سعد فنصة
كاتب ومؤرخ ومصور سوري
قراءة جديدة في رموز الآلهة الأم لـ: سعد فنصة
الجنس واللذة الخصوبة والإنجاب ...الزراعة والاستقرار
نساء أيامنا هذه،أو النساء منذ بعض الزمن، هن الاستطاعة الخفية التي تقود العالم، سواء كن سراري بيوت الحريم،أو الخدور، أو مومسات،أو عشيقات،أم زوجات وأمهات أُسر. فليس نظام الأبوة، ولو كان هادراً، سوى مزاح لطيف بالقياس إلى القوى الغامضة التي يتصف بها النوع الأنثوي.
بيير داكو
يعتمد هذا النص على الوثائق الأثرية والدلائل المعرفية والشواهد النحتية التي خلفها الإنسان القديم، وهو بذلك لا يفسح المجال _ إلا على أضيق نطاق ـ للتأويل والاستقراء والتفسير في موضوع معرفي… غني بغموضه، مثلما هو حار برموزه…
( الجزء الأول)
الإنسان الديني أول مرة
يتبدى العالم، إذ يتأمله الإنسان الديني، عن أوجه كثيرة من القدسية … في وجوده… وفي حياته ومعيشه.. وحتى الطبيعة التي يرنو إليها أو يحذر، ليست هي طبيعة بذاتها بل هي دائماً في ذهنيته محملة بقيمة دينية.
إن مجرد التأمل في القبة السماوية كافٍ لابتداء خبرة دينية، فالسماء تتكشف عن غير المنتهي، عن المتعال، ويتكشف التعالي بمجرد إدراك العلو غير المنتهي، وبذلك يغدو التعالي صفة ملازمة للألوهة بصورة عفوية.
هنا لا يتعلق هذا الكشف بعملية منطقية عقلانية- كما فكر فيها “آينشتاين” عند وضعه نظريته الشهيرة بالنسبية – على العكس منها عندما يختص الأمر بتأمل الحياة الأرضية تبدو أنها تراكمية وعقلية ومنفتحة عندما تتبدى له الأرض أماً ومطعماً كونيا.
لقد راقب الإنسان القديم الرحم الذي خرج منه تماماً مثلما راقب الأرض التي بذر فيها بذاراً .. أنجبت له ثماراً وغلالاً.
إن اكتشاف الإنسان للزراعة بعد أن كان صياداً ولاقطاً للثمارلم يغير اقتصاده تغييراً جذرياً فحسب بل غير ثقافته الدينية المقدسة ليجعلها أرضية.. بل وربما منطقية أكثر بربط الأم كندٍ للأرض، منها وفيها يضمن بقاء نوعه وحصيلة غذائه، ولم تكن هاتين المحصلتين وحدهما، لقد نزلت إلى الساحة قوى دينية أعمق حسية وأكثر امتزاجاً بالحياة: الجنس والخصوبة.. المرأة القرين.. الأم .. الإلاهة بلا منازع.
الإلاهة الأم أو تأليه المرأة
كان من دواعي العجب والخوف والتفكر، أن المرأة تنـزف دماً ( تحيض في دورتها الشهرية) ولا تموت، في حين يموت الرجل عندما ينـزف مالم يتداركه سحر قوي أوعلاج يوقف نزف دمه وينقذ حياته، ومما جعل هذا الأمر أكثر مدعاة للاعتقاد في وجود أسرار غامضة تقف ورائه، بإيمان راسخ عند الإنسان البدائي ،في العصور الحجرية القديمة بتمتع الأنثى بقوى سحرية خاصة تتجلى في قدرتها على أن تنـزف دون أن تموت،خصوصاً عندما اكتشف أن ذلك النـزف الشهري ارتبط بالقمر ودورته الشهرية، ونجد ذلك مذكوراً بإلحاح باعتباره ذا مضامين سحرية بالغة القوة في معتقدات وديانات وعلوم شعوب بدائية كثيرة.
