فنان يحول الأشعار الحزينة إلى نصوص بصرية تتألم لحال السودان.

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فنان يحول الأشعار الحزينة إلى نصوص بصرية تتألم لحال السودان.

    "موسم الهجرة المرير" للفنان السوداني راشد دياب تهب رياحه في صالة لبنانية


    فنان يحول الأشعار الحزينة إلى نصوص بصرية تتألم لحال السودان.


    ألم يصاحب المهاجرين السودانيين

    انطلاقا من الأشعار السودانية الوجدانية الحزينة، والتي تحكي ثقافة مجتمع بأكمله، صاغ الفنان التشكيلي راشد دايب مفردات نصه التشكيلي، ليسرد به موسم الهجرة المرير الذي يبدو أنه كتب على السودانيين منذ عقود، ولا تبدو له نهاية حتى الآن.

    في مطلع شهر يونيو الجاري افتتحت صالة “برّاق نعماني” في بيروت معرضا للفنان التشكيلي السوداني راشد دياب تحت عنوان “موسم الهجرة المرير”.

    كان الفنان قد غاب عن ساحة العرض الفني لمدة تفوق العشرين سنة. يضم المعرض مجموعة كبيرة من الأعمال المشغولة بمادة الأكريليك على القماش والورق ويستمر حتى نهاية الشهر.

    إن كان من مدخل مناسب إلى عالم الفنان رشيد دياب الغني بالمفردات الوجدانية والثقافية البصرية فهو الالتفات إلى الشاعر السوداني صلاح أحمد إبراهيم الذي استوحى الفنان من أشعاره العديد من لوحاته في حين غذت وجدانيات الشاعر الذي يؤمن بها الفنان مجمل أعماله الفنية.

    ويذكر أن الشاعر هو من رواد الشعر الحديث في السودان، وأحد مؤسسي مدرسة الغابة والصحراء، وهي تيار ثقافي تأسس في ستينات القرن الماضي.

    وقد سبق أن ذكر الفنان أن “لوحاته التي رسمها عن قصائد الشاعر خاصة عن مدينة أم درمان، لها مكانة خاصة لديَّ، فشعره شمس تشرق في كل جوانحي، ومدد يحرك كل ساكن فيَّ”.

    "موسم الهجرة المرير" هو عنوان واضح في بداية الأمر. ولكن زائر المعرض سيجد نفسه يبحث عن هذه "المرارة"

    يكفي أن نذكر هذه الكلمات من شعر صلاح أحمد إبراهيم لتظهر أمامنا النساء الملتحفات بالغموض واللاتي رسمهن الفنان في لوحاته المعروضة في صالة “براّق نعماني” والعديد من لوحاته السابقة:

    “ومضيت مأخوذاً وكنت قد اختفيت/من أنت؟ ما اسمك يا جميل؟ / وكنت من أي الكواكب قد أتيت وقد أختفي/مازلت تملأ خاطري مثل الأريج/كصدى أهازيج الرعاة تلمه خضر المروج/كبقية الحلم الذي ينداح عن صبح بهيج ومضيت مأخوذاً وكنت قد اختفيت..”. وفي مقتطف تال يقول الشاعر “وأنا أفتش في ابتسامات الرضا/ في كل ركن سعادة لك عن أثر/في كل نجم خافق/في كل عطر عابق/في كل نور دافق/ لك عن أثر”.

    لا شك أن عنوان المعرض الذي نحن بصدده “موسم الهجرة المرير” هو عنوان واضح في بداية الأمر. ولكن زائر المعرض سيجد نفسه يبحث عن هذه “المرارة” الواردة في العنوان دون أن يعثر عليها لأنها تحولت إلى حالة وجدانية التحفت بسكينة استثنائية مُشبّعة بالألوان الأكثر حرارة ومرتوية بتلك التي فاض فيها الماء وورّقت فيها زرقة السماء وأنعشتها رطوبة الأشجار المُلطفة للنفوس والأجساد المُرهقة.

    وفي هذا السياق سبق أن أشار الفنان إلى أن “سؤال الهوية الذي تبحث الثقافة عن إجابة له، وفي حالتنا السودانية التي تدور في فلك متأرجح بين ‘العربانية’ و’الزنجية’، يختلط الرافدان في بوتقة تتشكل منها الهوية، مستفيدةً من عطاء الحضارتين الأفريقية والعربية”. الصحراء والرمال والشمس والبحر والأنهار ورطوبة الغابات كل تلك العناصر هي علامات تحضر في لوحاته وخلفياتها وفي أثواب النسوة التي تلفحها ريح رطبة أو تثقلها رمال صحراوية حارة.


