بورتريهات محمد صالح خليل: نوافذُ بوحٍ لونيةٍ للذات الإنسانية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بورتريهات محمد صالح خليل: نوافذُ بوحٍ لونيةٍ للذات الإنسانية



    بورتريهات محمد صالح خليل: نوافذُ بوحٍ لونيةٍ للذات الإنسانية
    مليحة مسلماني 2023
    تشكيل
    درس خليل الفن في مدينة دريسدن الألمانية
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    يُفصح الدخول في عوالم الفنان الفلسطيني محمد صالح خليل عن تواجد أعماله في مساحة تتردّد بين واقعٍ شديد التنوع والتعقيد والتحوّلات من ناحية، وذاتيّة الفنان من ناحية أخرى، والتي تتخذ الفنّ ذاته مرمى وغاية؛ فهو بالنسبة إليه ليس مجرد وسيلة للتعبير عن الانفعالات الداخلية، أو تصوير الواقع المحيط، بل تصبح الأساليب الفنية على تنوّعها، والمواضيع على اختلافها، سواء كانت سياسية، أم طبيعية، أم وجودية، أم غيرها، مداخل ضرورية لسلوك دروب الفن، المرادفةِ بدورها لعملية بحثٍ ذاتيةٍ عميقة. وللفنان محمد خليل مسيرة حياةٍ ثرية بمصادرها الجغرافية والثقافية والأكاديمية، لتتضافر هذه المؤثرات مشكّلة هويته البصرية وأسلوبه الفني.
    تفتّحت براعم الإدراك الأولى لدى محمد خليل في دمشق، التي عاش فيها طفولته ومراهقته، متفاعلًا مع ثورية وزخم السبعينيات والثمانينيات، حيث الحضور القوي لمنظمة التحرير الفلسطينية، والترابط المتين بين الشقّين السياسي والثقافي في التجربة الفلسطينية. انتقل في بداية الثمانينيات إلى ألمانيا لدراسة الفن في مدينة دريسدن التي كانت مركزًا لفناني "جماعة الجسر"، مؤسسي التعبيرية الألمانية. لتظلّ التعبيرية الأسلوب الأكثر سيطرة على أعماله حتى المرحلة الحالية. يعود إلى دمشق بعد حصوله على درجة الماجستير عام 1988، أي مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ليقوم بعرض مشروع تخرجه، الذي اتخذت أعمالُه مجزرةَ "صبرا وشاتيلا" موضوعًا لها، إضافة إلى أعمال أخرى، في صالة "ناجي العلي" للفنون التشكيلية في دمشق، تحت إشراف الفنان الفلسطيني الراحل مصطفى الحلاج.
    يعود محمد خليل إلى فلسطين في أعقاب اتفاق أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية، والذي رافقه توجّهٌ عام للفنون والآداب الفلسطينية إلى مواضيع ذاتية ووجودية، عوضًا عن التمركز حول أحادية موضوع القضية الفلسطينية. يستقر الفنان لسنوات في قرية أبو شخيدم في قضاء رام الله، ليعيد اكتشاف علاقته بالطبيعة والفن عبر الريف الفلسطيني الذي دفعه إلى ولوج عوالم التجريد. ومع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، التي واجهها الاحتلال بعنف دموي فادح، يلجأ الفنان مرة أخرى إلى فوضى وعنف التعبيرية، منجِزًا مجموعة من البورتريهات عُرضت عام 2001 تحت عنوان "وجوه"، تعكس ثقل الواقع الاحتلالي العنيف على الذات الفلسطينية.

