاسيما في مسجد عمرو بن العاص وغيره، كما كانوا يلتقون في قصر الإِخشيد.
تصدر الأدباء الكاتب إبراهيم بن عبد الله بن محمد البجيرمي الذي أنشأ الكتاب المرسل إلى الإمبراطور البيزنطي رومانوس، وسيبويه المصري المتوفى سنة 358هـ/969م، وقد كان إلى جانب مكانته الأدبية نديماً فكهاً، فقد جالس أونوجور بن الإِخشيد، والحسين بن محمد الماذرائي.
أما الشعراء فقد كان على رأسهم أحمد بن الحسين المتنبي الذي كان له موقف مع كافور. وأبو القاسم أحمد الرسي بن طباطبا, وولداه القاسم بن أحمد, وإِبراهيم بن أحمد, وابنه الحسين بن إِبراهيم, وكذلك عبد الله بن محمد ابن أبي الجوع, وصالح بن مؤنس.
ومما يؤسف له ضياع معظم الشعر في العصر الإِخشيدي, وما وصل منه يدل على إِقبال الناس في هذا العصر على اللهو والمجون, ووصف الطبيعة وجمالها.
واشتهر من النحويين أحمد بن محمد بن ولاد المتوفى سنة 332هـ/ 944م صاحب كتاب «الانتصار لسيبويه», وكتاب «المقصور والممدود» وأبو جعفر النحاس الذي ألف في علوم اللغة والأدب وتفسير القرآن, وتوفي سنة 338هـ/950م.
أما المحدثون فكان منهم أحمد بن عمرو الطحان المتوفى سنة 333هـ/945م, وحمزة ابن محمد بن علي العباسي الكناني, المتوفى سنة 357هـ/968م, وسعيد بن عثمان المتوفى 353هـ/964م, ومحمد بن علي بن حسن المصري المتوفى 369هـ/979م.
أما الفقهاء فمنهم ابن الحداد أبو بكر محمد ابن أحمد ( ت344هـ/955م) وأبو عبد الله الحسين بن أبي زرعة الدمشقي ( ت327هـ/938م) ومحمد بن إِبراهيم المعروف بابن سكرة (ت342هـ/953م) ومحمد بن يحيى بن مهدي الأسواني ( ت340هـ/951م) وأبو إِسحق محمد بن القاسم بن شعبان (ت 355هـ/ 965م).
واشتهر من المؤرخين عبد الرحمن بن أحمد ابن يونس الصدفي ( ت347هـ/958م) وأبو عمر محمد بن يوسف الكندي ( ت350هـ/961م), وابنه عمر بن محمد الكندي, والحسن بن إِبراهيم بن زولاق (ت 387هـ/997م).
امتاز العصر الإِخشيدي بآثار عمرانية مدنية ودينية, على رأسها قصر المختار وقصر البستان من تشييد الإِخشيد. والبستان الكافوري ودار الفيل من تشييد كافور.
أنفق الإِخشيديون بسخاء على المساجد من أجل فرشها وإِنارتها, فبنى أبو الحسن علي بن الإِخشيد مسجداً في الجيزة, وبنى كافور مسجد الفقاعي في سفح جبل المقطم, وبنى الوزير ابن الفرات مسجد موسى في المنطقة نفسها.
اهتم الإِخشيديون بالأبنية العامة, فقد أنشأ محمد بن طغج الإِخشيد قيساريات كثيرة, أشهرها قيسارية لبيع المنسوجات, كان دخلها يحبس على البيمارستان الأسفل. وبنى كافور بيمارستاناً سنة 346هـ/957م وأنشأ الوزير جعفر بن الفرات سبع سقايات لسكان الفسطاط لجلب الماء من منطقة جزيرة الروضة.
استمرت الصناعات النسيجية القطنية والكتانية بالازدهار, وكانت المراكز الرئيسة لهذه الصناعة في تنيس وشطا ودبيق ودمياط فضلاً عن الفرما والإِسكندرية والبهنسا والأشمونين وأخميم وأسيوط. واستمر تزيين المنسوجات في هذا العصر بالزخارف التي استعملها النساجون في الأزمنة السابقة. وقد حملت قطع النسيج التي وصلت من العصر الإِخشيدي أسماء الخلفاء العباسيين ووزرائهم, وأصحاب الطراز, وتاريخ النسيج أحياناً, إِلى جانب عبارات مختلفة, تتضمن تمنيات ودعوات. وازدهرت في هذا العصر صناعة الخزف, وصناعة الحفر في الخشب, على حين تدهورت صناعة ورق البردي.