جنباً على جنب مع هذه الرؤى السحرية، لظاهرة النـزف الدوري عند المرأة ،جعلت الإنسان القديم يربط ما بين الأنوثة ووظائفها البيولوجية المتعلقة بالحمل والولادة، فمرواًً بتضخم بطن المرأة الحامل بالجنين إلى ما يطرأ عليها من تغيرات جسدية خلال الحمل ،إلى أوجاع المخاض، إلى بزوغ حياة جديدة من رحمها على شكل إنسان مصغر، مربوط إليها بحبل دموي قانٍ ،إلى امتلاء ثدييها بالحليب المغذي للوليد القادم، وهو لا يخلق من بين فخذيها فحسب بل وتكفله بالتغذية الأولية من رحيق ثدييها حتى يشتد عوده.
فالاعتقاد بخواص غامضة أو سحرية رآها العقل القديم ناطقة في وظائف جسد الأنثى كان مَعبَراً إلى الاعتقاد بوجود قوة خفية أنثوية كونية، بدا للإنسان أنها كامنة وراء ذلك الظهور للحياة الجديدة، والابتلاع للحياة القديمة، أي وراء أشد ظاهرتين من ظواهر الوجود إثارة للحيرة والخوف: الميلاد والموت.
هذه العقيدة كما سنرى لاحقاً ستثمر بصور وأشكال متعددة في بقع محدده من العالم القديم خلال أكثر من عشرة ألاف عام، وتنحسر أحياناً نحو تأليه آخر يطوي صفحة هذه الآلهة، ولكن ليس نهائياً، لصالح ذكورة مستبدة في ثقافات ما بعد عصر التدوين في حضارات بلاد الرافدين، وغيرها في أمكنة أخرى من العالم.
في الوثائق والآثار
كان اكتشاف الزراعة حسب التوقيت الدقيق بالفحم المشع (C14) ،قد بدأ ما قبل 9800 عام من الآن، وكان الاستيطان البشري للقرى البدائية أسبق من اكتشاف الزراعة ( عن كوفان) حيث ظهرت القرى ما بين 12000-13000 عام من الآن في الشرق الجنوبي من وادي الأردن وحتى الفرات الأعلى.
وقبل سبعة آلاف عام قبل الميلاد، اكتشفت دلائل على تربية المواشي، منها الأغنام والماعز والأبقار، وكانت الزراعة معروفة مع الاقتصاد الرعوي حيث تمارس في أوقات الاستقرار المديد.
وكان الاستقرار قد ابتدأ في الشرق القديم،في مناطق الأنهار الكبرى وروافدها العذبة والتي تكثر فيها النباتات والحيوانات وخامات الصوان المستخدم في تصنيع الأسلحة ورؤوس الفؤوس الحجرية والأدوات الحياتية، أم في المناطق التي تهطل فيها الأمطار بشكل منتظم أو موسمي.
وفي العراق الشمالي عند مواقع (مغزلية، سوتو، حسونة، وأم الدباغية) تم الكشف عن سويات استقرار بشري من العصر الحجري الحديث حتى العصر السومري العبيدي الأول والذي ابتدأ مع هذا الأخير التاريخ المدون على الرقم الفخارية في منتصف الألف الرابع، وحتى الثالث قبل الميلاد وصولاً إلى عصر السلالات المبكرة.
وقبلها وفي بداية الألف التاسع كانت البقعة المعروفة بشرق المتوسط مسرحاً لتغيير جذري ،حيث شهدت ظهور أولى القرى الحضرية في العصر النيوليتي، والمسمى أثرياً ما قبل الفخار، حيث سكنها أقوام عرفوا بتجمعاتهم الزراعية المبكرة، وأقاموا مساكناً دائرية أو مستطيلة الشكل ، وحصل في عصرهم تطور في جميع المجالات التقنية والاقتصادية خصوصاً في الدلائل التي تبرز في تقديس ( الآلهة الأم والثور المقدس) كذلك عقيدة عبادة الأسلاف في عدة مواقع من حوضة الفرات ،وجنوب هضبة الأناضول وحتى حوضة دمشق.
