سوروكين (بيترم ألكسندروفيتش-)
(1889ـ1968)
بيترم سوروكين Pitirim A.Sorokin عالم اجتماع روسي، ولد في توريا بشمال روسيا، درس في كلية المعلمين وتخرج منها عام 1906، ثم تابع دراسته في جامعة سان بطرسبرغ ونال الدكتوراه سنة 1922، وفي سنة 1917 عمل محرراً في جريدة سان بطرسبرغ في الوقت الذي كان فيه عضواً في اللجنة التنفيذية لفلاحي روسيا، وفي سنة 1918 أصبح عضواً في الهيئة التأسيسية الروسية وسكرتيراً لرئيس وزراء روسيا. انخرط في سلك المقاومة ضد الشيوعيين، فصدرت بحقه عقوبة الإعدام ثم تحولت إلى النفي، فانتقل إلى أوربا ومنها سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليصبح مواطناً فيها وأستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة مينيسوتا، وفي عام 1930 أسس أول قسم لعلم الاجتماع بجامعة هارفارد، وبقي رئيساً له لمدة عشر سنوات. وفي عام 1937 صار عضواً بارزاً في أكاديمية العلوم الاجتماعية الأمريكية ورئيساً للمؤتمر العلمي للعلوم الاجتماعية، وانتخب رئيساً لجمعية علم الاجتماع الأمريكية لعامي 1964-1965.
نشر سوروكين في حياته العلمية أكثر من ثلاثين كتاباً تناولت موضوعات شتى جعلته عالماً يحتل مكاناً مرموقاً، ويعترف الكثير من علماء الاجتماع بإسهاماته الكبيرة في هذا الميدان، فكتاباته الغزيرة دفعت بهذا العلم إلى الأمام، حتى إن المتحمسين لسوروكين يعتقدون أن تاريخ النظرية الاجتماعية يجب أن يتوقف وقفات فاحصة طويلة عند ثلاثة كبار وهم: كونت[ر]، ودوركهايم[ر]، وسوروكين.
من مؤلفاته المشهورة: الجريمة والعقاب (1914) تولستوي الفيلسوف (1915)، نسق علم الاجتماع (1919)، نظرية القانون العام (1920)، منظومة علم الاجتماع (مجلدان) (1921)، حاضر روسيا (1923)، علم اجتماع الثورة ( 1925)، الحراك الاجتماعي (1927)، النظرية الاجتماعية المعاصرة (1928)، الديناميات الاجتماعية والثقافية (أربع مجلدات) (1937-1941)، المقولات الثقافية: العلّية، والزمان والمكان (1943)، المجتمع والثقافة والشخصية (1947)، الفلسفة الاجتماعية في عصر متأزم (1950)، بدع ونقائص علم الاجتماع المعاصرة (1965)، النظريات السوسيولوجية في عالم اليوم (1966).
تجلى إسهام بيترم سوروكين في تطوير النظرية الاجتماعية بشكل واضح، في مجموعة القضايا الرئيسة الآتية:
يرى سوروكين بأن علم الاجتماع هو دراسة الخصائص العامة المشتركة لأنواع الظواهر الاجتماعية والعلاقة بينها من جهة، وبينها وبين الظواهر غير الاجتماعية من جهة أخرى، وينفي سوروكين أن ينظر إلى علم الاجتماع على أنه تعميم نظري وحسب، فعلى الرغم مما يتصف به من عمومية، فإنه يبقى علماً خاصاً، ذلك أن دراسة الخصائص المشتركة وعلاقات الظواهر الاجتماعية تتضمن التخصص نفسه الذي يكون مطلوباً عند دراسة سمات خاصة لبعض أنواع العلاقات.
يقسم سوروكين علم الاجتماع إلى علم اجتماع عام وعلوم الاجتماع الخاصة، أما علم الاجتماع العام فيدرس الخصائص المشتركة بين الظواهر الثقافية في نواحيها البنائية والدينامية، والعلاقة المتبادلة بين هذه الظواهر والظواهر الكونية الأخرى، وينقسم قسمين:
ـ علم الاجتماع البنائي العام الذي يدرس بناء الظواهر الاجتماعية والثقافية وتكوينها، ويتم ذلك من دراسة الأنماط البنائية المهمة للجماعات والنظم التي ترتب السكان طبقياً، وتنظم علاقاتهم، والأنماط البنائية المهمة للأنساق الثقافية، وأنماط الشخصية وأبنيتها.
