مَا بينَ مقاميّ الرَست والنَهَاوَند وعلَى أَلحَان أُغنِية "أنّا مِن أَقولَن آَه" للسَيّدة "زَكية جُورج" جلستُ مع صديقي الفنان العراقي الكبير "رَعد حبِيب"، وحيثُ للحديثِ عنهن شجون انسَابَت نَغماتُ فَنَانَاتٍ عَلَى فضاءِ المَنزِل فانغزَلَ الحَرير بِالرخام وفاضَت أَرواحهنّ العَذبة كالقِشدَة عَلى وَجه الأثِير، أو كَحُورِيات "سَايرينز" يُغرينَ "أوديسيوس" وبَحارَتِه بِالغَرَقِ في إيقاعِ "الجورجينا" العراقي المستعصي على غيرِ أصحابِ تلك البقعة من العالم بـ ( دُم، تَتَك، دُم، تَك، أس) يتصاعدُ بخارٌ ضبابي من طيف المطربة السورية الأصل، العِرَاقِية الفَنِ والهَوَى، مُسافِرة إِلى مدينة الموصل لتعمل هناك كراقصة، ولم تَمضِ فَترة حتى فَتَنت قُلوبَ الشُعراءِ والمُلحنين لِيتبَنّاها المُوسِيقار "صالح الكويتي" وتَرفع أَمواج دَارِ الإِذاعة العِراقِية صوتَها كَأولِ صوتٍ أُنثَوي يَحمِله نَسيج الكَونِ فِي بِلادِ الرَافِدين. تَعُود "زكية" بعدَّ خمس وثلاثين سنةٍ إلى حَلَب حَامِلة بَقايا مَجدِها المَخلُوع كَملِكة آشورية سُلِبَ عَرشها لِتَعمَل فِي مَسقط رَأسِها بِالنَسيج ما تَبقَى لَها مِن عُمرٍ بخيل. تَذكَرتُ مَصير كثيرات مِن الفَنَاناتِ اللَواتي نُسِيَّت أمجادهنَ وأَسمَائِهنَ وضِعنّ في نسيان جمعي بدلّ أن يخلدنَ في الذاكرة الجمعية، أذكُر "سَليمة بَاشا" التي نُزِعَ مِنها اللقب العثماني وبَقيت "سليمة مراد" وكانت الصديقة والمعلمةً والمُلهِمة لِمُطرب العِراق الأول "نَاظِم الغَزالي"، وكذا شحرورة العِراق "عَفيفة إسكندر" صاحِبة الصَالون الأَدبي والتي لا زالَ الأستاذ "سمير الناصر" والِدي يُطرب لأغنيتها "جُوز مِنهُم، لا تِعَاتبهُم" والمغنية السورية سَحَر صاحِبة "آه يَا أسمَر اللُون" التي لم تتوانَ يدُّ القدرِ عَن تفجِيرها بقنبلةٍ وهي تغني فِي نَادي "سميراميس" بدمشق، سادَ صمتٌ لدقائق ثم غنى "رعد حبيب" الموشح الأندلسي "ملا الكاسات" فيما أَشعَلتُ شَمعَةً يتيمة تقديراً لكل فنانةٍ أعطت الجماهير أمَلاً بِصوتٍ عَذب ووَحَدَت حَول مِذياع أو أسطُوانَة مَلايِين الجَماهِير المُتنازِعة والتي لم تُوحِدَها سِوى المُوسيقى وأتذكَر المَثل الغَجرِيّ "ابقَ حيثُ الغِنَاءِ والمُوسِيقى، فَالأشرَار لا يُغَنُون".
أشارككم مقطعاً صغيراً من الموشح بأداء الفنان رَعد حَبِيب.
المُهنَّدْ النَاصِرْ