دكتور ژيڤاگو Doctor Zhivago
طول الفيلم : 3 ساعات و 20 دقيقة
إخراج : ديفيد لين
تمثيل : عمر الشريف ( في دور دكتور " ژيڤاگو " )
جولي كريستي ( في دور " لارا " )
جيرالدين چاپلن ( في دور " تونيا " )
هل كان الكاتب الروسي " بوريس باسترناك " ( 1890 ـ 1960 ) مُدركاً لنتائج ما أقدم عليه حين كتب روايته ( دكتور ژيڤاگو ) في ظرف سياسي بالغ الحساسية في روسيا في عهد الإتحاد السوڤييتي ( السابق ) ، خاصة و أنها مبنية ٌ على ثيمة ايحائية تتمثل بالتذمر من البلاشفة و الشيوعية ؟
إذا كان " باسترناك " مُدركاً للنتائج فإنه يكون قد دخل في حَيّز مغامرة تحدٍّ حقيقي ، أما اذا لم يكن مدركاً فهذا يعني أن ما قاده الى ذلك هو لاوعيه في معاداة النظام ، و قد كان أحد أنصاره ، و قام بما قام به بسذاجة مَن لا يعرف محيطه . ولكن " باسترناك " كان عبقرياً ، بدليل هذه الرواية التي تُعتبر في طليعة أهم روايات القرن العشرين ، و هو نفسُهُ كان أهم شعراء روسيا في ذلك القرن قبل أن يكتب هذه الرواية و يذيعُ صيتُهُ كروائي . إذن لا يوجد سوى تفسيرٍ واحد ، و هو إن وحياً ما أوحى اليه بالإقدام على كتابة ( دكتور ژيڤاگو ) دون الإهتمام بالنتائج .
ربما ندم السوڤييت عندما سمحوا لـ " باسترناك " بالإقتراب من دور النشر الأجنبية ، بعد أن وصلت مخطوطة روايته الى ايطاليا ، و طبعتها شركةٌ ايطالية ، و كان هذا هو الباب الذي ولجت منه الروايةُ الى العالمية ، بعد أن تبنت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية طبعَها بعدة لغات .
و لهذا ، عندما ظهرت الرواية و ذاع صيتها ، فقد جاءت النتائج ، في روسيا ، سلبية ًعلى " باسترناك " الذي يستغرب الجميع كيف أنه سَلمَ من المحاكمة و الحكم المعروف : السَجن أو الإعدام ، ولكن ذلك لم يحدث ، و تفسيري الشخصي هو أن الرواية نُشرت في العام 1957 ، أي بعد عام على الخطاب المدوّي الذي ألقاه الزعيم السوڤييتي " نيكيتا خروچوف " في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوڤييتي ، و الذي عرّى فيه سلفَهُ " ستالين " و كشف عن جرائمه و اغتيالاته ، و منها تصفية الأدباء و المفكرين و العلماء السوڤييت ، كما إن " لاڤرينتي بيريا " لم يكن موجوداً لإنه كان قد تمت محاكمته و اُعدم رمياً بالرصاص في 23/12/1953 ، و كان هذا المجرمُ الذراعَ الأيمن لـ " ستالين " ، و هو المسؤولُ الأولُ و المباشرُ عن كل تلك التصفيات . يقول عنه الشاعر الروسي " يڤگيني يڤتوشينكو " ( 1932 ــ 2017 ) في مذكراته ( إن الرصاصة التي أُطلقت على رأس " بيريا " كانت رصاصة ً عادلة ، غير أنها عدالةٌ متأخرة مع الأسف ) .