لم يطرأ جديد على الزراعة, فالمزروعات استمرت كما كانت في العصور السابقة, والري بطريق الحياض. واستمرت التجارة الإِخشيدية في تقدمها, وكانت أسواق مصر والشام عامرة بالبضائع.
أمينة بيطار
اخشيديون
Ikhshidides - Ikhshidides
الإِخشيديون
(323- 358هـ/ 935- 969م)
حكام الدولة التي عرفت في التاريخ باسم الدولة الإِخشيدية, وقد تأسست في مصر والشام, وامتدت إِلى الحجاز واليمن وحكامها من الترك. مؤسسها محمد بن طُغج, الملقب بالإِخشيد. وقد نال هذا اللقب سنة 326 أو 327هـ/937 أو 938م بناء على التماس منه للخليفة الراضي بالله. وهو لقب من ألقاب ملوك فرغانة القدماء, الذين يزعم الإخشيديون أنهم من نسلهم. وقد أعطى المؤرخون لهذا اللقب معاني عدة.
أول من عرف من أفراد هذه الأسرة جفّ بن يلتكين, الذي يقال إِنه صاحب سرير الذهب. قدم جفّ إِِلى العراق إِثر توجيه المعتصم إِليه من أحضره لكثرة ما وصف به من الشجاعة والإِقدام في الحروب, في الوقت الذي بدأ فيه المعتصم يعتمد على الأتراك في جيشه.
انضم جف لجيش المعتصم في سامراء, وأقطع بها قطائع, واستمر كذلك في عهد كل من الواثق والمتوكل, وتوفي سنة 247هـ/861م.
كان لجف عدد من الأبناء على رأسهم طغج ومعناه عبد الرحمن وأخوه بدر. وقد التحقا بالدولة الطولونية, فأصبح بدر من القادة, على حين تقلد طغج عدة أعمال إِدارية, ونال مكانة عند خمارويه, فقلده حكم دمشق وطبرية.
تمرد طغج على سيده خمارويه, ولم ينفذ ما كلفه إِياه من قتل راغب الخادم والي الثغور, وأخذ يتلمس المعاذير لنفسه. إِلا أن خمارويه عزم على الفتك به, غير أن خمارويه قتل قبل تحقيق ذلك.
ظل طغج بن جف والياً على دمشق وطبرية في عهد جيش بن خمارويه الطولوني. وما لبث أن شق مع أخيه بدر عصا الطاعة على جيش, وقتلاه, ووليا هارون بن خمارويه مكانه.
حكم طغج بلاد الشام في عهد هارون بن خمارويه حكماً مستقلاً إِلى حد كبير. وكان له شأن بارز في أحداث المنطقة, وأثر كبير في تحريض بعض قواد الطولونيين على أمرائهم.
وكان لهؤلاء القواد الذين انضموا للجيش العباسي أثر كبير في القضاء على الدولة الطولونية.
تولى طغج بن جف بعد القضاء على الطولونيين ولاية قنسرين ثم تركها, وذهب إِلى بغداد حيث سجن مع ولديه محمد وعبيد الله.
تأسيس الدولة الإِخشيدية
خرج محمد بن طغج الإِخشيد من السجن, فتوجه إِلى الشام, وتقلب في المناصب, وبرز اسمه في مجالات عدة قيادية وإِدارية قبل تأسيس الدولة, فتولى طبرية ثم الرملة ثم دمشق. وعلى الرغم مما حققه لنفسه في الشام, فقد كان يطمح بولاية مصر, وعمل جاهداً للحصول عليها. ودعي له لأول مرة على منابرها سنة 321هـ/933م مدة شهر ويومين من دون أن يدخلها. ثم ما لبثت الخطبة أن توقفت وسنحت له الفرصة ثانية في عهد الخليفة العباسي الراضي بالله, الذي منحه ولاية مصر, فدخلها في 23 رمضان سنة 323 هـ/27 آب 935م.
اتخذ ابن طغج الإِخشيد من مصر مركزاً لحكمه, وعين نواباً في المناطق الأخرى التابعة له, وتعرض في أثناء حكمه للمنافسة من الأمراء المحيطين والطامعين. وكان على رأسهم بدر الخرشني, والحسين بن أبي العلاء بن حمدان, وعبد الله بن حمدان, وعلي بن حمدان, وتكين الخادم, وابن رائق, ويانس المؤنسي, فثبت لهم جميعاً.
أمراء الدولة بعد الإخشيد
توفي الإِخشيد في ذي الحجة سنة 334هـ/ تموز 946م وهو في دمشق, ودفن في بيت المقدس. وقد خلف تركة كبيرة جمعها من المصادرات. وتولى حكم الإِمارة بعده أبو القاسم أونوجور, وكان عمره حينئذ لا يتجاوز الخامسة عشرة. وتولى كافور الوصاية عليه, وترك أونوجور في القصر بعد أن حدد له مخصصات تكفيه للإِنفاق, وقدرها أربعمئة ألف دينار في العام.
