فون رانكه (ليوبولد)
Von Ranke (Leopold-) - Von Ranke (Leopold-)
فون رانكه (ليوبولد -)
(1795-1886م)
ليوبولد فون رانكه Leopold von Ranke أحد كبار المؤرّخين الألمان، وصاحب مدرسة تاريخية شهيرة رفعت شعار التأريخ الموضوعي، ووضعت أسس علم التاريخ الحديث، وكان لها دور مهم في الدراسات التاريخية في القرن التاسع عشر.
ولد في أسرة لوثرية متدينة في إحدى بلدات إقليم تورينغن Thüringen (ڤيهي Wiehe) في خضمّ الأحداث العاصفة التي أعقبت اندلاع الثورة الفرنسية، وفي عصر اتسم بنهضة فكرية وأدبية كبيرة عاشتها ألمانيا. تلقّى تعليمه المدرسي وفق أسس التربية التقليدية الإنسانية، ثم تابع دراسة اللاهوت وفقه اللغة في جامعة لايبزيغ Leipzig ما بين (1814-1818). وقد بقى «الكتاب المقدس» وملاحم هوميروس، التي تمثل اتحاد الفكر المسيحي والكلاسيكي رموز ثقافته. مارس التدريس في إحدى ثانويات فرنكفورت (على الأودر)Frankfurt an der Oder ما بين (1818-1825) حيث ولد اهتمامه بالتاريخ الذي سيصبح شغفاً عارماً طوال حياته، وصل إلى حدّ العبادة، إذ كان يعتقد أن الله موجود في كل مكان وفي كل حدث وفي كل مسيرة تاريخ الإنسانية. بدأ رانكه مسيرته العلمية مؤرخاً بمؤلَّف ذاع صيته عن «تاريخ الشعوب الرومانية والجرمانية» كتب في مقدمته جملته الشهيرة؛ إن على المؤرخ ألا يحكم أو يعلّم وإنّما عليه أن يظهر ما حدث فعلا ًفي الواقع (كيف كان الأمر حقاً: wie es eigentlich gewesen ist)، أي أن يتصف بالموضوعية المطلقة. وعلى أثر هذا الكتاب نودي به أستاذاً للتاريخ في جامعة برلين عام 1825، وهو المنصب الذي شغله حتى تقاعده عام 1871. قام برحلة علمية كبيرة (1827-1831) قادته إلى دور المحفوظات (الأرشيف) الإيطالية حيث وجد مصادر متنوعة جداً ومادة تاريخية هائلة نشأ عنها كتابه الذي أسس لشهرته العلمية في أوربا، وهو بعنوان: «البابوات الرومان في القرون الأربعة الأخيرة». شارك رانكه بنشاط في الحياة السياسية في ألمانيا، فتولى رئاسة تحرير «المجلة السياسية التاريخية» ذات التوجهات المحافظة (1832-1836) التي صارت منبراً يعبر عن وجهات نظر الطبقات الحاكمة في عصر مترنيخ Metternich والحكومة البروسية، وهكذا عُيِّن عام 1841 مؤرخاً للدولة البروسية، فكتب مؤلّفاً ضخماً عن التاريخ البروسي في تسعة مجلدات، انصرف بعد ذلك إلى دراسة ماضي الألمان، فأصدر كتابه الشهير «التاريخ الألماني في عصر الإصلاح الديني»، ثم شرع في كتابة التاريخين الفرنسي والإنكليزي خاصة في القرنين السادس عشر والسابع عشر بوصفهما جزءاً من التاريخ الأوربي، كما كتب عن تاريخ إسبانيا وبلاد الصرب، وألقى سلسلة من المحاضرات عن عهود التاريخ الحديث. وكان كثير من هذه الأبحاث تمهيداً لآخر مؤلفاته: «تاريخ العالم» Weltgeschichte الذي بدأ بكتابته وهو في السادسة والثمانين من عمره، ووصل بأحداثه حتّى عام 1450م. وأثمرت جهوده العلمية تأسيس معهد لرعاية البحث التاريخي الألماني في مونيخ عام 1858 الذي ضمّ أشهر المؤرخين الألمان برئاسته، وكان من أعظم إنجازاته إصدار «السيرة الألمانية العامة» في 56 مجلداً. وهكذا فإن علم التاريخ في ألمانيا صار تحت تأثير رانكه بتعاليمه وأعماله التاريخية الرائدة. وانهالت عليه مظاهر التكريم والتقدير؛ فرُفِّع عام 1865 إلى طبقة النبلاء الألمان ومنح لقب (فون Von). فما كان منه إلا أن نذر نفسه لمزيد من البحث والتأليف والعطاء رافعاً شعار (العمل هو السعادة الحقة).
