ابن سـيدَهْ (علي بن إسماعيل-)
(398 ـ 458هـ/1007 ـ 1065م)
أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيدَهْ، الأندلسي، أعلم أهل الأندلس باللغة والنحو والأشعار، وأحفظهم، يشهد بذلك ضخامة تصانيفه مع أنه كان ضريراً يملي من حفظه.
ولد في «مرسيّة» شرقيّ الأندلس ثم انتقل إلى «دانية» فعاش بها حتى مات.
بدأ ابن سيدهْ حياته بحفظ القرآن، فأتمّه وهو ابن ست سنوات، ثم راح ينهل من كتب التفسير كتفسير ابن عباس وغيره، وارتقى بعد ذلك إلى كتب معاني القرآن ولاسيما «معاني القرآن وإعرابه للزجاج»، تلت ذلك مرحلة القراءة في كتب الرّماني وأبي علي الفارسي وابن جنّي، وفي هذه المرحلة اطّلع على كتب اللغة والشعر، وتلا ذلك كله مرحلة تأمّل فيها حدود المنطق.
وقد صرح ابن سيدَهْ بهذا التدرّج في مراحل حياته العلمية في مقدمة أرجوزة له في اللغة.
أما شيوخه في العلم فهم قلّة، وقد حفظت لنا كتب التراجم أسماءهم، وأوّلهم والده إسماعيل ابن سيدَهْ، وكان نحويّاُ لغويّاُ، لقي أبا بكر الزبيدي وروى عنه مختصر كتاب العين المنسوب للخليل، وقد قرأ ابن سيدَهْ الابن على والده هذا الكتاب، ومنهم الفقيه أبو عمر أحمد الطلمنكي (ت 429هـ)، الذي قرأ عليه ابن سيدَهْ كتاب «الموطّأ» و«صحيح البخاري» وكتب أبي عبيد القاسم بن سلام وغيرها، ومنهم أيضاً أبو عثمان «نافع»، من أهل مالقة، واسمه سعيد بن محمد الهذلي القرطبي، ونافع لقب له لكثرة قراءته بحرف نافع من رواية ورش وقالون، وهو نحوي أيضاً، أخذ كتاب «الجمل» عن شيخه أبي الحسن الأنطاكي، وعلى نافع هذا قرأ ابن سيدَهْ كتاب سيبويه، ومنهم كذلك أبو العلاء صاعد وهو ممن أخذ عن السيرافي وأبي علي الفارسي في رحلته إلى المشرق، وقد روى عنه ابن سيدَهْ كتابه المشهور «الفصوص» الذي ألفه على طريقة الأمالي، وسمع منه كتاب «مجاز القرآن» لأبي عبيدة، وروى عنه أيضاً «إصلاح المنطق» ليعقوب بن السكيت، وجملة من كتب الغريب والصفات والأسماء.
ولا ريب أن عماه ترك أثراً في نفسه، وقد ألمح مترجموه إلى هذا الأثر، فذكروا في صفاته أنه كان يشعر بأنه مظلوم في دهره الغشوم، وأن حقّه مهضوم، لأنه لم ينل من دنياه ما يريد، فكان يصبّ جام غضبه على الناس، لأنهم «يتطارحون على الدرهم والدينار»، يعلّق مثلاً على بيت للمتنبي فيقول: «لو وثقنا بفهم بني الزمان لغنينا عن إطالة البيان» ولعلّ هذا هو الذي دفعه إلى الاعتداد بنفسه وربما إلى التعالي على العلماء في مقدّمات كتبه، كقوله في مقدمة كتابه «المحكم»: «وأمّا ما في كتاب «الإصلاح» و«الألفاظ» وكتب ابن الأعرابي وأبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي وغيرهم من أمثال هذا الذي وصفت فأكثر من أن يحصى مدده أو يحصر عدده، وهل يقوم بانتقاد هذا النوع إلا مثلي من ذوي الحفظ الجليل، والاضطلاع بعلم النحو وصناعة الخليل، وإن كنت بين حثالة جهلت فضلي، وأساء الدهر في جمعهم بمثلي»
بيد أن أهم صفاته هي قوة حافظته، ومن يقرأ مؤلفاته يعجب لهذه الحافظة الواعية، ويدرك غزارة علمه وقدرته على التأليف الموسوعي.