    حرية الشكل والموضوع
    يمثل ما سبق ذكره من مقتطفات سريعة من سيرة الفنان مفترقات مفصلية في مسيرته، ألقت بظلالها على تجربته الفنية وأساليبه وموضوعاته. ويحضر معرض "بورتريه"، الذي افتتح أخيرًا في مؤسسة "عبد المحسن القطان" في رام الله، نموذجًا لتجربةٍ طالما رامت الحرية في الفن؛ فهي وإن التزمت أساليب التعبيرية، والتجريد، والتعبيرية التجريدية أحيانًا، إلا أنها لا تتوانى عن الانفكاك من الحدود الصارمة والواضحة للمدارس الفنية، كما أنها ترفض البقاء أسيرة موضوع واحد؛ إذ يتناول محمد خليل، سواء في معرضه الحاليّ، أم في مجمل أعماله، الحكايةَ الفلسطينية بكل تجلّياتها الإنسانية، كما تصرخ أعماله بآلام الإنسان في سورية والعراق، وأينما كان، إضافة إلى تراجيديا الجائحة "كورونا"، التي وجدت مكانها على أسطح أعماله، وهناك الطبيعة التي رفدت تجربته في التجريد. يضاف إلى ذلك مواضيع أخرى، كالربيع العربيّ، والتطرّف الديني، وغيرها. ويبقى الإنسان موضوعًا مركزيًا في أعمال الفنان، التي يطرح من خلالها مفاهيمَ وقيمَ حسّاسة حول المرأة، والرجل، والعلاقة بينهما، إضافة إلى ثيمة الجسد الأنثوي، الذي ظلّ يمثل بالنسبة إليه مجالًا لا نهائيًا للبحث المعرفيّ والجماليّ والبصريّ.

    البورتريه: نافذة الذات
    مرت بورتريهات محمد خليل على مدار أربعين عامًا برحلة تطور أسلوبية ولونية وموضوعية/ مضامينية؛ تبدو الوجوه التي رسمها خلال التسعينيات أقرب إلى محاولات لونية تعبيرية أكاديمية يصبو بها الفنان إلى التعرف على عنصر البورتريه، باعتباره موضوعًا تاريخيًا للفنّ وهويةً للذات الإنسانية تبوح بجوانيّتها، تظهر من خلال تعابيره مشاعرُ مختلفة مثل الحزن والملل والفراغ والغضب، إلا أنها بورتريهات لا تشير إلى هويّات أو قضايا بعينها، فهي وجوه إنسانية عامة لا تحدّها تصنيفات سوى جنسها ومرحلتها العمرية. في حين تنتقل وجوه عام 2000 وما بعده، التي رافقت الانتفاضة الثانية، إلى مستوى من التعبير أكثر مأساوية، لتتعاظم مشاعر الألم، ويصبح للموت حضور جليّ فيها. وفي تناغمٍ مع هذا الاحتدام الوجداني العنيف المرتبط بمرحلة قاسية ودموية في حياة الفلسطينيين، تتحرر الألوان من المساحات الجامدة لتصبح عاملًا رئيسًا في تشكيل البورتريه وهويته الذاتية والبصرية.
    يمثل معرض "بورتريه" بدوره، تطورًا آخر في وجوه محمد خليل؛ ليضمّ أعمالًا أنجزت خلال السنوات الأخيرة، وجاءت نتيجة مخاضات عسيرة مرت بها فلسطين والمنطقة العربية والعالم بعامّة، ومنها: الغليان المستمر في القدس والضفة والغربية، وفي الداخل الفلسطيني المحتل كذلك، والحروب على غزة، والمأساة السورية، والأوضاع القاسية في اليمن والعراق وبلدان عربية أخرى، وجائحة كورونا، وغيرها من أحداث وقضايا ظل الفنان على تفاعل بصريّ معها، ولم ينطوِ في اغترابيةٍ، أو في ذاتيّةِ، تجربته الفنية.
    "بورتريهات محمد خليل لا تشير إلى هويّات أو قضايا بعينها، فهي وجوه إنسانية عامة لا تحدّها تصنيفات سوى جنسها ومرحلتها العمرية"

    تتنوع هويات وجوه معرض "بورتريه" بين فلسطينية، وعربية، وإنسانية عامة لا تميزها هويات قومية بعينها، كما يعكس بعضها في تعابيره وحالته العامة حضورًا أكثر قسوة وحدّة من الألم، وذلك بالمقارنة مع وجوه المراحل السابقة في مسيرة الفنان. يفصح بورتريه يصور فيه الفنان ذاته عن هوية وأسلوب محمد خليل في هذا الشكل من الفنون؛ فاللون هو الحاكم على العمل، لا يلعب دورًا مكمّلًا لملء فراغاتٍ بين الخطوط، بل يشغل دورًا مركزيًا في تشكيل البورتريه وتعابيره وحالته العامة. والبورتريه بالنسبة للفنان مجال بصري لاستنطاق ما في دواخل الذات البشرية، لتطفو على سطح الوجه معلنةً حكايتها بعشوائية المشاعر والانفعالات وتناقضاتها وعمقها، فيما تخبر العينان في اللوحة عن أزمة حقيقية، وقلق وجودي، وتأمّل وبحث عميقين. يقول الفنان: "أنا لا أرسم الوجه، بل أرسم الإنسان الذي خلف هذا الوجه".

