شو (جورج برنارد ـ)
(1856ـ 1950)
جورج برنارد شو George Bernard Shawكاتب مسرحي ايرلندي، ولد في دبلن Dublinلأسرة بروتستنتية أرستقراطية متوسطة من طبقة الأعيان، إلا أن والده لم يكن يملك ثروة، مما أربك شو وجعله يصف حياة «الأرستقراطي الفقير» بأنها أشد وضاعة من حياة أولئك الذين يولدون فقراء في بيئة اجتماعية تتناسب ووضعهم المادي. كان والده عابثاً مدمناً الشراب مما جعل والدته التي كانت مدرِّسة للموسيقى تهجر زوجها عام 1872 وتلحق بأستاذ الموسيقى جورج لي George Lee إلى لندن لتعيش معه. تلقى شو تعليمه في مدارس كاثوليكية الأمر الذي خلّف في نفسه مرارة وجعله يرى المدرسة أشد وطأة من المعتقل. كانت الكاثوليكية آنذاك دالّة على دونية سياسية واجتماعية، كونها بعيدة عن المستعمر البريطاني البروتستنتي. وقد أدى استياء شو إلى ترك المدرسة عام 1871 وعزمه على تثقيف نفسه من خلال قراءاته المكثفة، والى الارتداد عن دينه في مرحلة مبكرة من عمره.
عمل شو محاسباً في مكتب عقاري في دبلن. وفي عام 1876 سافر إلى لندن، ليس للانضمام إلى والدته وشقيقته فحسب، بل لكون لندن عاصمة اللغة الإنكليزية التي كان يعتزم أن يتُوج نفسه ملكاً عليها ـ على حد تعبيره. وقد شّكلت إقامته في منزل لي سياقاً لتلقيه ثقافة موسيقية وظّفها في ما بعد ليصبح ناقداً موسيقياً. كذلك أسبغت هذه الثقافة على بعض مسرحياته ملامح أوبرالية وموسيقية فقد اسُتخدمت مسرحية «الإنسان والسلاح» Arms and the Man مثلاً مصدراً لنص أوبرا (ليبرتو Libretto) بعنوان «جندي الشوكولاته» The Chocolate Soldier، أما «بِغماليون» Pygmalion فقد استوحيت منها مسرحية موسيقية بعنوان «سيدتي الجميلة» My Fair Lady.
أثرى شو حياته كذلك بثقافة فنية، فقد كان ملماً بالرسم والنحت، مما أهلّه لأن يصبح ناقداً فنياً. وقد اعتمد في حياته على المردود المادي العائد من كتابة مقالات حول الفن والأدب والموسيقى إضافة إلى مساعدة مادية من أمه، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لإخراجه من الضائقة التي كان يعانيها.
كتب شو بين عامي 1879 و1883 خمس روايات هي «عدم النضج»Immaturity و«العقدة اللاعقلانية» The Irrational Knot و«الحب بين الفنانين» Love Among Artists و«مهنة كاشيل بايرون»Cashel Byron’s Profession و«الاشتراكي اللااجتماعي» The Unsocial Socialist. لم تتبنَ أية دار نشر رواياته، بإسثناء «عدم النضج» التي نُشرت على أجزاء في دوريات وصحف مختلفة. كان لشو، خلال هذه الفترة، حضور حيوي وفعّال في المشهد الثقافي اللندني، فقد حضر المناظرات وألقى المحاضرات وخطب في الناس في المنابر العامة وعلى نواصي الشوارع وأضحى معروفاً بـ ج. ب. س G.B.S.