حكم كافور البلاد في أثناء وصايته بقوة, وتعرض في مطلع وصايته إِلى ثورة أهالي دمشق, فقد استغلوا موت الإِخشيد, وأشعلوا نيران ثورة عارمة, وقام العامة بنهب خزائن الإِخشيد, والظاهر أن قسطاً وافراً من أموال الإِخشيد لم تصل إِلى أيدي العامة, لأن الإخشيد كان يوصي بألا توضع هذه الأموال في صناديق ينشدها الثوار واللصوص, بل في أكياس من الأمتعة لا ينتبه إِليها أحد. وأفادت هذه الفكرة في حفظ أمواله عند وفاته, إِذ أمر كافور حين قامت الفتنة بإِلقاء هذه الأكياس في بركة الماء, وظلت فيها حتى سكنت الفتنة. استمر كافور مسيطراً على الحكم, ولما بلغ أونوجور السن القانونية, أراد أن يحكم البلاد بنفسه فلم يستطع. وظل الأمر كذلك حتى وفاته في ذي القعدة سنة 349هـ/ كانون الثاني 961م. ويقال إِنه مات مسموماً, ونقل جثمانه إِلى بيت المقدس.
خلف أونوجور في الإِمارة أبو الحسن علي بن محمد الإِخشيد. وكان عمره حين تولاها ثلاثة وعشرين عاماً. وعلى الرغم من ذلك, فإِنه كان تحت وصاية كافور الذي ترك له كأخيه مخصصات ينفقها. وحجره في القصر, ولم يدع له فرصة للظهور أمام الجمهور.
حاول علي بن الإِخشيد كأخيه, إِبعاد كافور عن الحكم, والتفرد به, فلم يستطع لأسباب كثيرة. وأدت المحاولة إِلى تضييق كافور عليه, حتى مات في المحرم 355هـ/ كانون الأول 965م. واتهم كافور بدس السم له, وحمل جثمانه إِلى بيت المقدس, حيث دفن هناك مع أبيه وأخيه.
بقيت البلاد من دون أمير أياماً إِثر وفاة علي, ودعي للخليفة العباسي المطيع فقط. ثم أظهر كافور وثيقة تظهر توليه الإِمارة من قبل الخلافة, فدعي له على المنابر باسم الخليفة, ولكن الأمر لم يطل, فقد توفي في جمادى الأولى سنة 357هـ/23 نيسان 968م.
عقدت الولاية بعد كافور لأحمد بن علي ابن محمد الإِخشيد, وكان صبياً لا يستطيع الحكم بمفرده. وخرج عليه في الشام قريبه الحسن بن عبيد الله بن طغج طامعاً في الإِمارة.
واستولى على الأموال فيها. وما لبثت الأمور أن سويت, على أن يدعى لأحمد بن علي الإِخشيد على منابر مصر والشام والحرمين, ثم من بعده للحسن بن عبيد الله بن طغج. إِلا أن الأمر لم يطل بعدئذ فقد تعرضت مصر لهجمات الفاطميين, وسقطت الإِمارة الإِخشيدية في مصر سنة 358هـ/969م, وفي الشام سنة 359هـ/970م.
علاقة الدولة الإِخشيدية مع القوى المجاورة
العلاقة مع الخلافة العباسية:
نال محمد بن طغج الإِخشيد ولايته برضا الخلافة العباسية. فقد منحه الخليفة العباسي الراضي بالله تقليدا بولاية مصر والشام والثغور. واستمرت علاقات أفراد الأسرة الإِخشيدية حسنة بوجه عام مع الخلافة العباسية. وكانت لهذه العلاقات الحسنة أسباب دعت إِليها من أهمها:
أ - نجاح الإِخشيد في التصدي لحملات الفاطميين: فقد أرسل إِليهم جيشاً هزمهم,وأرغمهم على العودة إِلى شمالي إِفريقية, بعد أن كانوا قد دخلوا الإِسكندرية فيما بين سنتي 321-324هـ/933-936م.
ب - أخلاق الإِخشيد الحسنة, ومقدرته في تصريف الأمور: وقد أدى ذلك إِلى منح الراضي إِياه لقب الإِخشيد. وهو اللقب الذي اشتهر به, وعرفت به الإِمارة.
