شخصيات مؤثرة
23 يونيو 2022 ·
يوسف الصديق بين الكتب السماوية والتاريخ المصري
حينما نتحدث عن قصة سيدنا يوسف بين الكتب السماوية والتاريخ القديم، فلا بد أن نضع نصب أعيننا أننا أمام قصة مترابطة، تتنوع فيها الشخصيات والأحداث بشكل كبير وعميق، وتحتم على الباحث أن يخلق سيناريو متكاملاً يجمع من التاريخ القديم ما يخرج القصة على نحو حقيقي ومنطقي ومترابط ومتسق مع الرواية الإلهية للأحداث التي لا يأتيها الباطل من بين يديها، وهو ما قد لا يتطلبه البحث في قصص أخرى تكفي فيها قرائن وأدلة متفرقة لكشف الغموض حول شخصيات بعينها فيها، ويكفينا أن نعرف أن سورة يوسف من السور القلائل التي نزلت كاملة،
وتبدأ السورة بقصة يوسف -عليه السلام- وهو طفل بالرؤيا التي رأى فيها أن أحد عشر كوكباً مع الشمس والقمر تسجد له، وقصها على أبيه النبي يعقوب: "إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أحد عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ"، فعرف أبوه أن ابنه يوسف سينال منزلة عالية ومكانة عظيمة في الدنيا والآخرة، بحيث يخضع له أبواه وإخوته فيها، فأمره بكتمانها عن إخوته خوفاً من أن يحقدوا عليه.
وازداد اهتمام الأب يعقوب بابنه يوسف، مما نتج عنه تآمر إخوة يوسف عليه، وانتهى بإلقائه في البئر، ثم تنتشله قافلة لتبيعه بعدها إلى عزيز مصر، ولا تنتهي مِحَن يوسف عند ذلك، بل يتعرض في شبابه لمؤامرة أخرى من امرأة العزيز، بعدما راودته عن نفسه وأبي، تنتهى بدخوله السجن مظلوماً، ثم تنتهي القصة بتحقق الرؤيا.
نرجح أن عصر يوسف -عليه السلام- كان في زمن الأسرة الثانية عشرة الفرعونية (1991 - 1786) ق.م وتحديداً في حكم الملك أمنمحات الأول، مؤسس الأسرة الثانية عشرة، الذي أشرك معه في الحكم ابنه سنوسرت الأول لمدة 21 عاماً، وبذلك فنحن نخالف ما رجحه أغلب المؤرخين العرب، أن العصر الذي عاش فيه سيدنا يوسف كان في عصر الملوك الرعاة الآسيويين "الهكسوس"، وأن الفترة الزمنية التي عاش فيها كانت حتماً سابقة على عصر الهكسوس، ونستهل أدلتنا بقوله تعالى: "وَقَالَ يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أبواب مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ"، فلا بد أننا بعصر يفرض سياجاً أمنياً على دخول الأجانب إلى الدرجة التي خشي النبي يعقوب عليه السلام على أبنائه، ونصيحته لهم بعدم دخول مصر من بوابة واحدة، ولكن من أبواب متفرقة،
وهو ما يتفق مع فلسفة أمنمحات الأول الذي نظر إلى الهجرات الواسعة بالقرب من الحدود مع مصر، مما دفعه إلى بناء تحصينات قوية وقلاع ونقاط للمراقبة والحراسة كما لم يسبق من قبل على الحدود بين مصر وفلسطين، وقيامه بصفة خاصة ببناء "حائط الأمير"، وهو نوع من الحصون المنيعة لمنع تسلل البدو إلى أرض مصر، وبذلك تعذر على أى أجنبي أن يدخل مصر أو حتى يطلب ماء لتشرب منه ماشيته.
نتوقف عند دليل آخر وهو قوله تعالى: "وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ"، وقوله تعالى: "يَا صَاحِبَي السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ".. فنجد متهمين مرافقين ليوسف عليه السلام في السجن؛ أحدهما ساقي الملك، والآخر خبازه، وهو ما يعني أننا أمام مؤامرة قد حدثت وزجت بمقربين من الملك إلى السجن، ثم شمل العفو ساقي الملك بعد ذلك، وحينما نبحث بين جنبات التاريخ الفرعوني عن قضية اغتيال على هذا المنوال فلا بد أن نسبر أغوار واحدة من قضايا الاغتيال شديدة الغموض في التاريخ الفرعوني، وكان بطلها أمنمحات الأول الذي لقي مصرعة جراء مؤامرة باغتته في القصر، نفّذها حرسه وخدمه، وذلك في غياب ابنه سنوسرت الأول في إحدى غزواته ضد الليبيين، وحتى نتخيل مدى بطش سنوسرت الذي ربما طال المقربين من الملك الراحل والحالة المزاجية التي ربما سيطرت عليه، والتي دفعت الطبيب الملكي سنوحي إلى الهروب إلى الشام والتخفي دون أن يكون موجهاً إليه أي اتهام!! غير أن تحولاً طرأ على الملك دفعه للعفو عن سنوحي وربما هو نفس العفو الذي شمل ساقي الملك في القصة القرآنية.
