ملحمة مشهديّة جديدة لمارتن سكورسيزي
جورج كعدي
سينما
يبلغ سكورسيزي من العمر 80 عامًا (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
عام 2002، أهدانا السينمائيّ المعلّم الكبير مارتن سكورسيزي تحفة من تحفاته الكثيرة تحت عنوان "عصابات نيويورك/ Gangs of New York"، الذي يعيدنا إلى منتصف القرن التاسع عشر، والصراعات الدامية بين مجموعة من المهاجرين الإيطاليين (الذين يتحدّر منهم جدود سكورسيزي نفسه)، ومجموعة أخرى من المستوطنين الأيرلنديين الذين سبقوا أقرانهم إلى أرض "الحلم" والثروات لإبادة سكانها الأصليين المعروفين بـ"الهنود الحمر" (إحدى أكبر المجازر في التاريخ)، وكان الصراع في تلك الحقبة ذا طابع دينيّ مذهبي أيضًا، أي أيرلندي بروتستانتيّ، وإيطاليّ كاثوليكيّ. وتصدّر ملصق الفيلم نجمان كبيران هما دانيال دي لويس (قائدًا للمجموعة الأيرلندية)، وليوناردو دي كابريو (قائدًا للمجموعة الإيطالية). عامذاك، حاورت الصحيفة الفرنسية المعروفة والعريقة ذات التوجّه اليمينيّ البورجوازيّ "لو فيغارو" مارتن سكورسيزي، وانتقت من أقواله في الحوار مانشيت الصفحة الأولى: "أمّتنا تأسست على القتل"، دالًّا بوضوح على اقتناعه بأنّ المستوطنين الأوروبيين الوافدين من أوروبا إلى أرض الأحلام والثروات، بل إلى "أرض الميعاد" التي سبقت، بروتستانتيًّا على وجه التحديد، الشعار الدوغمائيّ عينه الذي اعتمدته الصهيونية في احتلالها الاستيطانيّ الإحلاليّ لفلسطين التاريخيّة، وهنا وجه الشبه بين العقيدتين اليهودية التوراتيّة الصهيونيّة، والبروتستانتيّة المؤمنة بمقولة "أرض الميعاد" في "العهد القديم"! لكلٍّ "أرض ميعاده"، وعلى ضوء ذلك نفهم عمق التحالف بين بروتستانت أميركا ويهود إسرائيل على القاعدة التوراتية الخرافية.
اليوم، يستكمل سكورسيزي سرديّته التاريخيّة المشهديّة ونظرته إلى تاريخ نشوء ما يسمّى "الولايات المتحدة"، أو "أميركا" اختصارًا، ففي رأيه ويقينه أنّ هذه "الأمة" المتوحشة هي ذات تاريخ ونشأة وحشيّين، بدءًا بقتل السكّان الأصليين لسلبهم أرضهم وثرواتها، ومن ثمّ انتقال الصراع الوحشيّ إلى العلاقة البينيّة بين المجموعات المهاجرة والمستوطنة وتفجّر خلافاتها الدينيّة و"الهويّاتيّة"، وحتى الإثنيّة لاحقًا، مع قدوم مجموعات أخرى من قارّات وأجناس غير أوروبية، مثل الصينيين (شايناتاون)، والأفارقة الذين عانوا ما عانوه في ظلّ العبودية والتمييز العنصريّ على أساس لون البشرة، وهما أمران مستمرّان حتى الساعة، ولم ينطفئا!