كان القرن التاسع عشر عصر الدراسات والعلوم التاريخية بلا منازع، فقد خرج التاريخ من نطاق الأدب؛ ليبحث عن الحقيقة الموضوعية، وهكذا نشأت «المدرسة الوضعية» التي تزعمها فون رانكه، الذي طوّر البحث التاريخي؛ ليكون علماً منهجياً يقوم على نقد المصادر والروايات التاريخية والعودة إلى الوثائق الأصلية، وتطبيق طريقة نقدية صارمة لاستخلاص الحقائق الموضوعية التي لا لبْس فيها ولا تحيّز، مع تأكيد أهمية التدوين والكتابة التاريخية. كان فون رانكه أوّل من أوجد حلقات البحث التاريخي في الجامعات التي تعلّمت فيها أجيال من الطلاب والباحثين كيفية إيجاد مادة المصادر التاريخية وتقويمها وصياغة نتائج البحث وتقديمها بأسلوب واضح يعبّر عن غنى الحياة التاريخية بمناحيها المتشعبة المختلفة، وكان فون رانكه يرى انطلاقاً من تدينه البروتستني أن التاريخ تحكمه في نهاية المطاف العناية الإلهية، ولكنه كان يسلّم بوجود قوى تاريخية حرة تتجسد في السمات الخاصة لكل عصر، وتنعكس في الطبيعة المختلفة للأمم والشعوب، فكل عصر يؤدي مباشرة إلى الله، والأفكار هي القوى المؤثّرة في التاريخ، وهذه الثنائية هي إحدى المبادىء الأساسية السائدة في أعماله. كان اهتمامه منصباً على التاريخ السياسي على حساب التطورات الاقتصادية والثقافية، وهو يؤكّد أهمية الدولة وخصوصيتها وقوتها ودورها في حياة الأمة، ولذلك كان من أشد أنصار توحيد ألمانيا على يد بسمارك Bismarck وتأسيس الدولة القومية الألمانية. ولقد اتصفت مؤلفاته التي طرقت مختلف الموضوعات التاريخية بالتحليل الدقيق للأشخاص والوصف الرائع للأحداث وسعي دؤوب للكشف عن حوادث الماضي، كما جرت في الواقع؛ وذلك من خلال دراسة نقدية عميقة وشاملة للمصادر التاريخية. وقد جُمعت أعماله في 54 مجلّداً صدرت في لايبزيغ (1867-1890)، تُرجم كثير منها إلى اللغات الأوربية المختلفة. يقول عنه المؤرخ هرنشو: «لم يظهر قطّ مؤرخ أقرب منه إلى المؤرخ المثالي». ويعده كثيرون زعيم المؤرّخين في الأزمنة الحديثة.
محمد الزين
Von Ranke (Leopold-) - Von Ranke (Leopold-)
فون رانكه (ليوبولد -)
(1795-1886م)
|
ولد في أسرة لوثرية متدينة في إحدى بلدات إقليم تورينغن Thüringen (ڤيهي Wiehe) في خضمّ الأحداث العاصفة التي أعقبت اندلاع الثورة الفرنسية، وفي عصر اتسم بنهضة فكرية وأدبية كبيرة عاشتها ألمانيا. تلقّى تعليمه المدرسي وفق أسس التربية التقليدية الإنسانية، ثم تابع دراسة اللاهوت وفقه اللغة في جامعة لايبزيغ Leipzig ما بين (1814-1818). وقد بقى «الكتاب المقدس» وملاحم هوميروس، التي تمثل اتحاد الفكر المسيحي والكلاسيكي رموز ثقافته. مارس التدريس في إحدى ثانويات فرنكفورت (على الأودر)Frankfurt an der Oder ما بين (1818-1825) حيث ولد اهتمامه بالتاريخ الذي سيصبح شغفاً عارماً طوال حياته، وصل إلى حدّ العبادة، إذ كان يعتقد أن الله موجود في كل مكان وفي كل حدث وفي كل مسيرة تاريخ الإنسانية. بدأ رانكه مسيرته العلمية مؤرخاً بمؤلَّف ذاع صيته عن «تاريخ الشعوب الرومانية والجرمانية» كتب في مقدمته جملته الشهيرة؛ إن على المؤرخ ألا يحكم أو يعلّم وإنّما عليه أن يظهر ما حدث فعلا ًفي الواقع (كيف كان الأمر حقاً: wie es eigentlich gewesen ist)، أي أن يتصف بالموضوعية المطلقة. وعلى أثر هذا الكتاب نودي به أستاذاً للتاريخ في جامعة برلين عام 1825، وهو المنصب الذي شغله حتى تقاعده عام 1871. قام برحلة علمية كبيرة (1827-1831) قادته إلى دور المحفوظات (الأرشيف) الإيطالية حيث وجد مصادر متنوعة جداً ومادة تاريخية هائلة نشأ عنها كتابه الذي أسس لشهرته العلمية في أوربا، وهو