مهرجان "كان" الـ76: أفلام عربية فرضت نفسها
كانّ ــ محمد هاشم عبد السلام
سينما
أفلام عربية فازت في كان:"كذب أبيض"، "عصابات"، "وداعًا جوليا"
شارك هذا المقال
حجم الخط
اختتمت مساء يوم 27 مايو/ أيار فعاليات الدورة الـ76 لـ"مهرجان كان السينمائي الدولي"، ليُسدل الستار على دورة كانت تعد بكثير جدًا، قبل انطلاقها، نظرًا للأسماء الكبيرة المُكرسة في عالم الإخراج السينمائي، والتي جاءت بجديدها إلى "كان"، سواء داخل "المسابقة الرئيسية"، أو غيرها من المسابقات، لتنتهي الآمال المعقودة إلى خيبات متفاوتة، مردها الضعف الإبداعي، أو إعادة تدوير الأفكار، أو المعالجة، أو عقم التجديد السينمائي، بصريًا وجماليًا. بصفة عامة، يُلاحظ على الأفلام المعروضة انتفاء الأصالة، وضعف الطرح، فنيًا وفكريًا وفلسفيًا وإنسانيًا، وليس إنتاجيًا. إذ، من بين 21 فيلمًا في "المسابقة الرئيسية"، تضمنت مشاركة نسائية هي الأكبر بإجمالي 7 أفلام، تنوعت موضوعاتها بين السياسي والاجتماعي والإنساني والتاريخي، حظيت نصف أفلام المُسابقة، أو أقل، باستحسان النقاد والصحافيين، وبشبه إجماع للآراء على جودة وحُسن الاختيار.
وفي ما يتعلق بالجوائز الرسمية لدورة هذا العام، التي جرت مراسم توزيعها على مسرح "لوميير الكبير"، ومُنحت بناء على قرارات أعضاء لجنة التحكيم برئاسة المخرج السويدي روبن أوستلوند، وعضوية الممثل الأميركي بول دانو، والمخرجة والممثلة الأميركية بري لارسون، والمخرجة المغربية مريم توزاني، والممثل الفرنسي دينيس مينوشيه، وكاتب السيناريو والمخرج البريطاني الزامبي رونغانو نيوني، والكاتب الأفغاني عتيق رحيمي، والمخرج وكاتب السيناريو الأرجنتيني داميان زيفرون، والمخرجة الفرنسية جوليا دوكورنو، فقد جاء معظمها في محله تمامًا. فقد ذهبت "السعفة الذهبية" إلى فيلم "تشريح السقوط" للفرنسية جوستين ترييه، بعد مشاركة هي الثانية لها في مسابقة المهرجان، إذ كانت المرة الأولى عام 2019 بفيلم "سيبيل". تدور أحداث "تشريح السقوط"، في إطار شبه بوليسي، وتشويقي محبوك للغاية، حول مقتل زوج، وارتياب الشرطة في أن زوجته هي من قتلته. تستمر الأحداث ما بين شك ويقين وتحقيقات ومحاكمات إلى أن تنجلي الحقيقة، وفقًا للأدلة المتوافرة. اللافت أنه كان من المتوقع فوز الممثلة الرائعة ساندرا هولر بجائزة التمثيل نظرًا لأدائها المقنع لدور "ساندرا"، زوجة القتيل. أما "الجائزة الكبرى" فنالها فيلم "منطقة الاهتمام"، للمخرج البريطاني جونثان غليزر، والذي فاز عنه أيضًا بجائزة "الاتحاد الدولي للنقاد"، أو الفيبريسي. وهي المرة الأولى التي ينافس فيها المخرج في مسابقة المهرجان، وبفيلم ناطق بالألمانية. تدور الأحداث على نحو غير تقليدي، وبشكل مختلف كليًا ومغاير بالمرة لنوعية الأفلام التي تناولت معسكر "أوشفيتز" الشهير. الجائزة مستحقة جدًا للفيلم، الذي ترشح بقوة حتى اللحظات الأخيرة للفوز بـ"السعفة الذهبية". ومن بين الأفلام التي كانت مرشحة للسعفة وبقوة، أيضًا، "أوراق الشجر المُتساقطة" للفنلندي آكي كوريسماكي، والذي فاز عنه بجائزة "لجنة التحكيم". يتناول الفيلم، في إطار كوميديا سوداء، لا تخلو من عمق وفلسفة ولمسات إنسانية رائعة، علاقة حب بين رجل وامرأة من الطبقة الكادحة، في مجتمع لا إنساني.