أما في الخارج ، فإن الرواية صدرت ــ عام 1957 ــ في أوج الحرب الباردة بين الولايات المتحدة و الإتحاد السوڤييتي ، و ما أن وقعت مُسوَّدة الرواية في يد المخابرات المركزية الأمريكية حتى استخدمتها كسكين في خاصرة السوڤييت ، فطبعتها و وزعتها ، و عمدت ، في خطوة شيطانية ، الى طبعها حتى باللغة الروسية ، و وزعت نسخاً من هذه الطبعة على المسؤولين الروس المشاركين في المعرض الدولي للكتاب في بروكسل آنذاك ، كي تصل الى القادة السوڤييت و تقول لهم : انظروا ، هذه هي نظرة الناس في بلدكم اليكم . و إذ ذاعَ صيتُ الرواية و صيتُ " باسترناك " في العالم ، فإن ذلك حَصّـنهُ في الداخل رغم الحملات ضده . ولكن السكين تعمقت في خاصرة السوڤييت في العام التالي ( 1958 ) عندما أُعلـِن عن فوز " باسترناك " بجائزة نوبل للآداب ، و قبل يومٍ واحدٍ فقط من هذا الإعلان ، كانت صحيفة ( التايمز ) الأمريكية قد قالت أنه ( من المُرجّح أن يحصل " باسترناك " على جائزة نوبل في الأدب لهذا العام ) ، هنا أُسقط في يد موسكو ، فراح كُتّاب السلطة يشككون بقيمة الجائزة رغم فرح الروس بفوز مواطنهم بها ، فظهرت في الصحف السوڤييتية ـ و في مقدمتها صحيفة الحزب ( پراڤدا ) ـ عباراتٌ مثل : (عملٌ حقيرٌ فنياً و خبيث و مفعم بكراهية الاشتراكية ) و ( لطخة تافهة على بلدنا الاشتراكي ) و ( عملٌ رخيصٌ رجعيٌ منحطُ القيمة ) . و نشر اتحاد الكتاب السوڤييت بياناً قال فيه : ( أمثولة عن ثعبان زحف خارجًا من (مياه الروث) ليهدد العقاب الفخور المحلق عالياً ) و وصف " باسترناك " بـ ( الخنزير ) .. و طُرد من الإتحاد .
ولكن بعد يومين ، كتب " باسترناك " ، بالقلم الرصاص ، البرقية الركيكة التالية و أرسلها الى الأكاديمية السويدية ، التي تمنحُ جائزة نوبل : ( من منطلق المعنى المضاف لهذا التكريم في المجتمع الذي أنتمي إليه ، لا بد أن أمتنع عن قبول الجائزة غير المستحقة التي حصلت عليها . لا تتلقوا رفضي الطوعي بسوء نية ) . و حينها ، ذكرت صحيفة ( التايمز ) أن " باسترناك " ( ذكر لمراسلَين غربيَين اثنين أن كل الرسائل التي بعثها إلى ستوكهولم بعثها بحرية ) ، ولكن لا أحد يصدق كلامه هذا ، فالضغط الذي دفعه الى أن ( يرفض ) أرفع جائزة في العالم هو ذات الضغط الذي دفعه الى أن يقول هذا الكلام ، وهو ذات الضغط الذي جعله يبعث برسالة اعتذار الى صحيفة ( پراڤد ) في 6 نوفمبر 1958 ، يعلن فيها أنه ( أخطأ ) حين قبل بالجائزة أول الأمر .
ولكنه كتب ـ لاحقاً ـ قصيدةً ، يقول مطلعُها : ( أنا ضائعٌ كوحشٍ محبوس ) . و يقال أنه صرّح لأحد الصحفيين بأنه لن يتخلى عن حرف واحد من ( دكتور ژيڤاگو ) .
في 30 مايو / أيار عام 1960 توفي " بوريس باسترناك " عن سبعين عاماً . و بعد ثلاثة أيام ، شَيعت جنازتَه حشودٌ من المعجبين و هي تنثر على عربة جثمانه الأغصانَ الطرية و الورود .
و حسب صحيفة ( التايمز ) ــ عن الأكاديمية السويدية ــ فقد : ( حُفظت جائزة " باسترناك " التي تبلغ قيمتها 41,420 ألف دولاراً ، و ميداليته الذهبية الثقيلة ، و لفافة الجائزة الجلدية لدينا في حالة حظى في أحد الأيام بفرصة قبولها ) .
و في ربيع عام 2020 صدرت في أكثر من عشرة بلدان رواية للكاتبة الأمريكية " لارا بريسكوت " بعنوان ( المثيرة ) تستعرض فيها كل التفاصيل المتعلقة برواية ( دكتور ژيڤاگو ) و جائزة نوبل التي حصل عليها " باسترناك " و المشاكل التي تعرض لها و حيثيات رفضه للجائزة فيما بعد .