مشهديّة سكورسيزي السينمائية الجديدة، شهد مهرجان كانّ الذي تنتهي فعالياته اليوم عرضها الأول بحضور المخرج ونجوم فيلمه الطويل (في نحو أربع ساعات) الذين يتقدّمهم روبرت دو نيرو، وليوناردو دي كابريو، الأثيرين لسكورسيزي منذ عقود، ووقفا مرارًا أمام كاميراه في أدوار متنوّعة. وبهذا الفيلم الذي يحمل عنوان "قَتَلَة زهرة القمر/ Killers of the Flower Moon" (عن كتاب لديفيد غرانّ/ Grann) يستأنف سكورسيزي خطابه السياسيّ الهجائيّ للتاريخ الأميركيّ القائم منذ النشأة على القتل والعنف والعنصريّة الرهيبة، غير متهيّب ردود الفعل، ولا النظرة "الرسميّة" الأميركية إلى ما يُفصح عنه ويكشفه استنادًا إلى الوقائع التاريخيّة، مستفيدًا من هامش حرّية ما تنعم به الولايات المتحدة، كي نكون موضوعيين، فمن غير السهل على السلطات أو الرقابة هناك أن تكمّ فم سينمائيّ حرّ مولود في نيويورك من عائلة إيطالية مهاجرة، أي أميركيّ كامل المواطنة نشأ في نيويورك وما برح مقيمًا فيها وقد بلغ الثمانين من عمره بالتمام والكمال.
عمّ يحكي هذا الشريط السينمائيّ الملحميّ الكبير والطويل؟ إنّه عن حوادث تاريخية تدور في مدينة أوسيدج/ Osage الصغيرة جدًا في شمال شرقي أوكلاهوما في العشرينيات من القرن الفائت. هذه المدينة ضئيلة المساحة (نحو ستة كيلومترات مربعة)، وقليلة السكان (نحو أربعة آلاف نسمة حتى اليوم)، شهدت تاريخيًّا حوادث دامية وعنصريّة جسامًا تزامنت مع ولادة وكالة الاستخبارات الفدرالية FBI، ومع بدء الاستثمارات الكبرى في الثروة النفطية التي تنعم بها المنطقة التي تقع ضمنها تلك المدينة، فضلًا عن نشوء عصابات البيض العنصريّة ضدّ السود وبقايا السكان الأصليين المعروفة باسم كوكلوكس كلان/Ku Klux Klan (تعني "الدائرة" بالأصل اليونانيّ) التي تؤمن بتفوّق الإنسان الأبيض، وتعادي الكاثوليكية، وتستخدم أكثر أساليب العنف والإرهاب توحشًا، قتلًا وتعذيبًا وحرقًا على الصليب، خاصةً في حقّ الأميركيين الأفارقة ذوي البشرة السوداء، واشتهرت بلباسها الأبيض الطويل ذي القمع المروّس الذي يغطي الرأس مع فتحتين للعينين، وشعارها الصليب الأبيض الذي تتوسطه نقطة دم على شكل فاصلة وضمن دائرة حمراء. في هذا المناخ العنصريّ الترهيبيّ، تحدث جرائم قتل بأعداد مقلقة، وفي ظروف مريبة، ما يُرغم جي إدغار هوفر (مؤسّس ال FBI)، وإثر مكالمة استغاثة يائسة من سكان أوسيدج، على إرسال عميل شاب لديه يدعى توم وايت (ليوناردو دي كابريو) مستقيم وغير قابل للفساد، كي يحقّق في تلك الجرائم، ومن هنا تتوالى التطوّرات والمفاجآت وحلقات الفساد المعقّدة والمتشابكة، وفي أساسها النفط والمال والعنصريّة... إلخ، وعلى رأس الأشرار شخصية وليم (بيل) هيلّ التي يؤدّيها روبرت دونيرو، المجرم والجشع للثروة والنفط...
