الشعوبية
الشعوبية: مأخوذة من الشعوب جمع شعب، والشعب الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب، وهي الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة، فالشعب مجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ يجمع الفصائل.
وفي الاصطلاح: ظهر مصطلح الشعوبية في التاريخ الإسلامي في العهد العباسي ذاته ليدل على توجهين متضادين.
التوجه الأول: اطلق على أهل التسوية القائلين بأن العرب ليسوا أفضل من غيرهم لأن الجميع سواء، وفي كل أمة الطيب والخبيث والمحسن والمسيء وهؤلاء أول من سموا بالشعوبية، ففي العقد الفريد: الشعوبية هم أهل التسوية، وفي الصحاح: الشعوبية فرقة لا تفضل العرب على العجم، وحجتهم قول الله تبارك وتعالـى: )يَا أيُّهَا النَّاسُ إنّا خَلَقْنَاكُم من ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شَعَوبَاً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكٌمْ( (الحجرات 31) مما يؤكد بوضوح الحقائق المنطقية الآتية:
1ـ إن الناس كلهم من أصل واحد هو آدم و حواء.
2ـ إن العلاقة بناء على وحدة الأصل لابد من أن تكون قائمة بين الناس على التناصر لا التفاخر، وعلى التعارف لا التناكر.
3ـ ألا يكون التفاضل بينهم بالأصل والجنس والنسب بل بالتقوى.
وعلى هذا الأصل جرى التعامل في صدر الإسلام، فبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي كانوا من خيرة أصحاب النبيr. ولما غضب أبو ذر الغفاري على عبدٍ له قال له: يا ابن السوداء، فصاح به النبيr وقال له: «إنك امرؤ فيك جاهلية ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى والعمل الصالح». (أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي). وهو الأصل الذي ساد المجتمع الإسلامي منذ عهد الخلافة الراشدة واستمر في العصور التالية حتى هذا اليوم فكل المسلمين الواعين الصادقين لا يحيدون عنه لأنه جزء من عقيدة الإسلام الصحيحة.
وإذا كان الأمر كذلك فلم لم يظهر هذا المصطلح إلا في نطاق ضيق محدود وفي فترة محدودة أوائل عهد الخلافة العباسية، ثم انتهى أمام المصطلح المضاد الذي حمل لواءه أعداء العرب والمسلمين؟؟ وللجواب على هذا التساؤل تُذكر الأمور الآتية:
أولاً: لم تظهر (الشعوبية) في الصدر الأول، لأن جيل المسلمين الأوائل امتزج الإسلام بدمائهم وعقولهم وأفئدتهم بكل معانيه، وكان المثل الأعلى الذي وهبوه حياتهم وكل إمكاناتهم، وحملوه عقيدةً وخلقاًَ وسلوكاً ونظام حياة لكل الناس وهو كلٌ لا يتجزأ، فأي فرد ينضوي تحت لوائه ويحمل اسم المسلم لابد من أن يدين بكل مبادئه وقواعده، وأن ينتمي إليها جميعاً، فالمسلم؛ رجل التوحيد ورمز الإيمان ومثال العدل وحامل لواء المساواة بين الأفراد والشعوب، ومن هنا كان شرف الانتساب إلى الإسلام يغني عن هذا كله، ولهذا لم يظهر مصطلح الشعوبية بمعنى التسوية في هذا العصر.
ثانياً: لم يظهر كذلك في العصر الأموي للاعتبار السابق ولأن الوجود العربي كان المسيطر على كل شيء، فكان منهم الخلفاء والقواد وأمراء الجيوش، وبأرواحهم ودمائهم فتحوا البلاد وحطموا عرش كسرى وقيصر، وصار من دخل الإسلام من غيرهم يشعر بأنه مدين للعرب في الدلالة على الإيمان والتوحيد والانتشال من ظلمة الكفر والشرك، فاعترف لهم بالتقدم والفضل يسعه في ذلك قول الله تعالى: )إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ(فما فعله العرب هو من التقوى والعمل الصالح.