ثمة دليل آخر يحملنا بجلاء إلى الفترة التي شهدت وجود سيدنا يوسف وعلو مكانته، فعصر الدولة الوسطى وبخاصة الأسرة الثانية عشرة امتاز بالرخاء الاقتصادي الذي لم يسبق له مثيل في مصر؛ حيث اهتم الملوك بشؤون الزراعة والري، فنظموا مياه النيل، وأقاموا المقاييس عليه، واعتنوا بالمشروعات الزراعية، وبالطبع كان ليوسف -عليه السلام- اليد الطولى أو الريادة في هذه النهضة، من خلال وضعه لأول خطة استراتيجية في التاريخ، وليس أدل على التأثير الذي خلفه يوسف عليه السلام في الاقتصاد الزراعي المصري من الارتباط بين الفيوم ويوسف عليه السلام، وهو الارتباط الذي تتحدث عنه المصادر العربية، ومنها ابن عبد الحكم في "فتوح مصر وأخبارها" من أن سيدنا يوسف قد تعرض لاختبار تعجيزي على يد فرعون؛ مما دفعه لحفر خليج المنهي (بحر يوسف) من أعلى أشمون إلى اللاهون، أما السيوطي فيقول: "الفيوم مدينة دبرها سيدنا يوسف عليه السلام بالوحي، وليس في الدنيا بلد مثلها".في المقابل نجد التاريخ الفرعوني يرصد بدء الاهتمام الحقيقى بالفيوم مع عهد أمنمحات الأول، وكذلك سنوسرت الثاني (هرمه في اللاهون) الذي كان أول من بدأ مشروعاً للتحكم في مياه النيل مما يدعم نظريتنا من معاصرة يوسف لحكم الرجلين.
نأتي علي ذكر القرآن لحاكم مصر في عصر موسى عليه السلام بصيغة فرعون، فيما يذكر حاكم مصر في عصر النبي يوسف عليه السلام بلفظ الملك، قال تعالى: "وَقَالَ الملك إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ"، في المقابل نجد التوراة لا تفرق مطلقاً بين حاكم مصر في عصر نبي الله موسى وبين حاكم مصر في عصر نبي الله يوسف، وتنعتهم بلفظ الفرعون دون تفرقة، ففي (إصحاح تكوين 41): (فحسن الكلام في عيني فرعون وفي عيون جميع عبيده. فقال فرعون لعبيده وهل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله، ثم قال فرعون ليوسف: بعد ما أعلمك الله كل هذا ليس بصيراً وحكيماً مثلك. أنت تكون على بيتي وعلى فمك يقبل جميع شعبي).
وعلى الرغم من أن الموسوعة البريطانية والكثير من الباحثين في تاريخ مصر القديمة يعتبرون أن لفظ الفرعون الذي يتضمن معنى الألوهية لم يستعمل إلا في بداية الأسرة الثامنة عشرة فصاعداً، أما الفترة الزمنية التي سبقت هذا التاريخ فكان لقب حكام مصر هو الملك، سواء في أيام احتلال الهكسوس لمصر أو قبلها، فإن باحثين آخرين يرفضون هذه الحقيقة التاريخية، وبالتالي فيمكننا الخروج من هذا الجدل بالبناء على تفرد حظي به أمنمحات الأول وبالطبع انعكس على أبنائه هو أنه كان وزيراً لآخر ملوك الأسرة الحادية عشرة، ولم يكن سليلاً لها،
ولما مات الملك دون وريث، أعلن "أمنمحات" نفسه ملكاً على مصر، ونظراً لشرعيته الواهية، فقد بذل جهداً كبيراً لإخضاع حكام الأقاليم لسلطانه كما أشاع بين الناس أسطورة (نبوءة نفرتي) التي تدور حول أنه في العصر الذهبي لحكم الملك الطيب الخير "سنفرو " تنبأ أحد المنجمين بأن مصر سوف تنجو من فترة يسودها الضياع والتخبط بفضل منقذ يأتي من الجنوب، ويدعى "أمني Ameny"، في إشارة ماكرة إلى تطابق هذا الاسم مع "أمنمحات". وبالتالي فنحن أمام حاكم ذي وضع مختلف من حيث طريقة اعتلائه للحكم تجعله شاذاً في لقبه وفي درجة دون لقب الفرعون لو أخدنا في اعتبارنا أن لقب فرعون ساد الحكام قبله أو استمر بعد أسرته.