وقف الجمهور في مهرجان كانّ قبل بضعة أيام مصفّقًا تسع دقائق لتحفة سكورسيزي، السينمائيّ المعلّم، الجديدة. مارتن سكورسيزي اسم كبير في السينما الأميركية والعالمية، ينتظر عشّاق السينما أيّ عمل جديد له، هو ابن الثمانين المحتفظ بحيويّة الشباب وصفاء الذهن والحرفة العالية المشهود لها. وها أنا في هذه الإضاءة على ملحمته الكبرى "قَتَلة زهرة القمر" (يا للعنوان الجميل والمعبّر الذي ابتدعه ديفيد غرانّ لروايته الأصل) أقتطف من حوارات متفرّقة مع المخرج بعض الآراء والأفكار المهمّة حول شريطه الأحدث هذا. فعن سبب اختياره هذه القصة التاريخية المؤلمة التي تدور في شكل أساسيّ حول استغلال أفراد قبيلة أوسيدج من أجل السطو على النفط، واللامبالاة التي أظهرتها حكومة الولايات المتحدة التي لم تنفذ القانون، يجيب سكورسيزي: "لفتني في كتاب ديفيد غرانّ التنظيم الواقعي للحوادث (...) تحديدًا التخلّص التدريجيّ من الأوسيدج، وحضّهم على مغادرة أرضهم، وتجريدهم من إنسانيتهم. كانوا ذوي ثقافة على جميع الصعد لا تتلاءم مع النموذج الأوروبي والرأسمالي لناحية المال والملكيّة الخاصة. كان يُقال للأوسيدجيين إمّا تنضمّون إلينا أو ترحلون. انتهى زمنكم. كان الأوروبيّ يفكر: أتينا إلى هذا المكان. أنظر ماذا يفعلون! بعضهم يقتل الجواميس، ويتقاتلون في ما بينهم على مناطق الصيد. لا أحد يملك هذه الأرض. إنّهم لا يدركون، من وجهة النظر الأوروبية، قيمة المال. لذا لا يستطيعون البقاء في هذا العالم".
يرى سكورسيزي أن فيلمه يندرج في نوع genre "الوسترن" (أفلام الغرب البعيد التي اشتهرت تحت تسمية أفلام الكاوبوي، أو رعاة البقر)، وهو النوع الذي نشأ على مشاهدته فتى وشابًا، لكنّه لم يصوّر فيلمًا من نوعه. يقول: "استمتعتُ أنا وإريك (إريك روث، شريكه في كتابة سيناريو الفيلم). إنّه يحتوي على كلّ استعارات سينما الغرب البعيد التي نشأتُ عليها، ومن أجملها أفلام جون فورد، وهوارد هوكس، رغم أن تصوير سكان أميركا الأصليين (المقصود "الهنود الحمر") لم يكن يتمّ بطريقة عادلة ومنصفة. أتذكّر أوّل فيلم وسترن شاهدته "̕مبارزة تحت الشمس/Duel in the Sun " (إنتاج عام 1947، إخراج كينغ فيدور، ووليم ديترلي). كنتُ في سنّ السادسة، وكنتُ أفكّر: لِمَ هم غاضبون جدًا من هؤلاء البشر؟ أي الهنود الأميركيين. أعتقد أنّ الأمر متعلّق بالأجناس أكثر من الأنتروبولوجيا، أو القضايا الاجتماعية. كبرتُ وأنا أشاهد أفلامًا مثل Red River ، حيث يُرغم الأميركيون الأصليون عربات البيض على التحلّق في دائرة، وتقف جوان درو بمواجهتها حاملة القوس النشّاب. هذا المشهد مذهل (...) لكن إحدى المشاكل في هذا النوع السينمائيّ أنّ ما من دور لأميركي أصليّ يؤدّيه أميركيّ أصليّ".
في موقف واضح يعكس نظرة سكورسيزي الإنسانية العميقة إلى تلك المرحلة من تاريخ أميركا الوحشيّ، يقول: "كان هنالك التمييز العرقيّ، وعمليات الإعدام خارج نطاق القانون. لم نكن نعرف كثيرًا عن مسألة القضاء على شعب بأكمله خوفًا من تفوّقه اقتصاديًا، خاصةً أنّه من لون مختلف. إنّها العنصريّة البحتة".