يمثل عام 1884 نقطة تحول مهمة في حياة شو، إذ أنه استمع لمحاضرة ألقاها هنري جورج Henry George حول النظام الاشتراكي، تحول على أثرها إلى الإيمان بالاشتراكية بوصفها ممارسة عملية وليس بوصفها نظرية جامدة. ثم قرأ أعمال كارل ماركس Karl Marxبترجماتها الفرنسية، مما عزز إيمانه بمعتقده الجديد الذي لم يأتِ يوماً إلا في المقام الثاني بعد إيمانه بفرديته وممارسته لها. وقد أتيح له أن يقدم شروحاً حول الاشتراكية عام 1928 في كتابه «دليل المرأة الذكية إلى الاشتراكية والرأسمالية» The Intelligent Woman’s Guide to Socialism and Capitalism. انضم شو عام 1884 إلى الجمعية الفابيةFabian Society وهي منظمة اشتراكية بريطانية، ترفض فكرة الصراع الطبقي وترى أن الانتقال إلى الاشتراكية يتم عن طريق الديموقراطية البرلمانية التي تمكن الأحزاب والمنظمات من الاشتراك في الحكم ومن انتزاع التشريعات التي تؤدي إلى التغيير المطلوب في التركيب الطبقي للمجتمع، من دون تطبيق لديكتاتورية البروليتاريا. وقد تعرف شو عن طريق مؤسسيّ الجمعية بياتريس وسيدني وِب Beatrice and Sydney Webb إلى تشارلوت بين تاونسند Charlotte Payne Townshand التي تزوجها وهو في سن الثالثة والأربعين، ويقال إن علاقتهما كانت تتسم بالتبتل والبعد عن التعبير الحسي.
اتجه شو في عام 1885 نحو العمل في ميدان الصحافة، حيث كان مراجعاً للكتب والإصدارات الجديدة في دورية «بول مول غازيت» Pall Mall Gazette. وفي عام1886 عمل في صحيفة «ذه وورلد» The Worldبصفة ناقد فني. في عام 1888 عمل في صحيفة «ذه ستار» The Star التي وجدت مقالاته السياسية قادرة على التحريض فأسندت إليه العمل كناقد فني، وكان يوقع على مقالاته بالاسم المستعار كورنو دي باسيتو Corno di Bassetto. عمل شو بين عامي 1895 و1898 ناقداً مسرحياً في دورية «ذه ساترداي ريفيو» The Saturday Review. وقد وجه من خلالها نقده اللاذع إلى حالة الخواء الفكري للمسرح الفكتوري ونادى بـ «مسرح الأفكار» Theatre of Ideas.
يعد تعرّفُ شو الكاتب المسرحي النروجي هنريك إبسن Henrik Ibsen من أهم المحطات في مسيرته الفكرية والأدبية. فقد شهد عام 1889 العرض الأول في بريطانيا لمسرحية إبسن «بيت الدمية» A Doll’s House التي أحدثت هياجاً وولدت سخطاً وأغُلقت في وجهها أبواب المسارح الاسكندنافية في نهاية سبعينيات القرن، لكونها تصور امرأة تضع دورها أماً وزوجة في المقام الثاني بعد فرديتها. اكتشف شو من خلال المسرحية فاعلية المسرح ومقدرته على طرح المشكلات الاجتماعية دون مهادنة أو مخادعة، كذلك أعجب بالجرأة التي تنطوي عليها محاولات إبسن، إذ فرض على المتلقي عملية إعادة تقويم للموروثات الفكرية والاجتماعية والدينية وتحريضه على نبذ المسلَّمات والافتراضات العقيمة. من جهة أخرى، وأعجب برفض إبسن الحبكات الميلودرامية والشخصيات المُنمَّطة، فكتب شو في عام 1891 انطباعاته عن إبسن في كتابه «جوهر الإبسنية» The Quintessence of Ibsenism الذي تناول فيه أعمال إبسن بالتحليل عاقداً المقارنة بين العمق الفكري الذي اتسمت به أعمال إبسن والضحالة الفكرية للمسرح الإنكليزي آنذاك. وأخيراً وجد شو، الروائي الفاشل، جنساً أدبياً يضمَّنه أفكاره ويوظفه في مخاطبة الجمهور، ألا وهو المسرح.