في سياق الحرب الباردة ذاتها ، عاد الأمريكيون الى رواية ( دكتور ژيڤاگو ) من جديد ، ليعيدوا انتاجها سينمائياً هذه المرة عام 1965 ، فاضطلع المخرج السينمائي البريطاني " ديڤيد لين " ( 1908 ـ 1991 ) بإخراجها فيلماً ، و هو المخرج العبقري الذي كان قد أخرج ثلاثة أفلام مقتبسة عن روايات الكاتب الإنجليزي الشهير " چارلز ديكنز " : ( لقاءٌ عابر ) عام 1945 ، ( الآمال الكبيرة ) عام 1946 ، ( أوليڤر تويست ) عام 1948 ، و هو الذي أخرج الأفلام الملحمية ، مثل : ( جسرٌ على نهر كواي ) عام 1957 ، ( ممر الى الهند ) عام 1984 ، ( لورنس العرب ) عام 1962 ، و هو الفيلم الذي أشرك فيه الفنان المصري " عمر الشريف " ( 1932 ـ 2015 ) ليفتح أمامه باب العالمية و ترشح للأوسكار عن هذا الفيلم كأفضل ممثل مساعد ، وها هو يسند اليه دور البطولة في فيلم ( دكتور ژيڤاگو ) عام 1965 ، ليصبح نجماً عالمياً منذ ذلك الحين ، و هو أعظم أدواره على الإطلاق .
يبدأ الفيلم من لقطة يظهر فيها الجنرال الرفيق " يڤگراف أندريڤيتش ژيڤاگو " في مكتب أحد المصانع ( لعبَ دورَهُ الممثلُ البريطاني " أليك گينيس " ) و هو ينتظر فتاةً استدعاها لمقابلته . تدخل الفتاةُ مرعوبة ً و الخوف ظاهرٌ في عينيها ، و هذا أمر طبيعي ، يحدث لأي مواطن يُستدعى من قبل رفيق حزبي في دولة بوليسية ، لذلك يطمئنها موظف المكتب عندما يفتحُ لها الباب بقوله : ( تفضلي بالدخول ، ليست هناك مشكلة ) .
يعتقد الجنرال ، الرفيق " يڤگراف ژيڤاگو" ، أن الفتاة ( لعبت دورها " ريتا توشنگهام ) هي ابنة أخيه غير الشقيق الشاعر الطبيب " يوري ژيڤاگو " ، فيسألها عدة أسئلة ليتأكد من شخصيتها ولكنها تجيبُ على أسئلته بأجوبةٍ هلامية ، عدا سؤالٍ واحد تجيب عليه بوضوح بأنها فعلاً كانت قد عُثر عليها في منگوليا .
تنتقل الكاميرا الى مشهدٍ عريضٍ في برية ، و هذه المشاهد يحبذها المخرج " ديڤيد لين " و هي جزءٌ من شخصيته الإخراجية . كان الفيلم في البداية من تصوير المصور البريطاني " نيكولاس روج " ( 1928 ـ 2018 ) لكن مشادة بينه و بين المخرج قادت الى استبداله بالمصور البريطاني " فريدي يونگ " ( 1902 ـ 1998 ) و هو ذات المصور الذي صور للمخرج فيلمه ( لورنس العرب ) الذي اشتهر " عمر الشريف " عالمياً من خلاله .
في هذا المشهد العريض ، في البَريّة ، تظهر مجموعة ٌ تشيع جنازة ً، بينهم صبيٌ في الثامنة من عمره ( لعبَ دورَه " طارق " ، إبن " عمر الشريف " و " فاتن حمامة " ــ يعيش حالياً في كندا ) ، هذا الصبي هو " يوري " الذي سيُصبحُ ( دكتور ژيڤاگو ) و الذي سيلعبُ دوره " عمر الشريف " . و الجنازة هي لأم " يوري " الذي بات وحيداً ، و من هنا تبدأ الدراما و تشعباتها في رواية عميقة ثم في فيلم ملحمي تدور أحداثه بين عامي 1903 و 1917 ، و يشهد أحداثَ حرب القوقاز و الحرب العالمية الأولى و الحرب الأهلية الروسية و أحداث ثورة اكتوبر الشيوعية و الحرب بين الجيش الأبيض الموالي للقيصر " نيكولاي الثاني " و الجيش الأحمر البلشفي الموالي للشيوعية . ولكن التصوير لم يتم في روسيا ، لأن الفيلم في ذلك الوقت يُعد ــ حسب الرواية ــ معادياً للإتحاد السوڤييتي ، فتم التصوير ــ الذي استغرق عشرة أشهر ــ في عدة أماكن في اسپانيا و الپرتگال و كندا و فنلندا و سوريا .
