"روكو وإخوته"
موسم الهجرة إلى الشمال... من إيطاليا إلى إيطاليا
---
إن قُدِّر لفيلم أن يجسد "الواقعية الجديدة" الإيطالية، فقد يكون Rocco e i suoi fratelli "روكو وإخوته" (عنوانه العالمي Rocco and his brothers).
الفيلم، الذي أخرجه لوكينو ڤيسكونتي Luchino Visconti وعُرض في 1960، يجمع بعبقرية متعة الفن السابع مع دراسة اجتماعية دقيقة لإيطاليا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
فيلم سوداوي، متشائم، قاسٍ، يحكم على مجتمع بأكمله، يفضح خيباته ويُعري أنانيته. إنه مرافعة ضد المدينة -بمعناها العام- المدينة التي تفسد وتعذب وتهمِّش من لا يتأقلم معها.
ورغم كونه إيطالياً، أسهم إسهاماً حاسماً في إطلاق فرنسي وفرنسية إلى النجومية: ألان ديلون Alain Delon بدور "روكو"، وآني جيراردو Annie Girardot بدور "ناديا"، الفتاة اللعوب، بائعة الهوى، التي تجسد المدينة نفسها بما فيها من مفاتن وجاذبية ومُغريات وأوهام وفساد وإفساد وتشتيت للشمل العائلي...
--
الأم الطموحة
روزاريا (تمثيل اليونانية كاتينا پاكسينو Katina Paxinou) ريفية عنيدة فظة الطباع، من منطقة بازيليكاتا الفقيرة، في جنوب البلاد. لها خمسة أبناء. عقب ترمُّلها، تطمح إلى مستقبل أفضل، فتهاجر إلى ميلانو مع أولادها الأربعة. فابنها البكر ڤينشينزو (تمثيل اليوناني سپيروس فوكاس Spiros Fokas) كان سبقهم إلى الحاضرة الشمالية "الغنية" نشداناً لوضع أفضل.
منذ الساعات الأولى، تصطدم الأسرة المهاجرة بالنظرة الاستعلائية لسكان شمال إيطاليا تجاه مواطنيهم الجنوبيين. فللابن ڤينشينزو خطيبة من ميلانو تدعى جينيتا (تمثيل كلوديا كاردينالي Claudia Cardinale المبتدئة وقتها، كمعظم باقي طاقم الممثلين). تعمد أسرتها إلى طرد العجوز الريفية وأبنائها من البيت، ما يسبب حرجاً كبيراً للخطيبين بحيث يوشكان على الانفصال لولا أن حبهما ينتصر في النهاية.
لماذا "روكو"؟
روكو الابن الثالث بعد ڤينشينزو وسيموني (تمثيل ريناتو سالڤاتوري Renato Salvatori)، وقبل شيرو (تمثيل الفرنسي ماكس كارتييه Max Cartier) وآخر العنقود، الصبي لوكا (تمثيل روكو ڤيدولاتسي Rocco Vidolazzi).
فلماذا عنوان الفيلم روكو، وهو الثالث؟ السبب أنه الأنزه والأكثر براءة وعفوية، والأكثر وفاءً للقيم العائلية وحنيناً إلى "بلده الأصلي" مثلما يسمي منطقة الأرياف المنحدر منها. يؤكد: "كنا فقراء لكن متعاضدين أفسدتنا المدينة". وفي حوار آخر: "حلمي الأكبر العودة إلى مسقط رأسي، واسترجاع هويتي الحقيقية وذكرياتي العزيزة".
أما شيرو، الابن الرابع، فهو الأكثر جدية وامتثالية والتزاماً. يجد عملاً في مصانع سيارات ألفا روميو ويتمسك بالمواظبة من دون تذمر. كما يرتبط هو أيضاً بفتاة من ميلانو، كأخيه الأكبر. كلاهما يقترنان بخطيبتيهما لاحقاً.
--
سيموني المشاكس: من مارق إلى مجرم
لكن الشخصية الأهم هو الابن الثاني، سيموني. فهو يجسد العجز عن التكيف مع المدينة، والانجرار المفرط وراء مغرياتها، متمثلة بناديا اللعوب. سعت هذه في البداية إلى إغواء ڤينشينزو، ولم توفق. ثم أغوت سيموني غواية عارمة انتهت بمأساة. والأمر وأدهى: أغوت أيضاً روكو ولو بعد مضي عامين على نهاية علاقتها بسيموني.