تميزت الفترة الواقعة بين عامي 1892 و1948 من حياة شو الطويلة بنتاج مسرحي بالغ الثراء كماً وكيفاً، بحث من خلاله موضوعات شتى، كالزواج والبغاء والسياسة والدين وغيرها. كانت باكورة أعماله مسرحية «بيوت الأرامل» The Widowers’ Houses التي يتناول فيها نموذجاً للنظام الرأسمالي بالنقد. في عام 1893 كتب «مهنة السيدة وارن»Mrs. Warren’s Profession التي لم ترَ نور العرض المسرحي حتى عام 1902، فقد شنَّت الرقابة حرباً شرسة ضدها كونها تدافع عن البغاء بمفهومه التقليدي وتعيد تعريف المفهوم؛ فالعملاء الذين يجعلون العهر سلعة رابحة أكثر بغاءً ولا أخلاقية من البغايا. وقد ضمَّن شو هذه المسرحية في مجموعة تحمل عنوان «مسرحيات مزعجة» Plays Unpleasant تشتمل على المسرحيتين الآنفتي الذكر إضافة إلى مسرحية «العابث» The Philanderer. ويأتي وصف شو للمجموعة من كون الفاعلية الدرامية للمسرحيات مستمدة من مواجهة المتفرج بقضايا «مزعجة». وللتخفيف من حدة الإهانات التي سببها للرأي العام، قدم شو مجموعة بعنوان «مسرحيات لطيفة» Plays Pleasant. وقد شهد عام 1894 ولادة أولى تلك المسرحيات «الإنسان والسلاح» Arms and the Man التي يبحث فيها فكرة التدخل المفاجئ لقوة الحياة Life-force في مصائر الناس ليؤدي ذلك إلى سقوط مفهوم الحب الرومنسي ومجد الحرب الزائف. أما «كانديدا» Candidaفجاءت بعد ثلاثة أعوام ليرد فيها شو على مسرحية «بيت الدمية» مجبراً بطلته على الاختيار بين زوجها الاشتراكي وشاعر شاب متيم بها. تختار كانديدا زوجها لأنه الأضعف، فالشاعر فنان لديه قدرة عجيبة على التنازل عن سعادته الزائفة في سبيل غاية أسمى. وتشكل مسرحيتا «رجل القدر» The Man of Destiny و«لا يمكنك أن تُخمِّن» You Can Never Tell في عامي 1897 و1901 على التوالي تتمة تلك المجموعة. في عام 1901 أصدر شو مجموعة بعنوان «ثلاث مسرحيات للتطهريين» Three Plays For Puritans ضَّمنها «تلميذ الشيطان» The Devil’s Disciple، وهي مسرحية تتخذ من الحرب الأهلية الأمريكية خلفية تاريخية لها، و«قيصر وكليوباترا»Caesar and Cleopatra التي يعيد من خلالها صياغة مسرحية شكسبير «أنطوني وكليوباترا» Antony and Cleopatra ليقوض من خلالها هيمنة شكسبير على المشهد المسرحي ولينتقد «عبادة الشاعر»Bardolatryالتي جعلت شكسبير في مصاف الآلهة الذين لا تجوز مقاربتهم بالنقد. أما المسرحية الثالثة ضمن المجموعة «تحوُّل القبطان برازباوند» Captain Brassbound‘s Conversionفهي أشبه بعظة حول الجوانب السلبية لحماقات ترتكب باسم الواجب والعدل. في عام 1904، كتب شو مسرحية «الإنسان والرجل(الإنسان) الخارق» Man and Superman متناولاً أسطورة دون جوان[ر]Don Juan بالمعالجة المسرحية ومازجاً بين الكوميديا والمقاربة الفلسفية لنظرية التطور الخلاق Creative Evolution التي ترى أن التطور خلق مستمر وتجديد متواصل حسب التوجه الذي تمليه «قوة الحياة» الكامنة في الإنسان، وقد وجد شو هذه النظرية أشد إقناعاً من نظرية الانتخاب الطبيعي Natural Selection التي وضعها تشارلز داروينC.Darwin، لكونها تعزو التطور إلى أسباب خارجية وآلية لا علاقة لها بإرادة الإنسان. وقد عاد شو عام 1922 لفكرة التطور الخلاق في «العودة إلى ميثوشالح» Back to Methusaleh، وهي تتألف من خمسة أجزاء كل جزء منها بمنزلة مسرحية متكاملة، يبحث من خلالها تطور البشرية منذ الخليقة وحتى لحظة مستقبلية على نحو يقارب الخيال العلمي[ر. أدب الخيال العلمي]. شهد عام 1905 ولادة مسرحيته الشهيرة «الرائد باربارا» Major Barbara التي يبحث فيها الصراع بين المثالية والواقعية، فباربارا التي تعمل متطوعة في جيش الخلاصSalvation Army لمساعدة الفقراء تعارض ثروة أبيها الملوثة التي جمعها عن طريق صناعة السلاح وترويجه. أعقبت هذه المسرحية أعمال كثيرة منها «معضلة الطبيب» The Doctor’s Dilemma ت(1906) و«تحالف غير ملائم»Misalliance ت(1910) و«أندروكليس والأسد» Androcles and the Lion ت(1913). في عام 1914 كتب «بغماليون» وهي مسرحية تعليمية هادفة تبحث في موضوع الصراع الطبقي في بريطانيا.