هذا لناحية موضوع الفيلم الذي نتلهّف لمشاهدته (موعد إطلاقه في الصالات العالميّة حُدِّد في الخريف المقبل). أمّا لناحية الممثلين، فلطالما عُرف سكورسيزي بتكوين "عائلة" سينمائية من ممثلين وتقنيين (المونتيرة الثابتة لديه، والتي يمحضها ثقة مطلقة هي Thelma Schoonmaker، شريكته وملهمته في توليف أفلامه بعينها الثاقبة، والتي ينقل عنها، على سبيل المثل، قولها: "أنظر إلى هذا. أنظر إلى حركة العين هنا. أعتقد أنّنا يجب أن نحافظ على هذه اللقطة").
اشتهر سكورسيزي بتعاونه مع توأم روحه ذي الأصول الإيطالية أيضًا، الممثل الهائل روبرت دو نيرو، وفي مرحلة تالية مع ليوناردو دي كابريو، من أصول إيطالية كذلك، وقد كرّر العمل معه مرارًا في العقدين الأخيرين. وها هو في "قتلة زهرة القمر" يجمعهما معًا (سبق أن اجتمعا في فيلم Marvin's Room للمخرج جيري زاكس عام 1997). هو تعاون سكورسيزي العاشر مع دو نيرو، والسادس مع دي كابريو. يوضح سكورسيزي: "هنالك بعض الأشخاص الذين أعمل معهم كثيرًا، إذ أجد نفسي سينمائيًّا هامشيًّا. أشعر بأنني محظوظ بما يكفي في التوصل إلى تحقيق الأفلام التي أنجزتها. وأقصد بسينمائيّ هامشيّ أنني كنت أودّ على مرّ السنين التعاون مع ممثلين آخرين أحبّهم، لكنني لا أتوافق مع فكرة الصناعة السينمائية. حاولت، كنت محظوظًا مع بول نيومان، وتوم كروز. كل شيء كان متناغمًا وصحيحًا. غير أنّني لم أعمل مع بوب (دو نيرو) طوال عشر سنين حتّى تعاوّنا في فيلم Goodfellas. انطلقنا في اتجاهات مختلفة، ثم أنجزنا معا فيلمين، أو ثلاثة أفلام أخرى. ثم انقطعنا تسع عشرة سنة أخرى لم يحصل فيها تعاون. في غضون ذلك، كان هنالك فيلمان مع دانيال داي لويس (Gangs of New York ,The Age of Innocence)، وكنت أرغب لسنوات في العمل مع جاك نيكولسون. ثمة مساحة ارتياح بيني وبين بوب، وهو ليس سهلًا البتة، لكن الارتياح ناجم عن معرفتنا بأننا يمكن أن نصل إلى مكان ما قد لا أكون قادرًا على وصفه (...). ثم جاءت مرحلة ليو (ليوناردو دي كابريو) بالطريقة عينها، بدءًا بـThe Aviator. بعض المشاهد مع كيت بلانشيت أذهلتني. أعتقد أنّها كانت مشاهد جميلة جدًا. وهو تعلّم كثيرًا، على ما قال لي. لعلّه كان فتيًّا ينمو. لديّ بنات، وليس لديّ أبناء. يشبه الأمر الأبوّة على نحو ما".
العالم كلّه، في اتجاهاته الأربعة، شرقًا وغربًا، ينتظر مشاهدة تحفة سكورسيزي الجديدة الخريف المقبل. إنّه سينمائيّ كبير، معلّم، يهوى مشاهدة أفلام السينمائيين الآخرين، قدامى وجددًا، مثلما يتقن صنعها. والأهمّ أنّه يهجو أميركا، تاريخًا وراهنًا، وإن لم يرتقِ في هذا الجانب إلى مستوى هجاء أوليفر ستون. بيد أنّه يوجّه في هذا الإطار سهامًا جارحة إلى أمّة الشرّ هذه التي تأسّست بحسب تعبيره على القتل. وها هو يدلي في "قَتَلة زهرة القمر" بشهادة إضافية في هذا الصدد. فلننتظر بشوق.
٭ناقد وأستاذ جامعيّ من لبنان.