واختتم العصر الحجري الحديث عهده بإتقان التقنيات الزراعية وتربية المواشي بشكل كامل اعتباراً من الألف السابع قبل الميلاد، باكتمال الانجاز التاريخي الأهم، باختراع تصنيع الفخار، الذي شهد تطورات مختلفة وغير متوازية حسب المناطق ،وأصبح معياراً لتحديد هوية الشعوب والحضارات، باعتباره مادة حياتية يومية متنوعة الاستخدام والأهداف.
وخلال الألف السادس قبل الميلاد ،انتشرت حضارة جديدة في قسم كبير من الشرق الأدنى سميت بحضارة تل حلف والتي تميزت بفخارها المتقن لأول مرة في تاريخ الإنسانية والمزين بالرسوم الملونة وعليه زخرفيات هندسية وتصوير رمزي للآلهة الأم وقرون الثور.
إن كل هذه العوامل المؤثرة في سيرورة البشرية حصل في بقعة واسعة الأرجاء من الشرق الأدنى القديم لأول مرة ـ كما يقر علماء الآثارـ بان الثورة النيوليتية، والثورة المدينية ، هي المنطقة الوحيدة التي حققت ثوريتها في معزل عن كل تأثير خارجي جعلت من نفسها إنموذجاً أولياً، للتحولات التالية من بقع أخرى من العالم القديم.
فالثورة المدينية الأولى وظهور المدن المنظمة الأولى ومارافقها من انجاز حضاري تم في “سومر” في بلاد الرافدين، ومنها انتقلت جنوباً نحو وادي النيل وشرقاً نحو الهند، أما البشائر الأولى للثورة النيوليتية، المدماك الأول في الحضارة الإنسانية فقد انطلق من شرق المتوسط في المنطقة التي تدعى اليوم بسورية الكبرى.
في شواهد العصور الحجرية الحديثة
خلال الأعوام 1970-1974 قام الباحث والفيلسوف الفرنسي ” جاك كوفان” بتمويل من وزارة الخارجية الفرنسية بإجراء تحريات أثرية في محيط محافظة الرقة، وتحديداً في المناطق التي غمرت فيما بعد بتشكل بحيرة الأسد بعد إنشاء السد في مدينة الثورة ،حيث اهتدى إلى موقع “المريبط” على الضفة اليسرى للفرات، والذي اكتشف فيه أقدم تمثال صغير مشوه من الحجر الكلسي الأبيض، يبلغ طوله 9.5 سم مثلت فيه لأول مرة في الشرق القديم الآلهة الأم، بصناعة رمزية تحتمل الدلالات الأنثوية، إذ تحيط ثدييها بذراعيها ويبرز الفرج كشق طولي واضح ويتصل الرأس بالكتفين من ذات الكتلة دون رقبة، وفقد الجزء الأكبر من الساقان، وتعود إلى الألف الثامن قبل الميلاد.
وفي ذات الفترة أي من الألف الثامن قبل، تم الكشف في تل أسود في حوضة دمشق عن تمثال آخر للآلهة الأم بوضعية الجلوس، صنع من الطين المشوي، تتضح فيه معالم المرأة بشكل أعمق من سابقته تمثال ” المريبط”، إذ وسم الصانع فيه ثدييان كبيران وحوض عريض، فقد الساقان منه، وكذلك الذراعان ،ومن ثم تتوالى الكشوفات عن العديد من التماثيل المتباينة الأحجام والمواد المصنعة وتعود بنحتها إلى الألفين السابع والسادس قبل الميلاد لذات المشهد في موقع ” تل صبي أبيض” و ” تل كشكشوك” و “شاغار بازار” و ” تل براك” وغيرهم ، في محيط الفرات الأوسط والأعلى في منطقة الجزيرة السورية،مع تأكيد في كل منحوتة على التفاصيل الجنسية والتي وصفت بمناطق الخصب، فالورك والردفين مبالغ فيهما وكذا الثديين فهما كبيران غالباً أما الوجه فبدون ملامح أو مختزل. أما القاسم المشترك بينهما فيكمن في الذراعان اللذان يمسكان بالثديين حيناً أو يحيطان بهما أحياناً أخر.