جاءت الحرب العالمية الأولى مثيرة سخط شو الذي رأى فيها تناحراً بين القوى الرأسمالية (الامبريالية)، وكان نتاج تلك الفترة مسرحية «منزل القلوب المحطمة»Heartbreak House ت(1919) التي يتهم فيها جيلاً بأكمله بالإفلاس الروحي. عنوان المسرحية الفرعي «فانتازيا على الطريقة الروسية حول موضوعات بريطانية» ولا يخفى ما لمصطلح «فانتازيا» Fantasiaبالطبع من مدلولات موسيقية وإيحاءات بعوالم الحلم والبعد عن الواقع. ويتضح من خلال المسرحية تأثر شو بأنطون تشيخوفAnton Chekhov وليف تولستوي L.Tolstoy. كتب عام 1924 «القديسة جون» Saint Joanالتي مُنح بسببها جائزة نوبل للأدب عام 1925. والمسرحية معالجة لأسطورة معروفة، حيث تعيش جان دارك صراعاً بين سلطة الكنيسة وسلطة القانون، وتجمع الواقعية بالصوفية، وتطرح المسرحية معضلة أخلاقية، فالبشرية ستجعل من قديسيها ضحايا إلى أن تصبح أخلاقيات القديسين هي المعيار الأفضل والوحيد.
توفي شو في آيوت سانت لورنس Ayot St. Lawrence في بريطانيا تاركاً وصية تقضي بتخصيص جزء من الثروة الكبيرة التي جناها لجهات تعنى بالثقافة والفن والمسرح كصالة العرض الوطنية في إيرلندا وغرفة القراءة في المتحف البريطاني والمعهد العالي للفنون المسرحية في لندن. كذلك أوصى بتمويل مشروع لإصلاح الأبجدية الإنكليزية أي تبسيطها حتى تصبح القراءة والكتابة متيسرة لأكبر عدد من الناس.
يُعد جورج برنارد شو أبرز كاتب ظهر على المشهد المسرحي البريطاني منذ القرن السابع عشر، أي منذ ظهور شكسبير. وتكمن أهميته في كونه حدد المسار العام لما يمكن وصفه بالمسرح الجاد غير التجاري، فمسرحياته ـ على حد تعبيره ـ «لا تدعو المتفرج إلى الاستغراق في أحلام اليقظة المبهجة، بل إنها تحث على التفكير»، وانطلاقاً من ذلك لم يتوخَّ شو يوماً الربح التجاري من خلال جذب أكبر عدد من المتفرجين واسترضاء أذواقهم، كما كانت الحال عليه في المسرح الفِكتوري. لقد حاول شو إدخال بعد تعليمي من خلال طرح مسرحه أفكاراً فلسفية واجتماعية وسياسية وإيجاد الحلول المناسبة لها. ولذا كثيراً ما يقترن اسم شو بـ «مسرح الأطروحة» Thesis Drama. بَيد أن الكاتب كان يعرض أكثر أفكاره جدية بأسلوب كوميدي يخلو من التوقير، انطلاقاً من اعتقاده بـأن «الحياة مضحكة حين يموت الناس بقدر ما هي جدية حين يضحكون»، ولذا اقترن اسمه كذلك بـ «كوميديا الأفكار» Comedy of Ideas.