جائزة "أحسن إخراج"، نالها الفيتنامي الفرنسي تران أن هونج، عن فيلمه "شغف دودان بوفان". يُعد الفيلم، الرقيق والمثير والحسي، إضافة إلى فيلم آخر لم يفز بجائزة، وهو بعنوان "نادي الصفر" للنمساوية جيسكا هاوزنر، من الأفلام الغريبة جدًا، أو الشاذة عن السياق، ضمن برمجة مسابقة المهرجان هذا العام. الفيلمان تدور أحداثهما عن الطعام، بصفة عامة، مع اختلاف الزمن والسرد والأحداث والتناول. إلا أن "شغف دودان بوفان"، الذي تدور أغلب أحداثه داخل المطبخ، يتعمق أكثر في تقاليد المطبخ الفرنسي في القرن الثامن عشر، من خلال أحد الطهاة المهرة، وبراعته وسحره في تقديم أشهى الأطباق مع مساعدته التي تموت فجأة، فتنقلب حياته.
أما جائزة "أفضل سيناريو"، فذهبت إلى كاتب السيناريو الياباني ساكاموتو يوجي. وذلك عن سيناريو فيلم "وحش" للمخرج الياباني المعروف هيروكازو كورييدا. وإن كانت الجائزة محل اعتراض بعض الشيء، نظرًا لأن الفكرة مطروقة في غير أفلام. ويمكن القول إن المعالجة، أو التناول الفني الإخراجي، والمونتاج بصفة أساسية، أنقذت الفكرة من فخ التكرار. إجمالًا، يتناول الفيلم العلاقة بين مراهق وصبي تنشأ بينهما علاقة صداقة عميقة جدًا. يدخل أحدهما إلى عالم الآخر، ويسكنه. لكن قبل هذا، يسرد لنا المخرج وكاتب السيناريو الأسباب التي دفعتهما إلى الانعزال والتقوقع بعيدًا عن محيطهما، وتمسك أحدهما بالآخر. عن جدارة واستحقاق فعلي، ذهبت جائزة "أحسن ممثل"، للياباني كوجي ياكوشو، عن دوره في فيلم "الأيام الرائعة" للألماني فيم فيندرز. يتناول الفيلم أيامًا من حياة هيراياما، عامل تنظيف المراحيض العمومية الصموت، الذي يعشق القراءة والتصوير الفوتوغرافي، ويمضي حياته متفانيًا وبإخلاص نادر في عمله الذي يعشقه بشدة. وكيف أنه كان يعيش حياته خارج الزمن، تقريبًا، إلى أن تقع بعض الأحداث البسيطة التي تبدل روتينه اليومي المعتاد. وربما تجعله يرى العالم من منظور آخر مشرق.
ذهبت جائزة "أحسن ممثلة" إلى التركية ميرفي ديزدار. وذلك عن دورها في فيلم "عن الأعشاب الجافة" للتركي نوري بيلج جيلان. رغم الأداء القوي، والصادق جدًا، للموهوبة ميرفي ديزدار في دور نوراي، المُعلمة الثورية الجامحة التي فقدت ساقها في سبيل مبادئها، والتي لا تبحث إلا عمن يحتويها، ولو بدافع الصداقة، إلا أن مساحة دورها ليست كافية بالمرة للحكم عليها، ومنحها جائزة أحسن ممثلة. على الأقل مقارنة ببطلات غيرها في أفلام ضمن أفلام المسابقة.
جائزة "الكاميرا الذهبية"، التي تُمنح لأفضل عمل أول في أي قسم من أقسام المهرجان، نالها الفيلم الفيتنامي "داخل شرنقة صفراء" للمخرج الشاب تاين أن فام. تدور الأحداث في إطار تأملي فلسفي، شبه صوفي، حول الحياة والموت والإيمان والرب والحرب والاضطهاد الديني في فيتنام. إذ يتعين على بطل الفيلم "ثين" أخذ رفات شقيقة زوجته إلى مسقط رأسها بصحبة ابن شقيقه. ما يعرضهما لمواقف ومواجهات صعبة. يعد الفيلم، رغم أهميته وشاعريته، من أطول الأفلام التي عرضت في تظاهرة "نصف شهر المخرجين" (180 دقيقة، تقريبًا).