بعنوان: «البابوات الرومان في القرون الأربعة الأخيرة». شارك رانكه بنشاط في الحياة السياسية في ألمانيا، فتولى رئاسة تحرير «المجلة السياسية التاريخية» ذات التوجهات المحافظة (1832-1836) التي صارت منبراً يعبر عن وجهات نظر الطبقات الحاكمة في عصر مترنيخ Metternich والحكومة البروسية، وهكذا عُيِّن عام 1841 مؤرخاً للدولة البروسية، فكتب مؤلّفاً ضخماً عن التاريخ البروسي في تسعة مجلدات، انصرف بعد ذلك إلى دراسة ماضي الألمان، فأصدر كتابه الشهير «التاريخ الألماني في عصر الإصلاح الديني»، ثم شرع في كتابة التاريخين الفرنسي والإنكليزي خاصة في القرنين السادس عشر والسابع عشر بوصفهما جزءاً من التاريخ الأوربي، كما كتب عن تاريخ إسبانيا وبلاد الصرب، وألقى سلسلة من المحاضرات عن عهود التاريخ الحديث. وكان كثير من هذه الأبحاث تمهيداً لآخر مؤلفاته: «تاريخ العالم» Weltgeschichte الذي بدأ بكتابته وهو في السادسة والثمانين من عمره، ووصل بأحداثه حتّى عام 1450م. وأثمرت جهوده العلمية تأسيس معهد لرعاية البحث التاريخي الألماني في مونيخ عام 1858 الذي ضمّ أشهر المؤرخين الألمان برئاسته، وكان من أعظم إنجازاته إصدار «السيرة الألمانية العامة» في 56 مجلداً. وهكذا فإن علم التاريخ في ألمانيا صار تحت تأثير رانكه بتعاليمه وأعماله التاريخية الرائدة. وانهالت عليه مظاهر التكريم والتقدير؛ فرُفِّع عام 1865 إلى طبقة النبلاء الألمان ومنح لقب (فون Von). فما كان منه إلا أن نذر نفسه لمزيد من البحث والتأليف والعطاء رافعاً شعار (العمل هو السعادة الحقة).
كان القرن التاسع عشر عصر الدراسات والعلوم التاريخية بلا منازع، فقد خرج التاريخ من نطاق الأدب؛ ليبحث عن الحقيقة الموضوعية، وهكذا نشأت «المدرسة الوضعية» التي تزعمها فون رانكه، الذي طوّر البحث التاريخي؛ ليكون علماً منهجياً يقوم على نقد المصادر والروايات التاريخية والعودة إلى الوثائق الأصلية، وتطبيق طريقة نقدية صارمة لاستخلاص الحقائق الموضوعية التي لا لبْس فيها ولا تحيّز، مع تأكيد أهمية التدوين والكتابة التاريخية. كان فون رانكه أوّل من أوجد حلقات البحث التاريخي في الجامعات التي تعلّمت فيها أجيال من الطلاب والباحثين كيفية إيجاد مادة المصادر التاريخية وتقويمها وصياغة نتائج البحث وتقديمها بأسلوب واضح يعبّر عن غنى الحياة التاريخية بمناحيها المتشعبة المختلفة، وكان فون رانكه يرى انطلاقاً من تدينه البروتستني أن التاريخ تحكمه في نهاية المطاف العناية الإلهية، ولكنه كان يسلّم بوجود قوى تاريخية حرة تتجسد في السمات الخاصة لكل عصر، وتنعكس في الطبيعة المختلفة للأمم والشعوب، فكل عصر يؤدي مباشرة إلى الله، والأفكار هي القوى المؤثّرة في التاريخ، وهذه الثنائية هي إحدى المبادىء الأساسية السائدة في أعماله. كان اهتمامه منصباً على التاريخ السياسي على حساب التطورات الاقتصادية والثقافية، وهو يؤكّد أهمية الدولة وخصوصيتها وقوتها ودورها في حياة الأمة، ولذلك كان من أشد أنصار توحيد ألمانيا على يد بسمارك Bismarck وتأسيس الدولة القومية الألمانية. ولقد اتصفت مؤلفاته التي طرقت مختلف الموضوعات التاريخية بالتحليل الدقيق للأشخاص والوصف الرائع للأحداث وسعي دؤوب للكشف عن حوادث الماضي، كما جرت في الواقع؛ وذلك من خلال دراسة نقدية عميقة وشاملة للمصادر التاريخية. وقد جُمعت أعماله في 54 مجلّداً صدرت في لايبزيغ (1867-1890)، تُرجم كثير منها إلى اللغات الأوربية المختلفة. يقول عنه المؤرخ هرنشو: «لم يظهر قطّ مؤرخ أقرب منه إلى المؤرخ المثالي». ويعده كثيرون زعيم المؤرّخين في الأزمنة الحديثة.
محمد الزين