إلهام العراقي فنانة مغربية تجعلنا نبصر الزمن
الفنانة تنحت الزمن للبحث عن ثماره.
ليست رغبة في إيقاف الزمن
هناك حركة تدفع الوجود وتمثل ركنا أوّلَ من أركان التاريخ، فتنت الكثير من الشعراء والأدباء والفيزيائيين والفلاسفة وغيرهم حتى من الرسامين، فيما بقيت غامضة تتغير في مفهومها مع تغير الفرد والحالة؛ إنها الزمن الذي تحاول الفنانة المغربية إلهام العراقي رسمه بأشكال مغايرة وفق رؤية خاصة.
إلى جانب كل تلك المواد والأفكار والتخطيطات والرسومات الأولية التي يستند عليها الفنان التشكيلي في الإعداد لعمله الفني، وإخراج الفكرة من حالة الوجود في الذهن إلى حالة الوجود العيْني والملموس المحسوس، يُعدّ الزمن عاملا أساسيا داخل هذه السيرورة والعملية الإبداعية، التي تروم خلق المتخيّل والمتصور في هيئات مرئية وظاهرة للعين، قابلة للمس والتفاعل معها.
وإنْ كانت تلك المواد محسوبة على نوع من المنجزات المنتمية إلى خانة الفن المفاهيمي، تلك التي تمردت على مادية الغرض، نازعة عنها لباسها المادي (dématérialisées)، مقابل أن يصير المفهوم، في بعده الفلسفي المجرد، هو العمل في حد ذاته، مما قاد أحدهم إلى نحت منحوتة من فراغ، وآخر اختار أن يقف مكان منحوتاته، بوصفه هو عينه المنحوتة الحية.
ثنائية الزمن
إلهام العراقي تخلق أرشيفا زمنيا للطبيعة على كوكبنا وتنحت الحركة التي تُولِّد الزمن بوصفه انتقالا في المكان
في تجربتها النحتية، في معرضها الفردي برواق باب الكبير في الرباط، أقدمت الفنانة المغربية إلهام العراقي العماري على تركيب منحوتة خشبية – نحاسية هوائية، على هيئة مكعب تتخللها فتوحات صغيرة، بقياس محدد، من أرقام النظام الثنائي الرياضي (0 – 1)، صانعة منها نصا مُرمزا وكلمات مشفرة، لها علاقة بالزمن ومرادفاته، في اللغة العربية بشكل مخصوص.
بهذا المعنى تضع لها مقدرا زمنيا هندسيا وحسابيا معيّنا، وهو ما يقترب مفاهيميا من أحد معاني الزمن: بِعدّه “مقدار” الحركة، الذي يتصل بالتعريف الفيزيائي العام له، من حيث إنه “حركة في الفضاء [المكان]”. بينما تدل أرقام نظام العد الثنائي (binaire) هذه على حركية تتراوح بين ثنائية السكون – الحركة. ومن جانب آخر، لا يتحقق العالم في الثقافة الإسلامية إلا من خلال هذه البنية المزدوجة، والتي تتجسد، حسب المعتقد الديني، في روح العالم على هيئات متعددة من: ظلمة – ضوء، شر – خير، امرأة – رجل، موت – حياة… إلخ؛ وتنعكس ها هنا في الرقمين 0 و1.
بينما يستدعي ميكانيزم هذه المنحوتة -المنشأة- الخشبية تَدخُّل المتلقي والتفاعل معها، عبر تحريك يد خشبية، لتحريض حركية الصفيحة النحاسية القابعة في قلب المكعب، ومشدودة إلى تلك اليد. وما إن يتم رجّ هذه الصفيحة حتى يَصْدُر صوت منبعث من الفجوات الرقمية، كأننا أمام موسيقى زمنية أو إزاء طقوسية روحانية تماثل هزّ الأجراس البوذية على قمة جبال التِبِتْ.
