سيلين (لويس ـ فرديناند ـ)
(1894 ـ 1961)
لويس ـ فرديناند ديتوش Destouches، الذي عرف باسم لويس ـ فرديناند سيلينLouis-Ferdinand Céline، كاتب فرنسي ولد في مدينة كوربوفوا Courbevoie الواقعة شمال غربي باريس، وتوفي في مودونMeudon. شارك في الحرب العالمية الأولى، مما أدى لإصابته بجرح خطير. انصرف عقب ذلك لدراسة الطب، وبعد أن نال شهادة الدكتوراه عام 1924 مارس مهنته في ضواحي باريس.
نشر سيلين روايته الأولى «رحلة لآخر أطراف الليل» Voyage au bout de la nuitت(1932) التي تروي قصة بردامو Bardamu، الطبيب الفوضوي الهارب من كل شيء، الذي يعبّر عن نفور ويأس من الإنسانية ذاتها بهجائه اللاذع للمجتمع وقيمه الزائفة. ولعلّ موقف المؤلف هذا يفسر التفكك في أسلوبه، وفي استخدامه للألفاظ والصور السوقية بفظاظتها وفحشها. ويرى بعضهم أن لهذا الكتاب تأثيراً واضحاً في عديد من الكتّاب من مثل سارترSartre، وكينو Queneau، وأن مؤلِّفه كان رائداً في أسلوب الكتابة الذي أطلقت عليه تسمية «الأدب الأسود». ثم أصدر روايته «موت بالدَين» Mort à creditت(1936)، المكتوبة بالنهج ذاته، وبالنظرة المتشائمة عينها. ومع ذلك، ثمة في هذه الرواية وفي معظم رواياته الأخرى مساحات شعرية واسعة، يمضي القارئ فيها عبر بساتين الطفولة على أنغام موسيقى ناعمة عذبة. ولولا أن الدنيا على هذا القدر من الشر لكان من شأن سيلين أن يروي الحكايات السحرية الحلوة عن الجنيات والملوك، فهو يحلم برقصات باليه في ضوء القمر وبأشكال خيالية من الريف تهز المشاعر. فعدد من كتبه يعد أكثر من روايات، إنما قصائد، يقلبها الواقع الذي لا يطاق إلى كابوس. ومن كتاباته الأخرى «كلفة بخسة لقتل بالجملة»Bagatelles pour un massacre ت(1938)، و«مدرسة الجثث» L’École des cadavresالتي أخذ فيها موقفاً متشدداً من اليهودية العالمية التي رأى أنها تحاول السيطرة على مراكز النفوذ في كل مكان. وقد يوضح هذا المنحى في تفكير سيلين موقفه من الاحتلال النازي لفرنسا عام1940، والذي يجزم البعض بأنه تجاوز الالتباس إلى حد التعاون مع النازيين. وصدر لـه في ظل الاحتلال كتاب «المواقف الحرجة» Les Beaux-Drapsت(1941)، ورواية «فرقة غينيول» Guignol’s Band ت(1943).
غادر سيلين فرنسا مع انسحاب الجيوش النازية منها، وأقام لبعض الوقت في قرية سيغمارينغن Sigmaringen في ألمانيا، ثم لجأ إلى الدانمارك فأودع السجن فيها، لكنه عاد في نهاية المطاف إلى فرنسا عام 1951، وكان قد نشر قبل ذلك «الحرب» Casse-pipeت(1949). وانقضت عدة سنوات قبل أن يصدر كتابه «من قصر إلى قصر» D’un Château l’autre ت(1957) الذي يروي فيه على طريقته ووفق هواه ذكرياته عن المرحلة بين عامي 1944 و1951. وآخر كتاب صدر له في حياته هو «شمال» Nord ت(1960)، أما «ريغودون» Rigodon، وهو اسم لنوع من الموسيقى الراقصة، فلم يصدر إلا في عام 1969، أي بعد وفاته.
قدم سيلين في أدبه صورة للإنسان مغرقة في التشاؤم. فقد رأى أن «الحقيقة في هذه الدنيا إنما هي الموت»، ومن ثم فهدف الإنسان هو النجاة بجلده لا أكثر، وكل الوسائل مشروعة لكي يحافظ على بقائه، بما في ذلك أكثر الوسائل لا أخلاقيةً: «الكذب والخيانة والجبن. ولأننا لم نختر أن نكون ما نحن وعلى ما نحن، يتعين أن نقبل أنفسنا كما نحن، فاسدين، ومنافقين، أنانيين، كاذبين، وقبل وفوق كل شيء جبناء بلا حدود».
طرح سيلين في وجه شرطة اللغة الأدبية القيمين على العبارة المصقولة الحسنة، لغة مغايرة مؤلفة من مصطلحات خاصة يتداولها العيّارون واللصوص والسوقة فيما بينهم، بأسلوب مفكك، إنما يفيض بابتكارات لفظية، وكان بذلك أول كاتب حديث انتهك الممنوعات في اللغة الأدبية، وداس على المحرمات في التعبير، فكتب «كما يتكلم الناس» مرتقياً باللغة اليومية إلى المنزلة الأدبية. إلا أن هذه اللغة، التي لا تتطابق مع أصول حسن الكلام، والمحشوة بالأخطاء والثرثرة، لغة حية ناقلة للانفعال والإحساس. لم تكن كتابته نسخاً للغة المحكية كما هي، بل كان يخضعها للمعالجة ويفككها، وعندما لا يجد ضالته يخترعها، ومن هنا تميزه.
