السـيوطي (عبد الرحمن بن أبي بكر-)
(849 ـ 911هـ/1445ـ 1505م)
جلال الدين، أبو الفضل، عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر بن محمد الخُضَيري، المشـهور بالسيوطي، أو الأَسْيوطي، نسبة إلى مدينة «أسْيوط» في صعيد مصر. أما «الخضيري» فهي نسبة إلى محلة في شرقي بغداد تسمى «الخُضيرة» كانت موضع إقامة الأسـرة، ومنها هـاجر جدّ السيوطي إلى أسيوط واستقر بها، حيث وُلد له كمال الدين أبو بكر، الذي انتقل فيما بعد إلى القاهرة، وتولى عدداً من المناصب، منها القضاء والخطابة، والتدريس والإفتاء، وله بعض المؤلفات أيضاً. وقد توفي سنة 855هـ وابنه جلال الدين طفل في السادسة من عمره.
نشأ السيوطي في القاهرة يتيماً، وربّته أمه التي كانت جركسيةً من أصل فارسي. وكان والده قبل ذلك يصحبه في طفولته المبكرة إلى مجالس العلم وأهل الفضل، فرُبي في بيئة علمية منذ صغره، ولازم أقران والده من العلماء الذين رعوه حق الرعاية، وتابع مرحلة التلقي عن سائر الشيوخ الأعلام حتى بلغ عددهم نحو مئة وخمسين عالماً، فضلاً عمّن أخذ عنهم العلم بالإجازة فقط، حتى وصل عددهم جميعاً إلى ستمئة عالم تقريباً. وكان لهؤلاء الأفاضل أبعد الأثر في تكوينه العلمي ورقيّه درجات المجد فيما بعد.
وقد أوتي حافظة قوية، وذاكرة واعية، فحفظ القرآن الكريم في الثامنة من عمره، ثم بدأ يحفظ أمهات الكتب في العلوم الدينية واللغوية والبلاغية، وفي النحو والمنطق والأصـول، كما رحـل سنة 869هـ إلى بلاد الشام، فالحجاز للحج وعمره عشرون عاماً، وفي السنة التالية زار كبرى المدن في مصر، وكان يجتمع بأهل العلم في كل مكان ينزل فيه، فيأخذ عنهم ويأخذون عنه، حتى تصدر للإفتـاء سنة 871هـ وهو في الثانية والعشرين من عمره.
أما شيوخه فأبرزهم: جلال الدين المحلّي، شريكه في «تفسير الجلالين» وعلَم الدين البُلقيني، والشُّمُنّي النحوي، وسيف الدين الحنفي، ومحيي الدين الكافِيَجي، صاحب «الكافية» في النحو، وابن قُطْلو بُغا الحنفي، وتقي الدين الشبلي، وغيرهم. فضلاً عن عدد من النساء الفاضلات كأم هانئ بنت أبي القاسم الأنصاري، وخديجة بنت أبي الحسن، وأم هانئ : مريم بنت نور الدين الهوريني والدة شيخه سيف الدين الحنفي.
وكان لذلك كله أثر كبير في اتساع علمه ومعارفه وتكوينه الثقافي، حتى أحاط بمختلف الفنون والعلوم المعروفة في عصره. وأساس ذلك كله طموحه العلمي، وسعيه إلى أن يتفرد بين أقرانه، وصبره العجيب على البحث والدرس والمتابعة، شأنه في ذلك شان الأعاجم المسلمين الذين أخلصوا في خدمة العلوم العربية والإسلامية.
أما من تتلمذوا له من طلاب العلم فهم كثُر، وقد أصبحوا فيما بعد من جهابذة العلوم العربية والإسلامية، ومنهم: شمس الدين الداودي، وابن طولون الدمشقي، وزين الدين الشماع، وعبد القادر الشاذلي، الذي ألّف كتاباً خاصاً في سيرة أستاذه السيوطي سماه «بهجة العابدين بترجمة حافظ العصر جلال الدين السيوطي».
ولما بلغ السيوطي الأربعين من عمره، اعتزل الناس، وانصرف إلى التأليف، وخلا بنفسه في منزله بروضة المقياس، على نهر النيل، فكان الأغنياء وأولو الأمر يزورونه ويعرضون عليه الأموال والهدايا فيردّها معتذراً، وطلبه السلطان مراراً، فلم يحضر إليه.