تخلق بهذا الفنانة، إذن، نوعا من الطقس الفني المتعلق بالزمن المعقد والمركب. وقد عملت على التعبير عن ذلك، بكل ما يتطلب الأمر من تأويل مفتوح، عبر تدوين جملة “الساعة لله” في قلب لوحة يتوسطها قرص برتقالي يشبه قرص الشمس عند المغيب، غير أنه بدل أن تنبعث منه أشعة يتحلل في نهايته أسنانا مدببة. وهو عندي إحالة إلى استعمال التعبير في الدارجة المغربية، حيث يُستعمل في حالة الغضب بشكل خاص. وأيضا قد يتعلق بمفهوم الساعة الملتبس، أي يوم البعث، حيث “لا يعلم ميعادها إلا الله” في المعتقد الديني.
نحت الحركة
الفنانة تحوّل الزمن إلى معادلات رياضياتية بصرية قوامها ثنائية الأرقام وحركة العقارب المضافة إلى مساحة القماش
تنحت العراقي الحركة التي تُولِّد الزمن بوصفه انتقالا في مكان. حركة الهواء بالتحديد هي التي تهدف الفنانة إلى جعلها مدعاة نحت. لكنه نحت ذهني ومفاهيمي أكثر منه ماديا، لأنه مُتوَلِّد عن عملية تأمّل وتخييل، ناتجيْن عن الصوتية النابعة من مخارج المنحوتة الخشبية: الوحدات والأصفار؛ ومتعلق بالتفاعل الإلزامي للمتلقي حتى تكتمل العملية “النحتية للامرئي المسمى زمنا”. أو لنقل إنهما (أي التأمل والتخييل) منبثقان من الجمل المشفرة، مثلما هي نصوص المتصوفة أو القصائد الطقوسية أو حتى الآيات الدينية التي تبتغي فك أسرارها عبر قوة التأويل وسلطانه.
وقد عرضت إلهام العراقي العماري في معرضها هذا عملها الإنشائي النحتي “الميزان”، 2023، حيث علقت منحوتة خشبية على شاكلة ميزان تقليدي، فوق لوحة قماشية أحادية اللون، كتبت عليها بخط مغربي مرادفات الزمن ومشتقاته اللفظية في اللغة العربية، وتمتد هذه الكتابة على بنية الميزان عينه. بينما تم وضع على الكفين قطع مكعبة صغيرة تحمل ألفاظا دالة على “الوقت” والتوقيت وتعداد الأيام والسنوات: عقد، قرن، سنة، يوم… في كف؛ أما في الكف الآخر فقد وُضعت قطعة صغيرة مكتوب عليها “بلمح البصر”، بينما تميل كفة الميزان جهة هذه الأخيرة.
يغلب العابر إذن كل الأزمنة والمواقيت، فهو المنفلت من التوصيف، إنه اللحظة القابعة بين بين، لا هي في الماضي ولا الحاضر ولا حتى المستقبل، إنها خارج حدود الزمن وإن كانت من صُلبه. إذ إن العابر همّ الإنسان، والشبح الذي يطارده ولا يقدر على القبض عليه يمر دون أن يدركه حتى يصير خلفه. لكنه يعيد العبور دونما توقف، كأن “الزمن” صنيع تلك الكميات الدقيقة من “لمح البصر”، نوع من تعريف للكوانتوم الزمني. أقل كمية زمنية ممكنة، تلك التي تعبرنا ونعبرها، ويا لها من مصادفة لغوية إذ أدركنا أن فعل “عَبرَ” في اللسان العربي يعني قاسَ ووزنَ. تقيس إلهام العراقي، إذن، الزمن بلمح البصر.