ثالثاً: لمّا أحس بعض العامة من العرب وكثير من رجال القبائل والبدو بأن للعرب هذه المنزلة توهموا أن الدم الذي يجري في عروقهم هو دم ممتاز، فنظروا إلى غيرهم من الشعوب نظرة السيد للمسود فقالوا بأفضلية العرب على غيرهم، ومع ذلك لم يطلق عليهم اسم الشعوبية مع أنها نظرة عنصرية.
رابعاً: هذه النظرة العنصرية من بعض العامة كان لها أثر سلبي في نفوس بعض الموالي من الأعاجم وغيرهم، فحركت في بواطنهم بوادر الرفض والاستنكار، لكنهم لم يتمكنوا من الإفصاح عنها ولا إظهارها لقوة السلطان العربي وهيمنته، وبدأ هذا الشعور يتنامى إلى أن ظهر بقوة وفي الأوج أيام الخلافة العباسية.
التوجه الثاني: حملت اسم الشعوبية فئة أخرى، لكن لا على معنى التسوية الذي حملته الفئة الأولى، بل بالمعنى العنصري، الذي لا يرفض التسوية بين العرب وغيرهم فحسب، بل يقدم الموالي على العرب، ويحط من شأنهم، ويكيد للدين الذي جاء عن طريقهم. وقد ظهر هذا الاتجاه بقوة على السطح في المجتمع الإسلامي في عهد الخلافة العباسية، على أيدي الغلاة من الموالي، وشاركهم كثير من عامتهم، ولم يولد فجأة بل يرجع نشوؤه إلى أيام العهد الأموي وعلى مراحل، فبدأ رفضاً باطناً هادئاً في النفوس إثر النزعة المغالية لمن فضّل العنصر العربي على غيره، ثم اتخذ شعار التسوية التي قالت بها الفئة الشعوبية الأولى، لا رغبة في التسوية بل لجعلها مرحلة متوسطة في الطريق إلى المعنى الشعوبي العنصري المتطرف، ولهذا لم يكن لأصحابه نشاط واسع في العصر الأموي، إذ اقتصر أمرهم على استقطاب الموالي وبلورة التجمع المناوئ للعروبة والإسلام. أما في العصر العباسي فقد نضجت هذه الحركة العنصرية وتعاظم نشاطها حتى أصبحت أخطر ظاهرة تهدد الدولة والمجتمع وقيمه، وخاصة حين مُلئت قصور الخلفاء بالموالي يُستخدمون فيها بأعمال شتى، ومُلئت بيوت الحريم بالخصيان، ولم يكن ذلك معروفاً عند العرب لكنهم أخذوه عن غيرهم، واقتصرت المراكز الكبيرة تقريباً على الفرس، في حين كان الأمويون إذا اختاروا والياً أو قاضياً أو أمير حرب راعوا عربيته، وانتشرت العادات والتقاليد الفارسية كإحياء يوم النيروز ولبس القلنسوة وغيرها من العادات، كما انتشرت الثقافة الفارسية بعد ترجمة الكثير من الكتب والتراث الفارسي.
وحسب الشعوبيون أن هذا كله ما حصل إلا لرضا العباسيين عن الموالي وعاداتهم وثقافاتهم ولكراهيتهم للعرب، وقد أخطأوا، فما فعل العباسيون ذلك إلا لقطع الطريق أمام أي نفوذ للأمويين. وفي ظل هذا الوهم نشط الشعوبيون للوصول إلى أغراضهم متخذين ثلاثة محاور:
أولها: هدم الدين الإسلامي وتشويه مبادئه من الداخل بشتى الأساليب والسبل عقيدة وسلوكاً ونظام حياة.
ثانيها: محاربة الأمة العربية وكل ما تعتز به من لغة وأدب وتاريخ وأخلاق وطهارة وأنساب.
ثالثها: إحياء الحضارة الفارسية وأصولها وثقافتها وعاداتها ومعتقداتها.
في المحور الأول، سعى الشعوبيون إلى تخريب العقيدة وهدم مبدأ الألوهية والتوحيد بوصفه أصل الدين وعموده مبدأ النبوة ومبدأ المعاد. فأشاعوا الزندقة ومن ورائها العقائد الثنوية كالزرادشتية والمرقونية والديناصية والمانوية والمزدكية. واشتغلوا في تأويل القرآن وتفسيره لصرف الآيات عن معانيها، كما امتدت أيديهم إلى الحديث الشريف فوضعوا الأحاديث الكثيرة في فضل الفرس وأسندوها إلى الثقات من الصحابة والتابعين.