إضافة لذلك يمكننا أن نقرأ النقش الخاص بوصول وفد آسيوي رفيع المستوى لمصر على أحد جدران مقابر بني حسن بالمنيا بشكل مختلف، علماً بأنه لم يسجل من قبل في الآثار المصرية تسجيل لزيارات آسيوية بهذا المستوى، مما يعكس أهمية الزيارة، وبالتالي فربما "أبشا "زعيم هذا الوفد هو يعقوب عليه السلام، وأبشا معناها الزعيم، ويعقوب هو قائد أو أب ليوسف وإخوته.
ومما يعزز هذه الفرضية هو أن الوفد الآسيوي المكون من سبعة وثلاثين شخصاً من البدو - رجال ملتحون ونساء وأطفال - يرتدون الملابس الصوفية المزركشة، كانوا غير مقيدين أو ساجدين للفرعون لتخليد انتصار المصريين على إحدى الغزوات الآسيوية، بل على العكس، فالرسم يظهر القادمين مرفوعي الرأس ومعهم رماحهم، وفي موكب يحمل الهدايا، وهي صورة تقترب بنا من الصورة القرآنية التي تحملها لنا سورة يوسف: "وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إذ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بعد أن نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ".
وطبقاً لرواية التوراة، فإن فوطيفار (يسمى أيضاً بوتيفار أو قوطفير أو قوطيفار أو بوتيفار بن روحيب ويعني الاسم تابع إله الشمس أو عطية رع) خِصيّ فرعون رئيس الشرط، وهو رجل مصري هو من اشترى يوسف من يد الإسماعيليين الذين أنزلوه إلى هناك، وكان صفنات فعنيح (اسم مصري قديم معناه قوت الأرض هو الحي أو هذا الحي) هو الاسم الذي اختاره الفرعون ليوسف كما أعطاه أسنات (تعني بنت الإله نيت) بنت فوطي فارع كاهن أون (هيليوبوليس مدينة الشمس) زوجة، وهو ما يمكن أن نستنتج منه مصرية الملك، وأنه لم يكن من الهكسوس، وهو ما يتضح من اختياره عزيزاً لمصر مصرياً، وإطلاقه على يوسف اسماً مصرياً، كما تكشف الرواية التوراتية السابقة عن مقدار تقديس الشمس في هذا العصر، وهو ما ينطبق على الملك سنوسرت الأول الذي اتخذ المسلة الخاصة به (تعرف بمسلة المطرية) من حجر الجرانيت الوردي، ويبلغ طولها نحو 20م، ووزنها نحو 20 طناً تمهيداً لعبادة الإله رع الشمس، وكانت تطلى قمتها برقائق الذهب، وذلك لتعكس أشعة الشمس المستمدة من الإله رع على الأرض، كناية عن الخير الذي يعم البشرية في ذلك الوقت، وهي الأثر الوحيد في المطرية لمنطقة هليوبوليس "اون".
يعتبر دخول يوسف وإخوته إلى مصر تمهيداً لحكم الهكسوس، وهو في حقيقته حكم ذاتي لبني إسرائيل بمناطق من مصر تحقق مع فترة الاضطراب التي صاحبت نهاية الأسرة الفرعونية الثانية عشرة، وهو ما يتفق مع فرضية أن الهكسوس لم يدخلوا مصر بالغزو، ولكن بالتسلل، وعاشوا في أرض مصر قبل الاستيلاء على العرش في شمال مصر، وحتى تتضح فكرتنا فالهكسوس كما أطلق عليهم المؤرخ المصري مانيتون السمنودي هم ملوك البدو، وهو نفس التعريف الذي نجده لدى القرآن ذاته، ففي قوله تعالى على لسان موسى: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً" وفي قوله تعالى على لسان يوسف: "وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إذ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ" ومن الآيتين معاً يمكن أن نشتق معنى كلمة الهكسوس التي تحدث عنها مانيتون كما نجد من ملوك الهكسوس (الأسرة الملكية 15، حُكْمهم: 1674 - 1567 ق.م) أسماء: يعقوب هر، وتابعيهم من (الأسرة المعاصرة 16، حكمهم 1684 - 1567 ق.م): يعقوب بعل، ويعقب عم (Yakbam)، كما وردت أسماء أمكنة من عهدهم مثل (يوسف إيل)، مما يؤيد ارتباط الهكسوس وانتماءهم لبني إسرائيل