تحوّل إلهام العراقي الزمن إلى معادلات رياضياتية بصرية. قوامها ثنائية الأرقام وحركة العقارب المضافة إلى مساحة القماش، مما ينقل العمل لديها من اللوحة في تعريفها الكلاسيكي إلى المُنشأة الفنية (الأنستلايشن) في التحديد المعاصر. وتعمل هذه الفنانة على جعل الزمن في خدمة رؤيتها الفنية سواء عبر اللفظ (لغة وأرقاما) أو الإضمار أو اللعب أو الحركة أو حتى الإحالة البصرية (تلك الساعات المدرجة في قلب العمل). بينما تحوّل جذوع الأشجار المقطوعة إلى شرائح مستديرة مدمجة في قلب اللوحة المعلقة، إلى استعارات زمنية قابلة للمس. من حيث إن الشجرة تعدّ رُزنامة زمنية تحمل بين ثناياها واستداراتها الحلقيّة بصمات التغير الطارئ والحاصل على مرور الوقت. إنها بهذا المعنى أرشيف زمني للطبيعة على كوكبنا.
إبصار الزمن
الفن شكل من أشكال الخيال والسرد
تنسج العراقي بهذا المعنى الزمن في استدارته السيزيفية والأزلية. غير أنها تلقي بنا في اللحظة الأبدية، للزمن المنفلت والسائل. أو مثلما تخبرنا الفنانة قائلة “لا أستطيع التعبير عن الزمن إلا عبر أعمالي. فحالما أرغب في تشكيله بالكلمات، يتبخر”. إنه متبخر بهذا المعنى. لا يمكن تشكيله لغويا ولا حتى بصريا بالشكل الذي يمنحه مظهرا دالا. إنه متعدد الحضور وغير قابل لأي قولبة. لهذا تنوعت طرق التعبير عنه منذ التعابير الفنية الإنسانية الأولى، نجده في تصاوير الفراعنة عن العالم الآخر، وفي فن الفنانيتي (الجشع) Vanité، في القرن السابع عشر، وحتى عند السرياليين والمعاصرين مثل رومان أوبالكا (Opalka)، وغيره.
كل سعى إلى إبراز الوقت عبر تصوره الخاص. لكنه ظل دائما متبخرا وقابلا للذوبان (المنشأة الثلجية للفنان البرازيلي Néle Azevedo نموذجا).
وبدورها تعمد إلهام العراقي إلى جعلنا نُبصر الزمن بطريقتها الخاصة، مُستثمرة مفهومه الاستداري المغري والمثير. مما يمنحه حضورا بدنيا وحيا في الآن عينه، مدركة لكونه مرتبطا، بشكل صميمي، بعاطفة وجودنا الإنساني، إذ بقدر ما ندركه في كل لحظة عبر مختلف أشكال الحضور (الشروق، الغروب، الساعة، النوم، العمل، الحركة…) إلا أنه يفرّ من أي قابلية للتعريف. بل إنه جوهر كل عمليات التفكير في الوجود، وحتى إنه الفاعل الرئيسي في كل معادلة فيزيائية تسعى لوصف الكون، من الزمن المطلق النيوتني إلى النسبي الأينشتايني.
لكل منا زمنه الخاص. لهذا كل سعي لتحديده يعدّ متعبا وشاقا، وقد سبق أن عبرّ عن ذلك كل من أبي حيان التوحيدي ومسكويه، في كتاب “الهوامل والشوامل”، بالقول “وأما الزمان والمكان، فإن الكلام فيهما كثير، قد خاض فيه الأوائل، وجادل فيه أصحاب الكلام الإسلاميون، وهو أظهر من أن ينشف الريق، ووراء هذه المواضع سرائر ودقائق لا يبلغها العقل الإنساني، ولم يطمع في إدراكها أحد قط، وهناك يحسن الاعتراف بالضعف البشري والعجز الإنساني”.