وفي المحور الثاني، لم يتركوا للعرب مزية أو مكرمة أو خصوصية إلا وقابلوها بالمعارضة والطعن أو بالتحريف والنقض، فهاجموا لغة العرب وأدبهم نثراً وشعراً وخطابة وعروضاً وحكماً وأمثالاً، وفي هذا المجال ألفوا كتب المثالب فعمدوا إلى ما صدر عن كل قبيلة من بيت تُعَّير به أو عمل تُؤاخذ عليه أو جريمة حصلت فيها فقيدوها وأذاعوها؛ فوضع الهيثم بن عدي كتب: «المثالب الكبير» و«المثالب الصغير» و«مثالب ربيعة» و«أسماء بغايا قريش في الجاهلية وأسماء من ولدن». ووضع علَّان الشعوبي رسالة في البخل يقلب فيها قيمة الكرم فيعده رذيلة والبخل فضيلة، كما ألّف أبو عبيدة معمر بن مثنى في مثالب العرب كتباً منها «لصوص العرب» و«أدعياء العرب» و«فضائل الفرس». وأكثر الشاعر بشار بن برد من الشعر في هجاء العرب حتى عدّ زعيم الحركة العدائية للعرب, وتبع خطاه الشاعر ديك الجن فكان شديد التشبيب والعصبية على العرب.
وفي المحور الثالث، ترجم الشعوبيون التراث الفارسي الأدبي إلى العربية لإبراز تفوقهم، وأكدوا ذلك بعرض تاريخهم وثقافتهم كما ألّفوا في مناقب العجم كتباً عرضوا فيها تاريخ الفرس بألوان زاهية، ونسبوا إلى ملوكهم الحكم الرائعة والسياسة الحكيمة وكسوه أبهة وعظمة، وقالوا: إن الفرس من ولد إسحاق بن إبراهيم والعرب من ولد إسماعيل وإسحاق بن سارة الحرة وإسماعيل بن هاجر الأمة؛ فهم أفضل من العرب لأنهم بنوا الأحرار والعرب بنو اللخناء، وكان سعيد بن حميد البختكان كاتباً وشاعراً مترسلاً عذب الألفاظ فادعى أنه من أولاد ملوك الفرس، وكان شديد العصبية فألف كتاب «انتصاف العجم من العرب» و«كتاب فضل العجم على العرب وافتخارها» و«مفاخر العجم». ومن فضل الله أنه لم يصل شيء من هذه الكتب، وإنما وصل نتف من أقوالهم وآرائهم في كتب التراث، وأهمها ما ورد في كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وفي العقد الفريد لابن عبد ربه، وابن قتيبة في كتابه (عيون الأخبار).
والظاهر أن أكبر سبب في ضياع هذه الكتب أن المسلمين عدوا هذه النزعة، الشعوبية نزعة ضد الإسلام فتحرجوا من نقل الكتب المؤلفة فيها وتقربوا إلى الله بإعدامها.
وبعد فإن الشعوبية بوصفها مصطلحاً عنصرياً يعم كل حركة في التاريخ، تقوم على تعظيم الأصل وتحقير ما عداه، ومن أبرز مظاهره اليوم الحركة الشعوبية الحديثة المتمثلة في الصهيونية العالمية القائلة بأن اليهود هم العنصر الممتاز الذي يجب أن يسود العالم وكل الشعوب، فهم شعب الله المختار وأرواحهم جزء من الله، والفرق بينهم وبين غيرهم كالفرق بين الإنسان والحيوان، وحين تصبح السلطة في أيديهم لن يسمحوا بوجود دين غير دينهم على الأرض، ويسعون من حركتهم السياسية العنصرية المتطرفة إلى حكم العالم، ولا غرابة من أن يحذر من خطرها منذ عام 1789 الزعيم الأمريكي بنيامين فرنكلين في كلمة له أمام المؤتمر الدستوري الأمريكي، وأطلق عليهم فيها اسم الخفافيش ومصاصي الدماء.