في قسم "نظرة ما"، التالي في الأهمية بعد "المسابقة الرئيسية"، والذي يحتضن التجارب الأولى للمخرجين والمخرجات، وتحظى جوائزه باهتمام كبير، وتنافس فيه 22 فيلمًا، منحت لجنة التحكيم التي ترأسها الممثل الأميركي جون سي رايلي، فيلم "كيف نمارس الجنس" للبريطانية مولي ماننج والكر جائزة التظاهرة. وفيه تذهب ثلاث فتيات بريطانيات مراهقات وحدهن لقضاء عطلة صيفية، كان من المفترض أن تكون واحدة من أفضل عطلاتهن، لكن الأمور تمضي على عكس المتوقع تمامًا. أما فيلم "نحس" الكونغولي ففاز بجائزة "أفضل مخرج واعد". يتناول الفيلم عودة شاب كونغولي، بعد سنوات طويلة قضاها في بلجيكا، إلى مسقط رأسه في كينشاسا، ليواجه تعقيدات كثيرة مرتبطة بعادات وتقاليد، وإرث ثقافي ومجتمعي وديني وسياسي، يتصادم معه ويرفضه.
الأفلام العربية
للعام الثاني على التوالي، جذبت الأفلام العربية المعروضة في المسابقة كثيرًا من الاهتمام، نظرًا لمستواها الفني الرفيع، بل وفرضت نفسها على جوائز التظاهرة. إذ فاز الفيلم المغربي "عصابات" لكمال لأزرق بجائزة "لجنة التحكيم". ويتسم الفيلم بقدر كبير من التشويق، واحترافية ملموسة في كتابة السيناريو، وإدارة الممثلين، وتكثيف الأحداث خلال نهار واحد. وتقديم المخرج لرؤية بصرية قوية ومتميزة فعلًا لعوالم الليل والعصابات والإجرام في المغرب. وصفت لجنة التحكيم الفيلم بأنه "يفتح عيوننا على حقائق نعيشها كل يوم".
كذلك فازت المغربية أسماء المدير بجائزة "أفضل مخرج"، عن فيلمها "كذب أبيض". الفيلم مُبتكر وصادق. يتسم بكثير من الخيال، وببناء جدلي مركب ومتعدد الرسائل والمدلولات، إنسانيًا واجتماعيًا وسياسيًا. وذلك في انتقال سلس بين الخاص والعام، الذاتي والموضوعي، الذاكرة والتاريخ. ويمكن تصنيفه كفيلم وثائقي أو دراما روائية تشكيلية. إذ تبني المخرجة عالمها مستخدمة الصور الفوتوغرافية والنماذج الخشبية والحجرية الصغيرة، والدمى والعرائس، وفن "الماكيت". وتطرقت فيه إلى أحداث "انتفاضة الخبز" الدموية في المغرب، التي وقعت أحداثها في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
أما "جائزة الحرية" فذهبت إلى الفيلم السوداني "وداعًا جوليا" لمحمد كردفاني. وهو المشاركة الأولى في تاريخ السودان ضمن فعاليات مهرجان "كان". من خلال سياق الفيلم وأحداثه، التي تدور في إطار اجتماعي وسياسي وإنساني في الخرطوم، قبل انفصال الجنوب السوداني عن الشمال، وتتواصل إلى ما بعد مرحلة إجراء الاستفتاء، تتضح الأسباب القوية التي أهلته للفوز، عن جدارة واستحقاق، بجائزة الحرية التي تمنح للمرة الأولى. وقال رئيس لجنة التحكيم عن فيلم "وداعا جوليا" إنه يحكي للناس عن الحرية، وأن هذه الجائزة تحية للمقاومين ضد كل أشكال العنصرية والسلطة، ودعوة لقول الحقيقة، واصفًا الفيلم بـ"البرَّاق والمُمتع".
يُذكر أن الفيلم المصري القصير "عيسى أو أعدك بالفردوس" لمراد مصطفى فاز بجائزة "رايل الذهبية"، التي تمنح لأفضل فيلم قصير في مسابقة "أسبوع النقاد". وتدور أحداثه عن شجاعة وإنسانية لاجئ أفريقي مراهق مُقيم في القاهرة يُدعى عيسى (17 عامًا). وهو أول فيلم مصري قصير يحصل على هذه الجائزة.