    مشاهد متنوعة المعنى والمضمون


    وساهم هذا الحضور لمشاهد متنوعة بالمعنى وبالمضمون في نشوء نصه التشكيلي/ التجريدي الخاص جدا.

    سيعثر زائر المعرض على لانهائية مواسم الهجرة كمعنى مفتوح على شتى أنواع التأويل. وما سيجده هو حالة عيش مستمرة غير مقرونة بأي موسم له بداية ونهاية. حالة عيش نودّ أن نسميها حالة قدرية ليس فيها خوف عميق من الموت ولا حزن عميق بسبب الهجرة لأن فيها الكثير من الصوفية والزخم الشعري حققته الألوان بتداخلها والخطوط بارتجاجها، وأظهره تشكّل الهيئات، لاسيما البشرية المُتمثلة في النساء بأمتعتهن وفي أثوابهن التقليدية الأقرب إلى أطياف ملوّنة سائحة في فضاء مفتوح أفقيا وعموديا. فحتى الأرض التي من المفترض أن تكون لها صفة الثبات بشكل أو بآخر هي الأخرى هيولية تحت انحناء الضوء العابق المجهول مصدره، وفي مرمى أشعة الشمس وهي في أوج وهجها وحرارتها.

    ما كان يمكن وصفه بالمرارة يبدو أنه في معظم لوحات الفنان متحول إلى خلاص من محدودية الأمر الواقع نحو عالم أرحب فيه الكثير من النفحات الروحانية.

    اللوحات الحاضرة في الصالة (والسابقة التي لم يطغ عليها التجريد) ربما تكون من أروع ما أبدع الفنان حتى الآن. لوحات لعب فيها تموج وخفقان وانسدال أثواب النساء الملونة دورا رئيسيا في إخراج ملكة التقدم والأفول والتراجع والسرعة والبطء في السير من تقليدية معناهم. فلا الأفول هو غياب مرهون بالوقت ولا التراجع هو نقيض التقدم ولا البطء، الذي ترخي ظلاله تدرجات ألوان الرمال الصحراوية الخالية من أية نتوءات، يمكن أخذه على محمل الجدّ حين ننظر إلى التنوع الحركي في خامة قماش الأثواب وهامات الرجال المصنوعة من رقيق القماش وسماكته على حد السواء: لا حزن في اللوحات ولا في أحوال الرحيل عن أرض الأم وإن كانت كل المسببات الخارجية حاضرة.


    لا حزن بالمعنى البسيط. بل تكسر وانحناءات واحتواء للرياح الصحراوية وتدثير لمعالم وجوه النسوة ليصبحن مواطن شاعرية لغموض يملك وحده مفتاح الخلاص من “مرارة” مواسم الهجرة. ليس فقط الهجرة التي تعاظمت إثر النزاعات القائمة في السودان، بل أيضا كل الهجرات التي تعصف في بلدان المنطقة.

    ومن هذا المنطلق أصبح نص الفنان السوداني رشيد دياب جامعا لهواجس وأحلام القارة الأفريقية والمنطقة العربية مستلهما من بيئتها الطبيعية التي تضم الصحارى التي ترمز إلى الدول العربية والغابات النضرة التي تحيل إلى القارة الأفريقية.

    يُشار إلى أن الفنان ولد في مدينة ود مدني بحي (ود أزرق العريق) في العام 1957، أمضى أكثر من 20 سنة في إسبانيا. وحاصل على البكالوريوس من كلية الفنون الجميلة والتطبيقية في الخرطوم بمرتبة الشرف الممتازة في التلوين، ثم على الأستاذية في الرسم من كلية الفنون الجميلة في جامعة مدريد المركزية، ثم الماجستير في التلوين وفي فن الحفر من الجامعة ذاتها، ثم الدكتوراه بتقدير ممتاز في فلسفة الفنون الجميلة من جامعة مدريد المركزية في إسبانيا. شارك في عدد كبير من الفعاليات الثقافية في مختلف أنحاء العالم، وله العديد من المعارض الداخلية والعالمية.



    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    ميموزا العراوي
    ناقدة لبنانية
يعمل...
X