ـ علم الاجتماع الدينامي العام الذي يدرس العمليات الاجتماعية المتكررة، مثل الاتصال والتفاعل والتنشئة الاجتماعية والصراع والسيادة والتوافق والاندماج، وكيف تتولد الأنساق الاجتماعية، وكيف تكتسب أعضاءها أو تفقدهم، وكيف يؤثر ذلك في الشخصية، ويدرس هذا القسم أيضاً العمليات الثقافية المتكررة، مثل الاختراع والانتشار والتكامل والتفكك وتراكم السمات الثقافية.
أما علوم الاجتماع الخاصة فإنها تقوم بما يقوم به علم الاجتماع العام، ولكن على مستوى مجموعة خاصة من الظواهر الاجتماعية التي يتم اختيارها لإجراء دراسة مركزة عليها، وذلك مثل دراسة السكان والمجتمع الحضري والأسرة والقانون والدين والحرب والثورة والتفكك الاجتماعي والجريمة والعقاب وغيرها.
عدّ سوروكين «التفاعل» الوحدة التي يجب أن تحلل الظواهر الاجتماعية على أساسها، والمقصود به أي واقعة عن طريقها يؤثر أي فاعل في غيره، ولا يهتم سوروكين بالتفاعل على المستوى الفردي، بل إن اهتمامه كله ينصب على التفاعل الاجتماعي الثقافي الذي يتضمن في الواقع ثلاثاً مكونات مترابطة:
ـ الشخصية وهي موضوع التفاعل.
ـ المجتمع وهو مجموع الشخصيات المتفاعلة.
ـ الثقافة وهي مجموعة من القيم والمعاني والمعايير التي تتكون لدى الشخصيات المتفاعلة، إضافة إلى الوسائل التي تجعل هذه المعاني مقبولة اجتماعياً.
ـ تكشف مجمل أفكار سوروكين ودراساته عن اتجاهه المثالي، الذي يتجلى باهتمامه بتدرج الأنساق الثقافية الاجتماعية ودرجة تكاملها، ويبدو ذلك واضحاً وخاصة في كتابيه «الديناميات الاجتماعية والثقافية»، و«المجتمع الثقافي والشخصية» إذ يرى أن الحقائق الأساسية في علم الاجتماع ذات طبيعة عقلية ولا تفهم إلا في ضوء النظر إلى عالم الأنساق الثقافي الاجتماعي ككل، ولا ينطبق ذلك على ظاهرة صغرى كالانتحار فقط. بل إن هذا يصدق على العوامل المسببة للجريمة والحرب والثورة، ويطلق سوروكين على عالم الأنساق الثقافية تسمية النسق الفوقي super systemالذي يتكون من خمسة أنساق أساسية فرعية هي اللغة، الفنون، الأخلاق، العلم، الدين، والتي تنقسم بدورها إلى أنساق فرعية أخرى.
ـ إن كل نسق فوقي من الأنساق الخمسة المشار إليها يقوم على فكرة أساسية تمثل النظرة السائدة إلى الحقيقة في ثقافة معينة، فإذا أعطى الناس لحواسهم قيمة مطلقة كان النسق الفوقي حسياً sensate، أما إذا آمن الناس بأن وراء حواسهم حقائق غير ملموسة، ولها صفة المطلق كان النسق فكرياًintellectual، ومن الممكن أن يعتقد الناس بارتباط وثيق بين النسقين الحسي والمثالي، فينجم عن ذلك الفوقي المثالي idealistic، أما إذا اقتصرت الصلة بين النسقين الحسي والفكري على مجرد التجاور فيأتي النسق مختلطاً.
وتكوّن هذه الأنساق الثقافية الأربعة الحسي والفكري والمثالي والمختلط أساس النظرية الاجتماعية عند سوروكين، والناظم الذي حدد نظرته لمسائل الثقافة والمجتمع والتغيير الاجتماعي والثقافي، فالتغير يبدأ مستقيماً حتى يصل أقصاه، ثم يأخذ مساراً مضاداً، ويستمر كذلك حتى أقصاه أيضاً، ويعود مرة أخرى ويتخذ طريقاً آخر، إن نمط التغيير، وفق هذا التصور، هو ذبذبة أو تحول بين ما سمّاه الثقافة الفكرية والثقافة الحسية وما يتوسطهما من ثقافة مثالية أو ثقافة مختلطة.