كانّ ــ محمد هاشم عبد السلام
سينما
أفلام عربية فازت في كان:"كذب أبيض"، "عصابات"، "وداعًا جوليا"
شارك هذا المقال
حجم الخط
اختتمت مساء يوم 27 مايو/ أيار فعاليات الدورة الـ76 لـ"مهرجان كان السينمائي الدولي"، ليُسدل الستار على دورة كانت تعد بكثير جدًا، قبل انطلاقها، نظرًا للأسماء الكبيرة المُكرسة في عالم الإخراج السينمائي، والتي جاءت بجديدها إلى "كان"، سواء داخل "المسابقة الرئيسية"، أو غيرها من المسابقات، لتنتهي الآمال المعقودة إلى خيبات متفاوتة، مردها الضعف الإبداعي، أو إعادة تدوير الأفكار، أو المعالجة، أو عقم التجديد السينمائي، بصريًا وجماليًا. بصفة عامة، يُلاحظ على الأفلام المعروضة انتفاء الأصالة، وضعف الطرح، فنيًا وفكريًا وفلسفيًا وإنسانيًا، وليس إنتاجيًا. إذ، من بين 21 فيلمًا في "المسابقة الرئيسية"، تضمنت مشاركة نسائية هي الأكبر بإجمالي 7 أفلام، تنوعت موضوعاتها بين السياسي والاجتماعي والإنساني والتاريخي، حظيت نصف أفلام المُسابقة، أو أقل، باستحسان النقاد والصحافيين، وبشبه إجماع للآراء على جودة وحُسن الاختيار.
وفي ما يتعلق بالجوائز الرسمية لدورة هذا العام، التي جرت مراسم توزيعها على مسرح "لوميير الكبير"، ومُنحت بناء على قرارات أعضاء لجنة التحكيم برئاسة المخرج السويدي روبن أوستلوند، وعضوية الممثل الأميركي بول دانو، والمخرجة والممثلة الأميركية بري لارسون، والمخرجة المغربية مريم توزاني، والممثل الفرنسي دينيس مينوشيه، وكاتب السيناريو والمخرج البريطاني الزامبي رونغانو نيوني، والكاتب الأفغاني عتيق رحيمي، والمخرج وكاتب السيناريو الأرجنتيني داميان زيفرون، والمخرجة الفرنسية جوليا دوكورنو، فقد جاء معظمها في محله تمامًا. فقد ذهبت "السعفة الذهبية" إلى فيلم "تشريح السقوط" للفرنسية جوستين ترييه، بعد مشاركة هي الثانية لها في مسابقة المهرجان، إذ كانت المرة الأولى عام 2019 بفيلم "سيبيل". تدور أحداث "تشريح السقوط"، في إطار شبه بوليسي، وتشويقي محبوك للغاية، حول مقتل زوج، وارتياب الشرطة في أن زوجته هي من قتلته. تستمر الأحداث ما بين شك ويقين وتحقيقات ومحاكمات إلى أن تنجلي الحقيقة، وفقًا للأدلة المتوافرة. اللافت أنه كان من المتوقع فوز الممثلة الرائعة ساندرا هولر بجائزة التمثيل نظرًا لأدائها المقنع لدور "ساندرا"، زوجة القتيل. أما "الجائزة الكبرى" فنالها فيلم "منطقة الاهتمام"، للمخرج البريطاني جونثان غليزر، والذي فاز عنه أيضًا بجائزة "الاتحاد الدولي للنقاد"، أو الفيبريسي. وهي المرة الأولى التي ينافس فيها المخرج في مسابقة المهرجان، وبفيلم ناطق بالألمانية. تدور الأحداث على نحو غير تقليدي، وبشكل مختلف كليًا ومغاير بالمرة لنوعية الأفلام التي تناولت معسكر "أوشفيتز" الشهير. الجائزة مستحقة جدًا للفيلم، الذي ترشح بقوة حتى اللحظات الأخيرة للفوز بـ"السعفة الذهبية". ومن بين الأفلام التي كانت مرشحة للسعفة وبقوة، أيضًا، "أوراق الشجر المُتساقطة" للفنلندي آكي كوريسماكي، والذي فاز عنه بجائزة "لجنة التحكيم". يتناول الفيلم، في إطار كوميديا سوداء، لا تخلو من عمق وفلسفة ولمسات إنسانية رائعة، علاقة حب بين رجل وامرأة من الطبقة الكادحة، في مجتمع لا إنساني.