يؤخذ على شو طغيان الهدف التعليمي على القيمة الفنية في أعماله، فهو يكتب إرشادات إخراجية طويلة متناسياً أن المسرحية ليست نصاً مقروءاً فحسب، أما شخوصه المسرحية فتفتقر إلى الكثافة النفسية والأبعاد السلوكية التي تتسم بها النفس البشرية، لذا تعيش الفكرة على حساب التضحية بحياة وديناميكية الشخوص. ويأتي الحوار في مسرحياته حجة لإثبات فكرة معينة بمعزل عما إذا كان ملائماً لشخصية المتكلم. كذلك يزخر حواره بالأجوبة الفَطنة والتلاعب اللفظي في خدمة الكوميديا مما يتنافى، في أغلب الأحيان، مع واقعية الحوار، وكأن شو يرى في شخوصه وحواراتهم استنساخاً له. وإذا كان من الممكن التحدث عن جوهر «الشوفية» Shavian(نسبة إلى شو) كما تحدث شو عن «جوهر الإبسنية» فسوف تتجلى نواته في ذهنية حادة وقّادة أسهمت على مدى ثلاثة أجيال في «التطور الخلاق» للفكر الأدبي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي مما يجعل إرث شوـ وإن لم يشكل مدرسة حديثة بحد ذاته ـ «إرثاً خارقاً» من حيث العمق الفكري والتنوع ويجعله «رجل القدر» الذي انتشل المسرح البريطاني من «معضلة» الافلاس والركود.
ندى زين الدين
(1856ـ 1950)
عمل شو محاسباً في مكتب عقاري في دبلن. وفي عام 1876 سافر إلى لندن، ليس للانضمام إلى والدته وشقيقته فحسب، بل لكون لندن عاصمة اللغة الإنكليزية التي كان يعتزم أن يتُوج نفسه ملكاً عليها ـ على حد تعبيره. وقد شّكلت إقامته في منزل لي سياقاً لتلقيه ثقافة موسيقية وظّفها في ما بعد ليصبح ناقداً موسيقياً. كذلك أسبغت هذه الثقافة على بعض مسرحياته ملامح أوبرالية وموسيقية فقد اسُتخدمت مسرحية «الإنسان والسلاح» Arms and the Man مثلاً مصدراً لنص أوبرا (ليبرتو Libretto) بعنوان «جندي الشوكولاته» The Chocolate Soldier، أما «بِغماليون» Pygmalion فقد استوحيت منها مسرحية موسيقية بعنوان «سيدتي الجميلة» My Fair Lady.
أثرى شو حياته كذلك بثقافة فنية، فقد كان ملماً بالرسم والنحت، مما أهلّه لأن يصبح ناقداً فنياً. وقد اعتمد في حياته على المردود المادي العائد من كتابة مقالات حول الفن والأدب والموسيقى إضافة إلى مساعدة مادية من أمه، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لإخراجه من الضائقة التي كان يعانيها.
منظر من "بغماليون" التي أخرجت للسينما بعنوان "سيدتي الجميلة" |
يمثل عام 1884 نقطة تحول مهمة في حياة شو، إذ أنه استمع لمحاضرة ألقاها هنري جورج Henry George حول النظام الاشتراكي، تحول على أثرها إلى الإيمان بالاشتراكية بوصفها ممارسة عملية وليس بوصفها نظرية جامدة. ثم قرأ أعمال كارل ماركس Karl Marxبترجماتها الفرنسية، مما عزز إيمانه بمعتقده الجديد الذي لم يأتِ يوماً إلا في المقام الثاني بعد إيمانه بفرديته وممارسته لها. وقد أتيح له أن يقدم شروحاً حول الاشتراكية عام 1928 في كتابه «دليل المرأة الذكية إلى الاشتراكية والرأسمالية» The Intelligent Woman’s Guide to Socialism and Capitalism. انضم شو عام 1884 إلى الجمعية الفابيةFabian Society وهي منظمة اشتراكية بريطانية، ترفض فكرة الصراع الطبقي وترى أن الانتقال إلى الاشتراكية يتم عن طريق الديموقراطية البرلمانية التي تمكن الأحزاب والمنظمات من الاشتراك في الحكم ومن انتزاع التشريعات التي تؤدي إلى التغيير المطلوب في التركيب الطبقي للمجتمع، من دون تطبيق لديكتاتورية البروليتاريا. وقد تعرف شو عن طريق مؤسسيّ الجمعية بياتريس وسيدني وِب Beatrice and Sydney Webb إلى تشارلوت بين تاونسند Charlotte Payne Townshand التي تزوجها وهو في سن الثالثة والأربعين، ويقال إن علاقتهما كانت تتسم بالتبتل والبعد عن التعبير الحسي.
