الشامانية
الشامانية Shamanism ظاهرة دينية قديمة، انتشرت في دول عديدة من العالم، خاصة في دول آسيا الوسطى والشمالية. وتأثرت بمذاهب آسيوية كبرى أمثال الميزوباتية والبوذية واللامية، دون أن تفقد بنيتها الخاصة. وقد أجمع خبراء عالميون أن «مروج هولون بوير» (شمال شرقي الصين) هي المنبع الرئيسي للثقافة الشامانية القديمة في العالم.
وتهتم العقيدة الشامانية بمسألة التوازن بين قوى الإنسان الذاتية الداخلية والقوى الخارجية الروحية المحيطة به. وتعدّ أن ضعف النفس البشرية الناتج من عدم الاهتمام الكافي بتربيتها وتنميتها، يساعد الأرواح والشياطين على الدخول إلى شخصية الفرد والتحكم بمشاعره وأحاسيسه، وقد يبلغ الأمر مرحلة خطيرة هي مرحلة اللبوس، فينطق الإنسان بلسان حال الشياطين ويعبر عنها. ولذاك فإن وجود الشامان ضروري لعلاج جميع مظاهر الشرور، العلاج الذي يعتمد على تنشيط القوى الذاتية لتحقيق التوازن مع القوى الكونية الشاملة، وعندئذ تُرفع عن المرء اللعنة الأبدية. فالمشكلة الرئيسة لا تكمن في الموت بحد ذاته، بل في الموت دون تحقيق هذا التوازن.
تُبرز الأساطير حول أصل الشامانية فكرتين بالغتي الدلالة:
ـ أن الآلهة هي التي خلقت الشامان الأول.
ـ ولكنه بسبب تعاسته حددت الآلهة قدراته.
وقد أعطيت البشرية، حسب معتقدات البوريات والياقوط (وهما قبيلتان من قبائل المغول)، شاماناً واحداً لمكافحة الأرواح الشريرة التي تسبب المرض والموت. وقد نتج هذا الشامان الأول من تزاوج بين امرأة بشرية ونسر ذي رأسين يحمل اسم الكائن الأعلى «آجي الخالق» الذي يتربّع فوق قمة شجرة العالم.
والشامان إله سماوي حاكم، أصبح إلهاً مفارقاً. وهو إله خالق، ويتكاثر إلى ما لا نهاية، وتُفسر أعماله (العالم والإنسان) بالتدخل الماكر من ضد شيطاني (الجان والأرواح الشريرة). فالشامان لاهوتي وشيطاني في آن واحد، وهو متخصص بالانتشاء (الوجد)، ورجل طيب ومساعد على الصيد، كما أنه معلم، وساحر، ومدافع عن الجماعة، وهو في بعض المجتمعات مثقف وشاعر وقاض. وللشامان قوى وقدرات متعددة، ناتجة من تجاربه التلقينية، ومعارفه للنظام الروحي، فهو متآلف مع أرواح الأحياء والأموات، ومع الآلهة والشياطين، ومع ما لا يحصى من الوجوه الغيبية التي لا يراها البشر. وبفضل هذه التجارب يتعلم الشامان جميع وسائل منع الشرور والأمراض والدفاع عن أفراد جماعته أو قبيلته، وهو لذلك يتحمل موتاً طقوسياً، ينزل إلى الجحيم، وأحياناً يصعد إلى السماء.
ويصبح المرء شاماناً إما بإلهام عفوي (الدعوة أو الاختيار)، أو بانتقال إرثي للصفة الشامانية، أو بقرار شخصي، أو بإرادة القبيلة في بعض الحالات النادرة. ومهما كانت طريقة الاختيار فلا يعترف بالشامان إلا بعد تلقيه تعليماً مزدوجاً من نظام وجدي (أحلام، رؤى، ارتعاشات)، ومن نظام تقليدي (صياغات شامانية، أسماء ووظائف الأرواح، أشكال وأسماء الآلهة، وعلم أنساب القبيلة، واللغة السرية، أسرار الصنعة، وغير ذلك).