كان السيوطي ذا قدرة عجيبة على التأليف وقد بدأ به يافعاً في السابعة عشرة من عمره، حتى إنه لم يدع علماً معروفاً في عصره إلا وله فيه مؤلَّف أو أكثر، وقد عُدّت مؤلفاته بالمئات، وكانت تتزايد في حياته تزايداً مستمراً. ويروي عنه تلميذه عبد القادر الشاذلي أنه كان يصنف في اليوم الواحد ثلاث كراريس. ويذكر السيوطي نفسه أنه فسّر النصف الأول من القرآن الكريم في أربعين يوماً، بعد أن فسّر أستاذه جلال الدين المحلي قبله النصف الثاني منه ومات المحلي ولم يتمّه. ويبدو أنه كان يتخذ لنفسه طرائق خاصة تسهل له كثرة التصنيف وتوفر عليه كثيراً من الجهد والوقت، فضلاً عن اعتماده على مخزونه العلمي وما وعاه صدره منه. وبقي على ذلك حتى توفي بالقاهرة في حياة أمه، وقد ناهز الثانية والستين، بعد أن رأته عالماً ذائع الصيت، وبنت له ضريحاً لائقاً، وكانت تكثر من زيارته حتى أتاها اليقين ودفنت إلى جانبه.
وقبره اليوم معروف في حوش قوصون خارج باب القرافة وحزن الناس عليه كثيراً، وكان لجنازته مشهد عظيم، ونظم عدد من الشعراء قصائد في رثائه.
وقد اختلف أهل العلم في تعداد مؤلفاته وطريقة إحصائها، حتى أوصلها بعضهم إلى الألف، على أن عبد القادر الشاذلي، تلميذ السيوطي، يذكر في كتابه «بهجة العابدين» أنه لزم السيوطي نحواً من أربعين سنة، وكتب من مؤلفات أستاذه كثيراً، له ولغيره، من أهل مصر والشام وحلب والحجاز واليمن والروم والمغرب والتكرور والعجم وغيرها، ويقول الشاذلي: «وفي آخر الأمر، بالقرب من وفاته، قرأت عليه الفهرست المتضمن لأسماء مؤلفاته التي استقر رأيه على إبقائها وإظهارها ونشرها، وهي قريب من نحو ستمئة مؤلف، وأجازني رحمه الله برواية جميعها.…».
وعلى هذا فمن الصعب أن نعدّد أشهر كتبه كلها، بموضوعاتها وفنونها المختلفة في التفسير والحديث والفقه وعلوم اللغة والبلاغة، وفنون الأدب والنوادر والإنشاد والشعر، والتاريخ والتراجم، والمنطق والأصول، ولذلك نكتفي بذكر ما يتسع له المقام مما هو مطبوع، ومن ذلك:
«الإتقان في علوم القرآن»، تفسير الجلالين «النصف الأول منه»، الجامع الصغير من حديث البشير النذير، اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، الأشباه والنظائر «في الفقه الشافعي»، الأشباه والنظائر «في النحو»، المزهر في علوم اللغة، همع الهوامع، شرح شواهد مغني اللبيب، الاقتراح في أصول النحو، «أرجوزة» عقود الجُمان في المعاني والبيان» وشرحها، الوسائل إلى معرفة الأوائل، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تاريخ الخلفاء، «حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة ..».
تبوأ السيوطي منزلة عالية بين علماء عصره وما بعد عصره، وانتشرت مؤلفاته في أصقاع العالمَيْن العربي والإسلامي، فلا يُذكر اسمه إلا مقروناً بالأوصاف السامية : كالإمام، والحافظ، والعلامة، والمجتهد. أما العامة فكان لهم فيه اعتقاد كبير، وكانوا يعدّونه من الأولياء ومن أهل الكرامات التي ذكر بعضَها تلميذه الشاذلي في كتابه «بهجة العابدين».
على أن حياة السيوطي لم تخلُ من المعاناة وبعض المنغصات. وكيد الحساد، ومنازلة الأقران، وذلك دأب العلماء في كل زمان ومكان، وربما كان من أسباب ذلك ما عُرف به السيوطي من القدرة على الجهر بالحق، والإفصاح عن الرأي، والإعلاء لكلمة الشريعة، وهذا ما عرّضه لشيء من الأذى والحسد والمِحَن. وهكذا عاش حياة حافلة غنية، كان فيها جمع غفير من الأنصار والمؤيدين، كما كان له فيها كثير من الشائنين الطاعنين، الذين حاولوا النيل منه، واتهامه بالاقتباس والجمع وفقدان الإبداع. ولكنه مع ذلك كله يبقى قمة شامخة في العلم والعطاء، وقدوة نادرة في الزهد والقناعة والبعد عـن التزلف لأولي الأمر برغم توددهم إليه، وتقرّبهم منه كالسلطانين: قايتباي، وقانصوه الغوري.
