الموسيقى في سورية
عثر في المكان المعروف اليوم باسم «تل الحريري» على نتف من أناشيد و قصائد غنائية هي من أقدم ما هو معروف في التراث الثقافي الإنساني، وتتطابق مع أقدم لوحة موسيقية أكدية وجدت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وعلى جوقات من الموسيقيين منحوتة على القدور, وعلى آثار تدل على مدرسة لتعليم الموسيقى, مما يبرهن على عمق اهتمام الإنسان السوري بالغناء والموسيقى منذ عهد السومريين وحتى اليوم، أي منذ أكثر من أربعة آلاف سنة. كذلك الأمر بالنسبة للكنعانيين في أغاريت، إذ كشفت دراسة الآثار والمدونات الموسيقية، والاطلاع على الرُّقم التي تكشفت عن تلك الحضارات من قبل المهتمين في العالم أن السلم الموسيقي والنغمات التي ظهرت في أغاريت مدونة حسب سلم فيثاغورث بالذات، ولكنه مكتوب قبل فيثاغورث بـ 1200 سنة. وقد انتهت دراسة أنشودة العبادة الحورية التي عثر عليها، وشغلت باحثي الآثار والموسيقى، إلى القول بمنطق الأغاريتيين، وهو أن العلاقة بين الدين والموسيقى مختلفة تماماً عن منطق السومريين الذين نحوا نحواً أكثر سمواً. فالأغاريتيون انتهوا إلى أن الآلهة شبيهة بالإنسان، فهي تأكل وتمرح وتتزوج، ولكنها لا تموت. وكان الإنسان الأغاريتي إذا أراد شيئاً من الآلهة، يلجأ إلى الموسيقى باعتبارها محبوبة الآلهة، الأمر الذي يعني أن دخول الموسيقى إلى الدين كان شيئاً نفعياً من أجل الحصول على ما يريده من الآلهة. وكانت الكنّارة أكثر الآلات الموسيقية استعمالاً، وهي آلة شبيهة بالقيثارة [ر]، وكان يصنّع بعضها من الذهب والفضة، ويُحفر عليها تماثيل رائعة، ويطلقون عليها أسماء، ويصفونها على أنها محبوبة الآلهة. و«الكنارة» عبارة عن مستطيل خشبي فيه علبة رنين في الأسفل، وتشتمل على سبعة أوتار. وهناك أنواع منها لها أحد عشر وتراً وأخرى لها خمسة عشر وتراً. وقد استعمل الأغاريتيون والكنعانيون, إضافة إلى الكنارة، الناي [ر]، والعود [ر]، والصنوج [ر. الآلات الموسيقية].
كانت «الحيرة» أول مدينة عربية في الجاهلية يظهر فيها من الآلات الموسيقية غير العود: الجنك والطنبور. وكانت بلاد الشام موطناً للعرب الأنباط الذين امتد نفوذهم حتى«تدمر» إلى أن قضى «تراجان» على دولتهم عام 106م، فانتقلت الزعامة إلى تدمر التي قضى عليها الرومان عام 272م. وبعد سقوط تدمر، بسط الغساسنة القادمون من الجنوب، نفوذهم على الدولة النبطية بمباركة أباطرة بيزنطة، وكان الغساسنة يستقدمون إلى بلاطهم الموسيقيين والمغنين والمغنيات من مكة والحيرة وبيزنطة، وقد وصف الشاعر حسان بن ثابت الذي حضر ليلة طرب من ليالي بلاط الملك الغساني جبلة بن الأيهم الذي حكم ما بين عام 623 وعام 637 ما شاهده: «لقد رأيت عشر قيان، خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط (العيدان), وخمساً يغنين غناء أهل الحيرة، أهداهن إليه «إياس بن قبيصة».
هذا الأمر يؤكد أن العرب في ديار الشام عرفوا الموسيقى والغناء والآلات الموسيقية في جاهليتهم، وأنهم تأثروا بموسيقى الحضارات التي سبقتهم كالحضارة المصرية, والآشورية، واليونانية, والفارسية، وأنهم أخذوا من الموسيقى الفارسية واليونانية والبيزنطية ما يلائم موسيقاهم وغناءهم النابع من بيئتهم وأسلوب حياتهم، واستخدموا من الآلات الموسيقية : العود، والمزهر، والمزمار (الناي), والطنبور، والقضيب (وهو آلة من آلات النقر والإيقاع وضبط الوزن), والصنوج الصغيرة، والمربع (القيثارة), وهي آلة وترية ذات صدر مسطح مربع الشكل, والدف والطبل الذي كان آلة الأسرة المفضلة.
تراجعت صناعة الموسيقى تراجعاً ملموساً في صدر الإسلام والعهد الراشدي (622-661), وإن ظل بعض أعلام الغناء والعزف مثل: الميلاء، وسائب حاشر، وطويس (وهو أول مغنِ في الإسلام) يزاولون الغناء والعزف، وزاوله أيضاً بعض المغنين الذين عاشوا في عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية.
