"النعومة" عالم لانيتشوي يخلق أزمة في الفن المعاصر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "النعومة" عالم لانيتشوي يخلق أزمة في الفن المعاصر


    "النعومة" عالم لانيتشوي يخلق أزمة في الفن المعاصر


    فلاسفة في مواجهة جيف كونز فنان عصر الإعجاب.


    جيف كونز يتوافق مع الإغريقيين

    يتجه جزء كبير من الفن المعاصر شيئا فشيئا إلى نوع من المثالية التي يجري خلفها الفنانون ليقدموا عالما جميلا يبهر الرأي المشترك، وحتى التمرد على التقنيات والعمل على المفاهيمية والأفكار لا يخلو من هذه النزعة بخلق الفكرة الناصعة التي تلقى موافقة واستحسان الأغلبية، وبالتالي يفقد الفن أبرز سماته ألا وهي التمرد والصدام.

    تكاد تساق ما بعد الحداثة (postmodernité) نحو النعومة، نعومة مطلقة، أو بالتعبير الأدق نحو الإيجابية المطلقة. مما يلغي عنها كل سلبية، كل عملية نقد ممكنة، لصالح الإعجاب الشامل. حيث لا إمكانية لتكوين رأي مختلف في عالم تتشابه فيه الأذواق وينعدم فيه الاختلاف، عالم يستحوذ فيه فن بلا أزمة، فن التطابق والتناسخ الناعم.

    الفن يعدُّ رديف الأزمة، بل وليدها. إنه بالتالي قائم بالسلب (en négation)، ليس “ضدا” من أجل الضد فحسب، وإنه -أيضا- ليس “معَ”، لا ينصاع لأي ديمومة شكلية ولأي استمرارية مذهبية (الإخلاص للقاعدة). إذ ينتقد لكي يهدم لا ليدمر، هدم بنية وإعادة الإنشاء من الأنقاض.
    في مديح السلب


    الفن بالنسبة إلى نيتشه متحرر من كل المحددات وتعبير مضاد لكل حالات النعومة، إنه خشن وبارز ولا شكل له

    ما يقوم به جيف كونز، نموذجا، في أغلبية أعماله، باستثناء تلك المستفزة سياسيا ومفاهيميا، يتوافق مع ما يسميه الفيلسوف الألماني بيونغ – شول هان بـ”عصر الإعجاب” (اللايك like). فن لا للتفكير بل للايْكات؛ أي إنتاج أعمال للمشاهدة لا للتأمل. أعمال لا تحرك شهوة ولا رغبة ولا تستدعي أي محاولة للفهم والتفكير والتفسير والتأويل.

    أعمال الفنان مباشرة لا تقود إلى أي أزمة، ناعمة ومصقولة، تغدو “بورنوغرافية” -بتعبير الفيلسوف- من حيث انتمائها إلى الشفافية والفضائحية. إباحية لأن اللذة فيها عابرة لا تُشبع ولا تولد أي تساؤلات أو إشكاليات، تصير إدمانا فارغا بلا طعم، تشبه الفيديوهات القصيرة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، غزيرة وعارية من المعنى والدلالة، بلا هدف سوى الربح. كلما ضغطت على واحد رغبت في المزيد دون لذة ولا إشباع. وهو ما ينتقده أشد انتقاد بودريار، في هجومه الشرس على تجارب الفن المعاصر، حينما يقول “الواقع أن الجزء الأكبر من هذا الفن يستخدم في تحويل الابتذال والسطحية والتفاهة إلى إستراتيجية بقاء”.


    أعمال مصقولة إلى حد النعومة المطلقة


    غير أن الفن المعاصر عندنا غير كامن في ما يرغب كونز ومن معه في الترويج له. إنه فن في المعاصرة، أي إنه منتم إلى العصر وفلسفاته وفي الآن نفسه إنه وليد النقد (critique) والأزمة (crise) معا. سليل زواجهما الشرعي. فلا تقدم دون أزمة.

    كل ما هو مصقول إلى حد النعومة المطلقة، يولد ميّتاً في لحظته لأنه منتم إلى المثالي. والمثالي مفارق، لا ينتمي إلى الأرض ولا زمن له، بينما لا فصل بين الفني والأرضي، بين الإبداعي والإنساني في كل تجلياته وتغيراته وأزماته وتقلباته. للروح البشرية تضاريس ملموسة. لهذا يناقض أرتر دانتو بودريار حينما يخبرنا بأن هوية العمل الفني هي دائما تاريخية بارزة، لأنه يعتمد على الخصائص الثقافية للعصر الذي أنجز فيه: وإن كل هذا غير ممكن دائما. إذ لا يوجد عمل فني إلا داخل أفق فني عالمي، أي في عالم الفن (un monde d’art (artword)) الذي يحدد مسبقا الإمكانيات الكبرى الفكرية والتقنية المتاحة للفنانين في فترة تاريخية معينة، ضمن ما يُصطلح عليه بالبراديغم، وكلما استوفى هذا الأخير شروطه انتقده الفن وثار عليه، ليلج براديغما جديدا.