محمود فاخوري
(849 ـ 911هـ/1445ـ 1505م)
جلال الدين، أبو الفضل، عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر بن محمد الخُضَيري، المشـهور بالسيوطي، أو الأَسْيوطي، نسبة إلى مدينة «أسْيوط» في صعيد مصر. أما «الخضيري» فهي نسبة إلى محلة في شرقي بغداد تسمى «الخُضيرة» كانت موضع إقامة الأسـرة، ومنها هـاجر جدّ السيوطي إلى أسيوط واستقر بها، حيث وُلد له كمال الدين أبو بكر، الذي انتقل فيما بعد إلى القاهرة، وتولى عدداً من المناصب، منها القضاء والخطابة، والتدريس والإفتاء، وله بعض المؤلفات أيضاً. وقد توفي سنة 855هـ وابنه جلال الدين طفل في السادسة من عمره.
نشأ السيوطي في القاهرة يتيماً، وربّته أمه التي كانت جركسيةً من أصل فارسي. وكان والده قبل ذلك يصحبه في طفولته المبكرة إلى مجالس العلم وأهل الفضل، فرُبي في بيئة علمية منذ صغره، ولازم أقران والده من العلماء الذين رعوه حق الرعاية، وتابع مرحلة التلقي عن سائر الشيوخ الأعلام حتى بلغ عددهم نحو مئة وخمسين عالماً، فضلاً عمّن أخذ عنهم العلم بالإجازة فقط، حتى وصل عددهم جميعاً إلى ستمئة عالم تقريباً. وكان لهؤلاء الأفاضل أبعد الأثر في تكوينه العلمي ورقيّه درجات المجد فيما بعد.
وقد أوتي حافظة قوية، وذاكرة واعية، فحفظ القرآن الكريم في الثامنة من عمره، ثم بدأ يحفظ أمهات الكتب في العلوم الدينية واللغوية والبلاغية، وفي النحو والمنطق والأصـول، كما رحـل سنة 869هـ إلى بلاد الشام، فالحجاز للحج وعمره عشرون عاماً، وفي السنة التالية زار كبرى المدن في مصر، وكان يجتمع بأهل العلم في كل مكان ينزل فيه، فيأخذ عنهم ويأخذون عنه، حتى تصدر للإفتـاء سنة 871هـ وهو في الثانية والعشرين من عمره.
أما شيوخه فأبرزهم: جلال الدين المحلّي، شريكه في «تفسير الجلالين» وعلَم الدين البُلقيني، والشُّمُنّي النحوي، وسيف الدين الحنفي، ومحيي الدين الكافِيَجي، صاحب «الكافية» في النحو، وابن قُطْلو بُغا الحنفي، وتقي الدين الشبلي، وغيرهم. فضلاً عن عدد من النساء الفاضلات كأم هانئ بنت أبي القاسم الأنصاري، وخديجة بنت أبي الحسن، وأم هانئ : مريم بنت نور الدين الهوريني والدة شيخه سيف الدين الحنفي.
وكان لذلك كله أثر كبير في اتساع علمه ومعارفه وتكوينه الثقافي، حتى أحاط بمختلف الفنون والعلوم المعروفة في عصره. وأساس ذلك كله طموحه العلمي، وسعيه إلى أن يتفرد بين أقرانه، وصبره العجيب على البحث والدرس والمتابعة، شأنه في ذلك شان الأعاجم المسلمين الذين أخلصوا في خدمة العلوم العربية والإسلامية.
أما من تتلمذوا له من طلاب العلم فهم كثُر، وقد أصبحوا فيما بعد من جهابذة العلوم العربية والإسلامية، ومنهم: شمس الدين الداودي، وابن طولون الدمشقي، وزين الدين الشماع، وعبد القادر الشاذلي، الذي ألّف كتاباً خاصاً في سيرة أستاذه السيوطي سماه «بهجة العابدين بترجمة حافظ العصر جلال الدين السيوطي».
ولما بلغ السيوطي الأربعين من عمره، اعتزل الناس، وانصرف إلى التأليف، وخلا بنفسه في منزله بروضة المقياس، على نهر النيل، فكان الأغنياء وأولو الأمر يزورونه ويعرضون عليه الأموال والهدايا فيردّها معتذراً، وطلبه السلطان مراراً، فلم يحضر إليه.