أما في العصر الأموي (661- 750) فقد شهدت صناعة الموسيقى والغناء ازدهاراً كبيراً منذ تولي الوليد بن عبد الملك الخلافة ولغاية سقوط الدولة الأموية في عهد مروان بن محمد (744- 750), وفي العهد الأموي مال عرب الحجاز للألحان الفارسية التي كان يتغنى بها الأسرى الفرس الذين جيء بهم من العراق لتشييد الأبنية في مكة. وأول موسيقي استفاد من هذه الألحان ونسخها أو نقلها وغناها بالعربية كان ابن مسجح الذي لم يكتف بما توصل إليه، فرحل إلى بلاد الشام, وأخذ منها ألحان الروم والنظريات الموسيقية، ثم سافر إلى بلاد فارس فأخذ من موسيقييها أنواع الغناء وأساليب الضرب، وطرح منها ما استهجنه ذوقه العربي، وكذلك فعل بعده تلميذه ابن محرز. وعندما تولى بشر بن مروان (أخو الخليفة عبد الملك بن مروان) ولاية الكوفة خلفاً لخالد بن عبد الله القسري الذي كان قد أصدر أمراً بتحريم الغناء والموسيقى، ألغى هذا الأمر واستدعى حنين الحيري, من بني الحارث, وكان من أشهر المغنين, فأكرمه ورفع من شأنه. وكان الخلفاء الأمويون يغدقون الهبات على كبار الموسيقيين حتى أن سليمان بن عبد الملك قدم جوائز تبلغ عشرين ألف قطعة من الفضة لمباراة بين الموسيقيين في مكة. وجعل الوليد الثاني الجائزة الأولى في مباريات الغناء ثلاثمئة ألف قطعة من الفضة. وقصارى القول إن الموسيقى في العصر الأموي لقيت التأييد غير العلني، إذ كان الولاة يخشون أن ينسب إليهم عدم التدين، ولم ينس بعض المسلمين أن يضعوا الموسيقى في عداد آثام الأمويين. تحقق التقدم في الموسيقى بفضل احتكاك الثقافة العربية بالثقافة الإغريقية الذي نجم عنه تشكيل صوغ جديد للموسيقى. وزاده ألقاً تأثير الآلات الموسيقية المستعملة في بلاد فارس، واستخدامهم للسلم الفيثاغورسي [ر. فيثاغورس] الذي سبق لعرب الحيرة وغسان استخدامه قبل الإسلام، حيث ظل عرب الحجاز محتفظين بالسلم القديم «الطنبور الميزاني»، حتى عهد يزيد الأول. ويتألف السلم الفيثاغورسي من خمسة أبعاد، كل بُعد من هذه الأبعاد درجة صوتية كاملة (نحو 9 كومات Commas)، وبُعدين آخرين كل منهما «ليما» (أربع كومات), وعلى هذا الأساس فإن السلم الفيثاغورسي يتألف من 5 درجات × 9 كوما + 2 ليما × 4= 53 كوما (وحدة صوتية). ومن أشهر الموسيقيين في العهد الأموي ابن سريج, ومعبد, وابن عائشة, ويونس الكاتب, ومالك الطائي, وحكم الوادي الذي احتفظ بمكانته لدى العباسيين أيضاً. وكانت جميلة, وسلامة القس, وحبابة, وسلامة الزرقاء من أبرز مغنيات العصر الأموي. وفي هذا العصر وضع أول كتاب في الموسيقى العربية وعنوانه «كتاب النغم» ليونس الكاتب, كان مرجعاً مهماً للأصفهاني [ر] في كتابه «الأغاني».
إبان ضعف الدولة العباسية، واستقلال الولاة في ولاياتهم عن الدولة العباسية، استولى بنو حمدان بين عامي 929 و944 على شمالي الجزيرة والشام, ورفعوا من شأن حكمهم بأن جعلوا الموصل وحلب مركزين عظيمين من مراكز الحياة الثقافية. وكان سيف الدولة الحمداني 944 -967 شاعراً بليغاً، اجتمع في بلاطه في حلب الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي [ر]، والموسيقي الفيلسوف أبو نصر محمد الفارابي [ر] الذي كان على دراية كبيرة بعلوم اليونان، وموسيقياً ضليعاً يجيد العزف على العود. ألَّف الفارابي كتباً عدة منها: «الموسيقي الكبير», و«كلام في الموسيقى»، و«في إحصاء العلوم» الذي عرض فيه أيضاً للموسيقى. تضمنت هذه الكتب دراسات مستفيضة عن طبيعة الأصوات وتوافقها، وأنواع الأنغام والأوزان والإيقاعات والآلات الموسيقية ، والسلم الموسيقي والدساتين وما إليها. وفكَّر مثل الكندي [ر] الذي سبقه بإضافة الوتر الخامس للعود وسماه نظرياً «الحاد» تمييزاً له عن «الزير», ولكنه لم يطبقه بسبب المعتقدات السائدة، وإليه ينسب اختراع آلة القانون.
دخلت الموسيقى العربية, التي عرفت أوج ازدهارها في العصر العباسي على امتداد رقعة الإمبراطورية، دور الانحطاط والاضمحلال في زمن السلاجقة والدولة الأيوبية والمماليك (1058-1250). ولا يخفى ما كان للاحتلال العثماني لبلاد الشام (1516) والبلاد العربية الأخرى من أثر بالغ في صبغ الموسيقى العربية بالطابع التركي، الأمر الذي ضاعت معه معالم الموسيقى العربية الأصيلة. وقد اهتم سلاطين آل عثمان بالموسيقى, فكانوا يحتفظون في قصورهم بموسيقيين ومغنّين ممتازين جلهم من الفرس واليونان والأتراك والبيزنطيين، فازدهرت موسيقاهم حتى أثرت تأثيراً قوياً في موسيقى شعوب البلقان والبلاد العربية التي كانت خاضعة لهم ومنها بلاد الشام. وكانت النظريات والعلوم الموسيقية التركية هي النظريات ذاتها المطبقة في البلاد العربية وفارس. وقد تأثرت بلاد الشام بالفتلة المولوية التي جاء بها المتصوف جلال الرومي [ر] الذي عاش في قونية، وقام أتباعه بنشر مذهبه الذي يقوم على الموسيقى والغناء في جميع البلاد العربية، وفي كتابه «المثنوي، المأنوي» عرضٌ صافٍ لهذا النوع من التصوف الذي ازدهر في حلب و دمشق حتى صار جميع المشتغلين بالموسيقى من أصحاب الطريقة المولوية، إلى أن جاء السلطان سليم الثالث، وكان موسيقياً موهوباً، فشجع الموسيقيين وأخرجهم من تكايا المولوية إلى قصره قبل أن ينطلقوا في مجال الموسيقى والغناء الدنيوي، فخبت فتلة المولوية في البلاد العربية شيئاً فشيئاً حتى غدت في أيامنا هذه واحدة من الفنون الفولكلورية الأخَّاذة.