وقد يكون هذا التعليم المزدوج «التلقي» علنياً، أو قد يجري في الحلم أو في التجربة الوجدية الصوفية. وتتسم هذه الفترة من الحضانة أو الإعداد بأمارات حادة، إذ يصبح الشاب غريب السلوك، عصبي المزاج، يلجأ إلى الغابات، ويتغذى بقشور الأشجار، ويلقي بنفسه في الماء والنار، ويجرح نفسه بالسكاكين، ويكون له تبصرات رؤوية (رؤى تنبؤية). وإذا أخفق المرشح لمنصب الشامان في تجاوز هذه المراحل التلقينية، فإن الشياطين والأرواح الشريرة تتمكن منه، ويصبح عرضة للمشكلات الحياتية الروحية منها والجسدية.
ويوجد لدى البوريات والجولد والآلطيين والثونغور والمانشو وغيرهم حفلات عامة للتلقين. وتتطلب هذه الحفلات عند البوريات، مثلاً، تثبيت شجرة سندر صلبة في خيمة، حيث تكون جذورها في الموقد ورأسها يخرج من ثقب الدخان، وتسمى هذه الشجرة «حارس الباب» لأنها تفتح للشامان مدخل السماء، ويتسلق المتدرب الشجرة، وعند خروجه من ثقب الدخان يصرخ بقوة مستدعياً الآلهة، ثم يتجه إلى مكان بعيد عن القرية، مغروس بأشجار السندر، ويضحي بتيس، فيدهن جسمه ورأسه وعينيه وأذنيه بالدم، بينما يدق الشامانيون الآخرون بالطبول، ومن ثم يتسلق المعلم ـ الشامان شجرةًً ويجري في قمتها تسعة جروح، وعليه أن يتسلق تسع شجرات ترمز إلى السماوات التسع وبحسب اعتقادهم، هذا الطقس التلقيني هو أساس اجتماعات الشامانات الألطية. ويظهر اهتمام الشامان بالصعود إلى السماء للتكريس، ولذلك تتمتع الشجرة الشامانية باحترام كبير كالشجرة الكونية.
يؤدي الشامان دوراً رئيساً في الحياة الدينية والاجتماعية للجماعة، لما له من قدرات على شفاء الأمراض، وطرد الشياطين والأرواح الشريرة، ومحاربة السحر الأسود، والتنبّؤ والتبصّر، والدفاع عن التكامل النفسي للجماعة. وبصورة عامة فالشامان يدافع عن الحياة والصحة والخصب وعالم النور ضد الموت والمرض والعقم وسوء الحظ.
وبفضل أهلية الشامان للسفر في عوالم ما بعد الطبيعة، ورؤية الكائنات ما فوق البشرية، فإنه يتمكن من معرفة الموت. وقد نتج من ذلك عدد من أفكار وقصص ميثولوجيا الموت التي اكتسبت أشكالاً وصوراً محترمة. وتذكّر مغامرات الشامان في العالم الآخر والتجارب التي يتعرض لها في هبوطاته الوجدية إلى الجحيم وصعوداته إلى السماء، بمغامرات الشخصيات الرئيسة في الحكايات الشعبية وأبطال الأدب الملحمي. ومن الراجح أن عدداً كبيراً من موضوعات وبواعث وصور ونماذج الأدب الملحمي (عند التتار مثلاً)، هي، في التحليل الأخير، من مصدر انتشائي، وهي، في هذا المعنى، مستعارة من قصص الشامانيين الذين رووا أسفارهم ومغامراتهم في العوالم الماورائية.
ومن الراجح أيضاً أن الغبطة قبل الانتشائية قد كوّنت واحداً من مصادر الشعر الغنائي، لما يحصل أثناء رعدة الشامان من ضرب الطبول، ودعوة الأرواح، ومخاطبتها بلغة غامضة أو بلغة الحيوان، والصراخ، والاهتزاز والإيقاعات.