يتألق سيموني في الملاكمة وقتاً، ويحرز بطولات محلية كهاوٍ، أي غير ثري كالمحترفين. فبات يستدين تارة ويسرق تارة لإبهار ناديا، التي تعلق بها جنونياً. يتذبذب بين العشق والهيام والكراهية والشعور بالذل والعجز، بالضبط مثل انجراره وراء المدينة ومغناطيسيتها الجامحة وكرهه لها في آن.
شخصية سيموني صرخة تنذر: "الويل لمن لا يجيد مواجهة ذلك المارد المسمى مدينة كبيرة".
يؤدّى تعثر علاقته بناديا وتلاعبها به إلى القضاء على مسيرته كملاكم موعود بمستقبل مشرق. فيصبح صعلوكاً سكيراً يسعى إلى ابتزاز الجميع حتى أمه وإخوته، ومثقلاً بديون معظمها لمدير أعماله السابق الجشع.
قتال الأخوين
يتخذ الفيلم منحىً مأساوياً عنيفاً بالتطرق إلى جانب آخر من ويلات المدينة: الغيرة والحسد والأنانية والقيل وقال. فبعض أصدقاء السوء، بسبب غيرتهم من سيموني في فترة تألقه ماضياً كملاكم، يتعمدون الوشاية لتحريضه ضد روكو. يخبرونه أن حبيبته السابقة تقيم علاقة معه. والأنكى وأوجع: أنها مغرمة به غراماً صادقاً (وكأن الغرام الصادق هو النشاز) لدرجة أنها تخلّت من أجله عن مهنتها الجسدية وبدأت تأخذ دروساً في الطباعة والسكرتارية بهدف إيجاد عمل شريف.
تثور حفيظة سيموني، فيهرع إلى مكان لقاء روكو وناديا، حيث يقوده إليه أصدقاء السوء إياهم. وبينما يمسك اثنان منهم بروكو بقوة لمنعه من التصرف، يعمد سيموني إلى اغتصاب ناديا أمامه، غير آبه بتوسلاتها. ثم يضرب روكو ضرباً مبرحاً، وهذا لا يقوى على الرد احتراماً لأخيه الأكبر منه بسنة. فيتركه سيموني وربعه شبه ميت على الرصيف.
يفطن روكو إلى أن علاقته مع ناديا كانت خطيئة لا يغفرها لنفسه، رغم أنه بررها لسيموني في ليلة العنف تلك بالقول:
- ثم ماذا؟ علاقتكما انتهت قبل سنتين!
يثبت روكو لاحقاً أنه أكثر من يحب سيموني ويخلص إلى آصرة الأخوة. فيوافق على إمضاء عقد مُجحف يُلزمه كملاكم (هو أيضاً تدرب على الملاكمة) بخوض نزالات لمدة 10 أعوام. وهدفه: جني ما يكفي من المال لـ"إطفاء" ديون سيموني وإنقاذه من السجن بسببها.
--
سيموني القاتل
ينتهي سيموني بطعن ناديا عشرات المرات في مكان منزوٍ داهمها فيه بعدما عادت إلى مهنتها السابقة. يهرب زبونها الأخير. فيقتلها سيموني المتيم بها كأنه يقتل المدينة التي أفسدته وعذبته، المدينة التي رفعته ثم أنزلته إلى الحضيض... يقتلها لأنها مصدر تعاسته، لأنها وهمٌ لا هو يبلغه ولا هو يقدر على التخلص منه.
يعود إلى البيت ويخبر روكو بفعلته، فيظل الأخوان يبكيان طويلاً، متعانقين. روكو، الحريص على الأواصر الأسرية، يقرر ألا يشي أحد بسيموني. لكن شيرو، الامتثالي الجاد، يتمكن من الهرب ويخبر السلطات. فيصير الإعدام الأفق الذي ينتظر سيموني.
الإيماءة الوحيدة في الفيلم الممكن -ربما- عدُّها تفاؤلاً هي اللقطة الأخيرة: الصبي لوكا، الابن الأصغر، نراه يمضي في شارع صناعي مبهم، يمثل مستقبلاً مجهولاً إنما قد يكون مشرقاً.