ويمكن تتبع هذا النمط من التحليل في تاريخ البشرية عامة، فالثقافة الإغريقية كانت فكرية ابتداء من القرن الثامن ق.م حتى نهاية القرن السادس ق.م، ثم تحولت إلى ثقافة مثالية في القرن والنصف قرن التاليين، ثم صارت ثقافة حسية في الجزء الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد حتى القرن الرابع الميلادي، ثم شهد القرنان التاليان شكلاً مختلفاً من الثقافة تلتها مدة طويلة صارت فيها الثقافة فكرية، ثم مثالية بدءاً من القرن الثاني عشر حتى أوائل القرن الرابع عشر، وأخذت تصبح حسية منذ نهاية القرن الرابع عشر حتى وصلت إلى ذروتها في هذه الأيام.
وينبعث العامل الذي يغير نمط الثقافة من داخل الثقافة نفسها، لأن من طابع الثقافة، أن تتغير، والتغيير قانون كل حياة، ومعنى هذا أن سوروكين يعارض النظرية المتعددة عن عوامل التغير الاجتماعي، وخاصة النظريات التي تجعل التغير يقوم على عاملين خارجي وداخلي، أو النظريات التي تحلل التغير، فتعرض أسبقية أجزاء من الثقافة على أجزاء أخرى، فالثقافة عنده إذا تغيرت تتغير كلياً.
وفي المنهج كتب سوروكين «المقولات الاجتماعية الثقافية: العلّية، الزمان والمكان» وفيه يرى أن يتجنب علم الاجتماع التغيرات الوحدانية للسلوك الإنساني، على الرغم من أنه يؤكد دائماً على تأثير البيئة الثقافية الاجتماعية في تشكيل الشخصية. ويرى سوروكين أيضا أن الفرد والشخصية من ناحية، والمجتمع والثقافة من ناحية أخرى هي عناصر متفاعلة ومتساندة كل على آخر، وقد أوضح أنه ينتمي إلى مدرسة تكاملية في علم الاجتماع، تحاول أن تستقصي الظاهرة الاجتماعية عن طريق ثلاث مداخل:
أـ من الناحية الأمبريقية التطبيقية تدرس الظواهر الاجتماعية عن طريق الإدراك الحسي والملاحظة الميدانية المباشرة.
ب ـ من الناحية الثانية التي تمثل المظهر «العقلي المنطقي» للظواهر الثقافية الاجتماعية، يجب فهم الجانب المنطقي في هذا الظواهر.
ج ـ لا يمكن فهم الجانب فوق الحسي، وفوق العقلي، والذي يتمثل في الأديان الكبرى والأخلاق والفنون الجميلة إلا من خلال صدق الاعتقاد أو الإيمان، أي بطريقة الفعل الحدسي أو التجربة الصوفية فوق الحسية وفوق العقلية وفوق المنطقية.
يُعد سوروكين، إلى جانب مجموعة من العلماء الذين عاصرهم، من أصحاب الاتجاه النظري في علم الاجتماع أو ما يسمى «علم الاجتماع النسقي» systematic sociologyويرى أصحابه أن المجتمع نسق كلي يتكون من أنساق فرعية، وما المكونات النهائية للأنساق الاجتماعية إلا الفاعلون الذين يتحدد نمط سلوكهم الاجتماعي في ضوء القيم الثقافية السائدة، وفي ضوء توقعات الآخرين.
ويتفق أصحاب هذا الاتجاه على أن الثقافة نسق من الأنساق الأساسية في المجتمع، غير أن مفهوم الثقافة لا يشير إلى التفاعلات الاجتماعية في حد ذاتها، وإنما إلى نتاجها المستمر عبر الزمن، ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه فون فيزه، فلوريان زنايبكي، تالكوت بارسونز، روبرت ماكيفر، جورج هدمانز، هانز جيرث، رايت ميلز، تشارلز لوميز، إضافة إلى بيترم سوروكين نفسه.