أو مثلما يقول القديس أوغوستين في كتاب “اعترافاتـ”ـه، “ما الزمن؟ (…)؛أعرف أن خطابي عن الزمن موجود في الزمن ولذلك أعرف أن الزمن يوجد، وأنه يقاس. لكني لا أعرف ما هو الزمن، ولا كيف يقاس. إنني في حالة يرثى لها، لأنني لا أعرف ما لا أعرفه”. إنه إذن اللغز الوجودي الأكبر.
العودة بالزمن
يعمل الزمن على نحت ذكرياتنا، وعلى بناء معمار الحنين والنوستالجيا اللذين يربطاننا بالماضي. لهذا حاولت إلهام العراقي أن تبحث عن “ثمار الزمن”، وهي تخيط في أحد أعمالها نسيجا يلمّ الخشب بالنحاس ضمن فضاء تغطيه الكتابة بالكامل، من خلال تكرار معجمي لمرادفات الزمن الكثيرة والألفاظ الدالة عليه. بينما يلفّ ويدور عقرب الساعة في مركز المنشأة، في الاتجاه المعكوس.
إننا نقطن باستمرار في الماضي، وهو -بدوره- حاضر يقيم بيننا. فكل ما نبصره حاصل في لحظة مضت. وما ندركه من الكون سوى ماضيه. فيتحول الزمن إلى “صورة [لماض] متحركة”. وهو ما جسدته الفنانة في حالات بصرية متنوعة. منها ما يستفز مخيلة المتلقي، ومنها ما يدعوه إلى الانخراط في عملية بناء العمل واللعب بتفاصيله، وذلك في تحدّ لعدم قابلية الزمن للعودة إلى الخلف l’ordre irréversible du temps، المتمثلة في ثلاثية “الماضي” (الذي كان) و”الحاضر” (الكائن) و”المستقبل” (الذي سيكون).
غير أننا لا نستطيع أن نعيها جميعا إلا في “الحاضر”. وهذا الأخير عينه قد تم تأويله فلسفيا -وعلميا حتى- بعدة طرق، تجعل منه لحظة عبور بين “الذي لم يأت بعد” و”الذي لم يعد موجودا”. إنه التباس زمني، يتحول معه “الآن” إلى شذرة زمنية سريعة الزوال، تقيم في الماضي على الدوام بهذا المعنى، هذا الأخير الذي يطاردنا، على حد القول الهايدغيري.
إننا إذن حساسون للزمن، واعون به وغير مدركين له. منخرطون في عمليات تحوله وفاعلون فيها، وغير قادرين على التدخل في صيروراته وسيرورته. إننا مثل العقارب نلف معه لنحدده لكن دون أن نتدخل فيه. يستمر رغم توقفنا. لهذا نقاومه عبر الأسطورة، عبر الحكاية والمتخيل. والفن شكل من أشكال الخيال والسرد، الذي نعمل عبره على اختراق الزمن والسيطرة عليه، ولو بشكل وهمي. إذ يمنحنا الفن، مثلما تفعل الأسطورة، القدرة على العودة بالزمن، نوع من السيطرة عليه. بل حتى إيقافه إن دعت الحاجة إلى ذلك.
لهذا لم يكن من الصدفة أن تذيّل الفنانة أحد أعمالها الإنشائية بعبارة “هذه ليست رغبة في إيقاف الزمن”، حيث عمدت إلى ربط عقارب ساعة مدرجة في لوحة قماشية، مكتوبة فيها باللغة الفرنسية ألفاظ الأعداد ومرادفات الوقت. بينما تتصل هذه المنشأة بعمل الفنان السريالي روني ماغريت (Magritte)، حيث تمثيل الغرض ليس مطلقا هو عينه الغرض، بل إنه مجرد ذريعة ونظرة ومساءلة للموضوع. وهذا ما تعمد إليه إلهام العراقي، إذ لا توقف الزمن بل تعمل على جعلنا “نتوقف” لنتأمله في كل متغيراته وأشكاله.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عزالدين بوركة
شاعر وباحث مغربي
الفنانة تنحت الزمن للبحث عن ثماره.