    لهذا فـ”الابتدال” وتجليه وتحويره لدى دانتو هو جزء من ثقافة العصر، حيث يعمل الفنان على إعادة الاعتبار للأشياء المنسية والمتلاشية. وفي الوقت عينه يعمل على استدراج أفكار عالم السوق والاستهلاك إلى صلب المنجز، منتقدا أسسها ومستثمرا إياها في تجلياته. لذا فبالنسبة إلى دانتو، المعاصرون يُعدّون أكثر واقعية ومحاكاة، لأنهم يشتغلون على الأشياء في حضورها لا في تمثلها. غير أنه يتفق مع بودريار في شق مهم، حينما يرى أن العمل الفني صنيع “المؤسسات الفنية” ونتيجة القدرة على الانتشار الإعلامي، وتوليد الخطابات المأثرة، غير أن الفيلسوف التحليلي لا يلغي عنه أي إمكانية للتأويل المتأتي مما يسميه “البنية القصدية”.

    نستحضر هنا كونز على سبيل المثال لا الحصر، ونحن لا نلغي عن مجموعة من أعماله صفة الفن، وهي أعمال منتقدة مفاهيمية تحفز على التأويل.
    نيتشه ضد النحت



    أعمال كونز الملساء الإيجابية تسعى لخلق مجتمع مثالي مصقول، لا يعتمد على أي بعد تخيّلي أو تأويلي للعالم


    لم ير نيتشه في النحت -الكلاسيكي والإغريقي- أي قيمة فنية عليا بالمقارنة مع الموسيقى. لقد عد هذا الفن الأخير أرقى الفنون وأكثرها قدرة على التعبير عن النزعة الديونيزوسية، أو بالتعبير الأدق الحالة الأبسوردية، العبثية المطلقة، التي تعرفها الحياة. فبالنسبة إلى صاحب المطارق الفلسفية، ليس النحت إلا تجسيدا للوغوس (Logos) (العقل/ اللغة) والباتوس (Pathos) (الشفقة/ خطاب التهذيب والوعظ) والإيثوس (Ethos) (السمة أو روح العالم الأخلاقية والسجية). هذه المفاهيم الثلاثة التي كانت تقف -بحسبه- ضد هيمنة النزعة التحريرية وإرادة القوة الكامنة في الديونيزوسية. إنها مفاهيم محددة للشكل (شكل العالم الموحد الناعم).

    وقف سقراط، الذي انتقضه نيتشه، موقف المانع لانتشار عبادة ديونيزوس. وقف منتصرا للقيم الأبولونية (نسبة إلى الإله أبولون) المعلية لمفهوم النظام في العالم. حيث على كل شيء أن يصير منظما: أملس ومرتبا ومهذبا وناعما. بهذا المعنى يجب أن تسود أخلاق نبيلة موحدة ووحيدة، أن تتم إزاحة مفاهيم القبح لصالح الجمال المثالي، أن يكون الخير (العقل) هو روح العالم من أجل العدالة المثالية. أن تسود فيه الأنوار.
    "الابتدال" وتجليه وتحويره جزءٌ من ثقافة العصر، حيث يعمل الفنان على إعادة الاعتبار للأشياء المنسية والمتلاشية

    رأى نيتشه أن هذه النزعة النظامية الأبولونية هي نزعة لا تتعلق ولا ترتبط أبدا بالحياة، التي تسير إلى العبث دائما، دون أي مبالاة بالمفاهيم الثلاثة السابقة. فالحياة غير منظمة: مندفعة واندفاعية؛ إنها لاعقلانية. تحكمها إرادة القوة لا إرادة النظام. الكون تحكمه العشوائية (الأنتروبية بلغة الفيزياء). وما النحت -الكلاسيكي والإغريقي- بالنسبة إليه، إلا تجسيد لحالة النظام المضاد للحياة. لأنه يفرض شكلا محددا، شكلا له نهايات ومحددات، بينما لا محددات للحياة. الواقع عشوائي ولا شكل له. كلما أردنا أن نضع له شكلا، أرجعناه إلى اللوغوس وبالتالي صار أبولونيا؛ صار محكوما بمفاهيم المثالية الزائفة.