وكان آخر اكتشاف لذات الموضوع في العام 2004 وسمي بالدمية الطينية الاستثنائية، لأنها جاءت مع رأس ذي ملامح واضحة بتفاصيل وجهية حقيقية وكاملة، وفيها من الواقعية الجمالية، من مرحلة مبكرة ماكان مفاجأة كبيرة للآثارين بصناعتها المتقنة، من الطين غير المشوي.
اكتشفت هذه الإلاهة في موقع تل ” سكر الأحيمر”، على الضفة اليمنى للخابور الأعلى بالقرب من محافظة الحسكة ، وتعود إلى العصر الحجري الحديث ،خلال بداية الألف السابع قبل الميلاد وهي تتميز بضخامة هائلة للردفين قد يفوق ضخامة التماثيل المماثلة والمكتشفة قبلها، فيهما شق منصف للفخذين كما تمتلك ذراعان مكتنـزتان فقد جزء من احدهما، وهي تمثل أنثى في وضعية الجلوس حيث تظهر ساقها اليسرى منثنية فوق اليمنى، ويمكن ملاحظة أن تمثيل الثديين كان متواضعاً إذ يمثل عقدتين صغيرتين، كما درس الآثاريون بقايا عضوية على أعلى الرأس تدل على وجود بقايا الشعر الذي ألصق على الرأس، والوجه بيضوي مائل والعيون على شكل شق طولي من نموذج يدعى بحبة القمح، والأنف ضيق والشفاه رقيقة، ونفذت الملامح بالضغط أو بالحز، إضافةً إلى أن الآذان واضحة المعالم شكلت بطريقة الحفر المحاط بالطين المضغوط على جانبي الوجه، ويشير مكان اكتشافها تحت الأرضية السكنية على علاقتها بعبادة معينة لها خصوصية دينية، بارتباطها مع القبور الشائعة الانتشار تحت الأرضيات لمرحلة ما قبل اختراع واكتشاف الفخار.
ولابد من التوقف عند تمثال الآلهة الأم المكتشف في ” شاتال هيوك” جنوب الأناضول من الألف السادس قبل الميلاد، برموزه التي تغدو جلية الوضوح للحالة الدينية والاجتماعية آنذاك،فالمرأة العارية هنا تتربع على عرش ذي مسند من الجانبين، يمثلان حيوانين مفترسين نمر أو أسد،وهي في حالة وضع، حيث ينسل من بين فخذيها رأس طفل وليد، أما تحت قدميها فيمثل النحات جماجم إنسانية.
إن الترميز العارم في هذا العمل النحتي الصغير، الذي لا يتجاوز 16.5 سم، لا يدع مجالاً للشك في سيادة المرأة الآلهة الأم، باعتبارها: ( خالقة، وسائدة، وخالدة، ومثيرة للشهوات الحسية، وخصبة ) إنها باختصار إلاهة بكل ما تعنيه هذه الرموز من معان.(*)
- خالقة: (الطفل الوليد يخرج من رحمها).
- سائدة: ( تستوي على عرش ويديها على رأس نمرين واكتشفت في مخزن للحبوب)
- خالدة: (الجماجم البشرية تحت قدميها توحي باستمدادها الخلود من الأسلاف، وتسود بالحياة على الموت).
- مثيرة وشهية: ( تأكيد على مناطق اللذة الحسية بالثديين الواسعين والأرداف العريضة والبطن الكبير).
- خصبة: ( امتلاء الجسد المكتنـز بهذه الصورة يوحي بالتغذية المثمرة التي تقدم لها تماماً مثل ملكة النحل، في مجتمع أتقن زراعة الحبوب والبقوليات والأشجار ودجن المواشي والحيوانات).