استمرت علاقات الإِخشيد حسنة في عهد خلفاء الراضي. فقد أقره الخليفة المتقي لله على ما بيده من أملاك, وأرسل له الخلع. كما استنجد به من دون سائر الأمراء حين فر من بغداد من ظلم أمير الأمراء توزون. فسار الإِخشيد إِلى الشام في رجب سنة 332هـ/ آذار 944م حتى بلغ مدينة الرقة, والتقى الخليفة, وأظهر الخضوع له, وامتنع عن الركوب بين يديه, وقدم له الهدايا والأموال, وفعل مثل ذلك مع أصحاب الخليفة وحاشيته. وطلب الإِخشيد من الخليفة المتقي لله أن يسير معه إِلى مصر والشام فأبى. وكان يبغي من ذلك أن يجعل مصر قاعدة للخلافة. فلما لم ينجح, فكر في أن يتسلم إِمرة الأمراء في بغداد, لولا نصيحة بعض المخلصين.
لم يطرأ أي تغيير على علاقة الإِخشيد بالخلافة العباسية في بغداد في عهد كل من المستكفي والمطيع. وشغل الإِخشيد في هذه الحقبة بنزاعه مع سيف الدولة الحمداني. وتوضح السكة المسكوكة في عهد الإِخشيد العلاقات بينه وبين خلفاء العباسيين. ففي الحقبة الأولى من إِمارته, حتى سنة 329هـ/ 940-941م, كان الإِخشيد يدين بالطاعة التامة للخليفة الراضي بالله, ثم للخليفة المتقي لله. وكان ينقش على السكة أسماءهم فقط. ثم ضرب ديناراً في العام نفسه نقش عليه اسمه فقط, ثم عاد بعد ذلك لينقش اسم الخليفة, ثم اسمه بعده كغيره من أمراء الولايات الكثيرة.
عمل خلفاء الإِخشيد على أن تبقى علاقاتهم جيدة مع العباسيين, وكان لأمراء هذه الدولة وكلاء في بغداد يعملون على السهر على شؤون الإِمارة, ويراقبون ما يجري في دار الخلافة. وقد ذكرت كتب التاريخ بهذا الخصوص, اسم مولى لمحمد بن طغج الإِخشيد, وآخر لمولاه كافور من بعده.
ويمكن القول أخيراً إِنه كان يربط بين الخلافة العباسية والإِمارة الإِخشيدية روابط قوية.فقد كانت أسماء خلفاء العباسيين تنقش على السكة, ويدعى لهم على المنابر في المناطق التابعة للإِمارة. وشارك الإِخشيديون الخلافة العباسية في دفع النفقات اللازمة لفداء أسرى العرب المسلمين. وكانت الدولة الإِخشيدية ترسل بعض الأموال لمركز الخلافة, إِلا أن هذه الأموال لم تكن محددة المقدار ولم يكن إِرسالها منتظماً. وكان ذلك يتوقف على الحالة الاقتصادية والعسكرية للدولة الإِخشيدية.
ويبدو أن تساهل الخلافة العباسية في الأموال, كان بسبب تسلم الإِخشيديين أمر الدفاع عن العباسيين في الجبهة الشمالية والغربية. فقد كان عليهم في المرحلة الأولى حتى سنة 333هـ/ 944-945م, الدفاع عن الثغور أمام البيزنطيين, إِلى جانب وقوفهم في وجه الفاطميين طوال مدة حكمهم.
العلاقة مع الخلافة الفاطمية:
بدأ الإِخشيد عمله في إِمارته بقتال الفاطميين في الإِسكندرية وإِخراجهم منها. ولما رأى الخليفة الفاطمي القائم بأمر الله بلاء الإِخشيد وقوته, أراد أن يستميله إِليه, عسى أن يحقق بالسياسة ما عجز عن تحقيقه بالقوة. فكتب إِلى الإِخشيد كتاباً أرسله مع رسوله يستميله إِليه, ويطلب منه الخروج عن طاعة العباسيين, والدخول في طاعته.
استخدم الإِخشيد السياسة والحنكة في الإِجابة عن الرسالة مشافهة, ووعد أن يكتب إِليه فيما بعد, وأن يسلك من حسن الموالاة ما لم يكن غيره يسلكه. وفكر الإِخشيد بعدئذ في الانحياز للفاطميين إِثر خلافه مع ابن رائق, وظهور الخليفة العباسي بمظهر العاجز عن حمايته في أملاكه. ومن المرجح أنه لم ينفذ ما فكر به, إِلا أنه عمل على كسب ود الفاطميين, فعرض زواج ابنته من ولي عهد الخليفة الفاطمي. وكان الإِخشيد يطمح من وراء هذا الزواج إِلى تمتين صلته بالفاطميين وعدم التعرض لهجماتهم, إِضافة إِلى مكاسب أخرى. إِلا أن الخليفة الفاطمي كتب إِليه يعلمه بأنه وافق على عرضه, وطلب منه أن يدع ابنته وديعة عنده, وأن يمهرها من واردات مصر والشام مئة ألف دينار. وهذا يشير إِلى أن الخليفة الفاطمي أراد أن يفهم الإِخشيد أنه أصبح تابعاً له في ولايته.