الموسيقيون العثمانيون الذين نبغوا وعزفت مؤلفاتهم في بلاد الشام وغيرها: السلطان سليم الثالث، ويوسف باشا، وعثمان الطنبوري، وحاجي عرفي بيك، وطاتيوس. أما المنشدون السوريون من المتصوفة, في القرن الثامن عشر, فقد اشتهر منهم محمد بن السيد عبد القادر الشريف (1688-1756) من الحلقة القادرية، ومحمد بن كوجك علي الحلبي (1694 -1773) الذي كان بواباً بالباب السلطاني وعلى معرفة واسعة بالموسيقى، إذ نظم ولحن موشحات عدة، ومحمد أبو الصفا (1689 -1773) الذي تلقى علوم الموسيقى عن أبيه مصطفى أبي الوفا، ومصطفى بن أبي بكر الحريري الرفاعي الذي أخذ علوم الموسيقى عن الشيخ عبد القادر بن اسكندر المصري, وترأس إنشاد الذكر في جامع العاشورية في حلب، ثم عين رئيساً للإنشاد في الزاوية الهلالية. ومن ألحان الحريري الشهيرة موشح من مقام السيكاه،
أما في القرن التاسع عشر، فقد قامت الحياة الموسيقية في بلاد الشام على فن الموشحة العريق الذي بلغ الأوج على أيدي الفنانين الحلبيين، وعلى فن الأغنية الشعبية التي كانت تستقي مادته من الحياة اليومية، حتى أضحى, بعد أن جُمع وهُذِّب, من تراث الشعب الفولكوري. وتبوأ فن الدور المصري المكانة اللائقة به إلى جانب فنون الغناء الأخرى. أما بالنسبة للموسيقى الآلية [ر. الآلات الموسيقية] فقد سادت فيها صيغ الموسيقى الشرقية (الفارسية- التركية) في التأليف. وإلى جانب الحياة الموسيقية الدنيوية ، ازدهرت حياة أخرى فنية دينية، قوامها الفرق المتصوفة، التي يرجع إليها الفضل في الحفاظ على الموسيقى الشرقية من الضياع. وهذه الفرق وقفت حلقات أذكارها على التغني بالذات الإلهية والمدائح النبوية. وكان فنانو وشيوخ هذه الفرق من المنشدين الذين كانوا في غالبيتهم من أتباع الشاذلية والمولوية والقادرية والرفاعية والنقشبندية وغيرها، من مثل الموسيقي أحمد عقيل (1813- 1903) الذي تلقى الموسيقى على يدي أبيه حتى صار مشهوراً ليغدو المنشد البارز في حلقات الذكر. سافر إلى الأستانة، وتعرف فناني الأتراك الكبار وأخذ عنهم، ومزج ما أخذ بالموسيقى العربية. التقى في حلب بالحامولي [ر] والمنيلاوي وسلامة حجازي [ر]. لحن العقيل عدداً لايستهان به من الموشحات، وإليه يرجع الفضل في ضبط ضروب وأوزان رقص السماح الذي ابتكره عقيل المنبجي، والشيخ محمد الوراق (1828- 1910), ومحمد أبو الهدى الصيادي الرفاعي (1847- 1908), ومحمد سلمو الشاذلي (1856- 1910), وصالح الجذبة (1858- 1922) وغيرهم. وفي هذا الجو الذي سيطرت فيه الطرق الصوفية على الموسيقى والغناء ظهر أنطوان الشوا [ر] الكبير الذي عزف على آلة الفيولاviola [ر. الكمان] أمام إبراهيم باشا الذي حرر بلاد الشام من العثمانيين، وإلياس الشوا كعازف قدير على القانون، وابنه عبود على العود, ثم أنطوان الشوا الحفيد وولداه فاضل وسامي على الكمان, والذين يعود إليهم الفضل في إدخال آلة الكمان الغربية على التخت الشرقي [ر. الفرقة الموسيقية] في بلاد الشام ومصر حتى المغرب العربي. كذلك برع جرجي الراهبة (1875 - 1920) في العزف على آلتي العود والقانون, ومثله سلوم إنجيل الدمشقي (1845 - 1918). وفي عهد إبراهيم باشا ولدت الموشحات والقدود التي تنسب لحلب على يدي الشاعر الحمصي أمين الجندي (1764- 1837). كذلك ظهر أحمد أبو خليل القباني [ر] بمسرحه الغنائي كظاهرة فريدة في الغناء والموسيقى دفعه مجتمع دمشق المحافظ في لحظة يأس إلى الرحيل عن ديار الشام إلى مصر. ومنذ رحيل القباني شهدت ديار الشام هجرة جل مبدعيها، وكان يوسف الخياط, وسليمان قرداحي من أوائل النازحين من محترفي العمل المسرحي، ثم تبعهما عدد كبير من الموسيقيين منهم من أقام في مصر، ومنهم من آثر العودة, وأول هؤلاء عمر الجراح (1853- 1921) الذي كان يجيد العزف على آلتي العود والقانون، وحسن الساعاتي (1858- 1933) عازف القانون المعروف، وأمين الأصيل (1860 - 1935), وعبد الله أبو حرب (1836- 1908) أمهر ضارب إيقاع الذي سافر إلى الآستانة وحلَ ضيفاً على أحمد عزت باشا العابد، وعند عودته عمل مع أبي خليل القباني، ثم مع فرقة عمر الجراح، قبل أن يسافر إلى مصر، وكان من راقصي السماح [ر. الإنشاد الديني] المبدعين، وعبد الرزاق العش (1862- 1936), وحسن شاشيط (1861 - 1916) الذي غنى أمام الخديوي توفيق. وشهدت القاهرة منذ أواخر القرن التاسع عشر والعقد الثاني من القرن العشرين غزواً مركزاً قوامه مشاهير الممثلين والموسيقيين السوريين, ومن هؤلاء كميل شمبير [ر] الذي فشل في فرض آلة البيانو في بلاد الشام وتمكن من ذلك في مصر، وتوفيق الصباغ [ر] الذي لم يستطع التعايش مع الوسط الفني المصري، فعاد عام 1923 إلى مسقط رأسه حلب، وجميل عويس [ر] الذي دوّن مؤلفات سيد درويش وترأس فرقة محمد عبد الوهاب [ر] مدة عشر سنوات.
شهدت سورية منذ بدايات القرن العشرين نهضة موسيقية حقيقية بفضل الأندية الموسيقية, إذ استطاعت هذه الأندية تحقيق وجودها على الرغم من الصعوبات التي واجهتها بسبب عوامل مختلفة يأتي في مقدمتها المعتقد الديني والاجتماعي. وكان جل أعضاء هذه الأندية من البرجوازيين المثقفين. ويعد الموسيقي الراحل شفيق شبيب [ر] أول من أسس في دمشق نادٍ للموسيقى عام 1914 باسم نادي الموسيقى الشرقي. وفي أعقاب الثورة السورية على المستعمر الفرنسي (1925- 1927) أسس المرحوم توفيق فتح الله الصباغ [ر] نادياً آخر عام 1927 جمع فيه صفوف الموسيقيين, فوحد كلمتهم ودافع عن حقوقهم. وفي العام ذاته، تأسس نادي الكشافة الذي عني بالتمثيل أكثر من عنايته بالموسيقى، ومن هذا النادي انبثق عدد من الأندية التي عنيت بالتمثيل والموسيقى على حدٍ سواء, وكان من أبرزها نادي (الآداب والفنون), و(نادي الفنون الجميلة) اللذين حفلا بكبار الفنانين من موسيقيين وممثلين من مثل: توفيق العطري، وعبد الوهاب أبو السعود، ووصفي المالح، ورجب خلقي، ورشاد أبو السعود، ومصطفى هلال [ر]، وممتاز الركابي. ثم نادي الموسيقى الوطنية الذي أسسه الراحل مصطفى الصواف [ر]، ونادي الفارابي الذي ضم بين أعضائه مطيع ونصوح الكيلاني وعثمان قطرية، ومعهد أصدقاء الفنون الذي جمع نخبة من الموسيقيين من مثل: عدنان الركابي، وعصمت ونجدت طلعت، وشمس الجندي، ومحمد ويحيى النحاس، وكامل القدسي [ر]، وحسني الحريري، ونادي دار الألحان وضم هشام الشمعة [ر], وشكري شوقي، ونادي دمشق وضم أشهر العازفين والمطربين من مثل: تيسير عقيل، ورفيق شكري [ر]، وفؤاد محفوظ [ر]، وصبحي سعيد، وعمر النقشبندي [ر]، وآخرون.