    المأساة السورية
    من بين أعمال المعرض واحد بعنوان "المأساة السورية"، يصور ستة أطفال جميعهم في أعمار متقاربة، عدا اثنين منهم، يبدو أحدهم أصغر سنًا من الآخرين وإلى جانبه طفل أصغر من الجميع. الأبيض المسيطر على اللوحة، سواء في الأكفان البيضاء التي لُفّ بها الأطفال، أم في خلفيتها، هو إحالة إلى الموت الذي يحيق بالشعب السوري على مدار سنوات. في حين تعزز الخطوط الحمراء، التي حُدّدت بها الأكفان، الإشارات إلى دموية الواقع في سورية.
    لا تظهر على وجوه الأطفال تعابير، أو انفعالات قوية، كما أن تعابير كل منهم لا تختلف كثيرًا عن الآخر؛ وكأنهم نائمون، فالموت والنوم حالتان متشابهتان، وما النوم إلا موت أصغر، أما الموت فنوم لا يقظة منه، وهو حالة من الارتياح والسلام، في الأبدية البيضاء بتعبير محمود درويش، بعد كثير من المعاناة. يظهر في اللوحة شعار الأمم المتحدة مرفقًا بكلمتي Syrian Report، أي: التقرير السوري؛ ليصور الفنان رؤيته للمأساة السورية باعتبارها صورًا من ذاكرة تنطوي على تجارب فقدٍ مؤلمة وعذابات عميقة، وليست مجرد تقرير مؤسساتي، أو إعلامي يشير إلى الضحايا بالأرقام.
    وجه من غوطة دمشق: عمل يمثّل المأساة السورية في بورتريه
    يصبح الوجه مسرح تمثّلات المأساة السورية في بورتريه بعنوان "وجه من غوطة دمشق"، تشير نظرات العينين إلى حالة من الانهاك الشديد والانهماك في الألم والصدمة، تنظران في الفراغ كما تنظر عيون الموتى. يعزز هذه المعاني نحافةُ الوجه الذي قد يشير إلى الجوع الناتج عن الحصار الشديد الذي تعرضت له الغوطة، وسياسة الحصار الخانق طُبّقت في العديد من المناطق السورية، ما أدّى الى وفاة كثير من السوريين جراء الجوع.

    محاربو الكورونا
    تمثل جائحة كورونا مرحلة زمنية شديدة الثقل لدي الغالبية العظمى من الشعوب والمجتمعات، ألقت بظلالها الكئيبة على المستويات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، لما جلبته معها من حضور قوي للموت، ومن مشاعر الخوف والعزلة والكآبة. ولعل البشرية ستحتاح إلى سنوات طويلة للتعافي من آثار هذه الجائحة، التي ساهمت في دورها، وبشكل كبير، في إعادة صياغة الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في العالم، تمامًا كما تفعل الحروب والأزمات والشديدة. تظهر الجائحة في واحد من البورتريهات بعنوان "محاربو الكورونا"، يصور فيه الفنان طبيبًا، أو ممرضًا، يرتدي الكمّامة وغطاء الرأس البلاستيكي الطبي ونظارات السلامة الطبية.
    "مع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، التي واجهها الاحتلال بعنف دموي فادح، يلجأ الفنان مرة أخرى إلى فوضى وعنف التعبيرية، منجِزًا مجموعة من البورتريهات عُرضت عام 2001 تحت عنوان "وجوه""

    يصبح البورتريه، مع غطاء الرأس والنظارة والكمامة، شبه مختفٍ ولا تبدو منه سوى العينين، لذا لا يتبقى سواهما لقراءة الشخصية، غير أن هذه الحالة برمّتها تشكّل بدورها بورتريه/ وجهًا آخر للبشرية، وهذا بالضبط ما فعلته الجائحة، والتي، إضافة الى ما سبق ذكره، جلبت معها أدوات وسلوكيات جديدة، مثل الكمّامات والمُعقِّمات والتباعد الاجتماعي، وغيرها. كما أنه لم يكن من الشائع، قبل الجائحة، رؤية الأطباء مدجّجين بكل هذه الاحتياطات سوى في غرف العمليات. ومع الجائحة أصبح العالم كله عبارة عن غرفة عمليات وفي حالة طوارئ. كما تنطوي اللوحة على عرفان بالجميل وتكريم للأطباء والممرضين والعاملين في المجال الطبي، الذين خاطروا بأرواحهم، كما يفعل المقاتلون في الحروب، لإنقاذ البشر من الوباء.