كان السيوطي ذا قدرة عجيبة على التأليف وقد بدأ به يافعاً في السابعة عشرة من عمره، حتى إنه لم يدع علماً معروفاً في عصره إلا وله فيه مؤلَّف أو أكثر، وقد عُدّت مؤلفاته بالمئات، وكانت تتزايد في حياته تزايداً مستمراً. ويروي عنه تلميذه عبد القادر الشاذلي أنه كان يصنف في اليوم الواحد ثلاث كراريس. ويذكر السيوطي نفسه أنه فسّر النصف الأول من القرآن الكريم في أربعين يوماً، بعد أن فسّر أستاذه جلال الدين المحلي قبله النصف الثاني منه ومات المحلي ولم يتمّه. ويبدو أنه كان يتخذ لنفسه طرائق خاصة تسهل له كثرة التصنيف وتوفر عليه كثيراً من الجهد والوقت، فضلاً عن اعتماده على مخزونه العلمي وما وعاه صدره منه. وبقي على ذلك حتى توفي بالقاهرة في حياة أمه، وقد ناهز الثانية والستين، بعد أن رأته عالماً ذائع الصيت، وبنت له ضريحاً لائقاً، وكانت تكثر من زيارته حتى أتاها اليقين ودفنت إلى جانبه.
وقبره اليوم معروف في حوش قوصون خارج باب القرافة وحزن الناس عليه كثيراً، وكان لجنازته مشهد عظيم، ونظم عدد من الشعراء قصائد في رثائه.
وقد اختلف أهل العلم في تعداد مؤلفاته وطريقة إحصائها، حتى أوصلها بعضهم إلى الألف، على أن عبد القادر الشاذلي، تلميذ السيوطي، يذكر في كتابه «بهجة العابدين» أنه لزم السيوطي نحواً من أربعين سنة، وكتب من مؤلفات أستاذه كثيراً، له ولغيره، من أهل مصر والشام وحلب والحجاز واليمن والروم والمغرب والتكرور والعجم وغيرها، ويقول الشاذلي: «وفي آخر الأمر، بالقرب من وفاته، قرأت عليه الفهرست المتضمن لأسماء مؤلفاته التي استقر رأيه على إبقائها وإظهارها ونشرها، وهي قريب من نحو ستمئة مؤلف، وأجازني رحمه الله برواية جميعها.…».
وعلى هذا فمن الصعب أن نعدّد أشهر كتبه كلها، بموضوعاتها وفنونها المختلفة في التفسير والحديث والفقه وعلوم اللغة والبلاغة، وفنون الأدب والنوادر والإنشاد والشعر، والتاريخ والتراجم، والمنطق والأصول، ولذلك نكتفي بذكر ما يتسع له المقام مما هو مطبوع، ومن ذلك:
«الإتقان في علوم القرآن»، تفسير الجلالين «النصف الأول منه»، الجامع الصغير من حديث البشير النذير، اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، الأشباه والنظائر «في الفقه الشافعي»، الأشباه والنظائر «في النحو»، المزهر في علوم اللغة، همع الهوامع، شرح شواهد مغني اللبيب، الاقتراح في أصول النحو، «أرجوزة» عقود الجُمان في المعاني والبيان» وشرحها، الوسائل إلى معرفة الأوائل، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تاريخ الخلفاء، «حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة ..».
تبوأ السيوطي منزلة عالية بين علماء عصره وما بعد عصره، وانتشرت مؤلفاته في أصقاع العالمَيْن العربي والإسلامي، فلا يُذكر اسمه إلا مقروناً بالأوصاف السامية : كالإمام، والحافظ، والعلامة، والمجتهد. أما العامة فكان لهم فيه اعتقاد كبير، وكانوا يعدّونه من الأولياء ومن أهل الكرامات التي ذكر بعضَها تلميذه الشاذلي في كتابه «بهجة العابدين».
على أن حياة السيوطي لم تخلُ من المعاناة وبعض المنغصات. وكيد الحساد، ومنازلة الأقران، وذلك دأب العلماء في كل زمان ومكان، وربما كان من أسباب ذلك ما عُرف به السيوطي من القدرة على الجهر بالحق، والإفصاح عن الرأي، والإعلاء لكلمة الشريعة، وهذا ما عرّضه لشيء من الأذى والحسد والمِحَن. وهكذا عاش حياة حافلة غنية، كان فيها جمع غفير من الأنصار والمؤيدين، كما كان له فيها كثير من الشائنين الطاعنين، الذين حاولوا النيل منه، واتهامه بالاقتباس والجمع وفقدان الإبداع. ولكنه مع ذلك كله يبقى قمة شامخة في العلم والعطاء، وقدوة نادرة في الزهد والقناعة والبعد عـن التزلف لأولي الأمر برغم توددهم إليه، وتقرّبهم منه كالسلطانين: قايتباي، وقانصوه الغوري.
محمود فاخوري