موسم الهجرة إلى الشمال... من إيطاليا إلى إيطاليا
---
إن قُدِّر لفيلم أن يجسد "الواقعية الجديدة" الإيطالية، فقد يكون Rocco e i suoi fratelli "روكو وإخوته" (عنوانه العالمي Rocco and his brothers).
الفيلم، الذي أخرجه لوكينو ڤيسكونتي Luchino Visconti وعُرض في 1960، يجمع بعبقرية متعة الفن السابع مع دراسة اجتماعية دقيقة لإيطاليا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
فيلم سوداوي، متشائم، قاسٍ، يحكم على مجتمع بأكمله، يفضح خيباته ويُعري أنانيته. إنه مرافعة ضد المدينة -بمعناها العام- المدينة التي تفسد وتعذب وتهمِّش من لا يتأقلم معها.
ورغم كونه إيطالياً، أسهم إسهاماً حاسماً في إطلاق فرنسي وفرنسية إلى النجومية: ألان ديلون Alain Delon بدور "روكو"، وآني جيراردو Annie Girardot بدور "ناديا"، الفتاة اللعوب، بائعة الهوى، التي تجسد المدينة نفسها بما فيها من مفاتن وجاذبية ومُغريات وأوهام وفساد وإفساد وتشتيت للشمل العائلي...
--
الأم الطموحة
روزاريا (تمثيل اليونانية كاتينا پاكسينو Katina Paxinou) ريفية عنيدة فظة الطباع، من منطقة بازيليكاتا الفقيرة، في جنوب البلاد. لها خمسة أبناء. عقب ترمُّلها، تطمح إلى مستقبل أفضل، فتهاجر إلى ميلانو مع أولادها الأربعة. فابنها البكر ڤينشينزو (تمثيل اليوناني سپيروس فوكاس Spiros Fokas) كان سبقهم إلى الحاضرة الشمالية "الغنية" نشداناً لوضع أفضل.
منذ الساعات الأولى، تصطدم الأسرة المهاجرة بالنظرة الاستعلائية لسكان شمال إيطاليا تجاه مواطنيهم الجنوبيين. فللابن ڤينشينزو خطيبة من ميلانو تدعى جينيتا (تمثيل كلوديا كاردينالي Claudia Cardinale المبتدئة وقتها، كمعظم باقي طاقم الممثلين). تعمد أسرتها إلى طرد العجوز الريفية وأبنائها من البيت، ما يسبب حرجاً كبيراً للخطيبين بحيث يوشكان على الانفصال لولا أن حبهما ينتصر في النهاية.
لماذا "روكو"؟
روكو الابن الثالث بعد ڤينشينزو وسيموني (تمثيل ريناتو سالڤاتوري Renato Salvatori)، وقبل شيرو (تمثيل الفرنسي ماكس كارتييه Max Cartier) وآخر العنقود، الصبي لوكا (تمثيل روكو ڤيدولاتسي Rocco Vidolazzi).
فلماذا عنوان الفيلم روكو، وهو الثالث؟ السبب أنه الأنزه والأكثر براءة وعفوية، والأكثر وفاءً للقيم العائلية وحنيناً إلى "بلده الأصلي" مثلما يسمي منطقة الأرياف المنحدر منها. يؤكد: "كنا فقراء لكن متعاضدين أفسدتنا المدينة". وفي حوار آخر: "حلمي الأكبر العودة إلى مسقط رأسي، واسترجاع هويتي الحقيقية وذكرياتي العزيزة".
أما شيرو، الابن الرابع، فهو الأكثر جدية وامتثالية والتزاماً. يجد عملاً في مصانع سيارات ألفا روميو ويتمسك بالمواظبة من دون تذمر. كما يرتبط هو أيضاً بفتاة من ميلانو، كأخيه الأكبر. كلاهما يقترنان بخطيبتيهما لاحقاً.
--
سيموني المشاكس: من مارق إلى مجرم
لكن الشخصية الأهم هو الابن الثاني، سيموني. فهو يجسد العجز عن التكيف مع المدينة، والانجرار المفرط وراء مغرياتها، متمثلة بناديا اللعوب. سعت هذه في البداية إلى إغواء ڤينشينزو، ولم توفق. ثم أغوت سيموني غواية عارمة انتهت بمأساة. والأمر وأدهى: أغوت أيضاً روكو ولو بعد مضي عامين على نهاية علاقتها بسيموني.