جورج كعدي
سينما
يبلغ سكورسيزي من العمر 80 عامًا (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
عام 2002، أهدانا السينمائيّ المعلّم الكبير مارتن سكورسيزي تحفة من تحفاته الكثيرة تحت عنوان "عصابات نيويورك/ Gangs of New York"، الذي يعيدنا إلى منتصف القرن التاسع عشر، والصراعات الدامية بين مجموعة من المهاجرين الإيطاليين (الذين يتحدّر منهم جدود سكورسيزي نفسه)، ومجموعة أخرى من المستوطنين الأيرلنديين الذين سبقوا أقرانهم إلى أرض "الحلم" والثروات لإبادة سكانها الأصليين المعروفين بـ"الهنود الحمر" (إحدى أكبر المجازر في التاريخ)، وكان الصراع في تلك الحقبة ذا طابع دينيّ مذهبي أيضًا، أي أيرلندي بروتستانتيّ، وإيطاليّ كاثوليكيّ. وتصدّر ملصق الفيلم نجمان كبيران هما دانيال دي لويس (قائدًا للمجموعة الأيرلندية)، وليوناردو دي كابريو (قائدًا للمجموعة الإيطالية). عامذاك، حاورت الصحيفة الفرنسية المعروفة والعريقة ذات التوجّه اليمينيّ البورجوازيّ "لو فيغارو" مارتن سكورسيزي، وانتقت من أقواله في الحوار مانشيت الصفحة الأولى: "أمّتنا تأسست على القتل"، دالًّا بوضوح على اقتناعه بأنّ المستوطنين الأوروبيين الوافدين من أوروبا إلى أرض الأحلام والثروات، بل إلى "أرض الميعاد" التي سبقت، بروتستانتيًّا على وجه التحديد، الشعار الدوغمائيّ عينه الذي اعتمدته الصهيونية في احتلالها الاستيطانيّ الإحلاليّ لفلسطين التاريخيّة، وهنا وجه الشبه بين العقيدتين اليهودية التوراتيّة الصهيونيّة، والبروتستانتيّة المؤمنة بمقولة "أرض الميعاد" في "العهد القديم"! لكلٍّ "أرض ميعاده"، وعلى ضوء ذلك نفهم عمق التحالف بين بروتستانت أميركا ويهود إسرائيل على القاعدة التوراتية الخرافية.
اليوم، يستكمل سكورسيزي سرديّته التاريخيّة المشهديّة ونظرته إلى تاريخ نشوء ما يسمّى "الولايات المتحدة"، أو "أميركا" اختصارًا، ففي رأيه ويقينه أنّ هذه "الأمة" المتوحشة هي ذات تاريخ ونشأة وحشيّين، بدءًا بقتل السكّان الأصليين لسلبهم أرضهم وثرواتها، ومن ثمّ انتقال الصراع الوحشيّ إلى العلاقة البينيّة بين المجموعات المهاجرة والمستوطنة وتفجّر خلافاتها الدينيّة و"الهويّاتيّة"، وحتى الإثنيّة لاحقًا، مع قدوم مجموعات أخرى من قارّات وأجناس غير أوروبية، مثل الصينيين (شايناتاون)، والأفارقة الذين عانوا ما عانوه في ظلّ العبودية والتمييز العنصريّ على أساس لون البشرة، وهما أمران مستمرّان حتى الساعة، ولم ينطفئا!