محمد هشام البرهاني
الشعوبية: مأخوذة من الشعوب جمع شعب، والشعب الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب، وهي الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة، فالشعب مجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ يجمع الفصائل.
وفي الاصطلاح: ظهر مصطلح الشعوبية في التاريخ الإسلامي في العهد العباسي ذاته ليدل على توجهين متضادين.
التوجه الأول: اطلق على أهل التسوية القائلين بأن العرب ليسوا أفضل من غيرهم لأن الجميع سواء، وفي كل أمة الطيب والخبيث والمحسن والمسيء وهؤلاء أول من سموا بالشعوبية، ففي العقد الفريد: الشعوبية هم أهل التسوية، وفي الصحاح: الشعوبية فرقة لا تفضل العرب على العجم، وحجتهم قول الله تبارك وتعالـى: )يَا أيُّهَا النَّاسُ إنّا خَلَقْنَاكُم من ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شَعَوبَاً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكٌمْ( (الحجرات 31) مما يؤكد بوضوح الحقائق المنطقية الآتية:
1ـ إن الناس كلهم من أصل واحد هو آدم و حواء.
2ـ إن العلاقة بناء على وحدة الأصل لابد من أن تكون قائمة بين الناس على التناصر لا التفاخر، وعلى التعارف لا التناكر.
3ـ ألا يكون التفاضل بينهم بالأصل والجنس والنسب بل بالتقوى.
وعلى هذا الأصل جرى التعامل في صدر الإسلام، فبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي كانوا من خيرة أصحاب النبيr. ولما غضب أبو ذر الغفاري على عبدٍ له قال له: يا ابن السوداء، فصاح به النبيr وقال له: «إنك امرؤ فيك جاهلية ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى والعمل الصالح». (أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي). وهو الأصل الذي ساد المجتمع الإسلامي منذ عهد الخلافة الراشدة واستمر في العصور التالية حتى هذا اليوم فكل المسلمين الواعين الصادقين لا يحيدون عنه لأنه جزء من عقيدة الإسلام الصحيحة.
وإذا كان الأمر كذلك فلم لم يظهر هذا المصطلح إلا في نطاق ضيق محدود وفي فترة محدودة أوائل عهد الخلافة العباسية، ثم انتهى أمام المصطلح المضاد الذي حمل لواءه أعداء العرب والمسلمين؟؟ وللجواب على هذا التساؤل تُذكر الأمور الآتية:
أولاً: لم تظهر (الشعوبية) في الصدر الأول، لأن جيل المسلمين الأوائل امتزج الإسلام بدمائهم وعقولهم وأفئدتهم بكل معانيه، وكان المثل الأعلى الذي وهبوه حياتهم وكل إمكاناتهم، وحملوه عقيدةً وخلقاًَ وسلوكاً ونظام حياة لكل الناس وهو كلٌ لا يتجزأ، فأي فرد ينضوي تحت لوائه ويحمل اسم المسلم لابد من أن يدين بكل مبادئه وقواعده، وأن ينتمي إليها جميعاً، فالمسلم؛ رجل التوحيد ورمز الإيمان ومثال العدل وحامل لواء المساواة بين الأفراد والشعوب، ومن هنا كان شرف الانتساب إلى الإسلام يغني عن هذا كله، ولهذا لم يظهر مصطلح الشعوبية بمعنى التسوية في هذا العصر.
ثانياً: لم يظهر كذلك في العصر الأموي للاعتبار السابق ولأن الوجود العربي كان المسيطر على كل شيء، فكان منهم الخلفاء والقواد وأمراء الجيوش، وبأرواحهم ودمائهم فتحوا البلاد وحطموا عرش كسرى وقيصر، وصار من دخل الإسلام من غيرهم يشعر بأنه مدين للعرب في الدلالة على الإيمان والتوحيد والانتشال من ظلمة الكفر والشرك، فاعترف لهم بالتقدم والفضل يسعه في ذلك قول الله تعالى: )إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ(فما فعله العرب هو من التقوى والعمل الصالح.