يتألق سيموني في الملاكمة وقتاً، ويحرز بطولات محلية كهاوٍ، أي غير ثري كالمحترفين. فبات يستدين تارة ويسرق تارة لإبهار ناديا، التي تعلق بها جنونياً. يتذبذب بين العشق والهيام والكراهية والشعور بالذل والعجز، بالضبط مثل انجراره وراء المدينة ومغناطيسيتها الجامحة وكرهه لها في آن.
شخصية سيموني صرخة تنذر: "الويل لمن لا يجيد مواجهة ذلك المارد المسمى مدينة كبيرة".
يؤدّى تعثر علاقته بناديا وتلاعبها به إلى القضاء على مسيرته كملاكم موعود بمستقبل مشرق. فيصبح صعلوكاً سكيراً يسعى إلى ابتزاز الجميع حتى أمه وإخوته، ومثقلاً بديون معظمها لمدير أعماله السابق الجشع.
قتال الأخوين
يتخذ الفيلم منحىً مأساوياً عنيفاً بالتطرق إلى جانب آخر من ويلات المدينة: الغيرة والحسد والأنانية والقيل وقال. فبعض أصدقاء السوء، بسبب غيرتهم من سيموني في فترة تألقه ماضياً كملاكم، يتعمدون الوشاية لتحريضه ضد روكو. يخبرونه أن حبيبته السابقة تقيم علاقة معه. والأنكى وأوجع: أنها مغرمة به غراماً صادقاً (وكأن الغرام الصادق هو النشاز) لدرجة أنها تخلّت من أجله عن مهنتها الجسدية وبدأت تأخذ دروساً في الطباعة والسكرتارية بهدف إيجاد عمل شريف.
تثور حفيظة سيموني، فيهرع إلى مكان لقاء روكو وناديا، حيث يقوده إليه أصدقاء السوء إياهم. وبينما يمسك اثنان منهم بروكو بقوة لمنعه من التصرف، يعمد سيموني إلى اغتصاب ناديا أمامه، غير آبه بتوسلاتها. ثم يضرب روكو ضرباً مبرحاً، وهذا لا يقوى على الرد احتراماً لأخيه الأكبر منه بسنة. فيتركه سيموني وربعه شبه ميت على الرصيف.
يفطن روكو إلى أن علاقته مع ناديا كانت خطيئة لا يغفرها لنفسه، رغم أنه بررها لسيموني في ليلة العنف تلك بالقول:
- ثم ماذا؟ علاقتكما انتهت قبل سنتين!
يثبت روكو لاحقاً أنه أكثر من يحب سيموني ويخلص إلى آصرة الأخوة. فيوافق على إمضاء عقد مُجحف يُلزمه كملاكم (هو أيضاً تدرب على الملاكمة) بخوض نزالات لمدة 10 أعوام. وهدفه: جني ما يكفي من المال لـ"إطفاء" ديون سيموني وإنقاذه من السجن بسببها.
--
سيموني القاتل
ينتهي سيموني بطعن ناديا عشرات المرات في مكان منزوٍ داهمها فيه بعدما عادت إلى مهنتها السابقة. يهرب زبونها الأخير. فيقتلها سيموني المتيم بها كأنه يقتل المدينة التي أفسدته وعذبته، المدينة التي رفعته ثم أنزلته إلى الحضيض... يقتلها لأنها مصدر تعاسته، لأنها وهمٌ لا هو يبلغه ولا هو يقدر على التخلص منه.
يعود إلى البيت ويخبر روكو بفعلته، فيظل الأخوان يبكيان طويلاً، متعانقين. روكو، الحريص على الأواصر الأسرية، يقرر ألا يشي أحد بسيموني. لكن شيرو، الامتثالي الجاد، يتمكن من الهرب ويخبر السلطات. فيصير الإعدام الأفق الذي ينتظر سيموني.
الإيماءة الوحيدة في الفيلم الممكن -ربما- عدُّها تفاؤلاً هي اللقطة الأخيرة: الصبي لوكا، الابن الأصغر، نراه يمضي في شارع صناعي مبهم، يمثل مستقبلاً مجهولاً إنما قد يكون مشرقاً.