مشهديّة سكورسيزي السينمائية الجديدة، شهد مهرجان كانّ الذي تنتهي فعالياته اليوم عرضها الأول بحضور المخرج ونجوم فيلمه الطويل (في نحو أربع ساعات) الذين يتقدّمهم روبرت دو نيرو، وليوناردو دي كابريو، الأثيرين لسكورسيزي منذ عقود، ووقفا مرارًا أمام كاميراه في أدوار متنوّعة. وبهذا الفيلم الذي يحمل عنوان "قَتَلَة زهرة القمر/ Killers of the Flower Moon" (عن كتاب لديفيد غرانّ/ Grann) يستأنف سكورسيزي خطابه السياسيّ الهجائيّ للتاريخ الأميركيّ القائم منذ النشأة على القتل والعنف والعنصريّة الرهيبة، غير متهيّب ردود الفعل، ولا النظرة "الرسميّة" الأميركية إلى ما يُفصح عنه ويكشفه استنادًا إلى الوقائع التاريخيّة، مستفيدًا من هامش حرّية ما تنعم به الولايات المتحدة، كي نكون موضوعيين، فمن غير السهل على السلطات أو الرقابة هناك أن تكمّ فم سينمائيّ حرّ مولود في نيويورك من عائلة إيطالية مهاجرة، أي أميركيّ كامل المواطنة نشأ في نيويورك وما برح مقيمًا فيها وقد بلغ الثمانين من عمره بالتمام والكمال.
عمّ يحكي هذا الشريط السينمائيّ الملحميّ الكبير والطويل؟ إنّه عن حوادث تاريخية تدور في مدينة أوسيدج/ Osage الصغيرة جدًا في شمال شرقي أوكلاهوما في العشرينيات من القرن الفائت. هذه المدينة ضئيلة المساحة (نحو ستة كيلومترات مربعة)، وقليلة السكان (نحو أربعة آلاف نسمة حتى اليوم)، شهدت تاريخيًّا حوادث دامية وعنصريّة جسامًا تزامنت مع ولادة وكالة الاستخبارات الفدرالية FBI، ومع بدء الاستثمارات الكبرى في الثروة النفطية التي تنعم بها المنطقة التي تقع ضمنها تلك المدينة، فضلًا عن نشوء عصابات البيض العنصريّة ضدّ السود وبقايا السكان الأصليين المعروفة باسم كوكلوكس كلان/Ku Klux Klan (تعني "الدائرة" بالأصل اليونانيّ) التي تؤمن بتفوّق الإنسان الأبيض، وتعادي الكاثوليكية، وتستخدم أكثر أساليب العنف والإرهاب توحشًا، قتلًا وتعذيبًا وحرقًا على الصليب، خاصةً في حقّ الأميركيين الأفارقة ذوي البشرة السوداء، واشتهرت بلباسها الأبيض الطويل ذي القمع المروّس الذي يغطي الرأس مع فتحتين للعينين، وشعارها الصليب الأبيض الذي تتوسطه نقطة دم على شكل فاصلة وضمن دائرة حمراء. في هذا المناخ العنصريّ الترهيبيّ، تحدث جرائم قتل بأعداد مقلقة، وفي ظروف مريبة، ما يُرغم جي إدغار هوفر (مؤسّس ال FBI)، وإثر مكالمة استغاثة يائسة من سكان أوسيدج، على إرسال عميل شاب لديه يدعى توم وايت (ليوناردو دي كابريو) مستقيم وغير قابل للفساد، كي يحقّق في تلك الجرائم، ومن هنا تتوالى التطوّرات والمفاجآت وحلقات الفساد المعقّدة والمتشابكة، وفي أساسها النفط والمال والعنصريّة... إلخ، وعلى رأس الأشرار شخصية وليم (بيل) هيلّ التي يؤدّيها روبرت دونيرو، المجرم والجشع للثروة والنفط...