اتجه شو في عام 1885 نحو العمل في ميدان الصحافة، حيث كان مراجعاً للكتب والإصدارات الجديدة في دورية «بول مول غازيت» Pall Mall Gazette. وفي عام1886 عمل في صحيفة «ذه وورلد» The Worldبصفة ناقد فني. في عام 1888 عمل في صحيفة «ذه ستار» The Star التي وجدت مقالاته السياسية قادرة على التحريض فأسندت إليه العمل كناقد فني، وكان يوقع على مقالاته بالاسم المستعار كورنو دي باسيتو Corno di Bassetto. عمل شو بين عامي 1895 و1898 ناقداً مسرحياً في دورية «ذه ساترداي ريفيو» The Saturday Review. وقد وجه من خلالها نقده اللاذع إلى حالة الخواء الفكري للمسرح الفكتوري ونادى بـ «مسرح الأفكار» Theatre of Ideas.
يعد تعرّفُ شو الكاتب المسرحي النروجي هنريك إبسن Henrik Ibsen من أهم المحطات في مسيرته الفكرية والأدبية. فقد شهد عام 1889 العرض الأول في بريطانيا لمسرحية إبسن «بيت الدمية» A Doll’s House التي أحدثت هياجاً وولدت سخطاً وأغُلقت في وجهها أبواب المسارح الاسكندنافية في نهاية سبعينيات القرن، لكونها تصور امرأة تضع دورها أماً وزوجة في المقام الثاني بعد فرديتها. اكتشف شو من خلال المسرحية فاعلية المسرح ومقدرته على طرح المشكلات الاجتماعية دون مهادنة أو مخادعة، كذلك أعجب بالجرأة التي تنطوي عليها محاولات إبسن، إذ فرض على المتلقي عملية إعادة تقويم للموروثات الفكرية والاجتماعية والدينية وتحريضه على نبذ المسلَّمات والافتراضات العقيمة. من جهة أخرى، وأعجب برفض إبسن الحبكات الميلودرامية والشخصيات المُنمَّطة، فكتب شو في عام 1891 انطباعاته عن إبسن في كتابه «جوهر الإبسنية» The Quintessence of Ibsenism الذي تناول فيه أعمال إبسن بالتحليل عاقداً المقارنة بين العمق الفكري الذي اتسمت به أعمال إبسن والضحالة الفكرية للمسرح الإنكليزي آنذاك. وأخيراً وجد شو، الروائي الفاشل، جنساً أدبياً يضمَّنه أفكاره ويوظفه في مخاطبة الجمهور، ألا وهو المسرح.
تميزت الفترة الواقعة بين عامي 1892 و1948 من حياة شو الطويلة بنتاج مسرحي بالغ الثراء كماً وكيفاً، بحث من خلاله موضوعات شتى، كالزواج والبغاء والسياسة والدين وغيرها. كانت باكورة أعماله مسرحية «بيوت الأرامل» The Widowers’ Houses التي يتناول فيها نموذجاً للنظام الرأسمالي بالنقد. في عام 1893 كتب «مهنة السيدة وارن»Mrs. Warren’s Profession التي لم ترَ نور العرض المسرحي حتى عام 1902، فقد شنَّت الرقابة حرباً شرسة ضدها كونها تدافع عن البغاء بمفهومه التقليدي وتعيد تعريف المفهوم؛ فالعملاء الذين يجعلون العهر سلعة رابحة أكثر بغاءً ولا أخلاقية من البغايا. وقد ضمَّن شو هذه المسرحية في مجموعة تحمل عنوان «مسرحيات مزعجة» Plays Unpleasant تشتمل على المسرحيتين الآنفتي الذكر إضافة إلى مسرحية «العابث» The Philanderer. ويأتي وصف شو للمجموعة من كون الفاعلية الدرامية للمسرحيات مستمدة من مواجهة المتفرج بقضايا «مزعجة». وللتخفيف من حدة الإهانات التي سببها للرأي العام، قدم شو مجموعة بعنوان «مسرحيات