ثالثاً: لمّا أحس بعض العامة من العرب وكثير من رجال القبائل والبدو بأن للعرب هذه المنزلة توهموا أن الدم الذي يجري في عروقهم هو دم ممتاز، فنظروا إلى غيرهم من الشعوب نظرة السيد للمسود فقالوا بأفضلية العرب على غيرهم، ومع ذلك لم يطلق عليهم اسم الشعوبية مع أنها نظرة عنصرية.
رابعاً: هذه النظرة العنصرية من بعض العامة كان لها أثر سلبي في نفوس بعض الموالي من الأعاجم وغيرهم، فحركت في بواطنهم بوادر الرفض والاستنكار، لكنهم لم يتمكنوا من الإفصاح عنها ولا إظهارها لقوة السلطان العربي وهيمنته، وبدأ هذا الشعور يتنامى إلى أن ظهر بقوة وفي الأوج أيام الخلافة العباسية.
التوجه الثاني: حملت اسم الشعوبية فئة أخرى، لكن لا على معنى التسوية الذي حملته الفئة الأولى، بل بالمعنى العنصري، الذي لا يرفض التسوية بين العرب وغيرهم فحسب، بل يقدم الموالي على العرب، ويحط من شأنهم، ويكيد للدين الذي جاء عن طريقهم. وقد ظهر هذا الاتجاه بقوة على السطح في المجتمع الإسلامي في عهد الخلافة العباسية، على أيدي الغلاة من الموالي، وشاركهم كثير من عامتهم، ولم يولد فجأة بل يرجع نشوؤه إلى أيام العهد الأموي وعلى مراحل، فبدأ رفضاً باطناً هادئاً في النفوس إثر النزعة المغالية لمن فضّل العنصر العربي على غيره، ثم اتخذ شعار التسوية التي قالت بها الفئة الشعوبية الأولى، لا رغبة في التسوية بل لجعلها مرحلة متوسطة في الطريق إلى المعنى الشعوبي العنصري المتطرف، ولهذا لم يكن لأصحابه نشاط واسع في العصر الأموي، إذ اقتصر أمرهم على استقطاب الموالي وبلورة التجمع المناوئ للعروبة والإسلام. أما في العصر العباسي فقد نضجت هذه الحركة العنصرية وتعاظم نشاطها حتى أصبحت أخطر ظاهرة تهدد الدولة والمجتمع وقيمه، وخاصة حين مُلئت قصور الخلفاء بالموالي يُستخدمون فيها بأعمال شتى، ومُلئت بيوت الحريم بالخصيان، ولم يكن ذلك معروفاً عند العرب لكنهم أخذوه عن غيرهم، واقتصرت المراكز الكبيرة تقريباً على الفرس، في حين كان الأمويون إذا اختاروا والياً أو قاضياً أو أمير حرب راعوا عربيته، وانتشرت العادات والتقاليد الفارسية كإحياء يوم النيروز ولبس القلنسوة وغيرها من العادات، كما انتشرت الثقافة الفارسية بعد ترجمة الكثير من الكتب والتراث الفارسي.
وحسب الشعوبيون أن هذا كله ما حصل إلا لرضا العباسيين عن الموالي وعاداتهم وثقافاتهم ولكراهيتهم للعرب، وقد أخطأوا، فما فعل العباسيون ذلك إلا لقطع الطريق أمام أي نفوذ للأمويين. وفي ظل هذا الوهم نشط الشعوبيون للوصول إلى أغراضهم متخذين ثلاثة محاور:
أولها: هدم الدين الإسلامي وتشويه مبادئه من الداخل بشتى الأساليب والسبل عقيدة وسلوكاً ونظام حياة.
ثانيها: محاربة الأمة العربية وكل ما تعتز به من لغة وأدب وتاريخ وأخلاق وطهارة وأنساب.
ثالثها: إحياء الحضارة الفارسية وأصولها وثقافتها وعاداتها ومعتقداتها.
في المحور الأول، سعى الشعوبيون إلى تخريب العقيدة وهدم مبدأ الألوهية والتوحيد بوصفه أصل الدين وعموده مبدأ النبوة ومبدأ المعاد. فأشاعوا الزندقة ومن ورائها العقائد الثنوية كالزرادشتية والمرقونية والديناصية والمانوية والمزدكية. واشتغلوا في تأويل القرآن وتفسيره لصرف الآيات عن معانيها، كما امتدت أيديهم إلى الحديث الشريف فوضعوا الأحاديث الكثيرة في فضل الفرس وأسندوها إلى الثقات من الصحابة والتابعين.