وقف الجمهور في مهرجان كانّ قبل بضعة أيام مصفّقًا تسع دقائق لتحفة سكورسيزي، السينمائيّ المعلّم، الجديدة. مارتن سكورسيزي اسم كبير في السينما الأميركية والعالمية، ينتظر عشّاق السينما أيّ عمل جديد له، هو ابن الثمانين المحتفظ بحيويّة الشباب وصفاء الذهن والحرفة العالية المشهود لها. وها أنا في هذه الإضاءة على ملحمته الكبرى "قَتَلة زهرة القمر" (يا للعنوان الجميل والمعبّر الذي ابتدعه ديفيد غرانّ لروايته الأصل) أقتطف من حوارات متفرّقة مع المخرج بعض الآراء والأفكار المهمّة حول شريطه الأحدث هذا. فعن سبب اختياره هذه القصة التاريخية المؤلمة التي تدور في شكل أساسيّ حول استغلال أفراد قبيلة أوسيدج من أجل السطو على النفط، واللامبالاة التي أظهرتها حكومة الولايات المتحدة التي لم تنفذ القانون، يجيب سكورسيزي: "لفتني في كتاب ديفيد غرانّ التنظيم الواقعي للحوادث (...) تحديدًا التخلّص التدريجيّ من الأوسيدج، وحضّهم على مغادرة أرضهم، وتجريدهم من إنسانيتهم. كانوا ذوي ثقافة على جميع الصعد لا تتلاءم مع النموذج الأوروبي والرأسمالي لناحية المال والملكيّة الخاصة. كان يُقال للأوسيدجيين إمّا تنضمّون إلينا أو ترحلون. انتهى زمنكم. كان الأوروبيّ يفكر: أتينا إلى هذا المكان. أنظر ماذا يفعلون! بعضهم يقتل الجواميس، ويتقاتلون في ما بينهم على مناطق الصيد. لا أحد يملك هذه الأرض. إنّهم لا يدركون، من وجهة النظر الأوروبية، قيمة المال. لذا لا يستطيعون البقاء في هذا العالم".
"العالم كلّه، في اتجاهاته الأربعة، شرقًا وغربًا، ينتظر مشاهدة تحفة سكورسيزي الجديدة الخريف المقبل" |
يرى سكورسيزي أن فيلمه يندرج في نوع genre "الوسترن" (أفلام الغرب البعيد التي اشتهرت تحت تسمية أفلام الكاوبوي، أو رعاة البقر)، وهو النوع الذي نشأ على مشاهدته فتى وشابًا، لكنّه لم يصوّر فيلمًا من نوعه. يقول: "استمتعتُ أنا وإريك (إريك روث، شريكه في كتابة سيناريو الفيلم). إنّه يحتوي على كلّ استعارات سينما الغرب البعيد التي نشأتُ عليها، ومن أجملها أفلام جون فورد، وهوارد هوكس، رغم أن تصوير سكان أميركا الأصليين (المقصود "الهنود الحمر") لم يكن يتمّ بطريقة عادلة ومنصفة. أتذكّر أوّل فيلم وسترن شاهدته "̕مبارزة تحت الشمس/Duel in the Sun " (إنتاج عام 1947، إخراج كينغ فيدور، ووليم ديترلي). كنتُ في سنّ السادسة، وكنتُ أفكّر: لِمَ هم غاضبون جدًا من هؤلاء البشر؟ أي الهنود الأميركيين. أعتقد أنّ الأمر متعلّق بالأجناس أكثر من الأنتروبولوجيا، أو القضايا الاجتماعية. كبرتُ وأنا أشاهد أفلامًا مثل Red River ، حيث يُرغم الأميركيون الأصليون عربات البيض على التحلّق في دائرة، وتقف جوان درو بمواجهتها حاملة القوس النشّاب. هذا المشهد مذهل (...) لكن إحدى المشاكل في هذا النوع السينمائيّ أنّ ما من دور لأميركي أصليّ يؤدّيه أميركيّ أصليّ".
في موقف واضح يعكس نظرة سكورسيزي الإنسانية العميقة إلى تلك المرحلة من تاريخ أميركا الوحشيّ، يقول: "كان هنالك التمييز العرقيّ، وعمليات الإعدام خارج نطاق القانون. لم نكن نعرف كثيرًا عن مسألة القضاء على شعب بأكمله خوفًا من تفوّقه اقتصاديًا، خاصةً أنّه من لون مختلف. إنّها العنصريّة البحتة".