عمل كافور بعد سيده الإِخشيد على استخدام السياسة في علاقاته مع الفاطميين, فقد كان يهادي المعز صاحب المغرب, ويظهر ميله إِليه, ويذعن بالطاعة لبني العباس, ويداري ويخادع هؤلاء وأولئك حفاظاً على الإِمارة. وقد قام الفاطميون نتيجة لذلك باتباع أساليب كثيرة. فتارة يكتفون بمراقبة أوضاع مصر ونشر الدعوة لأنفسهم فيها, وأخرى يسفرون عن عدائهم فيرسلون جموعاً من جنودهم يعيثون في أراضيها.
وحقيقة الأمر أن الفاطميين استطاعوا في العهد الإِخشيدي نتيجة للدعاية المنظمة, واستغلال الأوضاع أن يجعلوا عدداً كبيراً من سكان مصر يدينون بمذهبهم, ويبايعون الخليفة الفاطمي. ويبدو أن الجو في مصر أصبح مهيأً لدخول الفاطميين إِليها عقب وفاة كافور الذي كان يُعَدّ العقبة الوحيدة في طريقهم. حتى إِن دعاة الخليفة الفاطمي المعز لدين الله في مصر كانوا يقولون: «إِذا زال الحجر الأسود ملك مولانا المعز لدين الله الأرض كلها» ويقصدون كافوراً الإِخشيدي. وكان أن قام الفاطميون بالقضاء على الدولة الإِخشيدية بعد وفاة كافور بمدة لا تزيد على السنة إِلا قليلاً.
العلاقة مع ابن رائق:
محمد بن رائق هو أول أمراء الأمراء. وقد دفعته ظروف التنافس على هذا المنصب إِلى ترك بغداد, والتوجه نحو بلاد الشام بعد أن حصل على تقليد من الخليفة بحكم طريق الفرات وديار مضر وجند قنسرين والعواصم.
بدأت الاصطدامات بين ابن رائق والإِخشيد, منذ أن استولى ابن رائق على حلب سنة 327هـ/939م, ومطالبة الإِخشيد بدفع مقدار من المال على ممتلكاته في الشام. حاول الإِخشيد في البداية استرضاء ابن رائق بالمال, ولكنه لم يفلح, وأخذ الأخير يستولي على الثغور والرقة وحمص ودمشق وغيرها وأتبعها بالرملة في آخر ذي الحجة سنة 327هـ/ أيلول 939م.
لم يجد الإِخشيد بداً من إِعداد العدة لقتال ابن رائق, والتحم الجيشان عند العريش في منتصف شهر رمضان 328هـ/25 حزيران 940م, وكاد جيش ابن رائق أن ينتصر لولا خروج كمين الإِخشيد عليه, فانهزم ابن رائق وتراجع إِلى دمشق, فبعث إِليه الإِخشيد أخاه أبا نصر في جيش كثيف, فلما سمع بهم ابن رائق سار إِليهم من دمشق فالتقوا باللجون, وانهزم جيش أبي نصر وقتل هو, فأرسل ابن رائق جثمانه مع ابنه مزاحم وكتب إِليه بالعزاء والاعتذار وأن مزاحماً فداؤه, فخلع عليه الإِخشيد ورده إِلى أبيه. وتم الصلح بينهما على أن يحكم ابن رائق الولايات الشامية إِلى الشمال من الرملة وعلى أن يدفع الإِخشيد إِليه مئة وأربعين ألف دينار كل سنة عن الرملة.
وما لبثت ظروف الخلافة العباسية, والنزاع على منصب إِمرة الأمراء أن ساعدت في عودة بلاد الشام إِلى الإِخشيد. فقد سار ابن رائق في رمضان سنة 329هـ/حزيران 941م إِلى بغداد ليتولى منصب إِمرة الأمراء واستخلف ابنه على أعماله في الشام, ولكنه قتل على يد الحمدانيين.
العلاقة مع الحمدانيين:
كانت حلب تابعة للإِخشيديين, فطمع الحمدانيون بها, ودخلها سيف الدولة سنة 333هـ/945م, وبدأ بعدئذ التنافس جلياً بين الطرفين, وتوالت الحملات العسكرية. فقد كان سيف الدولة يحلم بحكم بلاد الشام كلها, وبدأ يعمل على ضم دمشق إِليه, فأرسل له الإِخشيد جيشاً التقاه في الرستن, وكان النصر لسيف الدولة, وتقهقر جيش الإِخشيد إِلى دمشق, وخرج منها قاصداً الرملة, ودخل سيف الدولة دمشق.