وفي المحور الثاني، لم يتركوا للعرب مزية أو مكرمة أو خصوصية إلا وقابلوها بالمعارضة والطعن أو بالتحريف والنقض، فهاجموا لغة العرب وأدبهم نثراً وشعراً وخطابة وعروضاً وحكماً وأمثالاً، وفي هذا المجال ألفوا كتب المثالب فعمدوا إلى ما صدر عن كل قبيلة من بيت تُعَّير به أو عمل تُؤاخذ عليه أو جريمة حصلت فيها فقيدوها وأذاعوها؛ فوضع الهيثم بن عدي كتب: «المثالب الكبير» و«المثالب الصغير» و«مثالب ربيعة» و«أسماء بغايا قريش في الجاهلية وأسماء من ولدن». ووضع علَّان الشعوبي رسالة في البخل يقلب فيها قيمة الكرم فيعده رذيلة والبخل فضيلة، كما ألّف أبو عبيدة معمر بن مثنى في مثالب العرب كتباً منها «لصوص العرب» و«أدعياء العرب» و«فضائل الفرس». وأكثر الشاعر بشار بن برد من الشعر في هجاء العرب حتى عدّ زعيم الحركة العدائية للعرب, وتبع خطاه الشاعر ديك الجن فكان شديد التشبيب والعصبية على العرب.
وفي المحور الثالث، ترجم الشعوبيون التراث الفارسي الأدبي إلى العربية لإبراز تفوقهم، وأكدوا ذلك بعرض تاريخهم وثقافتهم كما ألّفوا في مناقب العجم كتباً عرضوا فيها تاريخ الفرس بألوان زاهية، ونسبوا إلى ملوكهم الحكم الرائعة والسياسة الحكيمة وكسوه أبهة وعظمة، وقالوا: إن الفرس من ولد إسحاق بن إبراهيم والعرب من ولد إسماعيل وإسحاق بن سارة الحرة وإسماعيل بن هاجر الأمة؛ فهم أفضل من العرب لأنهم بنوا الأحرار والعرب بنو اللخناء، وكان سعيد بن حميد البختكان كاتباً وشاعراً مترسلاً عذب الألفاظ فادعى أنه من أولاد ملوك الفرس، وكان شديد العصبية فألف كتاب «انتصاف العجم من العرب» و«كتاب فضل العجم على العرب وافتخارها» و«مفاخر العجم». ومن فضل الله أنه لم يصل شيء من هذه الكتب، وإنما وصل نتف من أقوالهم وآرائهم في كتب التراث، وأهمها ما ورد في كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وفي العقد الفريد لابن عبد ربه، وابن قتيبة في كتابه (عيون الأخبار).
والظاهر أن أكبر سبب في ضياع هذه الكتب أن المسلمين عدوا هذه النزعة، الشعوبية نزعة ضد الإسلام فتحرجوا من نقل الكتب المؤلفة فيها وتقربوا إلى الله بإعدامها.
وبعد فإن الشعوبية بوصفها مصطلحاً عنصرياً يعم كل حركة في التاريخ، تقوم على تعظيم الأصل وتحقير ما عداه، ومن أبرز مظاهره اليوم الحركة الشعوبية الحديثة المتمثلة في الصهيونية العالمية القائلة بأن اليهود هم العنصر الممتاز الذي يجب أن يسود العالم وكل الشعوب، فهم شعب الله المختار وأرواحهم جزء من الله، والفرق بينهم وبين غيرهم كالفرق بين الإنسان والحيوان، وحين تصبح السلطة في أيديهم لن يسمحوا بوجود دين غير دينهم على الأرض، ويسعون من حركتهم السياسية العنصرية المتطرفة إلى حكم العالم، ولا غرابة من أن يحذر من خطرها منذ عام 1789 الزعيم الأمريكي بنيامين فرنكلين في كلمة له أمام المؤتمر الدستوري الأمريكي، وأطلق عليهم فيها اسم الخفافيش ومصاصي الدماء.
محمد هشام البرهاني