قبل أن يَحسم المخرجُ قرارَه في اختيار أبطال الفيلم ، كانت هناك العديد من الأسماء قد تمّ طرحُها و تداولُها ، منها : " پول نيومان " و " ماكس ڤون سيدو " و " پيتر أوتول " و " مارلون براندو " و " جيمس ماسون " و " سوفيا لورين " و " أودري هيبورن " و " جين فوندا " و " ايڤيت ميميو " و " سارة مايلز " . و كان منتج الفيلم ، الإيطالي " كارلو پونتي " ، هو الذي اقترح اسم زوجته " سوفيا لورين " ، ولكن المخرج أقنعه بأنها لا تصلح للدور بسبب طول قامتها ، خاصة ً و أن كاتب السيناريو " روبرت ڤولت " رفض إسناد الدور لـ " لورين " .
" عمر الشريف " عندما علم أن " ديڤيد لين " ينوي إخراج الرواية ، اقترح عليه أن يسند اليه دور " باشا " ـ الذي ذهب في النهاية الى " توم كورتيناي " ، ولكن " عمر الشريف " فوجيء و ذُهل عندما أسند اليه المخرج دور " ژيڤاگو " ، و كان يستحقه حقاً .
يقول الممثل البريطاني " مايكل كين " ( 1933 ــ .... ) في مذكراته ، أنه هو الذي اقترح على المخرج اسمَ " عمر الشريف " .
في عام 2002 تم انتاج مسلسل تلفزيوني جميل قصير مأخوذ ، أيضاً ، عن رواية ( دكتور ژيڤاگو ) ، من بطولة " نيل سام " و " كيرا نايتلي " ، ولكنه لم يرق الى مستوى الفيلم .
هادي ياسين
طول الفيلم : 3 ساعات و 20 دقيقة
إخراج : ديفيد لين
تمثيل : عمر الشريف ( في دور دكتور " ژيڤاگو " )
جولي كريستي ( في دور " لارا " )
جيرالدين چاپلن ( في دور " تونيا " )
هل كان الكاتب الروسي " بوريس باسترناك " ( 1890 ـ 1960 ) مُدركاً لنتائج ما أقدم عليه حين كتب روايته ( دكتور ژيڤاگو ) في ظرف سياسي بالغ الحساسية في روسيا في عهد الإتحاد السوڤييتي ( السابق ) ، خاصة و أنها مبنية ٌ على ثيمة ايحائية تتمثل بالتذمر من البلاشفة و الشيوعية ؟
إذا كان " باسترناك " مُدركاً للنتائج فإنه يكون قد دخل في حَيّز مغامرة تحدٍّ حقيقي ، أما اذا لم يكن مدركاً فهذا يعني أن ما قاده الى ذلك هو لاوعيه في معاداة النظام ، و قد كان أحد أنصاره ، و قام بما قام به بسذاجة مَن لا يعرف محيطه . ولكن " باسترناك " كان عبقرياً ، بدليل هذه الرواية التي تُعتبر في طليعة أهم روايات القرن العشرين ، و هو نفسُهُ كان أهم شعراء روسيا في ذلك القرن قبل أن يكتب هذه الرواية و يذيعُ صيتُهُ كروائي . إذن لا يوجد سوى تفسيرٍ واحد ، و هو إن وحياً ما أوحى اليه بالإقدام على كتابة ( دكتور ژيڤاگو ) دون الإهتمام بالنتائج .
ربما ندم السوڤييت عندما سمحوا لـ " باسترناك " بالإقتراب من دور النشر الأجنبية ، بعد أن وصلت مخطوطة روايته الى ايطاليا ، و طبعتها شركةٌ ايطالية ، و كان هذا هو الباب الذي ولجت منه الروايةُ الى العالمية ، بعد أن تبنت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية طبعَها بعدة لغات .