الحالة العاطفية والشبقية في التحليل النفسي
استوقفني ما ورد في مؤلف جاك كوفان ” الإلوهية والزراعة” في بحثه عن سؤال الماضي الغامض في حياة الإنسان بربطه بين تماثل علم الآثار والتحليل النفسي،باعتبار أن “سيمون فرويد” لجأ إليه في بحثه عن العصاب النفسي عبر علم آثار الفرد من ذكريات طفولته المنسية والقابعة في عتمة اللاشعور الخفي والماضي.
تماماً مثلما يحاول هو أن يحدد ” فجر الحضارة الأوربية” كما وصفها “غوردن شايلد” منذ عام 1925 بأنها بدأت بالشرق الأدنى كبؤرة الحضارة الإنسانية الأولى،لتصبح فيما بعد كونية.
ويتابع في هذه المنطقة بالذات، يمكن قراءة أصولنا،وفي الوقت نفسه أصول نموذج للحضارة لم ينفك مذاك ليصبح كوكبياً،وذلك من وجهة النظر المزدوجة لمكتسباته الذهنية والتقنية وتأثيراته “العصابية” في النهاية، يقول كوفان : “إن الضيق الذي يصيب العالم الثالث المقتلع من جذوره ومن ماضيه الخاص يقدم لنا في أيامنا هذه تصويراً هائلاً عن ذلك، ولهذا يمكننا البحث عن عصاب يخص البشرية الحديثة برمتها عندما لا نقوم في المظهر سوى بتذكر طفولة حضارتنا ” (**).
بعد هذا الكم المثير من الاكتشافات الأثرية، في العصر الحجري الحديث، لابد أن يطرح تساؤلات شتى، أولها ما الدافع لقيام الإنسان بتضمين المرأة رموزاً بأشكال مختلفة استمر بلا انقطاع عبر الآلاف من السنين ،كما سنرى لاحقاً في الجزء الثاني في مرحلة التدوين وقيام الحضارات الكبرى في وادي الرافدين.
هنا تبرز ملاحظة بالغة الأهمية ربما تكون محاولة في الإجابة عن السؤال البسيط والمعقد في آن: إن الإنسان ما لم يكن مشحوناً بدفق عاطفي أو حسي جنسي ، ما كان لينحت المرأة على هذه الصفات الرمزية التي تيسر له بلوغه إياها، ولابد بد أنه كان يعاني من أحاسيس كثيفة وتعبئة نفسية طافحة بالرغبة التي كانت معروفة لديه سابقاً وإلا لما استمر بقاء نوعه عبر مئات الآلاف من السنين الأسبق، ولكن في هذه المرحلة بالذات يشير الباحث في علم الجمال ” إيتين سوريو” بأن عامل الإحساس بالرهبة والدهشة والخوف الذي خامر إنسان ما قبل التاريخ،هذه العوامل مجتمعة دفعته لأن ينحت ربما للمرة الأولى جسداً أنثويا بدوافع تفسر حاجة اجتماعية وإنسانية وغريزية عريضة و عميقة ومتأصلة، كما لاحظ ” سوريو” أن النفس البشرية ومنذ أقدم الحقب والعصور لاتزال تبحث عن ذاتها الذي قد بدأت تخطوه نحو الاكتشاف الأعمق، وهي الحافز الحقيقي لذلك الإشباع السحري والمثير للاكتشاف عبر الفن، أكان في رموزه الحقيقية والمعرفية العقلية، أم بواسطة رمزيه أسطورية ورؤى خيالية.
الحقيقة الشبقية وهي عارية:
شرع علم دراسات السلوك المقارن بين مملكتي الإنسان والحيوان لتقديم دراسات أساسها الملاحظة الدقيقة والمراقبة الاختيارية تدخل فيها مؤخراً علم المورثات وخطط نمو الهرمون، لدى كل فريق المملكتين مقدمين عدداً هائلاً من الأمثلة والأدلة التي تؤكد وتعزز أن الغرائز الأساسية واحدة عند كل من الإنسان والحيوان، وبالتـثبت من أن الفروق التشريحية بقيت بين الإنسان والحيوان هي فروق طفيفة ليس لها كبير الأهمية.