وقامت في حلب أيضاً أندية ومعاهد عدة من أشهرها «نادي الصنائع النفيسة» و«نادي حلب الموسيقي» و«نادي الشهباء الفني» و«نادي العروبة للآداب والفنون» و«نادي الجمعية الأرمنية» و«النادي الكاتوليكي», وكان الشيخ علي الدرويش[ر], والشيخ عمر البطش[ر], وأحمد الأوبري, وكميل شمبير, وسعد الدين القدسي, ومنيب النقشبندي, ورشيد مامللي, وممدوح الجابري, وعمر أبو ريشة [ر], ومجدي العقيلي [ر] من أبرز أعضاء هذه الأندية.
أما باقي المدن السورية فكانت تفتقر إلى أندية موسيقية تجمع شمل مبدعيها باستثناء مدينة حمص التي زهت طويلاً بناديها الشهير «دوحة الديماس» الذي دعي إلى افتتاحه في العام 1934 الشيخ علي الدرويش, ومدينة اللاذقية التي ترأس النادي الموسيقي فيها محمود العجان.
ظلت مناهج التدريس والعزف على الآلات الموسيقية وقفاً على المعاهد والأندية الموسيقية الخاصة. وكانت هذه المناهج تختلف من نادٍ إلى نادٍ ومن مدرس إلى مدرس وتخلو من فروق تذكر بين منهج وآخر, وتعد جميعاً من المناهج الارتجالية، لأنها تُعلِّم العزف كيفما اتفق, ولا تخلق عازفاً مبدعاً. ولم تتدخل الدولة رسمياً في إقرار المناهج الموسيقية الرسمية التي يجب العمل بها إلا عندما أسست المعهد الموسيقي الرسمي الأول عام 1943.
أخذت معظم الأندية الموسيقية بالأساليب الفارسية- التركية في العزف والغناء بدعوى أنها الوريثة للتركة الموسيقية العثمانية. غير أن جيل الأربعينيات والخمسينيات من الموسيقيين استطاع التحرر من الأساليب التركية, والتوفيق بين الموروث والتجديد.
كان واقع الغناء في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات أفضل حالاً من واقع العزف على الآلات الموسيقية. والخلافات التي قامت حول أساليب العزف، لم يعرفها الغناء والتلحين, إذ اتخذ الغناء مساراً واضحاً بالنسبة للتراث, فحافظ أقطاب الموسيقى على الموشحات والأدوار والغناء الشعبي(الفولكلور)، وعملوا في الوقت ذاته على الارتقاء بفن القصيدة، وتمكنت الطقطوقة كأغنية عاطفية خفيفة مع الألوان الغنائية الأخرى المشابهة لها من الوقوف أمام الأساليب التركية والغجرية السائدة. كذلك اغتنى الغناء العربي عامة بفن الأغنية الأوربية في المونولوغ الرومنسي، والمونولوغ الاجتماعي الانتقادي، وبفن الديالوغ (الحواري)، وفن الأغنية الذي قام على الإيقاعات الغربية الراقصة ذات الأصول الفولكلورية من مثل (التانغوTango ) الأرجنتيني، و(الرومبا Rumba) الكوبية, و(السامبا Samba) البرازيلية، و(الفالس النمساوي waltz), و(البوليروBolero ) الإسباني، وبدا الغناء من خلال هذه الألوان في صحة طيبة وإن غاب الطرب والتطريب عن بعض هذه الألحان.
المعاهد الموسيقية
المعهد الموسيقي الشرقي الأول: في عهد الرئيس تاج الدين الحسني، أُسِّست وزارة للشباب وأُسندت للدكتور منير العجلاني. وكان من جملة نشاطات هذه الوزارة تأسيس المعهد الشرقي كي يدعم الموسيقى والأندية والمعاهد الموسيقية في البلاد، وقد عمل في هذا المعهد منذ تأسيسه عام 1943 نخبة من الموسيقيين ولكنه لم يستمر, وأَغلق أبوابه بعد عامين فقط.
المعهد الموسيقي الرسمي الثاني: استطاع نائب دمشق فخري البارودي [ر], وكان من محبي الآداب والموسيقى, انتزاع موافقة المجلس النيابي بتأسيس أول معهد رسمي يتبع وزارة المعارف (التربية) باسم المعهد الموسيقي، وكان ذلك في العام 1947 بعد الجلاء بعام واحد. وأسندت إدارته إلى الموجه التربوي إحسان البزرة .وفي العام 1949 ألغى المجلس النيابي مخصصات هذا المعهد وأغلق. في العام 1950 صدر مرسوم جمهوري رقم 846 نص على تأسيس المعهد الموسيقي الشرقي في دمشق .افتتح المعهد رسمياً في 15/3/1951, واستمر في عمله مدة ثماني سنوات، تعاقب عليه أربعة مديرين، وتقرر إغلاقه عام 1959 بعد إعلان الوحدة بين سورية ومصر.
المعهد العربي للموسيقى: تأسس المعهد العربي للموسيقى (معهد صلحي الوادي اليوم)، التابع لوزارة الثقافة عام 1960، وباشر عمله وفق أحدث الطرق المتبعة في المعاهد الموسيقية في العالم بالنسبة للمرحلة الابتدائية, ومازال يعمل حتى اليوم.
الفرق الموسيقية: في العام 1961 تنادى الموسيقيون إلى تأسيس فرقة موسيقية كبيرة بقيادة سليم سروة باسم فرقة اتحاد الفنانين. وفي العام 1962 تأسست فرقة الفجر الموسيقية بقيادة أمين الخياط، وأسس التلفزيون العربي السوري أيضاً فرقة خاصة به بقيادة إبراهيم عبد العال. وفي العام 1967 ولدت أول فرقة لموسيقى الحجرة بقيادة صلحي الوادي.