و لهذا ، عندما ظهرت الرواية و ذاع صيتها ، فقد جاءت النتائج ، في روسيا ، سلبية ًعلى " باسترناك " الذي يستغرب الجميع كيف أنه سَلمَ من المحاكمة و الحكم المعروف : السَجن أو الإعدام ، ولكن ذلك لم يحدث ، و تفسيري الشخصي هو أن الرواية نُشرت في العام 1957 ، أي بعد عام على الخطاب المدوّي الذي ألقاه الزعيم السوڤييتي " نيكيتا خروچوف " في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوڤييتي ، و الذي عرّى فيه سلفَهُ " ستالين " و كشف عن جرائمه و اغتيالاته ، و منها تصفية الأدباء و المفكرين و العلماء السوڤييت ، كما إن " لاڤرينتي بيريا " لم يكن موجوداً لإنه كان قد تمت محاكمته و اُعدم رمياً بالرصاص في 23/12/1953 ، و كان هذا المجرمُ الذراعَ الأيمن لـ " ستالين " ، و هو المسؤولُ الأولُ و المباشرُ عن كل تلك التصفيات . يقول عنه الشاعر الروسي " يڤگيني يڤتوشينكو " ( 1932 ــ 2017 ) في مذكراته ( إن الرصاصة التي أُطلقت على رأس " بيريا " كانت رصاصة ً عادلة ، غير أنها عدالةٌ متأخرة مع الأسف ) .
أما في الخارج ، فإن الرواية صدرت ــ عام 1957 ــ في أوج الحرب الباردة بين الولايات المتحدة و الإتحاد السوڤييتي ، و ما أن وقعت مُسوَّدة الرواية في يد المخابرات المركزية الأمريكية حتى استخدمتها كسكين في خاصرة السوڤييت ، فطبعتها و وزعتها ، و عمدت ، في خطوة شيطانية ، الى طبعها حتى باللغة الروسية ، و وزعت نسخاً من هذه الطبعة على المسؤولين الروس المشاركين في المعرض الدولي للكتاب في بروكسل آنذاك ، كي تصل الى القادة السوڤييت و تقول لهم : انظروا ، هذه هي نظرة الناس في بلدكم اليكم . و إذ ذاعَ صيتُ الرواية و صيتُ " باسترناك " في العالم ، فإن ذلك حَصّـنهُ في الداخل رغم الحملات ضده . ولكن السكين تعمقت في خاصرة السوڤييت في العام التالي ( 1958 ) عندما أُعلـِن عن فوز " باسترناك " بجائزة نوبل للآداب ، و قبل يومٍ واحدٍ فقط من هذا الإعلان ، كانت صحيفة ( التايمز ) الأمريكية قد قالت أنه ( من المُرجّح أن يحصل " باسترناك " على جائزة نوبل في الأدب لهذا العام ) ، هنا أُسقط في يد موسكو ، فراح كُتّاب السلطة يشككون بقيمة الجائزة رغم فرح الروس بفوز مواطنهم بها ، فظهرت في الصحف السوڤييتية ـ و في مقدمتها صحيفة الحزب ( پراڤدا ) ـ عباراتٌ مثل : (عملٌ حقيرٌ فنياً و خبيث و مفعم بكراهية الاشتراكية ) و ( لطخة تافهة على بلدنا الاشتراكي ) و ( عملٌ رخيصٌ رجعيٌ منحطُ القيمة ) . و نشر اتحاد الكتاب السوڤييت بياناً قال فيه : ( أمثولة عن ثعبان زحف خارجًا من (مياه الروث) ليهدد العقاب الفخور المحلق عالياً ) و وصف " باسترناك " بـ ( الخنزير ) .. و طُرد من الإتحاد .