وكما هو الحال عند الحيوان فإن وجود الإنسان يعتمد على غريزة البقاء ورغبته من الحياة ترتكز على الغريزة الجنسية.
وبالمقاربة عند الإنسان فإن العديد من أنواع الفقريات والثدييات تؤلف عائلات وجماعات وتُحدث مستويات اجتماعية داخل هذه الجماعات، وتحيل العلاقة الجنسية بين الذكر و الأنثى إلى” شعائر و طقوس” حتى أن هناك ضروباً من السلوك النمطي المتكرر بين الجنسين بطريقة مقولبة تماماً وتبعاً لمخطط مرسوم بدقة يسبق كل تواصل جنسي.
إن الميل الغريزي المكتسب بالوراثة والخاضع لتحريضات الجملة العصبية وتأثير هرمونات محددة هي التي تدفع بالكائن إلى أفعال جوهرية بالنسبة للحياة والبقاء وهي صاحبة السيادة التي توجه جميع الفقاريات والثدييات ، والإنسان بدوره خاضع لهذه القوانين الكبرى للطبيعة وهي قوانين محتومة تتحكم بها عوامل متعددة على رأسها الغريزة ، فالإنسان بالنسبة إلى “علماء الأخلاق” والمختصين بالسلوك قد اكتسب أخلاقه الأساسية من الحيوانات ومعها وقبل أن يتغاير هو و أقرب أقرباؤه من الرئيسيات بفضل وضعية انتصاب عاموده الفقري، وقدرته على السير واقفاً ، فبقدر ما اتسع صندوق جمجمته ورقت عظام فكيه وقويت عضلات ساقيه وتنامت مهارة يديه ، تطورت عبر ملايين السنين ملكاته العقلية الخاصة به بالنمو المتعاظم للجملة العصبية المركزية ونمو المخ (1).
كما بات معروفاً اليوم بأن قشرة الدماغ عند الإنسان قادرة على الاضطلاع بسلوكه العام وبخاصة منها سلوكه الجنسي ( 2).
وحتى اليوم غير معروف تماماً أي من الحيوانات الإناث لها مقدرة الاستمتاع تماماً باللحظات الجنسية وما إذا كانت تشعر بذات شعور رفيقها المذكر بالنشوة التي تفضي إلى الرعشة الأخيرة.(3)
فالمداعبة العشقية قبل الممارسة الجنسية عند الإنسان هي أكثر ثراءً وتنوعا وابتكاراً منها عند الحيوان بمداعباته وحركات تقربه من أنـثاه، فقد ابتكر الإنسان مختلف الأوضاع الجنسية ليزيد من متعته الحسية ، واستفاد من قدرة المرأة على التمدد على ظهرها بعد أن استقامت قامتهـا، ( إذ يستحيل الأمر على أنثى الحيوان).
لكنه استطاع أن يتبنى أيضاً الوضع الحيواني لأسلافه باستناده على أطرافه الأربعة، دون تعداد للأوضاع الأخرى التي ابتكرها وهي لا تحصى.
ومن خلال المقارنة بين الحياة الجنسية للحيوان وحياة الإنسان كذلك ، برز إختلاف جوهري : لايستطيع ذكر الحيوان البته أن يكره أنثاه على السفاد، وبناءً على ذلك فالحرية متاحة في الرفض أو القبول ، ولهذا السبب يلجأ ذكر الحيوان إلى خطب ودّ الشريكة التي أختارها بالغزل والتودد.