لطيفة» Plays Pleasant. وقد شهد عام 1894 ولادة أولى تلك المسرحيات «الإنسان والسلاح» Arms and the Man التي يبحث فيها فكرة التدخل المفاجئ لقوة الحياة Life-force في مصائر الناس ليؤدي ذلك إلى سقوط مفهوم الحب الرومنسي ومجد الحرب الزائف. أما «كانديدا» Candidaفجاءت بعد ثلاثة أعوام ليرد فيها شو على مسرحية «بيت الدمية» مجبراً بطلته على الاختيار بين زوجها الاشتراكي وشاعر شاب متيم بها. تختار كانديدا زوجها لأنه الأضعف، فالشاعر فنان لديه قدرة عجيبة على التنازل عن سعادته الزائفة في سبيل غاية أسمى. وتشكل مسرحيتا «رجل القدر» The Man of Destiny و«لا يمكنك أن تُخمِّن» You Can Never Tell في عامي 1897 و1901 على التوالي تتمة تلك المجموعة. في عام 1901 أصدر شو مجموعة بعنوان «ثلاث مسرحيات للتطهريين» Three Plays For Puritans ضَّمنها «تلميذ الشيطان» The Devil’s Disciple، وهي مسرحية تتخذ من الحرب الأهلية الأمريكية خلفية تاريخية لها، و«قيصر وكليوباترا»Caesar and Cleopatra التي يعيد من خلالها صياغة مسرحية شكسبير «أنطوني وكليوباترا» Antony and Cleopatra ليقوض من خلالها هيمنة شكسبير على المشهد المسرحي ولينتقد «عبادة الشاعر»Bardolatryالتي جعلت شكسبير في مصاف الآلهة الذين لا تجوز مقاربتهم بالنقد. أما المسرحية الثالثة ضمن المجموعة «تحوُّل القبطان برازباوند» Captain Brassbound‘s Conversionفهي أشبه بعظة حول الجوانب السلبية لحماقات ترتكب باسم الواجب والعدل. في عام 1904، كتب شو مسرحية «الإنسان والرجل(الإنسان) الخارق» Man and Superman متناولاً أسطورة دون جوان[ر]Don Juan بالمعالجة المسرحية ومازجاً بين الكوميديا والمقاربة الفلسفية لنظرية التطور الخلاق Creative Evolution التي ترى أن التطور خلق مستمر وتجديد متواصل حسب التوجه الذي تمليه «قوة الحياة» الكامنة في الإنسان، وقد وجد شو هذه النظرية أشد إقناعاً من نظرية الانتخاب الطبيعي Natural Selection التي وضعها تشارلز داروينC.Darwin، لكونها تعزو التطور إلى أسباب خارجية وآلية لا علاقة لها بإرادة الإنسان. وقد عاد شو عام 1922 لفكرة التطور الخلاق في «العودة إلى ميثوشالح» Back to Methusaleh، وهي تتألف من خمسة أجزاء كل جزء منها بمنزلة مسرحية متكاملة، يبحث من خلالها تطور البشرية منذ الخليقة وحتى لحظة مستقبلية على نحو يقارب الخيال العلمي[ر. أدب الخيال العلمي]. شهد عام 1905 ولادة مسرحيته الشهيرة «الرائد باربارا» Major Barbara التي يبحث فيها الصراع بين المثالية والواقعية، فباربارا التي تعمل متطوعة في جيش الخلاصSalvation Army لمساعدة الفقراء تعارض ثروة أبيها الملوثة التي جمعها عن طريق صناعة السلاح وترويجه. أعقبت هذه المسرحية أعمال كثيرة منها «معضلة الطبيب» The Doctor’s Dilemma ت(1906) و«تحالف غير ملائم»Misalliance ت(1910) و«أندروكليس والأسد» Androcles and the Lion ت(1913). في عام 1914 كتب «بغماليون» وهي مسرحية تعليمية هادفة تبحث في موضوع الصراع الطبقي في بريطانيا.