عزت شاهين
(1889ـ1968)
بيترم سوروكين Pitirim A.Sorokin عالم اجتماع روسي، ولد في توريا بشمال روسيا، درس في كلية المعلمين وتخرج منها عام 1906، ثم تابع دراسته في جامعة سان بطرسبرغ ونال الدكتوراه سنة 1922، وفي سنة 1917 عمل محرراً في جريدة سان بطرسبرغ في الوقت الذي كان فيه عضواً في اللجنة التنفيذية لفلاحي روسيا، وفي سنة 1918 أصبح عضواً في الهيئة التأسيسية الروسية وسكرتيراً لرئيس وزراء روسيا. انخرط في سلك المقاومة ضد الشيوعيين، فصدرت بحقه عقوبة الإعدام ثم تحولت إلى النفي، فانتقل إلى أوربا ومنها سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليصبح مواطناً فيها وأستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة مينيسوتا، وفي عام 1930 أسس أول قسم لعلم الاجتماع بجامعة هارفارد، وبقي رئيساً له لمدة عشر سنوات. وفي عام 1937 صار عضواً بارزاً في أكاديمية العلوم الاجتماعية الأمريكية ورئيساً للمؤتمر العلمي للعلوم الاجتماعية، وانتخب رئيساً لجمعية علم الاجتماع الأمريكية لعامي 1964-1965.
نشر سوروكين في حياته العلمية أكثر من ثلاثين كتاباً تناولت موضوعات شتى جعلته عالماً يحتل مكاناً مرموقاً، ويعترف الكثير من علماء الاجتماع بإسهاماته الكبيرة في هذا الميدان، فكتاباته الغزيرة دفعت بهذا العلم إلى الأمام، حتى إن المتحمسين لسوروكين يعتقدون أن تاريخ النظرية الاجتماعية يجب أن يتوقف وقفات فاحصة طويلة عند ثلاثة كبار وهم: كونت[ر]، ودوركهايم[ر]، وسوروكين.
من مؤلفاته المشهورة: الجريمة والعقاب (1914) تولستوي الفيلسوف (1915)، نسق علم الاجتماع (1919)، نظرية القانون العام (1920)، منظومة علم الاجتماع (مجلدان) (1921)، حاضر روسيا (1923)، علم اجتماع الثورة ( 1925)، الحراك الاجتماعي (1927)، النظرية الاجتماعية المعاصرة (1928)، الديناميات الاجتماعية والثقافية (أربع مجلدات) (1937-1941)، المقولات الثقافية: العلّية، والزمان والمكان (1943)، المجتمع والثقافة والشخصية (1947)، الفلسفة الاجتماعية في عصر متأزم (1950)، بدع ونقائص علم الاجتماع المعاصرة (1965)، النظريات السوسيولوجية في عالم اليوم (1966).
تجلى إسهام بيترم سوروكين في تطوير النظرية الاجتماعية بشكل واضح، في مجموعة القضايا الرئيسة الآتية:
يرى سوروكين بأن علم الاجتماع هو دراسة الخصائص العامة المشتركة لأنواع الظواهر الاجتماعية والعلاقة بينها من جهة، وبينها وبين الظواهر غير الاجتماعية من جهة أخرى، وينفي سوروكين أن ينظر إلى علم الاجتماع على أنه تعميم نظري وحسب، فعلى الرغم مما يتصف به من عمومية، فإنه يبقى علماً خاصاً، ذلك أن دراسة الخصائص المشتركة وعلاقات الظواهر الاجتماعية تتضمن التخصص نفسه الذي يكون مطلوباً عند دراسة سمات خاصة لبعض أنواع العلاقات.
يقسم سوروكين علم الاجتماع إلى علم اجتماع عام وعلوم الاجتماع الخاصة، أما علم الاجتماع العام فيدرس الخصائص المشتركة بين الظواهر الثقافية في نواحيها البنائية والدينامية، والعلاقة المتبادلة بين هذه الظواهر والظواهر الكونية الأخرى، وينقسم قسمين:
ـ علم الاجتماع البنائي العام الذي يدرس بناء الظواهر الاجتماعية والثقافية وتكوينها، ويتم ذلك من دراسة الأنماط البنائية المهمة للجماعات والنظم التي ترتب السكان طبقياً، وتنظم علاقاتهم، والأنماط البنائية المهمة للأنساق الثقافية، وأنماط الشخصية وأبنيتها.