عزم الإِخشيد على لقاء سيف الدولة بنفسه واستعادة دمشق, وقد تمكن من تحقيق ما عزم عليه بمساعدة بعض العوامل منها: أن أهالي دمشق لم يكونوا يميلون إِلى سيف الدولة, ووجود سيف الدولة خارج دمشق في ذلك الوقت لتأديب الأعراب الخارجين عليه, ووجود أنصار للإِخشيد داخل دمشق وقدرته على الاستفادة منهم.
وسار الإِخشيد من دمشق إِلى حمص ثم إِلى قنسرين, والتقى سيف الدولة فيها في شوال سنة 333هـ/ 945م, وعلى الرغم من انتصار سيف الدولة في الجولة الأولى, فإِنه ما لبث أن انهزم ودخل الإِخشيد حلب حاضرة الحمدانيين. ثم جرت مفاوضات للصلح بينهما أسفرت عن أن يكون لسيف الدولة حلب وما يليها من بلاد الشام بدءاً من جوسية وحمص. وعقدت مصاهرة بين الطرفين, وتزوج سيف الدولة ابنة أخ الإِخشيد. أما الأسباب التي دعت الإِخشيد لعقد الصلح فهي:
ـ أن الخطر كان يحدق بمصر من جهة الفاطميين الذين تزايدت قوتهم في المغرب. وأخذوا يرسلون الحملات المتتالية لاحتلال مصر.
ـ أن الدولة الحمدانية يجب أن تبقى حصناً منيعاً بينه وبين البيزنطيين, فلا يستطيع هؤلاء التعرض لأملاكه من وقت إِلى آخر.
ـ أن هذا الإِقليم يعد المجال الحيوي لاتساع سلطان الحمدانيين الذي أسسوا دولتهم في الموصل.
ـ أن انتصار الإِخشيد لم يكن حاسماً, والحرب ستظل قائمة بينه وبين الحمدانيين إِن لم يعقد المعاهدة.
استغل سيف الدولة فراغ دمشق من حامية إِخشيدية قوية إِثر وفاة الإِخشيد, فنقض الصلح, واتجه بجيشه إِليها ودخلها في صفر سنة 335هـ/ أيلول 946م, وأتبعها بالرملة.
لم يرغب أهالي دمشق بحكم سيف الدولة, ولاسيما بعد أن علموا طمعه بالاستيلاء على غوطة دمشق, فاستدعوا كافوراً, فجاء مسرعاً والتقى سيف الدولة في منطقة أكسال بنواحي الأردن في 24 جمادى الأولى سنة 335هـ/ 22 كانون الأول 947م, وكان النصر حليف الإِخشيديين, كما أحرزوا نصراً آخر في مرج عذراء. وتابع كافور تقدمه حتى دخل حلب في ذي الحجة سنة 335هـ/947م.
ترددت الرسل بين الطرفين، وانتهت المفاوضات بعقد معاهدة الصلح بالشروط نفسها التي كانت بين الإِخشيد وسيف الدولة، ما عدا الجزية فإن كافور لم يقبل بدفعها. وانتهت الحروب بين الطرفين على إثر هذا الصلح، وساد الصفاء بينهما.
العلاقة مع القرامطة: تعرضت سيادة الإِخشيديين على بلاد الشام للخطر من جانب قرامطة البحرين. الذين أغاروا على بلاد الشام منذ سنة 316هـ/928-929م. وهاجموها سنة 353هـ/964م وانتصروا على الإِخشيديين في حملة طبرية، وفرضوا عليهم مبلغاً من المال. وأغاروا في سنة 357هـ/967-968م ثانية، وعجز الحسن بن عبيد الله الإِخشيدي حاكم الشام عن صدهم، فسقطت الرملة في أيديهم، وتعهد لهم الحسن بن عبيد الله بإتاوة سنوية قدرها ثلاثمئة ألف دينار. وبذلك امتد نفوذ القرامطة إلى بلاد الشام في أواخر حكم الإِخشيديين.