ليست رغبة في إيقاف الزمن
هناك حركة تدفع الوجود وتمثل ركنا أوّلَ من أركان التاريخ، فتنت الكثير من الشعراء والأدباء والفيزيائيين والفلاسفة وغيرهم حتى من الرسامين، فيما بقيت غامضة تتغير في مفهومها مع تغير الفرد والحالة؛ إنها الزمن الذي تحاول الفنانة المغربية إلهام العراقي رسمه بأشكال مغايرة وفق رؤية خاصة.
إلى جانب كل تلك المواد والأفكار والتخطيطات والرسومات الأولية التي يستند عليها الفنان التشكيلي في الإعداد لعمله الفني، وإخراج الفكرة من حالة الوجود في الذهن إلى حالة الوجود العيْني والملموس المحسوس، يُعدّ الزمن عاملا أساسيا داخل هذه السيرورة والعملية الإبداعية، التي تروم خلق المتخيّل والمتصور في هيئات مرئية وظاهرة للعين، قابلة للمس والتفاعل معها.
وإنْ كانت تلك المواد محسوبة على نوع من المنجزات المنتمية إلى خانة الفن المفاهيمي، تلك التي تمردت على مادية الغرض، نازعة عنها لباسها المادي (dématérialisées)، مقابل أن يصير المفهوم، في بعده الفلسفي المجرد، هو العمل في حد ذاته، مما قاد أحدهم إلى نحت منحوتة من فراغ، وآخر اختار أن يقف مكان منحوتاته، بوصفه هو عينه المنحوتة الحية.
ثنائية الزمن
إلهام العراقي تخلق أرشيفا زمنيا للطبيعة على كوكبنا وتنحت الحركة التي تُولِّد الزمن بوصفه انتقالا في المكان
في تجربتها النحتية، في معرضها الفردي برواق باب الكبير في الرباط، أقدمت الفنانة المغربية إلهام العراقي العماري على تركيب منحوتة خشبية – نحاسية هوائية، على هيئة مكعب تتخللها فتوحات صغيرة، بقياس محدد، من أرقام النظام الثنائي الرياضي (0 – 1)، صانعة منها نصا مُرمزا وكلمات مشفرة، لها علاقة بالزمن ومرادفاته، في اللغة العربية بشكل مخصوص.
بهذا المعنى تضع لها مقدرا زمنيا هندسيا وحسابيا معيّنا، وهو ما يقترب مفاهيميا من أحد معاني الزمن: بِعدّه “مقدار” الحركة، الذي يتصل بالتعريف الفيزيائي العام له، من حيث إنه “حركة في الفضاء [المكان]”. بينما تدل أرقام نظام العد الثنائي (binaire) هذه على حركية تتراوح بين ثنائية السكون – الحركة. ومن جانب آخر، لا يتحقق العالم في الثقافة الإسلامية إلا من خلال هذه البنية المزدوجة، والتي تتجسد، حسب المعتقد الديني، في روح العالم على هيئات متعددة من: ظلمة – ضوء، شر – خير، امرأة – رجل، موت – حياة… إلخ؛ وتنعكس ها هنا في الرقمين 0 و1.
بينما يستدعي ميكانيزم هذه المنحوتة -المنشأة- الخشبية تَدخُّل المتلقي والتفاعل معها، عبر تحريك يد خشبية، لتحريض حركية الصفيحة النحاسية القابعة في قلب المكعب، ومشدودة إلى تلك اليد. وما إن يتم رجّ هذه الصفيحة حتى يَصْدُر صوت منبعث من الفجوات الرقمية، كأننا أمام موسيقى زمنية أو إزاء طقوسية روحانية تماثل هزّ الأجراس البوذية على قمة جبال التِبِتْ.