ولكن بعد يومين ، كتب " باسترناك " ، بالقلم الرصاص ، البرقية الركيكة التالية و أرسلها الى الأكاديمية السويدية ، التي تمنحُ جائزة نوبل : ( من منطلق المعنى المضاف لهذا التكريم في المجتمع الذي أنتمي إليه ، لا بد أن أمتنع عن قبول الجائزة غير المستحقة التي حصلت عليها . لا تتلقوا رفضي الطوعي بسوء نية ) . و حينها ، ذكرت صحيفة ( التايمز ) أن " باسترناك " ( ذكر لمراسلَين غربيَين اثنين أن كل الرسائل التي بعثها إلى ستوكهولم بعثها بحرية ) ، ولكن لا أحد يصدق كلامه هذا ، فالضغط الذي دفعه الى أن ( يرفض ) أرفع جائزة في العالم هو ذات الضغط الذي دفعه الى أن يقول هذا الكلام ، وهو ذات الضغط الذي جعله يبعث برسالة اعتذار الى صحيفة ( پراڤد ) في 6 نوفمبر 1958 ، يعلن فيها أنه ( أخطأ ) حين قبل بالجائزة أول الأمر .
ولكنه كتب ـ لاحقاً ـ قصيدةً ، يقول مطلعُها : ( أنا ضائعٌ كوحشٍ محبوس ) . و يقال أنه صرّح لأحد الصحفيين بأنه لن يتخلى عن حرف واحد من ( دكتور ژيڤاگو ) .
في 30 مايو / أيار عام 1960 توفي " بوريس باسترناك " عن سبعين عاماً . و بعد ثلاثة أيام ، شَيعت جنازتَه حشودٌ من المعجبين و هي تنثر على عربة جثمانه الأغصانَ الطرية و الورود .
و حسب صحيفة ( التايمز ) ــ عن الأكاديمية السويدية ــ فقد : ( حُفظت جائزة " باسترناك " التي تبلغ قيمتها 41,420 ألف دولاراً ، و ميداليته الذهبية الثقيلة ، و لفافة الجائزة الجلدية لدينا في حالة حظى في أحد الأيام بفرصة قبولها ) .
و في ربيع عام 2020 صدرت في أكثر من عشرة بلدان رواية للكاتبة الأمريكية " لارا بريسكوت " بعنوان ( المثيرة ) تستعرض فيها كل التفاصيل المتعلقة برواية ( دكتور ژيڤاگو ) و جائزة نوبل التي حصل عليها " باسترناك " و المشاكل التي تعرض لها و حيثيات رفضه للجائزة فيما بعد .
في سياق الحرب الباردة ذاتها ، عاد الأمريكيون الى رواية ( دكتور ژيڤاگو ) من جديد ، ليعيدوا انتاجها سينمائياً هذه المرة عام 1965 ، فاضطلع المخرج السينمائي البريطاني " ديڤيد لين " ( 1908 ـ 1991 ) بإخراجها فيلماً ، و هو المخرج العبقري الذي كان قد أخرج ثلاثة أفلام مقتبسة عن روايات الكاتب الإنجليزي الشهير " چارلز ديكنز " : ( لقاءٌ عابر ) عام 1945 ، ( الآمال الكبيرة ) عام 1946 ، ( أوليڤر تويست ) عام 1948 ، و هو الذي أخرج الأفلام الملحمية ، مثل : ( جسرٌ على نهر كواي ) عام 1957 ، ( ممر الى الهند ) عام 1984 ، ( لورنس العرب ) عام 1962 ، و هو الفيلم الذي أشرك فيه الفنان المصري " عمر الشريف " ( 1932 ـ 2015 ) ليفتح أمامه باب العالمية و ترشح للأوسكار عن هذا الفيلم كأفضل ممثل مساعد ، وها هو يسند اليه دور البطولة في فيلم ( دكتور ژيڤاگو ) عام 1965 ، ليصبح نجماً عالمياً منذ ذلك الحين ، و هو أعظم أدواره على الإطلاق .
يبدأ الفيلم من لقطة يظهر فيها الجنرال الرفيق " يڤگراف أندريڤيتش ژيڤاگو " في مكتب أحد المصانع ( لعبَ دورَهُ الممثلُ البريطاني " أليك گينيس " ) و هو ينتظر فتاةً استدعاها لمقابلته . تدخل الفتاةُ مرعوبة ً و الخوف ظاهرٌ في عينيها ، و هذا أمر طبيعي ، يحدث لأي مواطن يُستدعى من قبل رفيق حزبي في دولة بوليسية ، لذلك يطمئنها موظف المكتب عندما يفتحُ لها الباب بقوله : ( تفضلي بالدخول ، ليست هناك مشكلة ) .