جاءت الحرب العالمية الأولى مثيرة سخط شو الذي رأى فيها تناحراً بين القوى الرأسمالية (الامبريالية)، وكان نتاج تلك الفترة مسرحية «منزل القلوب المحطمة»Heartbreak House ت(1919) التي يتهم فيها جيلاً بأكمله بالإفلاس الروحي. عنوان المسرحية الفرعي «فانتازيا على الطريقة الروسية حول موضوعات بريطانية» ولا يخفى ما لمصطلح «فانتازيا» Fantasiaبالطبع من مدلولات موسيقية وإيحاءات بعوالم الحلم والبعد عن الواقع. ويتضح من خلال المسرحية تأثر شو بأنطون تشيخوفAnton Chekhov وليف تولستوي L.Tolstoy. كتب عام 1924 «القديسة جون» Saint Joanالتي مُنح بسببها جائزة نوبل للأدب عام 1925. والمسرحية معالجة لأسطورة معروفة، حيث تعيش جان دارك صراعاً بين سلطة الكنيسة وسلطة القانون، وتجمع الواقعية بالصوفية، وتطرح المسرحية معضلة أخلاقية، فالبشرية ستجعل من قديسيها ضحايا إلى أن تصبح أخلاقيات القديسين هي المعيار الأفضل والوحيد.
توفي شو في آيوت سانت لورنس Ayot St. Lawrence في بريطانيا تاركاً وصية تقضي بتخصيص جزء من الثروة الكبيرة التي جناها لجهات تعنى بالثقافة والفن والمسرح كصالة العرض الوطنية في إيرلندا وغرفة القراءة في المتحف البريطاني والمعهد العالي للفنون المسرحية في لندن. كذلك أوصى بتمويل مشروع لإصلاح الأبجدية الإنكليزية أي تبسيطها حتى تصبح القراءة والكتابة متيسرة لأكبر عدد من الناس.
يُعد جورج برنارد شو أبرز كاتب ظهر على المشهد المسرحي البريطاني منذ القرن السابع عشر، أي منذ ظهور شكسبير. وتكمن أهميته في كونه حدد المسار العام لما يمكن وصفه بالمسرح الجاد غير التجاري، فمسرحياته ـ على حد تعبيره ـ «لا تدعو المتفرج إلى الاستغراق في أحلام اليقظة المبهجة، بل إنها تحث على التفكير»، وانطلاقاً من ذلك لم يتوخَّ شو يوماً الربح التجاري من خلال جذب أكبر عدد من المتفرجين واسترضاء أذواقهم، كما كانت الحال عليه في المسرح الفِكتوري. لقد حاول شو إدخال بعد تعليمي من خلال طرح مسرحه أفكاراً فلسفية واجتماعية وسياسية وإيجاد الحلول المناسبة لها. ولذا كثيراً ما يقترن اسم شو بـ «مسرح الأطروحة» Thesis Drama. بَيد أن الكاتب كان يعرض أكثر أفكاره جدية بأسلوب كوميدي يخلو من التوقير، انطلاقاً من اعتقاده بـأن «الحياة مضحكة حين يموت الناس بقدر ما هي جدية حين يضحكون»، ولذا اقترن اسمه كذلك بـ «كوميديا الأفكار» Comedy of Ideas.
يؤخذ على شو طغيان الهدف التعليمي على القيمة الفنية في أعماله، فهو يكتب إرشادات إخراجية طويلة متناسياً أن المسرحية ليست نصاً مقروءاً فحسب، أما شخوصه المسرحية فتفتقر إلى الكثافة النفسية والأبعاد السلوكية التي تتسم بها النفس البشرية، لذا تعيش الفكرة على حساب التضحية بحياة وديناميكية الشخوص. ويأتي الحوار في مسرحياته حجة لإثبات فكرة معينة بمعزل عما إذا كان ملائماً لشخصية المتكلم. كذلك يزخر حواره بالأجوبة الفَطنة والتلاعب اللفظي في خدمة الكوميديا مما يتنافى، في أغلب الأحيان، مع واقعية الحوار، وكأن شو يرى في شخوصه وحواراتهم استنساخاً له. وإذا كان من الممكن التحدث عن جوهر «الشوفية» Shavian(نسبة إلى شو) كما تحدث شو عن «جوهر الإبسنية» فسوف تتجلى نواته في ذهنية حادة وقّادة أسهمت على مدى ثلاثة أجيال في «التطور الخلاق» للفكر الأدبي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي مما يجعل إرث شوـ وإن لم يشكل مدرسة حديثة بحد ذاته ـ «إرثاً خارقاً» من حيث العمق الفكري والتنوع ويجعله «رجل القدر» الذي انتشل المسرح البريطاني من «معضلة» الافلاس والركود.
ندى زين الدين