تخلق بهذا الفنانة، إذن، نوعا من الطقس الفني المتعلق بالزمن المعقد والمركب. وقد عملت على التعبير عن ذلك، بكل ما يتطلب الأمر من تأويل مفتوح، عبر تدوين جملة “الساعة لله” في قلب لوحة يتوسطها قرص برتقالي يشبه قرص الشمس عند المغيب، غير أنه بدل أن تنبعث منه أشعة يتحلل في نهايته أسنانا مدببة. وهو عندي إحالة إلى استعمال التعبير في الدارجة المغربية، حيث يُستعمل في حالة الغضب بشكل خاص. وأيضا قد يتعلق بمفهوم الساعة الملتبس، أي يوم البعث، حيث “لا يعلم ميعادها إلا الله” في المعتقد الديني.
نحت الحركة
الفنانة تحوّل الزمن إلى معادلات رياضياتية بصرية قوامها ثنائية الأرقام وحركة العقارب المضافة إلى مساحة القماش
تنحت العراقي الحركة التي تُولِّد الزمن بوصفه انتقالا في مكان. حركة الهواء بالتحديد هي التي تهدف الفنانة إلى جعلها مدعاة نحت. لكنه نحت ذهني ومفاهيمي أكثر منه ماديا، لأنه مُتوَلِّد عن عملية تأمّل وتخييل، ناتجيْن عن الصوتية النابعة من مخارج المنحوتة الخشبية: الوحدات والأصفار؛ ومتعلق بالتفاعل الإلزامي للمتلقي حتى تكتمل العملية “النحتية للامرئي المسمى زمنا”. أو لنقل إنهما (أي التأمل والتخييل) منبثقان من الجمل المشفرة، مثلما هي نصوص المتصوفة أو القصائد الطقوسية أو حتى الآيات الدينية التي تبتغي فك أسرارها عبر قوة التأويل وسلطانه.
وقد عرضت إلهام العراقي العماري في معرضها هذا عملها الإنشائي النحتي “الميزان”، 2023، حيث علقت منحوتة خشبية على شاكلة ميزان تقليدي، فوق لوحة قماشية أحادية اللون، كتبت عليها بخط مغربي مرادفات الزمن ومشتقاته اللفظية في اللغة العربية، وتمتد هذه الكتابة على بنية الميزان عينه. بينما تم وضع على الكفين قطع مكعبة صغيرة تحمل ألفاظا دالة على “الوقت” والتوقيت وتعداد الأيام والسنوات: عقد، قرن، سنة، يوم… في كف؛ أما في الكف الآخر فقد وُضعت قطعة صغيرة مكتوب عليها “بلمح البصر”، بينما تميل كفة الميزان جهة هذه الأخيرة.
يغلب العابر إذن كل الأزمنة والمواقيت، فهو المنفلت من التوصيف، إنه اللحظة القابعة بين بين، لا هي في الماضي ولا الحاضر ولا حتى المستقبل، إنها خارج حدود الزمن وإن كانت من صُلبه. إذ إن العابر همّ الإنسان، والشبح الذي يطارده ولا يقدر على القبض عليه يمر دون أن يدركه حتى يصير خلفه. لكنه يعيد العبور دونما توقف، كأن “الزمن” صنيع تلك الكميات الدقيقة من “لمح البصر”، نوع من تعريف للكوانتوم الزمني. أقل كمية زمنية ممكنة، تلك التي تعبرنا ونعبرها، ويا لها من مصادفة لغوية إذ أدركنا أن فعل “عَبرَ” في اللسان العربي يعني قاسَ ووزنَ. تقيس إلهام العراقي، إذن، الزمن بلمح البصر.