عبد الله عويشق
(1894 ـ 1961)
لويس ـ فرديناند ديتوش Destouches، الذي عرف باسم لويس ـ فرديناند سيلينLouis-Ferdinand Céline، كاتب فرنسي ولد في مدينة كوربوفوا Courbevoie الواقعة شمال غربي باريس، وتوفي في مودونMeudon. شارك في الحرب العالمية الأولى، مما أدى لإصابته بجرح خطير. انصرف عقب ذلك لدراسة الطب، وبعد أن نال شهادة الدكتوراه عام 1924 مارس مهنته في ضواحي باريس.
نشر سيلين روايته الأولى «رحلة لآخر أطراف الليل» Voyage au bout de la nuitت(1932) التي تروي قصة بردامو Bardamu، الطبيب الفوضوي الهارب من كل شيء، الذي يعبّر عن نفور ويأس من الإنسانية ذاتها بهجائه اللاذع للمجتمع وقيمه الزائفة. ولعلّ موقف المؤلف هذا يفسر التفكك في أسلوبه، وفي استخدامه للألفاظ والصور السوقية بفظاظتها وفحشها. ويرى بعضهم أن لهذا الكتاب تأثيراً واضحاً في عديد من الكتّاب من مثل سارترSartre، وكينو Queneau، وأن مؤلِّفه كان رائداً في أسلوب الكتابة الذي أطلقت عليه تسمية «الأدب الأسود». ثم أصدر روايته «موت بالدَين» Mort à creditت(1936)، المكتوبة بالنهج ذاته، وبالنظرة المتشائمة عينها. ومع ذلك، ثمة في هذه الرواية وفي معظم رواياته الأخرى مساحات شعرية واسعة، يمضي القارئ فيها عبر بساتين الطفولة على أنغام موسيقى ناعمة عذبة. ولولا أن الدنيا على هذا القدر من الشر لكان من شأن سيلين أن يروي الحكايات السحرية الحلوة عن الجنيات والملوك، فهو يحلم برقصات باليه في ضوء القمر وبأشكال خيالية من الريف تهز المشاعر. فعدد من كتبه يعد أكثر من روايات، إنما قصائد، يقلبها الواقع الذي لا يطاق إلى كابوس. ومن كتاباته الأخرى «كلفة بخسة لقتل بالجملة»Bagatelles pour un massacre ت(1938)، و«مدرسة الجثث» L’École des cadavresالتي أخذ فيها موقفاً متشدداً من اليهودية العالمية التي رأى أنها تحاول السيطرة على مراكز النفوذ في كل مكان. وقد يوضح هذا المنحى في تفكير سيلين موقفه من الاحتلال النازي لفرنسا عام1940، والذي يجزم البعض بأنه تجاوز الالتباس إلى حد التعاون مع النازيين. وصدر لـه في ظل الاحتلال كتاب «المواقف الحرجة» Les Beaux-Drapsت(1941)، ورواية «فرقة غينيول» Guignol’s Band ت(1943).
غادر سيلين فرنسا مع انسحاب الجيوش النازية منها، وأقام لبعض الوقت في قرية سيغمارينغن Sigmaringen في ألمانيا، ثم لجأ إلى الدانمارك فأودع السجن فيها، لكنه عاد في نهاية المطاف إلى فرنسا عام 1951، وكان قد نشر قبل ذلك «الحرب» Casse-pipeت(1949). وانقضت عدة سنوات قبل أن يصدر كتابه «من قصر إلى قصر» D’un Château l’autre ت(1957) الذي يروي فيه على طريقته ووفق هواه ذكرياته عن المرحلة بين عامي 1944 و1951. وآخر كتاب صدر له في حياته هو «شمال» Nord ت(1960)، أما «ريغودون» Rigodon، وهو اسم لنوع من الموسيقى الراقصة، فلم يصدر إلا في عام 1969، أي بعد وفاته.
قدم سيلين في أدبه صورة للإنسان مغرقة في التشاؤم. فقد رأى أن «الحقيقة في هذه الدنيا إنما هي الموت»، ومن ثم فهدف الإنسان هو النجاة بجلده لا أكثر، وكل الوسائل مشروعة لكي يحافظ على بقائه، بما في ذلك أكثر الوسائل لا أخلاقيةً: «الكذب والخيانة والجبن. ولأننا لم نختر أن نكون ما نحن وعلى ما نحن، يتعين أن نقبل أنفسنا كما نحن، فاسدين، ومنافقين، أنانيين، كاذبين، وقبل وفوق كل شيء جبناء بلا حدود».
طرح سيلين في وجه شرطة اللغة الأدبية القيمين على العبارة المصقولة الحسنة، لغة مغايرة مؤلفة من مصطلحات خاصة يتداولها العيّارون واللصوص والسوقة فيما بينهم، بأسلوب مفكك، إنما يفيض بابتكارات لفظية، وكان بذلك أول كاتب حديث انتهك الممنوعات في اللغة الأدبية، وداس على المحرمات في التعبير، فكتب «كما يتكلم الناس» مرتقياً باللغة اليومية إلى المنزلة الأدبية. إلا أن هذه اللغة، التي لا تتطابق مع أصول حسن الكلام، والمحشوة بالأخطاء والثرثرة، لغة حية ناقلة للانفعال والإحساس. لم تكن كتابته نسخاً للغة المحكية كما هي، بل كان يخضعها للمعالجة ويفككها، وعندما لا يجد ضالته يخترعها، ومن هنا تميزه.
عبد الله عويشق