ولا شك في أن المعجزات الشامانية لعروض المآثر السحرية، كالدوران مع النار ومعجزات أخرى، تكشف عن عالم خرافي للآلهة والسحرة، يبدو فيه كل شيء ممكناً، ويدعم الأديان البدائية التقليدية، ويثير ويغذي الخيال، ويزيل الحواجز بين الحلم والحقيقة، ويفتح الباب نحو العوالم المسكونة بالآلهة والموتى والأرواح.
أحمد الأصفر
الشامانية Shamanism ظاهرة دينية قديمة، انتشرت في دول عديدة من العالم، خاصة في دول آسيا الوسطى والشمالية. وتأثرت بمذاهب آسيوية كبرى أمثال الميزوباتية والبوذية واللامية، دون أن تفقد بنيتها الخاصة. وقد أجمع خبراء عالميون أن «مروج هولون بوير» (شمال شرقي الصين) هي المنبع الرئيسي للثقافة الشامانية القديمة في العالم.
وتهتم العقيدة الشامانية بمسألة التوازن بين قوى الإنسان الذاتية الداخلية والقوى الخارجية الروحية المحيطة به. وتعدّ أن ضعف النفس البشرية الناتج من عدم الاهتمام الكافي بتربيتها وتنميتها، يساعد الأرواح والشياطين على الدخول إلى شخصية الفرد والتحكم بمشاعره وأحاسيسه، وقد يبلغ الأمر مرحلة خطيرة هي مرحلة اللبوس، فينطق الإنسان بلسان حال الشياطين ويعبر عنها. ولذاك فإن وجود الشامان ضروري لعلاج جميع مظاهر الشرور، العلاج الذي يعتمد على تنشيط القوى الذاتية لتحقيق التوازن مع القوى الكونية الشاملة، وعندئذ تُرفع عن المرء اللعنة الأبدية. فالمشكلة الرئيسة لا تكمن في الموت بحد ذاته، بل في الموت دون تحقيق هذا التوازن.
تُبرز الأساطير حول أصل الشامانية فكرتين بالغتي الدلالة:
ـ أن الآلهة هي التي خلقت الشامان الأول.
ـ ولكنه بسبب تعاسته حددت الآلهة قدراته.
وقد أعطيت البشرية، حسب معتقدات البوريات والياقوط (وهما قبيلتان من قبائل المغول)، شاماناً واحداً لمكافحة الأرواح الشريرة التي تسبب المرض والموت. وقد نتج هذا الشامان الأول من تزاوج بين امرأة بشرية ونسر ذي رأسين يحمل اسم الكائن الأعلى «آجي الخالق» الذي يتربّع فوق قمة شجرة العالم.
كاهن شاماني من الهنود الحمر في أمريكا الشمالية يؤدي رقصة دينية |
ويصبح المرء شاماناً إما بإلهام عفوي (الدعوة أو الاختيار)، أو بانتقال إرثي للصفة الشامانية، أو بقرار شخصي، أو بإرادة القبيلة في بعض الحالات النادرة. ومهما كانت طريقة الاختيار فلا يعترف بالشامان إلا بعد تلقيه تعليماً مزدوجاً من نظام وجدي (أحلام، رؤى، ارتعاشات)، ومن نظام تقليدي (صياغات شامانية، أسماء ووظائف الأرواح، أشكال وأسماء الآلهة، وعلم أنساب القبيلة، واللغة السرية، أسرار الصنعة، وغير ذلك).
وقد يكون هذا التعليم المزدوج «التلقي» علنياً، أو قد يجري في الحلم أو في التجربة الوجدية الصوفية. وتتسم هذه الفترة من الحضانة أو الإعداد بأمارات حادة، إذ يصبح الشاب غريب السلوك، عصبي المزاج، يلجأ إلى الغابات، ويتغذى بقشور الأشجار، ويلقي بنفسه في الماء والنار، ويجرح نفسه بالسكاكين، ويكون له تبصرات رؤوية (رؤى تنبؤية). وإذا أخفق المرشح لمنصب الشامان في تجاوز هذه المراحل التلقينية، فإن الشياطين والأرواح الشريرة تتمكن منه، ويصبح عرضة للمشكلات الحياتية الروحية منها والجسدية.