تحوّل إلهام العراقي الزمن إلى معادلات رياضياتية بصرية. قوامها ثنائية الأرقام وحركة العقارب المضافة إلى مساحة القماش، مما ينقل العمل لديها من اللوحة في تعريفها الكلاسيكي إلى المُنشأة الفنية (الأنستلايشن) في التحديد المعاصر. وتعمل هذه الفنانة على جعل الزمن في خدمة رؤيتها الفنية سواء عبر اللفظ (لغة وأرقاما) أو الإضمار أو اللعب أو الحركة أو حتى الإحالة البصرية (تلك الساعات المدرجة في قلب العمل). بينما تحوّل جذوع الأشجار المقطوعة إلى شرائح مستديرة مدمجة في قلب اللوحة المعلقة، إلى استعارات زمنية قابلة للمس. من حيث إن الشجرة تعدّ رُزنامة زمنية تحمل بين ثناياها واستداراتها الحلقيّة بصمات التغير الطارئ والحاصل على مرور الوقت. إنها بهذا المعنى أرشيف زمني للطبيعة على كوكبنا.
إبصار الزمن
الفن شكل من أشكال الخيال والسرد
تنسج العراقي بهذا المعنى الزمن في استدارته السيزيفية والأزلية. غير أنها تلقي بنا في اللحظة الأبدية، للزمن المنفلت والسائل. أو مثلما تخبرنا الفنانة قائلة “لا أستطيع التعبير عن الزمن إلا عبر أعمالي. فحالما أرغب في تشكيله بالكلمات، يتبخر”. إنه متبخر بهذا المعنى. لا يمكن تشكيله لغويا ولا حتى بصريا بالشكل الذي يمنحه مظهرا دالا. إنه متعدد الحضور وغير قابل لأي قولبة. لهذا تنوعت طرق التعبير عنه منذ التعابير الفنية الإنسانية الأولى، نجده في تصاوير الفراعنة عن العالم الآخر، وفي فن الفنانيتي (الجشع) Vanité، في القرن السابع عشر، وحتى عند السرياليين والمعاصرين مثل رومان أوبالكا (Opalka)، وغيره.
كل سعى إلى إبراز الوقت عبر تصوره الخاص. لكنه ظل دائما متبخرا وقابلا للذوبان (المنشأة الثلجية للفنان البرازيلي Néle Azevedo نموذجا).
وبدورها تعمد إلهام العراقي إلى جعلنا نُبصر الزمن بطريقتها الخاصة، مُستثمرة مفهومه الاستداري المغري والمثير. مما يمنحه حضورا بدنيا وحيا في الآن عينه، مدركة لكونه مرتبطا، بشكل صميمي، بعاطفة وجودنا الإنساني، إذ بقدر ما ندركه في كل لحظة عبر مختلف أشكال الحضور (الشروق، الغروب، الساعة، النوم، العمل، الحركة…) إلا أنه يفرّ من أي قابلية للتعريف. بل إنه جوهر كل عمليات التفكير في الوجود، وحتى إنه الفاعل الرئيسي في كل معادلة فيزيائية تسعى لوصف الكون، من الزمن المطلق النيوتني إلى النسبي الأينشتايني.
ميكانيزم بعض منحوتات الفنانة يستدعي تَدخُّل المتلقي والتفاعل معها حتى عبر التحريك لتحريض حركيتها الكامنة
لكل منا زمنه الخاص. لهذا كل سعي لتحديده يعدّ متعبا وشاقا، وقد سبق أن عبرّ عن ذلك كل من أبي حيان التوحيدي ومسكويه، في كتاب “الهوامل والشوامل”، بالقول “وأما الزمان والمكان، فإن الكلام فيهما كثير، قد خاض فيه الأوائل، وجادل فيه أصحاب الكلام الإسلاميون، وهو أظهر من أن ينشف الريق، ووراء هذه المواضع سرائر ودقائق لا يبلغها العقل الإنساني، ولم يطمع في إدراكها أحد قط، وهناك يحسن الاعتراف بالضعف البشري والعجز الإنساني”.