العلاقات مع البيزنطيين: كان لأفراد الأسرة الإِخشيدية خبرة في قتال البيزنطيين، إذ تولى عدد من أمرائهم قتال البيزنطيين قبل قيام الإمارة. ففي سنة 281هـ/894-895م قام طغج بن جف بغزو البيزنطيين، وتابع ابنه محمد الاهتمام بأمر الحدود مع البيزنطيين منذ أن عمل على إنشاء الإمارة الإِخشيدية. واتسمت سياسة هذه الدولة عامة مع البيزنطيين بالمهادنة. فقد وافق الإِخشيد على هدنة مع البيزنطيين، بناء على كتاب من الامبراطور البيزنطي في سنة 325هـ/936-937م. واشترك الإِخشيديون مع الخلافة العباسية في دفع النفقات اللازمة لفداء الأسرى، وأول فداء اشترك فيه الإِخشيد كان في سنة 326هـ/937-938م. وعمل الإِخشيد على تنظيم فداء آخر، ولكنه ما لبث أن توفي، فعمل كافور على إتمامه، ودفع إلى القائمين به ثلاثين ألف دينار، وتوجه هؤلاء إلى طرسوس، إلا أنهم وجدوا والي الثغور يدعو لسيف الدولة الحمداني، فأتم الفداء ونسب إليه.
سقوط الإمارة الإِخشيدية
من الممكن تلخيص أسباب سقوط الإمارة الإِخشيدية بمايلي:
1ـ الخلافات بين أفراد الأسرة الإِخشيدية، وتنافسهم فيما بينهم على الوصول إلى عرش الإمارة، إلى جانب اختلاف القواد على تولي أمر الجند، وترقب بعضهم الإيقاع ببعض. وقد أدى ذلك إلى فرار قسم كبير من الجنود من مصر واللحاق بالحسن بن عبيد الله في الشام.
2ـ ارتفاع الأسعار واضطرابها، وندرة السلع وانتشار الأوبئة، واستمرار ذلك مدة حددها الأنطاكي من سنة 353-357هـ/964-968م. في حين ذكر المقريزي أنها دامت تسع سنين متتابعة، ابتداء من سنة 352هـ/963م.
3ـ عانت الدولة الإِخشيدية من كثرة الحروب التي اضطرت إلى خوضها. وحين جاء الفاطميون وجدوا البلاد في حالة شديدة من الضعف، فسهل عليهم تحقيق هدفهم في القضاء على الدولة الإِخشيدية وضمها إلى أملاكهم.
أهم مظاهر الحضارة في العصر الإِخشيدي
انقسم الناس في العهد الإخشيدي بحسب الثروة إلى فئتين، فئة غنية وفئة فقيرة. وتضم الفئة الأولى أفراد الأسرة الإِخشيدية، وبعض التجار الأغنياء والمُلاك، وطبقة الأشراف من العباسيين والطالبيين والعلويين، الذين كان لهم نصيب في المدن الكبرى. وقد عاشت هذه الفئة عيشة كلها إسراف في الطعام والشراب واللباس، يرتدون الفراء الفاخرة. ويتطيبون بالعنبر. وكانت مجالسهم حافلة بالمغنين والمغنيات، والجواري الحسان. وكانوا يبالغون في الإسراف في حفلاتهم، فينثرون النقود على الحاضرين، وكانوا يقومون برياضة الصيد وسباق الخيل، ويجمعون الخيول الأصيلة المدربة.
وكان يحيط بأفراد هذه الفئة عدد كبير من المماليك والغلمان والأتباع، كما كان لهم حجاب يحجبونهم عن الناس، وحراس لحمايتهم. وأكثر ما يشير إلى ترف هذه الطبقة مواكبهم التي كانوا يسيرون فيها. فقد كان الإِخشيد يسير وبين يديه خمسمئة غلام بالدبابيس، وبين يديه الشمع والمشاعل.
أما فئة العامة، فلا يكاد يسمع عنها شيء. ويبدو أنها كانت تعيش على هامش الحياة، تقبل بما يصل إليها. وكانت هناك صلة بين الفئتين تتمثل فيما يصل من إنعام الفئة الغنية إلى الفئة الأخرى. فقد كانت كثرة منهم تغدق الخير والإحسان على الفقراء والمحتاجين. وكان لمحمد بن علي الماذرائي ديوان كبير يشرف على نحو ستين ألف محتاج تجري عليهم الأرزاق.
عاش أهل الذمة عيشة جيدة، وسيطروا على الشؤون المالية في البلاد. فاغتنوا، ووصل بعضهم إلى أرقى درجات السلم الاجتماعي.
زخر العصر الإِخشيدي بطائفة من الأدباء والعلماء والفقهاء، وكان هؤلاء يلتقون علية القوم في مجلس الأمراء، كما كانوا يلتقون في المساجد للمناظرة وبحث المسائل الفقهية والأدبية، ولاسيما في مسجد عمرو بن العاص وغيره، كما كانوا يلتقون في قصر الإِخشيد.