المهرجانات الموسيقية: يعد مهرجان المحبة السنوي الذي تشرف عليه وزارة الثقافة منذ إنشائه عام 1988 من أهم المهرجانات الموسيقية, ويقام هذا المهرجان في اللاذقية, ويشارك فيه أعلام الموسيقى والغناء في سورية والوطن العربي.
- مهرجان نقابة المعلمين الخاص بمعلمي الموسيقى في سورية, ويقام في دمشق كل عام.
- مهرجان الأغنية السورية في حلب الذي يقام سنوياً بإشراف الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون, وقد اتخذ شعاراً له (أورنينا), راقصة المعبد السومرية, منذ ولادته عام 1994.
المعهد العالي للموسيقى:في السادس عشر من تشرين الثاني عام 1990 أصدر الرئيس الراحل حافظ الأسد القانون رقم 82 لعام 1990 المتضمن إحداث المعهد العالي للموسيقى, وقد أنيطت عمادته للمايسترو صلحي الوادي الذي عمل من خلال هذا المعهد والمعهد العربي للموسيقى ومعهد الباليه على الارتقاء بمستوى الموسيقى السورية والموسيقيين السوريين.
الفرقة السمفونية الوطنية: برعاية سامية من الرئيس الراحل حافظ الأسد تم إحداث الفرقة الوطنية السمفونية عام 1992 من خمسة وثمانين عازفاً, وقدمت الفرقة باكورة إنتاجها في كانون الثاني 1993 على مسرح قصر المؤتمرات, وبلغ عدد الحفلات التي قدمتها على مدى تألقها بقيادة صلحي الوادي خلال عشر سنوات أربعين حفلة موسيقية.
فرقة زرياب: في عام 2001 أسس فرقة زرياب الموسيقية رعد خلف, عازف الكمان الأول في الفرقة السمفونية، وكان هدف تأسيسها إحياء التراث العربي الزاخر بالإبداعات بلغة عصرية. وتتميز الفرقة بتقديم مشهدية بصرية وسمعية كاملة من وراء اهتمامها بالسينوغرافيا التي تعني الرؤية الكاملة لكل ما يتضمنه المسرح حتى السينما إذا استخدمت فيه وتصنيعها للآلات القديمة كي ترقى بالجمهور إلى العمق الحضاري.
صميم الشريف
عثر في المكان المعروف اليوم باسم «تل الحريري» على نتف من أناشيد و قصائد غنائية هي من أقدم ما هو معروف في التراث الثقافي الإنساني، وتتطابق مع أقدم لوحة موسيقية أكدية وجدت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وعلى جوقات من الموسيقيين منحوتة على القدور, وعلى آثار تدل على مدرسة لتعليم الموسيقى, مما يبرهن على عمق اهتمام الإنسان السوري بالغناء والموسيقى منذ عهد السومريين وحتى اليوم، أي منذ أكثر من أربعة آلاف سنة. كذلك الأمر بالنسبة للكنعانيين في أغاريت، إذ كشفت دراسة الآثار والمدونات الموسيقية، والاطلاع على الرُّقم التي تكشفت عن تلك الحضارات من قبل المهتمين في العالم أن السلم الموسيقي والنغمات التي ظهرت في أغاريت مدونة حسب سلم فيثاغورث بالذات، ولكنه مكتوب قبل فيثاغورث بـ 1200 سنة. وقد انتهت دراسة أنشودة العبادة الحورية التي عثر عليها، وشغلت باحثي الآثار والموسيقى، إلى القول بمنطق الأغاريتيين، وهو أن العلاقة بين الدين والموسيقى مختلفة تماماً عن منطق السومريين الذين نحوا نحواً أكثر سمواً. فالأغاريتيون انتهوا إلى أن الآلهة شبيهة بالإنسان، فهي تأكل وتمرح وتتزوج، ولكنها لا تموت. وكان الإنسان الأغاريتي إذا أراد شيئاً من الآلهة، يلجأ إلى الموسيقى باعتبارها محبوبة الآلهة، الأمر الذي يعني أن دخول الموسيقى إلى الدين كان شيئاً نفعياً من أجل الحصول على ما يريده من الآلهة. وكانت الكنّارة أكثر الآلات الموسيقية استعمالاً، وهي آلة شبيهة بالقيثارة [ر]، وكان يصنّع بعضها من الذهب والفضة، ويُحفر عليها تماثيل رائعة، ويطلقون عليها أسماء، ويصفونها على أنها محبوبة الآلهة. و«الكنارة» عبارة عن مستطيل خشبي فيه علبة رنين في الأسفل، وتشتمل على سبعة أوتار. وهناك أنواع منها لها أحد عشر وتراً وأخرى لها خمسة عشر وتراً. وقد استعمل الأغاريتيون والكنعانيون, إضافة إلى الكنارة، الناي [ر]، والعود [ر]، والصنوج [ر. الآلات الموسيقية].
كانت «الحيرة» أول مدينة عربية في الجاهلية يظهر فيها من الآلات الموسيقية غير العود: الجنك والطنبور. وكانت بلاد الشام موطناً للعرب الأنباط الذين امتد نفوذهم حتى«تدمر» إلى أن قضى «تراجان» على دولتهم عام 106م، فانتقلت الزعامة إلى تدمر التي قضى عليها الرومان عام 272م. وبعد سقوط تدمر، بسط الغساسنة القادمون من الجنوب، نفوذهم على الدولة النبطية بمباركة أباطرة بيزنطة، وكان الغساسنة يستقدمون إلى بلاطهم الموسيقيين والمغنين والمغنيات من مكة والحيرة وبيزنطة، وقد وصف الشاعر حسان بن ثابت الذي حضر ليلة طرب من ليالي بلاط الملك الغساني جبلة بن الأيهم الذي حكم ما بين عام 623 وعام 637 ما شاهده: «لقد رأيت عشر قيان، خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط (العيدان), وخمساً يغنين غناء أهل الحيرة، أهداهن إليه «إياس بن قبيصة».