أو مثلما يقول القديس أوغوستين في كتاب “اعترافاتـ”ـه، “ما الزمن؟ (…)؛أعرف أن خطابي عن الزمن موجود في الزمن ولذلك أعرف أن الزمن يوجد، وأنه يقاس. لكني لا أعرف ما هو الزمن، ولا كيف يقاس. إنني في حالة يرثى لها، لأنني لا أعرف ما لا أعرفه”. إنه إذن اللغز الوجودي الأكبر.
العودة بالزمن
يعمل الزمن على نحت ذكرياتنا، وعلى بناء معمار الحنين والنوستالجيا اللذين يربطاننا بالماضي. لهذا حاولت إلهام العراقي أن تبحث عن “ثمار الزمن”، وهي تخيط في أحد أعمالها نسيجا يلمّ الخشب بالنحاس ضمن فضاء تغطيه الكتابة بالكامل، من خلال تكرار معجمي لمرادفات الزمن الكثيرة والألفاظ الدالة عليه. بينما يلفّ ويدور عقرب الساعة في مركز المنشأة، في الاتجاه المعكوس.
إننا نقطن باستمرار في الماضي، وهو -بدوره- حاضر يقيم بيننا. فكل ما نبصره حاصل في لحظة مضت. وما ندركه من الكون سوى ماضيه. فيتحول الزمن إلى “صورة [لماض] متحركة”. وهو ما جسدته الفنانة في حالات بصرية متنوعة. منها ما يستفز مخيلة المتلقي، ومنها ما يدعوه إلى الانخراط في عملية بناء العمل واللعب بتفاصيله، وذلك في تحدّ لعدم قابلية الزمن للعودة إلى الخلف l’ordre irréversible du temps، المتمثلة في ثلاثية “الماضي” (الذي كان) و”الحاضر” (الكائن) و”المستقبل” (الذي سيكون).
غير أننا لا نستطيع أن نعيها جميعا إلا في “الحاضر”. وهذا الأخير عينه قد تم تأويله فلسفيا -وعلميا حتى- بعدة طرق، تجعل منه لحظة عبور بين “الذي لم يأت بعد” و”الذي لم يعد موجودا”. إنه التباس زمني، يتحول معه “الآن” إلى شذرة زمنية سريعة الزوال، تقيم في الماضي على الدوام بهذا المعنى، هذا الأخير الذي يطاردنا، على حد القول الهايدغيري.
إننا إذن حساسون للزمن، واعون به وغير مدركين له. منخرطون في عمليات تحوله وفاعلون فيها، وغير قادرين على التدخل في صيروراته وسيرورته. إننا مثل العقارب نلف معه لنحدده لكن دون أن نتدخل فيه. يستمر رغم توقفنا. لهذا نقاومه عبر الأسطورة، عبر الحكاية والمتخيل. والفن شكل من أشكال الخيال والسرد، الذي نعمل عبره على اختراق الزمن والسيطرة عليه، ولو بشكل وهمي. إذ يمنحنا الفن، مثلما تفعل الأسطورة، القدرة على العودة بالزمن، نوع من السيطرة عليه. بل حتى إيقافه إن دعت الحاجة إلى ذلك.
لهذا لم يكن من الصدفة أن تذيّل الفنانة أحد أعمالها الإنشائية بعبارة “هذه ليست رغبة في إيقاف الزمن”، حيث عمدت إلى ربط عقارب ساعة مدرجة في لوحة قماشية، مكتوبة فيها باللغة الفرنسية ألفاظ الأعداد ومرادفات الوقت. بينما تتصل هذه المنشأة بعمل الفنان السريالي روني ماغريت (Magritte)، حيث تمثيل الغرض ليس مطلقا هو عينه الغرض، بل إنه مجرد ذريعة ونظرة ومساءلة للموضوع. وهذا ما تعمد إليه إلهام العراقي، إذ لا توقف الزمن بل تعمل على جعلنا “نتوقف” لنتأمله في كل متغيراته وأشكاله.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عزالدين بوركة
شاعر وباحث مغربي