هذا لناحية موضوع الفيلم الذي نتلهّف لمشاهدته (موعد إطلاقه في الصالات العالميّة حُدِّد في الخريف المقبل). أمّا لناحية الممثلين، فلطالما عُرف سكورسيزي بتكوين "عائلة" سينمائية من ممثلين وتقنيين (المونتيرة الثابتة لديه، والتي يمحضها ثقة مطلقة هي Thelma Schoonmaker، شريكته وملهمته في توليف أفلامه بعينها الثاقبة، والتي ينقل عنها، على سبيل المثل، قولها: "أنظر إلى هذا. أنظر إلى حركة العين هنا. أعتقد أنّنا يجب أن نحافظ على هذه اللقطة").
اشتهر سكورسيزي بتعاونه مع توأم روحه ذي الأصول الإيطالية أيضًا، الممثل الهائل روبرت دو نيرو، وفي مرحلة تالية مع ليوناردو دي كابريو، من أصول إيطالية كذلك، وقد كرّر العمل معه مرارًا في العقدين الأخيرين. وها هو في "قتلة زهرة القمر" يجمعهما معًا (سبق أن اجتمعا في فيلم Marvin's Room للمخرج جيري زاكس عام 1997). هو تعاون سكورسيزي العاشر مع دو نيرو، والسادس مع دي كابريو. يوضح سكورسيزي: "هنالك بعض الأشخاص الذين أعمل معهم كثيرًا، إذ أجد نفسي سينمائيًّا هامشيًّا. أشعر بأنني محظوظ بما يكفي في التوصل إلى تحقيق الأفلام التي أنجزتها. وأقصد بسينمائيّ هامشيّ أنني كنت أودّ على مرّ السنين التعاون مع ممثلين آخرين أحبّهم، لكنني لا أتوافق مع فكرة الصناعة السينمائية. حاولت، كنت محظوظًا مع بول نيومان، وتوم كروز. كل شيء كان متناغمًا وصحيحًا. غير أنّني لم أعمل مع بوب (دو نيرو) طوال عشر سنين حتّى تعاوّنا في فيلم Goodfellas. انطلقنا في اتجاهات مختلفة، ثم أنجزنا معا فيلمين، أو ثلاثة أفلام أخرى. ثم انقطعنا تسع عشرة سنة أخرى لم يحصل فيها تعاون. في غضون ذلك، كان هنالك فيلمان مع دانيال داي لويس (Gangs of New York ,The Age of Innocence)، وكنت أرغب لسنوات في العمل مع جاك نيكولسون. ثمة مساحة ارتياح بيني وبين بوب، وهو ليس سهلًا البتة، لكن الارتياح ناجم عن معرفتنا بأننا يمكن أن نصل إلى مكان ما قد لا أكون قادرًا على وصفه (...). ثم جاءت مرحلة ليو (ليوناردو دي كابريو) بالطريقة عينها، بدءًا بـThe Aviator. بعض المشاهد مع كيت بلانشيت أذهلتني. أعتقد أنّها كانت مشاهد جميلة جدًا. وهو تعلّم كثيرًا، على ما قال لي. لعلّه كان فتيًّا ينمو. لديّ بنات، وليس لديّ أبناء. يشبه الأمر الأبوّة على نحو ما".
العالم كلّه، في اتجاهاته الأربعة، شرقًا وغربًا، ينتظر مشاهدة تحفة سكورسيزي الجديدة الخريف المقبل. إنّه سينمائيّ كبير، معلّم، يهوى مشاهدة أفلام السينمائيين الآخرين، قدامى وجددًا، مثلما يتقن صنعها. والأهمّ أنّه يهجو أميركا، تاريخًا وراهنًا، وإن لم يرتقِ في هذا الجانب إلى مستوى هجاء أوليفر ستون. بيد أنّه يوجّه في هذا الإطار سهامًا جارحة إلى أمّة الشرّ هذه التي تأسّست بحسب تعبيره على القتل. وها هو يدلي في "قَتَلة زهرة القمر" بشهادة إضافية في هذا الصدد. فلننتظر بشوق.
٭ناقد وأستاذ جامعيّ من لبنان.