"الجائزة الكبرى نالها فيلم "منطقة الاهتمام"، للمخرج البريطاني جونثان غليزر، والذي فاز عنه أيضًا بجائزة "الاتحاد الدولي للنقاد"، أو الفيبريسي" |
جائزة "أحسن إخراج"، نالها الفيتنامي الفرنسي تران أن هونج، عن فيلمه "شغف دودان بوفان". يُعد الفيلم، الرقيق والمثير والحسي، إضافة إلى فيلم آخر لم يفز بجائزة، وهو بعنوان "نادي الصفر" للنمساوية جيسكا هاوزنر، من الأفلام الغريبة جدًا، أو الشاذة عن السياق، ضمن برمجة مسابقة المهرجان هذا العام. الفيلمان تدور أحداثهما عن الطعام، بصفة عامة، مع اختلاف الزمن والسرد والأحداث والتناول. إلا أن "شغف دودان بوفان"، الذي تدور أغلب أحداثه داخل المطبخ، يتعمق أكثر في تقاليد المطبخ الفرنسي في القرن الثامن عشر، من خلال أحد الطهاة المهرة، وبراعته وسحره في تقديم أشهى الأطباق مع مساعدته التي تموت فجأة، فتنقلب حياته.
أما جائزة "أفضل سيناريو"، فذهبت إلى كاتب السيناريو الياباني ساكاموتو يوجي. وذلك عن سيناريو فيلم "وحش" للمخرج الياباني المعروف هيروكازو كورييدا. وإن كانت الجائزة محل اعتراض بعض الشيء، نظرًا لأن الفكرة مطروقة في غير أفلام. ويمكن القول إن المعالجة، أو التناول الفني الإخراجي، والمونتاج بصفة أساسية، أنقذت الفكرة من فخ التكرار. إجمالًا، يتناول الفيلم العلاقة بين مراهق وصبي تنشأ بينهما علاقة صداقة عميقة جدًا. يدخل أحدهما إلى عالم الآخر، ويسكنه. لكن قبل هذا، يسرد لنا المخرج وكاتب السيناريو الأسباب التي دفعتهما إلى الانعزال والتقوقع بعيدًا عن محيطهما، وتمسك أحدهما بالآخر. عن جدارة واستحقاق فعلي، ذهبت جائزة "أحسن ممثل"، للياباني كوجي ياكوشو، عن دوره في فيلم "الأيام الرائعة" للألماني فيم فيندرز. يتناول الفيلم أيامًا من حياة هيراياما، عامل تنظيف المراحيض العمومية الصموت، الذي يعشق القراءة والتصوير الفوتوغرافي، ويمضي حياته متفانيًا وبإخلاص نادر في عمله الذي يعشقه بشدة. وكيف أنه كان يعيش حياته خارج الزمن، تقريبًا، إلى أن تقع بعض الأحداث البسيطة التي تبدل روتينه اليومي المعتاد. وربما تجعله يرى العالم من منظور آخر مشرق.
ذهبت جائزة "أحسن ممثلة" إلى التركية ميرفي ديزدار. وذلك عن دورها في فيلم "عن الأعشاب الجافة" للتركي نوري بيلج جيلان. رغم الأداء القوي، والصادق جدًا، للموهوبة ميرفي ديزدار في دور نوراي، المُعلمة الثورية الجامحة التي فقدت ساقها في سبيل مبادئها، والتي لا تبحث إلا عمن يحتويها، ولو بدافع الصداقة، إلا أن مساحة دورها ليست كافية بالمرة للحكم عليها، ومنحها جائزة أحسن ممثلة. على الأقل مقارنة ببطلات غيرها في أفلام ضمن أفلام المسابقة.
"فازت المغربية أسماء المدير بجائزة "أفضل مخرج"، عن فيلمها "كذب أبيض". الفيلم مُبتكر وصادق. يتسم بكثير من الخيال، وببناء جدلي مركب ومتعدد الرسائل والمدلولات، إنسانيًا واجتماعيًا وسياسيًا" |
جائزة "الكاميرا الذهبية"، التي تُمنح لأفضل عمل أول في أي قسم من أقسام المهرجان، نالها الفيلم الفيتنامي "داخل شرنقة صفراء" للمخرج الشاب تاين أن فام. تدور الأحداث في إطار تأملي فلسفي، شبه صوفي، حول الحياة والموت والإيمان والرب والحرب والاضطهاد الديني في فيتنام. إذ يتعين على بطل الفيلم "ثين" أخذ رفات شقيقة زوجته إلى مسقط رأسها بصحبة ابن شقيقه. ما يعرضهما لمواقف ومواجهات صعبة. يعد الفيلم، رغم أهميته وشاعريته، من أطول الأفلام التي عرضت في تظاهرة "نصف شهر المخرجين" (180 دقيقة، تقريبًا).