هذا الأمر يؤكد أن العرب في ديار الشام عرفوا الموسيقى والغناء والآلات الموسيقية في جاهليتهم، وأنهم تأثروا بموسيقى الحضارات التي سبقتهم كالحضارة المصرية, والآشورية، واليونانية, والفارسية، وأنهم أخذوا من الموسيقى الفارسية واليونانية والبيزنطية ما يلائم موسيقاهم وغناءهم النابع من بيئتهم وأسلوب حياتهم، واستخدموا من الآلات الموسيقية : العود، والمزهر، والمزمار (الناي), والطنبور، والقضيب (وهو آلة من آلات النقر والإيقاع وضبط الوزن), والصنوج الصغيرة، والمربع (القيثارة), وهي آلة وترية ذات صدر مسطح مربع الشكل, والدف والطبل الذي كان آلة الأسرة المفضلة.
تراجعت صناعة الموسيقى تراجعاً ملموساً في صدر الإسلام والعهد الراشدي (622-661), وإن ظل بعض أعلام الغناء والعزف مثل: الميلاء، وسائب حاشر، وطويس (وهو أول مغنِ في الإسلام) يزاولون الغناء والعزف، وزاوله أيضاً بعض المغنين الذين عاشوا في عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية.
أما في العصر الأموي (661- 750) فقد شهدت صناعة الموسيقى والغناء ازدهاراً كبيراً منذ تولي الوليد بن عبد الملك الخلافة ولغاية سقوط الدولة الأموية في عهد مروان بن محمد (744- 750), وفي العهد الأموي مال عرب الحجاز للألحان الفارسية التي كان يتغنى بها الأسرى الفرس الذين جيء بهم من العراق لتشييد الأبنية في مكة. وأول موسيقي استفاد من هذه الألحان ونسخها أو نقلها وغناها بالعربية كان ابن مسجح الذي لم يكتف بما توصل إليه، فرحل إلى بلاد الشام, وأخذ منها ألحان الروم والنظريات الموسيقية، ثم سافر إلى بلاد فارس فأخذ من موسيقييها أنواع الغناء وأساليب الضرب، وطرح منها ما استهجنه ذوقه العربي، وكذلك فعل بعده تلميذه ابن محرز. وعندما تولى بشر بن مروان (أخو الخليفة عبد الملك بن مروان) ولاية الكوفة خلفاً لخالد بن عبد الله القسري الذي كان قد أصدر أمراً بتحريم الغناء والموسيقى، ألغى هذا الأمر واستدعى حنين الحيري, من بني الحارث, وكان من أشهر المغنين, فأكرمه ورفع من شأنه. وكان الخلفاء الأمويون يغدقون الهبات على كبار الموسيقيين حتى أن سليمان بن عبد الملك قدم جوائز تبلغ عشرين ألف قطعة من الفضة لمباراة بين الموسيقيين في مكة. وجعل الوليد الثاني الجائزة الأولى في مباريات الغناء ثلاثمئة ألف قطعة من الفضة. وقصارى القول إن الموسيقى في العصر الأموي لقيت التأييد غير العلني، إذ كان الولاة يخشون أن ينسب إليهم عدم التدين، ولم ينس بعض المسلمين أن يضعوا الموسيقى في عداد آثام الأمويين. تحقق التقدم في الموسيقى بفضل احتكاك الثقافة العربية بالثقافة الإغريقية الذي نجم عنه تشكيل صوغ جديد للموسيقى. وزاده ألقاً تأثير الآلات الموسيقية المستعملة في بلاد فارس، واستخدامهم للسلم الفيثاغورسي [ر. فيثاغورس] الذي سبق لعرب الحيرة وغسان استخدامه قبل الإسلام، حيث ظل عرب الحجاز محتفظين بالسلم القديم «الطنبور الميزاني»، حتى عهد يزيد الأول. ويتألف السلم الفيثاغورسي من خمسة أبعاد، كل بُعد من هذه الأبعاد درجة صوتية كاملة (نحو 9 كومات Commas)، وبُعدين آخرين كل منهما «ليما» (أربع كومات), وعلى هذا الأساس فإن السلم الفيثاغورسي يتألف من 5 درجات × 9 كوما + 2 ليما × 4= 53 كوما (وحدة صوتية). ومن أشهر الموسيقيين في العهد الأموي ابن سريج, ومعبد, وابن عائشة, ويونس الكاتب, ومالك الطائي, وحكم الوادي الذي احتفظ بمكانته لدى العباسيين أيضاً. وكانت جميلة, وسلامة القس, وحبابة, وسلامة الزرقاء من أبرز مغنيات العصر الأموي. وفي هذا العصر وضع أول كتاب في الموسيقى العربية وعنوانه «كتاب النغم» ليونس الكاتب, كان مرجعاً مهماً للأصفهاني [ر] في كتابه «الأغاني».
إبان ضعف الدولة العباسية، واستقلال الولاة في ولاياتهم عن الدولة العباسية، استولى بنو حمدان بين عامي 929 و944 على شمالي الجزيرة والشام, ورفعوا من شأن حكمهم بأن جعلوا الموصل وحلب مركزين عظيمين من مراكز الحياة الثقافية. وكان سيف الدولة الحمداني 944 -967 شاعراً بليغاً، اجتمع في بلاطه في حلب الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي [ر]، والموسيقي الفيلسوف أبو نصر محمد الفارابي [ر] الذي كان على دراية كبيرة بعلوم اليونان، وموسيقياً ضليعاً يجيد العزف على العود. ألَّف الفارابي كتباً عدة منها: «الموسيقي الكبير», و«كلام في الموسيقى»، و«في إحصاء العلوم» الذي عرض فيه أيضاً للموسيقى. تضمنت هذه الكتب دراسات مستفيضة عن طبيعة الأصوات وتوافقها، وأنواع الأنغام والأوزان والإيقاعات والآلات الموسيقية ، والسلم الموسيقي والدساتين وما إليها. وفكَّر مثل الكندي [ر] الذي سبقه بإضافة الوتر الخامس للعود وسماه نظرياً «الحاد» تمييزاً له عن «الزير», ولكنه لم يطبقه بسبب المعتقدات السائدة، وإليه ينسب اختراع آلة القانون.