وبمقدرو كل إنسان أن يغتصب المرأة التي يشتهي سواء بشل دفاعاتها أوبضربها أو بتهديدها وترويعها فيصبح السيد الأمر .. فالقابلية الجسدية والتكوين التشريحي للأنثى في عالم الحيوان تجعل سفاد الذكر لها أمراً صعباً أو مستحيلاً بتغير لحركتها ، في حين أن المرأة قد حرمت هذه القابلية لتكوينها الجسدي المختلف ،فاستلقاء المرأة على ظهرها يجعل من فرجها مستباحاً، بلا حماية ، وعليها أن تتقبل العضو الذكري وتشبع رغبات الرجل عندما تستوجب العادة ذلك
لقد كانت فترة الحيض دون غيرها هي التي تحمي المرأة، إذ كان الرجل يتراجع أمام هذه الظاهرة الغريبة والثابتة والتي لا يفهمها بل ويخشاها، وبدا له أن قدرة المرأة على فقدان جزء من دمها أمر يثير القلق ويحسب أن هذا النـزيف أمراً ( فوق طبيعي) يكبح شهوته ويسيطر عليها، وحتى بعد عصر الملكية وظهور التدوين فان الرجل كان ينكفئ عن شريكته بظهور القمر والذي ظن انه فاتناً يأتي ليضاجعها ويدميها، خلال فترة طمثها. لذلك استمرت الرموز القمرية شاهدة غزيرة في الوثائق الأثرية لما قبل التاريخ وبعده على أهمية الحيز الذي ناله الدور القمري في وعيهما المتنامي وكانت النساء يحترمن القمر ويكرمنه في عقيدتهن بصفته إلاهة تدافع عنهن وتحميهن من الرجال المستعدين دائماً للانعاظ ، تكون هي غير مستعدة بيولوجياً ولا شبقياً ولا نفسياً في أوقات منتظمة ومحددة من كل شهر لاستقبال القضيب الذكري الجامح.
وإذا كان الرجل البدائي يقترن بأنـثاه عنوة، في أحايين كثر طبقاً لنـزعتين متأصلتين في نفسه ، العدوانية والاستعداد الغريزي الدائم بدافعه القوي للتفريغ الجنسي ،حتى دون شريك فإن الرجل بقي عبر الآلاف من السنين ،عابر سبيل ، دون أن يدرك نتائج عملية النمو البيولوجي الذي يتوالد بواسطته الإنسان والحيوان، وبما أنه لايدرك بأن الجنين في رحم الأم، قد يكون ثمرة لنطفته التي لقحت المرأة خلال الاتحاد الجسدي ،فإنه يرى في هذا المولود الجديد إبناً للقبيلة وليس إبنا له، ولا يعد نفسه أباً حتى لو تكرر حادث الولادة العجيب مرات عدة خلال ممارسة جنسية ممتدة لسنوات طوال مع امرأة بعينها ،وبقدر ما يندر أن يطأ الرجل امرأة واحدة على نحو دائم ومنتظم بقدر ما هو استثنائي أيضاً اقتران المرأة على الدوام برجل واحد.. أوحد .
وهذا لا بد أن يفسر صعود الآلهة الأم في مخيلة الإنسان القديم ربما قبل تمثيلها ومن ثم تقديسها في الأزمان اللاحقة.. وقد تتضح الصورة أكثر، مع بدء عصور التدوين ونشوء الممالك القديمة ،والتي تحدد المستوى الأعمق لنضوج فكرة الإلوهية المؤنثة ،عبر الأدبيات الثرة التي نِقشت على الرقم المسمارية والمنحوتات الآسرة عن ” إنانا وعشتار” ، على ذات المسرح الحضاري الممتد من هضبة الأناضول شمالا وحتى الصحراء العربية جنوباً، وشواطئ المتوسط وقبرص وكريت غرباً والهضبة الإيرانية شرقاً.
هوامش:
(*) لا يعني هذا التأليه وعهود سيادة المرأة، فقدان دور الرجل الأساسي، إذ كان لا يزال يلعب الدور البين والمقارب لدورها ولكن ربما دون تاليه قدسي .