ـ علم الاجتماع الدينامي العام الذي يدرس العمليات الاجتماعية المتكررة، مثل الاتصال والتفاعل والتنشئة الاجتماعية والصراع والسيادة والتوافق والاندماج، وكيف تتولد الأنساق الاجتماعية، وكيف تكتسب أعضاءها أو تفقدهم، وكيف يؤثر ذلك في الشخصية، ويدرس هذا القسم أيضاً العمليات الثقافية المتكررة، مثل الاختراع والانتشار والتكامل والتفكك وتراكم السمات الثقافية.
أما علوم الاجتماع الخاصة فإنها تقوم بما يقوم به علم الاجتماع العام، ولكن على مستوى مجموعة خاصة من الظواهر الاجتماعية التي يتم اختيارها لإجراء دراسة مركزة عليها، وذلك مثل دراسة السكان والمجتمع الحضري والأسرة والقانون والدين والحرب والثورة والتفكك الاجتماعي والجريمة والعقاب وغيرها.
عدّ سوروكين «التفاعل» الوحدة التي يجب أن تحلل الظواهر الاجتماعية على أساسها، والمقصود به أي واقعة عن طريقها يؤثر أي فاعل في غيره، ولا يهتم سوروكين بالتفاعل على المستوى الفردي، بل إن اهتمامه كله ينصب على التفاعل الاجتماعي الثقافي الذي يتضمن في الواقع ثلاثاً مكونات مترابطة:
ـ الشخصية وهي موضوع التفاعل.
ـ المجتمع وهو مجموع الشخصيات المتفاعلة.
ـ الثقافة وهي مجموعة من القيم والمعاني والمعايير التي تتكون لدى الشخصيات المتفاعلة، إضافة إلى الوسائل التي تجعل هذه المعاني مقبولة اجتماعياً.
ـ تكشف مجمل أفكار سوروكين ودراساته عن اتجاهه المثالي، الذي يتجلى باهتمامه بتدرج الأنساق الثقافية الاجتماعية ودرجة تكاملها، ويبدو ذلك واضحاً وخاصة في كتابيه «الديناميات الاجتماعية والثقافية»، و«المجتمع الثقافي والشخصية» إذ يرى أن الحقائق الأساسية في علم الاجتماع ذات طبيعة عقلية ولا تفهم إلا في ضوء النظر إلى عالم الأنساق الثقافي الاجتماعي ككل، ولا ينطبق ذلك على ظاهرة صغرى كالانتحار فقط. بل إن هذا يصدق على العوامل المسببة للجريمة والحرب والثورة، ويطلق سوروكين على عالم الأنساق الثقافية تسمية النسق الفوقي super systemالذي يتكون من خمسة أنساق أساسية فرعية هي اللغة، الفنون، الأخلاق، العلم، الدين، والتي تنقسم بدورها إلى أنساق فرعية أخرى.
ـ إن كل نسق فوقي من الأنساق الخمسة المشار إليها يقوم على فكرة أساسية تمثل النظرة السائدة إلى الحقيقة في ثقافة معينة، فإذا أعطى الناس لحواسهم قيمة مطلقة كان النسق الفوقي حسياً sensate، أما إذا آمن الناس بأن وراء حواسهم حقائق غير ملموسة، ولها صفة المطلق كان النسق فكرياًintellectual، ومن الممكن أن يعتقد الناس بارتباط وثيق بين النسقين الحسي والمثالي، فينجم عن ذلك الفوقي المثالي idealistic، أما إذا اقتصرت الصلة بين النسقين الحسي والفكري على مجرد التجاور فيأتي النسق مختلطاً.
وتكوّن هذه الأنساق الثقافية الأربعة الحسي والفكري والمثالي والمختلط أساس النظرية الاجتماعية عند سوروكين، والناظم الذي حدد نظرته لمسائل الثقافة والمجتمع والتغيير الاجتماعي والثقافي، فالتغير يبدأ مستقيماً حتى يصل أقصاه، ثم يأخذ مساراً مضاداً، ويستمر كذلك حتى أقصاه أيضاً، ويعود مرة أخرى ويتخذ طريقاً آخر، إن نمط التغيير، وفق هذا التصور، هو ذبذبة أو تحول بين ما سمّاه الثقافة الفكرية والثقافة الحسية وما يتوسطهما من ثقافة مثالية أو ثقافة مختلطة.