    النصّ الفلسطيني الجريح
    تصور إحدى اللوحات بورتريه للناشط نزار بنات، الذي توفي بعد اعتقاله من قبل قوات الأمن الوقائي الفلسطينية وتعرّضه للضرب الشديد. عُلّق نص إلى جانب اللوحة في قاعة العرض جاء فيه: "عندما تمّ اغتيال الناشط الفلسطيني نزار بنات، تمّ في الحقيقة الاعتداء على الهوية النضالية الفلسطينية بصفتها رافعة قيم التحرر والديمقراطية التي اكتسبتها عبر سنين طويلة من النضال والتضحيات. هذا المعنى الذي لخّصته وثيقة الاستقلال: إن دولة فلسطين هي للفلسطينيين أينما كانوا فيها يطورون هويتهم الثقافية والوطنية... إلخ. إن الخاسر الأكبر من هذا الفعل الإجرامي هو المعنى الجوهري لأن تكون مناضلًا في فلسطين. خسرت وثيقة الاستقلال القيمة الرمزية التي تمثلها كوثيقة كُتبت بأيدي المستضعفين".
    محاربو الكورونا: عن مشاعر الخوف والكآبة والعزلة في زمن الجائحة
    اتخذت اللوحة شكل البوستر السياسي الذي عُرف به الفضاء البصري الفلسطيني العام، والذي يرتبط، في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، بصور القادة والشهداء، وبدلًا من الكتابات التي ترافق عادة صورة الشهيد في البوستر لتمجيده وتخليد ذكراه، يظهر في الخلفية، ومن وراء بورتريه نزار بنات، نصُّ وثيقة دولة فلسطين. العينان المنتفختان إشارة إلى التعذيب الذي تعرض له بنات، والذي يعززه أيضًا بقع الدماء، والحروف والكلمات الحمراء (من نص وثيقة فلسطين) التي تظهر على الوجه، مثل كلمات: "لا"، و"سياس" (أي سياسي)، و"القصاء" (أي قضاء). ولكل من هذه الكلمات دلالات تشير الى الواقع الفلسطيني في ظل السلطة الفلسطينية؛ حيث سياسات تكميم الأفواه، وقمع المعارضين وإقصائهم، وغياب العدالة الاجتماعية والقضائية. في حين يشير تَقَطُّع كلمات وثيقة الاستقلال وامّحاء بعض حروفها إلى الخلل/ الجرح الذي يصيب النص الفلسطيني برمّته؛ أي النص ليس باعتباره مجرد حروف وكلمات، بل باعتباره سطور حكايةِ مسيرةٍ نضاليةٍ طويلةٍ وقضيةٍ تحررية، كُتبت بمداد تضحياتٍ ودماءِ شهداءٍ قُدِّموا قرابين على الدروب السائرة إلى الحرية والاستقلال.
    أخيرًا، احتوى المعرض على بورتريهات أخرى لا تنتمي إلى هويات قومية، أو قضايا محددة، وإنما يبقى موضوعها الإنسان وأزماته الوجودية وآلامه أينما كان، وفي أي زمان كان، لتخبر تجربة معرض "بورتريه" بشموليّتها عن انحياز الفنان إلى الجوهر الإنساني المتجرّد عن الزمان والمكان، والمخبوء تحت طبقات الوجدان والوعي واللاوعي والذاكرة. وهو جوهرٌ، على الرغم من باطنيّته، إلا أنه قادر على التسرّب إلى العينين والوجه، باعتبارهما نافذته للبوح، وهكذا كانت بورتريهات محمد خليل؛ نوافذ لونية تعبيرية لهذا البوح، الذي، وإن تنوعت حكايات عذاباته وأماكنها وأزمانها، إلا أنها تبقى متشابهة ومتشابكة وكونيّة.
يعمل...
X