(**) إذا كان ” فرويد” قد قِدر له بأبحاثه الميدانية من تحديد العصابات النفسية ودرجات حدتها في سلسلة مؤلفاته الرائجة إلى اليوم ،وعزاها إلى الكبوتات النفسية الجنسية منذ مئة عام وجاء “جاك كوفان” ليحدد عصاب جمعي يخص البشرية بأسرها فإن المجتمع الشرقي العربي مازال يعاني عصاباته بصورة مزدوجة أحياناً: جنسية ودينية- ثقافية وفكرية- أجده اليوم يقارب بأخلاقياته، المجتمع البرجوازي المنافق في أواسط القرن التاسع عشر، والتي كانت أبحاث فرويد دافعاً قوياً للبحث في كنهها، والمطعم بالمفاهيم المعادية للجنس إذ اعتبرت الحياة الجنسية عموماً وكل ما له علاقة بالجسد أشياء قذرة وبذيئة لايجوز للناس الشرفاء التفكير فيها ( ثقافة العصر الفكتوري) ففي أوربا كان من غير المؤدب الطلب إلى المرأة الجالسة خلف منضدة الطعام تقديم رجل الدجاجة لأن ذلك يثير تداعيات جنسية مزعومة، وعند زيارة الطبيب كانت المرأة تحدد مكان الألم ليس على جسدها بل على جسد دمية..
وانتشرت الرقابة الجمعية الأخلاقية بشكل واسع في القرن التاسع عشر انطلاقا من تصورات خاطئة عن التأدب وحظرت مؤلفات ” رونسر” و “لا فونتين” و”فولتير” ، والقائمة تطول لدى باحثين في الأمراض العصبية والحشرات وعلم النفس ومختصي الأمراض التناسلية والزهرية، مما جعل تاريخ علوم الجنس في الأدب والفن والعلوم التطبيقية تاريخاً معذباً ويتطلب حماسة وجرأة كبيرة لتصديه، وما أشبه اليوم بالأمس أمام قيم النفاق الديني والاجتماعي السائدة اليوم في مجتمع مقهور إنسانياُ وحضارياً كالمجتمع العربي.
- : قبل ثلاثة ملايين سنة على وجه التقريب ظهر إنسان “الهوموهابيل” أي الإنسان الصانع، وبعد مليون ونصف عام ظهر إنسان ” الهومواركتوس” الإنسان المنتصب القامة، وعموماً هذه التسميات ليست دقيقة تماما لأن انتصاب قامة الإنسان حصلت قبل “الهومواركتوس” ولا زالت المعطيات الأثرية تفد بجديد حول تطور الإنسان.
- : في الخمسينات من القرن الماضي ظهرت تيارات علمية تجريبية، حاولت التقليل من أهمية أبحاث ” فرويد” بظهور أبحاث أكثر تطوراً للدوافع الجنسية عًزيت إلى كيمياء الدماغ وغدد محددة متصلة بمستقبلات الحواس تكون بمجموعها شبكة معقدة للدوافع الجنسية، وليس كما حاول ” فرويد” دراستها عبر التحليل النفسي فحسب. ومع ذلك فهذا لا يقلل بأي حال من الأحوال من أهمية “فرويد” التي تكمن في أنه قد فتح لأول مرة بوابة جديدة للإنسانية، لم يعد بإمكان أحد أن يغلقها.
- (3) : عند سؤالي لأخصائيين في الطب النسائي وبالأخص من تعاطى منهم بالمشاكل النفسية والجنسية للمرأة عن معدل مئوي محدد لنساء معاصرات ومتزوجات لم يعرفن الرعشة الشبقية النهائية في الممارسة الجنسية، كانت النسب مخيفة ومهولة للغاية أحتفظ بها مغفلة لأنها ليست هنا بمعرض البحث.
نشر هذا النص في دورية "فكر" لأول مرة عام 2009 وكان من أكثر النصوص قراءة وتداولا وشعبية عند نشره على الشبكة العنكبوتية..
قراءة ممتعة .. وهو الجزء الاول فقط ..