ويمكن تتبع هذا النمط من التحليل في تاريخ البشرية عامة، فالثقافة الإغريقية كانت فكرية ابتداء من القرن الثامن ق.م حتى نهاية القرن السادس ق.م، ثم تحولت إلى ثقافة مثالية في القرن والنصف قرن التاليين، ثم صارت ثقافة حسية في الجزء الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد حتى القرن الرابع الميلادي، ثم شهد القرنان التاليان شكلاً مختلفاً من الثقافة تلتها مدة طويلة صارت فيها الثقافة فكرية، ثم مثالية بدءاً من القرن الثاني عشر حتى أوائل القرن الرابع عشر، وأخذت تصبح حسية منذ نهاية القرن الرابع عشر حتى وصلت إلى ذروتها في هذه الأيام.
وينبعث العامل الذي يغير نمط الثقافة من داخل الثقافة نفسها، لأن من طابع الثقافة، أن تتغير، والتغيير قانون كل حياة، ومعنى هذا أن سوروكين يعارض النظرية المتعددة عن عوامل التغير الاجتماعي، وخاصة النظريات التي تجعل التغير يقوم على عاملين خارجي وداخلي، أو النظريات التي تحلل التغير، فتعرض أسبقية أجزاء من الثقافة على أجزاء أخرى، فالثقافة عنده إذا تغيرت تتغير كلياً.
وفي المنهج كتب سوروكين «المقولات الاجتماعية الثقافية: العلّية، الزمان والمكان» وفيه يرى أن يتجنب علم الاجتماع التغيرات الوحدانية للسلوك الإنساني، على الرغم من أنه يؤكد دائماً على تأثير البيئة الثقافية الاجتماعية في تشكيل الشخصية. ويرى سوروكين أيضا أن الفرد والشخصية من ناحية، والمجتمع والثقافة من ناحية أخرى هي عناصر متفاعلة ومتساندة كل على آخر، وقد أوضح أنه ينتمي إلى مدرسة تكاملية في علم الاجتماع، تحاول أن تستقصي الظاهرة الاجتماعية عن طريق ثلاث مداخل:
أـ من الناحية الأمبريقية التطبيقية تدرس الظواهر الاجتماعية عن طريق الإدراك الحسي والملاحظة الميدانية المباشرة.
ب ـ من الناحية الثانية التي تمثل المظهر «العقلي المنطقي» للظواهر الثقافية الاجتماعية، يجب فهم الجانب المنطقي في هذا الظواهر.
ج ـ لا يمكن فهم الجانب فوق الحسي، وفوق العقلي، والذي يتمثل في الأديان الكبرى والأخلاق والفنون الجميلة إلا من خلال صدق الاعتقاد أو الإيمان، أي بطريقة الفعل الحدسي أو التجربة الصوفية فوق الحسية وفوق العقلية وفوق المنطقية.
يُعد سوروكين، إلى جانب مجموعة من العلماء الذين عاصرهم، من أصحاب الاتجاه النظري في علم الاجتماع أو ما يسمى «علم الاجتماع النسقي» systematic sociologyويرى أصحابه أن المجتمع نسق كلي يتكون من أنساق فرعية، وما المكونات النهائية للأنساق الاجتماعية إلا الفاعلون الذين يتحدد نمط سلوكهم الاجتماعي في ضوء القيم الثقافية السائدة، وفي ضوء توقعات الآخرين.
ويتفق أصحاب هذا الاتجاه على أن الثقافة نسق من الأنساق الأساسية في المجتمع، غير أن مفهوم الثقافة لا يشير إلى التفاعلات الاجتماعية في حد ذاتها، وإنما إلى نتاجها المستمر عبر الزمن، ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه فون فيزه، فلوريان زنايبكي، تالكوت بارسونز، روبرت ماكيفر، جورج هدمانز، هانز جيرث، رايت ميلز، تشارلز لوميز، إضافة إلى بيترم سوروكين نفسه.
عزت شاهين