ويوجد لدى البوريات والجولد والآلطيين والثونغور والمانشو وغيرهم حفلات عامة للتلقين. وتتطلب هذه الحفلات عند البوريات، مثلاً، تثبيت شجرة سندر صلبة في خيمة، حيث تكون جذورها في الموقد ورأسها يخرج من ثقب الدخان، وتسمى هذه الشجرة «حارس الباب» لأنها تفتح للشامان مدخل السماء، ويتسلق المتدرب الشجرة، وعند خروجه من ثقب الدخان يصرخ بقوة مستدعياً الآلهة، ثم يتجه إلى مكان بعيد عن القرية، مغروس بأشجار السندر، ويضحي بتيس، فيدهن جسمه ورأسه وعينيه وأذنيه بالدم، بينما يدق الشامانيون الآخرون بالطبول، ومن ثم يتسلق المعلم ـ الشامان شجرةًً ويجري في قمتها تسعة جروح، وعليه أن يتسلق تسع شجرات ترمز إلى السماوات التسع وبحسب اعتقادهم، هذا الطقس التلقيني هو أساس اجتماعات الشامانات الألطية. ويظهر اهتمام الشامان بالصعود إلى السماء للتكريس، ولذلك تتمتع الشجرة الشامانية باحترام كبير كالشجرة الكونية.
يؤدي الشامان دوراً رئيساً في الحياة الدينية والاجتماعية للجماعة، لما له من قدرات على شفاء الأمراض، وطرد الشياطين والأرواح الشريرة، ومحاربة السحر الأسود، والتنبّؤ والتبصّر، والدفاع عن التكامل النفسي للجماعة. وبصورة عامة فالشامان يدافع عن الحياة والصحة والخصب وعالم النور ضد الموت والمرض والعقم وسوء الحظ.
وبفضل أهلية الشامان للسفر في عوالم ما بعد الطبيعة، ورؤية الكائنات ما فوق البشرية، فإنه يتمكن من معرفة الموت. وقد نتج من ذلك عدد من أفكار وقصص ميثولوجيا الموت التي اكتسبت أشكالاً وصوراً محترمة. وتذكّر مغامرات الشامان في العالم الآخر والتجارب التي يتعرض لها في هبوطاته الوجدية إلى الجحيم وصعوداته إلى السماء، بمغامرات الشخصيات الرئيسة في الحكايات الشعبية وأبطال الأدب الملحمي. ومن الراجح أن عدداً كبيراً من موضوعات وبواعث وصور ونماذج الأدب الملحمي (عند التتار مثلاً)، هي، في التحليل الأخير، من مصدر انتشائي، وهي، في هذا المعنى، مستعارة من قصص الشامانيين الذين رووا أسفارهم ومغامراتهم في العوالم الماورائية.
ومن الراجح أيضاً أن الغبطة قبل الانتشائية قد كوّنت واحداً من مصادر الشعر الغنائي، لما يحصل أثناء رعدة الشامان من ضرب الطبول، ودعوة الأرواح، ومخاطبتها بلغة غامضة أو بلغة الحيوان، والصراخ، والاهتزاز والإيقاعات.
ولا شك في أن المعجزات الشامانية لعروض المآثر السحرية، كالدوران مع النار ومعجزات أخرى، تكشف عن عالم خرافي للآلهة والسحرة، يبدو فيه كل شيء ممكناً، ويدعم الأديان البدائية التقليدية، ويثير ويغذي الخيال، ويزيل الحواجز بين الحلم والحقيقة، ويفتح الباب نحو العوالم المسكونة بالآلهة والموتى والأرواح.
أحمد الأصفر