في قسم "نظرة ما"، التالي في الأهمية بعد "المسابقة الرئيسية"، والذي يحتضن التجارب الأولى للمخرجين والمخرجات، وتحظى جوائزه باهتمام كبير، وتنافس فيه 22 فيلمًا، منحت لجنة التحكيم التي ترأسها الممثل الأميركي جون سي رايلي، فيلم "كيف نمارس الجنس" للبريطانية مولي ماننج والكر جائزة التظاهرة. وفيه تذهب ثلاث فتيات بريطانيات مراهقات وحدهن لقضاء عطلة صيفية، كان من المفترض أن تكون واحدة من أفضل عطلاتهن، لكن الأمور تمضي على عكس المتوقع تمامًا. أما فيلم "نحس" الكونغولي ففاز بجائزة "أفضل مخرج واعد". يتناول الفيلم عودة شاب كونغولي، بعد سنوات طويلة قضاها في بلجيكا، إلى مسقط رأسه في كينشاسا، ليواجه تعقيدات كثيرة مرتبطة بعادات وتقاليد، وإرث ثقافي ومجتمعي وديني وسياسي، يتصادم معه ويرفضه.
الأفلام العربية
للعام الثاني على التوالي، جذبت الأفلام العربية المعروضة في المسابقة كثيرًا من الاهتمام، نظرًا لمستواها الفني الرفيع، بل وفرضت نفسها على جوائز التظاهرة. إذ فاز الفيلم المغربي "عصابات" لكمال لأزرق بجائزة "لجنة التحكيم". ويتسم الفيلم بقدر كبير من التشويق، واحترافية ملموسة في كتابة السيناريو، وإدارة الممثلين، وتكثيف الأحداث خلال نهار واحد. وتقديم المخرج لرؤية بصرية قوية ومتميزة فعلًا لعوالم الليل والعصابات والإجرام في المغرب. وصفت لجنة التحكيم الفيلم بأنه "يفتح عيوننا على حقائق نعيشها كل يوم".
كذلك فازت المغربية أسماء المدير بجائزة "أفضل مخرج"، عن فيلمها "كذب أبيض". الفيلم مُبتكر وصادق. يتسم بكثير من الخيال، وببناء جدلي مركب ومتعدد الرسائل والمدلولات، إنسانيًا واجتماعيًا وسياسيًا. وذلك في انتقال سلس بين الخاص والعام، الذاتي والموضوعي، الذاكرة والتاريخ. ويمكن تصنيفه كفيلم وثائقي أو دراما روائية تشكيلية. إذ تبني المخرجة عالمها مستخدمة الصور الفوتوغرافية والنماذج الخشبية والحجرية الصغيرة، والدمى والعرائس، وفن "الماكيت". وتطرقت فيه إلى أحداث "انتفاضة الخبز" الدموية في المغرب، التي وقعت أحداثها في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
أما "جائزة الحرية" فذهبت إلى الفيلم السوداني "وداعًا جوليا" لمحمد كردفاني. وهو المشاركة الأولى في تاريخ السودان ضمن فعاليات مهرجان "كان". من خلال سياق الفيلم وأحداثه، التي تدور في إطار اجتماعي وسياسي وإنساني في الخرطوم، قبل انفصال الجنوب السوداني عن الشمال، وتتواصل إلى ما بعد مرحلة إجراء الاستفتاء، تتضح الأسباب القوية التي أهلته للفوز، عن جدارة واستحقاق، بجائزة الحرية التي تمنح للمرة الأولى. وقال رئيس لجنة التحكيم عن فيلم "وداعا جوليا" إنه يحكي للناس عن الحرية، وأن هذه الجائزة تحية للمقاومين ضد كل أشكال العنصرية والسلطة، ودعوة لقول الحقيقة، واصفًا الفيلم بـ"البرَّاق والمُمتع".
يُذكر أن الفيلم المصري القصير "عيسى أو أعدك بالفردوس" لمراد مصطفى فاز بجائزة "رايل الذهبية"، التي تمنح لأفضل فيلم قصير في مسابقة "أسبوع النقاد". وتدور أحداثه عن شجاعة وإنسانية لاجئ أفريقي مراهق مُقيم في القاهرة يُدعى عيسى (17 عامًا). وهو أول فيلم مصري قصير يحصل على هذه الجائزة.