يعتقد الجنرال ، الرفيق " يڤگراف ژيڤاگو" ، أن الفتاة ( لعبت دورها " ريتا توشنگهام ) هي ابنة أخيه غير الشقيق الشاعر الطبيب " يوري ژيڤاگو " ، فيسألها عدة أسئلة ليتأكد من شخصيتها ولكنها تجيبُ على أسئلته بأجوبةٍ هلامية ، عدا سؤالٍ واحد تجيب عليه بوضوح بأنها فعلاً كانت قد عُثر عليها في منگوليا .
تنتقل الكاميرا الى مشهدٍ عريضٍ في برية ، و هذه المشاهد يحبذها المخرج " ديڤيد لين " و هي جزءٌ من شخصيته الإخراجية . كان الفيلم في البداية من تصوير المصور البريطاني " نيكولاس روج " ( 1928 ـ 2018 ) لكن مشادة بينه و بين المخرج قادت الى استبداله بالمصور البريطاني " فريدي يونگ " ( 1902 ـ 1998 ) و هو ذات المصور الذي صور للمخرج فيلمه ( لورنس العرب ) الذي اشتهر " عمر الشريف " عالمياً من خلاله .
في هذا المشهد العريض ، في البَريّة ، تظهر مجموعة ٌ تشيع جنازة ً، بينهم صبيٌ في الثامنة من عمره ( لعبَ دورَه " طارق " ، إبن " عمر الشريف " و " فاتن حمامة " ــ يعيش حالياً في كندا ) ، هذا الصبي هو " يوري " الذي سيُصبحُ ( دكتور ژيڤاگو ) و الذي سيلعبُ دوره " عمر الشريف " . و الجنازة هي لأم " يوري " الذي بات وحيداً ، و من هنا تبدأ الدراما و تشعباتها في رواية عميقة ثم في فيلم ملحمي تدور أحداثه بين عامي 1903 و 1917 ، و يشهد أحداثَ حرب القوقاز و الحرب العالمية الأولى و الحرب الأهلية الروسية و أحداث ثورة اكتوبر الشيوعية و الحرب بين الجيش الأبيض الموالي للقيصر " نيكولاي الثاني " و الجيش الأحمر البلشفي الموالي للشيوعية . ولكن التصوير لم يتم في روسيا ، لأن الفيلم في ذلك الوقت يُعد ــ حسب الرواية ــ معادياً للإتحاد السوڤييتي ، فتم التصوير ــ الذي استغرق عشرة أشهر ــ في عدة أماكن في اسپانيا و الپرتگال و كندا و فنلندا و سوريا .
قبل أن يَحسم المخرجُ قرارَه في اختيار أبطال الفيلم ، كانت هناك العديد من الأسماء قد تمّ طرحُها و تداولُها ، منها : " پول نيومان " و " ماكس ڤون سيدو " و " پيتر أوتول " و " مارلون براندو " و " جيمس ماسون " و " سوفيا لورين " و " أودري هيبورن " و " جين فوندا " و " ايڤيت ميميو " و " سارة مايلز " . و كان منتج الفيلم ، الإيطالي " كارلو پونتي " ، هو الذي اقترح اسم زوجته " سوفيا لورين " ، ولكن المخرج أقنعه بأنها لا تصلح للدور بسبب طول قامتها ، خاصة ً و أن كاتب السيناريو " روبرت ڤولت " رفض إسناد الدور لـ " لورين " .
" عمر الشريف " عندما علم أن " ديڤيد لين " ينوي إخراج الرواية ، اقترح عليه أن يسند اليه دور " باشا " ـ الذي ذهب في النهاية الى " توم كورتيناي " ، ولكن " عمر الشريف " فوجيء و ذُهل عندما أسند اليه المخرج دور " ژيڤاگو " ، و كان يستحقه حقاً .
يقول الممثل البريطاني " مايكل كين " ( 1933 ــ .... ) في مذكراته ، أنه هو الذي اقترح على المخرج اسمَ " عمر الشريف " .
في عام 2002 تم انتاج مسلسل تلفزيوني جميل قصير مأخوذ ، أيضاً ، عن رواية ( دكتور ژيڤاگو ) ، من بطولة " نيل سام " و " كيرا نايتلي " ، ولكنه لم يرق الى مستوى الفيلم .
هادي ياسين