    نظر نيتشه إلى الموسيقى على أنها التعبير الأسمى للانظام، التحرر من المحددات، فلا نهايات للموسيقى، إنها متحررة من أي شكل، غير ملموسة ولا ترتبط بأي معنى. يكتسيها الغموض الذي يكتسي الحياة، بينما النحت -الكلاسيكي والإغريقي- ينحو صوب الوضوح. والوضوح ضد التأويل. بينما بالنسبة إلى صاحب “الديناميت” لا حقائق في العالم بل مجرد تأويلات.

    امتعض نيتشه من الشفقة، فهي عنده تضعف إرادة القوة، بالنسبة إليه، وتقلل من احتمالية ميلاد الرجل الأعلى الذي لا يؤمن إلا بإرادة القوة. مثل نبتة ضعيفة في باطن الأرض تدفع وتندفع حتى تخترق الحياة. لأنها تمتلك إرادة القوة المتجسدة في صلب الحياة، في صلب النبتة.
    إنهاء النيتشوية



    الفن بالنسبة إلى هذا الفيلسوف هو تعبير مضاد لكل حالات النعومة، إنه خشن وبارز ولا شكل له. لهذا فأعمال كثيرة يقودها جيف كونز اليوم ومن معه، تقود إلى إنتاج عالم استهلاكي ناعم ومفرط في نعومته، عالم لانيتشوي، عالم يدعي أنه ما بعد حداثي، ولا تتجسد فيه هذه الما بعدية إلا في الخطاب (اللوغوس)؛ أمر شبيه بالحالة الإغريقية التي آمن بها سقراط. والتي تضاد، كما يرى نيتشه، حالة وفكر التراجيديا اللذيْن قامت عليهما الأساطير والقصص والحياة الإغريقية ما قبل سقراط.

    العالم تراجيدي كما يقول نيتشه، وحالة التراجيديا هذه نلمسها في أسطورتي سيزيف وبروميثيوس. الصراع هو روح العالم. غير أن هذا الصراع الذي تقوده إرادة القوة لا ينبغي له إلا أن ينتهي بتقبل المرء لمصيره. فتقبلك للحياة يعني تقبلك لمصيرك فيها. أيضا أن تتقبل أن تخوض معارك تراجيديا فيها. وفيك يتجسد اللاشكل والعبث، لأنك امتداد للحياة والطبيعة. لأنك المؤوّل للحياة والواقع.

    ما يقوم به جيف كونز في جزء من أعماله، يأتي ضد ما بعد الحداثة، وليس إعمالا لفلسفتها. إنه يخلق عالما ناعما أملس؛ عالما مصقولا، لا تضاريس فيه ولا غموض، واضحا شفافا عاريا، لا يبتغي أي تأويل، وهو ما يعاكس فكرة نيتشه القائلة إن “لا حقائق في العلم بل التأويلات”. لهذا يبني كونز في مجموعة من أعماله عالما يريد إنهاء النيتشوية التي آمنت بإرادة القوة باعتبارها غريزة متأصلة في كل فرد، وبوصفها محرك عصر ما بعد الحداثة. فـ”نيتشه لا يدفع الناس نحو الجري وراء السلطة والقوة، بل يبدي إعجابه بارتقاء الإرادة والرغبة إلى القوة والسلطة على شكل نشاط خلاق إبداعي”.


    وقف نيتشه ضد كل أشكال المثالية. وقف ضد الشكل منتصرا للعبثية التي تسود العالم، وللاشكل. لا يعني أنه كان مع الخضوع والانصياع، بل دعا إلى الإيمان بإرادة الحياة وإرادة القوة وقوة الحياة، التي يجسدها الفن -خاصة الموسيقى- بشكل عام. لأن الفن وجد لكي لا تقتلنا الحقيقة.

    بينما تسعى أعمال كونز الملساء الإيجابية إلى خلق مجتمع مثالي مصقول، لا يعتمد على أي بعد تخيّلي أو تأويلي للعالم، عالم مبني على الإعجاب، وقول “واااو” (هذا ما ادعى كونز البحث عنه). لا إرادة قوة الإستيتيقا فيه، تتحكم فيه الاستهلاكية بشكل مطلق، ليغدو العمل الفني مجرد سلعة تجارية واستعراضية، لا غائية فيها. إنها تحقيق للتفاهة لا لتجليات الواقع فيها، حيث “إن التفاهة، مثلما يقول بودريار غزو الخواء لقلب نظام الأدلة”. وهو ما يعارض فلسفة دانتو الذي رأى أن تحويل المبتذل يستند على استخراج الدلالات الإستيتيقية الكامنة في الأشياء الاعتيادية، فلا وجود لِكُنّهٍ جوهري في الأشياء يجعل منها فنية، سوى طريقة تأويلها وانتمائها إلى عالم الفن.


    عزالدين بوركة
يعمل...
X