دخلت الموسيقى العربية, التي عرفت أوج ازدهارها في العصر العباسي على امتداد رقعة الإمبراطورية، دور الانحطاط والاضمحلال في زمن السلاجقة والدولة الأيوبية والمماليك (1058-1250). ولا يخفى ما كان للاحتلال العثماني لبلاد الشام (1516) والبلاد العربية الأخرى من أثر بالغ في صبغ الموسيقى العربية بالطابع التركي، الأمر الذي ضاعت معه معالم الموسيقى العربية الأصيلة. وقد اهتم سلاطين آل عثمان بالموسيقى, فكانوا يحتفظون في قصورهم بموسيقيين ومغنّين ممتازين جلهم من الفرس واليونان والأتراك والبيزنطيين، فازدهرت موسيقاهم حتى أثرت تأثيراً قوياً في موسيقى شعوب البلقان والبلاد العربية التي كانت خاضعة لهم ومنها بلاد الشام. وكانت النظريات والعلوم الموسيقية التركية هي النظريات ذاتها المطبقة في البلاد العربية وفارس. وقد تأثرت بلاد الشام بالفتلة المولوية التي جاء بها المتصوف جلال الرومي [ر] الذي عاش في قونية، وقام أتباعه بنشر مذهبه الذي يقوم على الموسيقى والغناء في جميع البلاد العربية، وفي كتابه «المثنوي، المأنوي» عرضٌ صافٍ لهذا النوع من التصوف الذي ازدهر في حلب و دمشق حتى صار جميع المشتغلين بالموسيقى من أصحاب الطريقة المولوية، إلى أن جاء السلطان سليم الثالث، وكان موسيقياً موهوباً، فشجع الموسيقيين وأخرجهم من تكايا المولوية إلى قصره قبل أن ينطلقوا في مجال الموسيقى والغناء الدنيوي، فخبت فتلة المولوية في البلاد العربية شيئاً فشيئاً حتى غدت في أيامنا هذه واحدة من الفنون الفولكلورية الأخَّاذة.
الموسيقيون العثمانيون الذين نبغوا وعزفت مؤلفاتهم في بلاد الشام وغيرها: السلطان سليم الثالث، ويوسف باشا، وعثمان الطنبوري، وحاجي عرفي بيك، وطاتيوس. أما المنشدون السوريون من المتصوفة, في القرن الثامن عشر, فقد اشتهر منهم محمد بن السيد عبد القادر الشريف (1688-1756) من الحلقة القادرية، ومحمد بن كوجك علي الحلبي (1694 -1773) الذي كان بواباً بالباب السلطاني وعلى معرفة واسعة بالموسيقى، إذ نظم ولحن موشحات عدة، ومحمد أبو الصفا (1689 -1773) الذي تلقى علوم الموسيقى عن أبيه مصطفى أبي الوفا، ومصطفى بن أبي بكر الحريري الرفاعي الذي أخذ علوم الموسيقى عن الشيخ عبد القادر بن اسكندر المصري, وترأس إنشاد الذكر في جامع العاشورية في حلب، ثم عين رئيساً للإنشاد في الزاوية الهلالية. ومن ألحان الحريري الشهيرة موشح من مقام السيكاه،
ما زال يرشف من خمر الطلا قمر | ||
حتى غدا ثملاً ما فيه من رمق |
شهدت سورية منذ بدايات القرن العشرين نهضة موسيقية حقيقية بفضل الأندية الموسيقية, إذ استطاعت هذه الأندية تحقيق وجودها على الرغم من الصعوبات التي واجهتها بسبب عوامل مختلفة يأتي في مقدمتها المعتقد الديني والاجتماعي. وكان جل أعضاء هذه الأندية من البرجوازيين المثقفين. ويعد الموسيقي الراحل شفيق شبيب [ر] أول من أسس في دمشق نادٍ للموسيقى عام 1914 باسم نادي الموسيقى الشرقي. وفي أعقاب الثورة السورية على المستعمر الفرنسي (1925- 1927) أسس المرحوم توفيق فتح الله الصباغ [ر] نادياً آخر عام 1927 جمع فيه صفوف الموسيقيين, فوحد كلمتهم ودافع عن حقوقهم. وفي العام ذاته، تأسس نادي الكشافة الذي عني بالتمثيل أكثر من عنايته بالموسيقى، ومن هذا النادي انبثق عدد من الأندية التي عنيت بالتمثيل والموسيقى على حدٍ سواء, وكان من أبرزها نادي (الآداب والفنون), و(نادي الفنون الجميلة) اللذين حفلا بكبار الفنانين من موسيقيين وممثلين من مثل: توفيق العطري، وعبد الوهاب أبو السعود، ووصفي المالح، ورجب خلقي، ورشاد أبو السعود، ومصطفى هلال [ر]، وممتاز الركابي. ثم نادي الموسيقى الوطنية الذي أسسه الراحل مصطفى الصواف [ر]، ونادي الفارابي الذي ضم بين أعضائه مطيع ونصوح الكيلاني وعثمان قطرية، ومعهد أصدقاء الفنون الذي جمع نخبة من الموسيقيين من مثل: عدنان الركابي، وعصمت ونجدت طلعت، وشمس الجندي، ومحمد ويحيى النحاس، وكامل القدسي [ر]، وحسني الحريري، ونادي دار الألحان وضم هشام الشمعة [ر], وشكري شوقي، ونادي دمشق وضم أشهر العازفين والمطربين من مثل: تيسير عقيل، ورفيق شكري [ر]، وفؤاد محفوظ [ر]، وصبحي سعيد، وعمر النقشبندي [ر]، وآخرون.
وقامت في حلب أيضاً أندية ومعاهد عدة من أشهرها «نادي الصنائع النفيسة» و«نادي حلب الموسيقي» و«نادي الشهباء الفني» و«نادي العروبة للآداب والفنون» و«نادي الجمعية الأرمنية» و«النادي الكاتوليكي», وكان الشيخ علي الدرويش[ر], والشيخ عمر البطش[ر], وأحمد الأوبري, وكميل شمبير, وسعد الدين القدسي, ومنيب النقشبندي, ورشيد مامللي, وممدوح الجابري, وعمر أبو ريشة [ر], ومجدي العقيلي [ر] من أبرز أعضاء هذه الأندية.
أما باقي المدن السورية فكانت تفتقر إلى أندية موسيقية تجمع شمل مبدعيها باستثناء مدينة حمص التي زهت طويلاً بناديها الشهير «دوحة الديماس» الذي دعي إلى افتتاحه في العام 1934 الشيخ علي الدرويش, ومدينة اللاذقية التي ترأس النادي الموسيقي فيها محمود العجان.
ظلت مناهج التدريس والعزف على الآلات الموسيقية وقفاً على المعاهد والأندية الموسيقية الخاصة. وكانت هذه المناهج تختلف من نادٍ إلى نادٍ ومن مدرس إلى مدرس وتخلو من فروق تذكر بين منهج وآخر, وتعد جميعاً من المناهج الارتجالية، لأنها تُعلِّم العزف كيفما اتفق, ولا تخلق عازفاً مبدعاً. ولم تتدخل الدولة رسمياً في إقرار المناهج الموسيقية الرسمية التي يجب العمل بها إلا عندما أسست المعهد الموسيقي الرسمي الأول عام 1943.