تصدر الأدباء الكاتب إبراهيم بن عبد الله بن محمد البجيرمي الذي أنشأ الكتاب المرسل إلى الإمبراطور البيزنطي رومانوس، وسيبويه المصري المتوفى سنة 358هـ/969م، وقد كان إلى جانب مكانته الأدبية نديماً فكهاً، فقد جالس أونوجور بن الإِخشيد، والحسين بن محمد الماذرائي.
أما الشعراء فقد كان على رأسهم أحمد بن الحسين المتنبي الذي كان له موقف مع كافور. وأبو القاسم أحمد الرسي بن طباطبا, وولداه القاسم بن أحمد, وإِبراهيم بن أحمد, وابنه الحسين بن إِبراهيم, وكذلك عبد الله بن محمد ابن أبي الجوع, وصالح بن مؤنس.
ومما يؤسف له ضياع معظم الشعر في العصر الإِخشيدي, وما وصل منه يدل على إِقبال الناس في هذا العصر على اللهو والمجون, ووصف الطبيعة وجمالها.
واشتهر من النحويين أحمد بن محمد بن ولاد المتوفى سنة 332هـ/ 944م صاحب كتاب «الانتصار لسيبويه», وكتاب «المقصور والممدود» وأبو جعفر النحاس الذي ألف في علوم اللغة والأدب وتفسير القرآن, وتوفي سنة 338هـ/950م.
أما المحدثون فكان منهم أحمد بن عمرو الطحان المتوفى سنة 333هـ/945م, وحمزة ابن محمد بن علي العباسي الكناني, المتوفى سنة 357هـ/968م, وسعيد بن عثمان المتوفى 353هـ/964م, ومحمد بن علي بن حسن المصري المتوفى 369هـ/979م.
أما الفقهاء فمنهم ابن الحداد أبو بكر محمد ابن أحمد ( ت344هـ/955م) وأبو عبد الله الحسين بن أبي زرعة الدمشقي ( ت327هـ/938م) ومحمد بن إِبراهيم المعروف بابن سكرة (ت342هـ/953م) ومحمد بن يحيى بن مهدي الأسواني ( ت340هـ/951م) وأبو إِسحق محمد بن القاسم بن شعبان (ت 355هـ/ 965م).
واشتهر من المؤرخين عبد الرحمن بن أحمد ابن يونس الصدفي ( ت347هـ/958م) وأبو عمر محمد بن يوسف الكندي ( ت350هـ/961م), وابنه عمر بن محمد الكندي, والحسن بن إِبراهيم بن زولاق (ت 387هـ/997م).
امتاز العصر الإِخشيدي بآثار عمرانية مدنية ودينية, على رأسها قصر المختار وقصر البستان من تشييد الإِخشيد. والبستان الكافوري ودار الفيل من تشييد كافور.
أنفق الإِخشيديون بسخاء على المساجد من أجل فرشها وإِنارتها, فبنى أبو الحسن علي بن الإِخشيد مسجداً في الجيزة, وبنى كافور مسجد الفقاعي في سفح جبل المقطم, وبنى الوزير ابن الفرات مسجد موسى في المنطقة نفسها.
اهتم الإِخشيديون بالأبنية العامة, فقد أنشأ محمد بن طغج الإِخشيد قيساريات كثيرة, أشهرها قيسارية لبيع المنسوجات, كان دخلها يحبس على البيمارستان الأسفل. وبنى كافور بيمارستاناً سنة 346هـ/957م وأنشأ الوزير جعفر بن الفرات سبع سقايات لسكان الفسطاط لجلب الماء من منطقة جزيرة الروضة.
استمرت الصناعات النسيجية القطنية والكتانية بالازدهار, وكانت المراكز الرئيسة لهذه الصناعة في تنيس وشطا ودبيق ودمياط فضلاً عن الفرما والإِسكندرية والبهنسا والأشمونين وأخميم وأسيوط. واستمر تزيين المنسوجات في هذا العصر بالزخارف التي استعملها النساجون في الأزمنة السابقة. وقد حملت قطع النسيج التي وصلت من العصر الإِخشيدي أسماء الخلفاء العباسيين ووزرائهم, وأصحاب الطراز, وتاريخ النسيج أحياناً, إِلى جانب عبارات مختلفة, تتضمن تمنيات ودعوات. وازدهرت في هذا العصر صناعة الخزف, وصناعة الحفر في الخشب, على حين تدهورت صناعة ورق البردي.
لم يطرأ جديد على الزراعة, فالمزروعات استمرت كما كانت في العصور السابقة, والري بطريق الحياض. واستمرت التجارة الإِخشيدية في تقدمها, وكانت أسواق مصر والشام عامرة بالبضائع.
أمينة بيطار