أخذت معظم الأندية الموسيقية بالأساليب الفارسية- التركية في العزف والغناء بدعوى أنها الوريثة للتركة الموسيقية العثمانية. غير أن جيل الأربعينيات والخمسينيات من الموسيقيين استطاع التحرر من الأساليب التركية, والتوفيق بين الموروث والتجديد.
كان واقع الغناء في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات أفضل حالاً من واقع العزف على الآلات الموسيقية. والخلافات التي قامت حول أساليب العزف، لم يعرفها الغناء والتلحين, إذ اتخذ الغناء مساراً واضحاً بالنسبة للتراث, فحافظ أقطاب الموسيقى على الموشحات والأدوار والغناء الشعبي(الفولكلور)، وعملوا في الوقت ذاته على الارتقاء بفن القصيدة، وتمكنت الطقطوقة كأغنية عاطفية خفيفة مع الألوان الغنائية الأخرى المشابهة لها من الوقوف أمام الأساليب التركية والغجرية السائدة. كذلك اغتنى الغناء العربي عامة بفن الأغنية الأوربية في المونولوغ الرومنسي، والمونولوغ الاجتماعي الانتقادي، وبفن الديالوغ (الحواري)، وفن الأغنية الذي قام على الإيقاعات الغربية الراقصة ذات الأصول الفولكلورية من مثل (التانغوTango ) الأرجنتيني، و(الرومبا Rumba) الكوبية, و(السامبا Samba) البرازيلية، و(الفالس النمساوي waltz), و(البوليروBolero ) الإسباني، وبدا الغناء من خلال هذه الألوان في صحة طيبة وإن غاب الطرب والتطريب عن بعض هذه الألحان.
المعاهد الموسيقية
المعهد الموسيقي الشرقي الأول: في عهد الرئيس تاج الدين الحسني، أُسِّست وزارة للشباب وأُسندت للدكتور منير العجلاني. وكان من جملة نشاطات هذه الوزارة تأسيس المعهد الشرقي كي يدعم الموسيقى والأندية والمعاهد الموسيقية في البلاد، وقد عمل في هذا المعهد منذ تأسيسه عام 1943 نخبة من الموسيقيين ولكنه لم يستمر, وأَغلق أبوابه بعد عامين فقط.
المعهد الموسيقي الرسمي الثاني: استطاع نائب دمشق فخري البارودي [ر], وكان من محبي الآداب والموسيقى, انتزاع موافقة المجلس النيابي بتأسيس أول معهد رسمي يتبع وزارة المعارف (التربية) باسم المعهد الموسيقي، وكان ذلك في العام 1947 بعد الجلاء بعام واحد. وأسندت إدارته إلى الموجه التربوي إحسان البزرة .وفي العام 1949 ألغى المجلس النيابي مخصصات هذا المعهد وأغلق. في العام 1950 صدر مرسوم جمهوري رقم 846 نص على تأسيس المعهد الموسيقي الشرقي في دمشق .افتتح المعهد رسمياً في 15/3/1951, واستمر في عمله مدة ثماني سنوات، تعاقب عليه أربعة مديرين، وتقرر إغلاقه عام 1959 بعد إعلان الوحدة بين سورية ومصر.
المعهد العربي للموسيقى: تأسس المعهد العربي للموسيقى (معهد صلحي الوادي اليوم)، التابع لوزارة الثقافة عام 1960، وباشر عمله وفق أحدث الطرق المتبعة في المعاهد الموسيقية في العالم بالنسبة للمرحلة الابتدائية, ومازال يعمل حتى اليوم.
الفرق الموسيقية: في العام 1961 تنادى الموسيقيون إلى تأسيس فرقة موسيقية كبيرة بقيادة سليم سروة باسم فرقة اتحاد الفنانين. وفي العام 1962 تأسست فرقة الفجر الموسيقية بقيادة أمين الخياط، وأسس التلفزيون العربي السوري أيضاً فرقة خاصة به بقيادة إبراهيم عبد العال. وفي العام 1967 ولدت أول فرقة لموسيقى الحجرة بقيادة صلحي الوادي.
المهرجانات الموسيقية: يعد مهرجان المحبة السنوي الذي تشرف عليه وزارة الثقافة منذ إنشائه عام 1988 من أهم المهرجانات الموسيقية, ويقام هذا المهرجان في اللاذقية, ويشارك فيه أعلام الموسيقى والغناء في سورية والوطن العربي.
- مهرجان نقابة المعلمين الخاص بمعلمي الموسيقى في سورية, ويقام في دمشق كل عام.
- مهرجان الأغنية السورية في حلب الذي يقام سنوياً بإشراف الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون, وقد اتخذ شعاراً له (أورنينا), راقصة المعبد السومرية, منذ ولادته عام 1994.
المعهد العالي للموسيقى:في السادس عشر من تشرين الثاني عام 1990 أصدر الرئيس الراحل حافظ الأسد القانون رقم 82 لعام 1990 المتضمن إحداث المعهد العالي للموسيقى, وقد أنيطت عمادته للمايسترو صلحي الوادي الذي عمل من خلال هذا المعهد والمعهد العربي للموسيقى ومعهد الباليه على الارتقاء بمستوى الموسيقى السورية والموسيقيين السوريين.
الفرقة السمفونية الوطنية: برعاية سامية من الرئيس الراحل حافظ الأسد تم إحداث الفرقة الوطنية السمفونية عام 1992 من خمسة وثمانين عازفاً, وقدمت الفرقة باكورة إنتاجها في كانون الثاني 1993 على مسرح قصر المؤتمرات, وبلغ عدد الحفلات التي قدمتها على مدى تألقها بقيادة صلحي الوادي خلال عشر سنوات أربعين حفلة موسيقية.
فرقة زرياب: في عام 2001 أسس فرقة زرياب الموسيقية رعد خلف, عازف الكمان الأول في الفرقة السمفونية، وكان هدف تأسيسها إحياء التراث العربي الزاخر بالإبداعات بلغة عصرية. وتتميز الفرقة بتقديم مشهدية بصرية وسمعية كاملة من وراء اهتمامها بالسينوغرافيا التي تعني الرؤية الكاملة لكل ما يتضمنه المسرح حتى السينما إذا استخدمت فيه وتصنيعها للآلات القديمة كي ترقى بالجمهور إلى العمق الحضاري.
صميم الشريف