وأشهر مؤلفاته بلا شك «المحكم» و«المخصّص».
أما «المحكم» فهو من أعظم معاجم الألفاظ في العربية، طبع منه تسعة أجزاء، قصد فيه مؤلّفه إلى جمع ما تفرّق في الكتب والرسائل من مواد اللغة في مصنّف واحد يغني عنها جميعها، مراعياً دقّة التعبير عن معانيها وتصحيح ما قد يعتورها من آراء لغويّة أو نحويّة خاطئة.
ويتلخّص منهجه في عرض المادة اللغوية بتقسيم المعجم إلى حروف مرتّبة على ترتيب الخليل للمخارج فجاءت مواده مرتبة على النحو الآتي: (ع، ح، هـ، خ، غ، ق، ك، ج، ش، ض، ص، س، ز، ط، د، ت، ظ، ذ، ث، ر، ل، ن، ف، ب، م، ء، ي، و، ا).
ثم قسم كل حرف إلى عدد من الأبواب ترتبط ببنية الكلمة، فعقد باباً للثنائي المضاعف الصحيح، ثم باباً للثلاثي الصحيح، فباباً للثنائي المضاعف المعتلّ، فالثلاثي المعتلّ، فاللفيف، فالرباعي، فالخماسي.
وحافظ ابن سيدَهْ على فكرة التقاليب التي ابتدعها الخليل قبله، فالكلمة توجد في باب حرفها الأسبق من الترتيب المذكور، فكلمة (وضع) في باب العين، وكلمة (بلح) في باب الحاء وهكذا.
ومصادر المحكم غزيرة جداً عرض لها ابن سيدَهْ في المقدمة، ومما جاء فيها قوله: «وأما ما ضمناه كتابنا هذا من كتب اللغة فمصنّف أبي عبيد، والإصلاح، والألفاظ، والجمهرة، وتفاسير القرآن، وشروح الحديث، والكتاب الموسوم بالعين ما صحّ لدينا منه..... وجميع ما اشتمل عليه كتاب سيبويه من اللغة المعلّلة العجيبة، الملخّصة الغريبة.... وأما ما نثرت عليه من كتب النحويين المتأخّرين فكتب أبي علي الفارسي: الحلبيات والبغداديات والأهوازيات...... وكتب أبي الحسن الرّماني كالجامع والأغراض، وكتب أبي الفتح عثمان ابن جنّي....».
وأما «المخصّص» فهو أعظم معاجم المعاني في العربية، لا يماثله كتاب آخر في بابه، طبع في سبعة عشر جزءاً، وقد قسمه ابن سيدَهْ إلى كتب يشتمل كل منها على الألفاظ التي تندرج تحت عنوان ما، وقسم كل كتاب إلى أبواب، وكل باب إلى عنوانات فرعية.
وبدأ معجمه هذا بكتاب خلق الإنسان مفصّلاً فيه تفصيلاً دقيقاً، ثم أتبعه بكتاب الغرائز، ثم كتاب اللباس وكتاب الطعام والسلاح، ثم انتقل من السلاح إلى ما يقاربه وهو الخيل فكانت منطلقه للدخول في عالم الحيوان من إبل وغنم وغير ذلك، وختم كتاب الحيوان بالطير الذي كان منطلقاً للأنواء وما في السماء، ثم عاد إلى الأرضين مجدبة ومخصبة، ثم ولج عالم النبات ثم عالم المعادن، وأخيراً عقد كتباً تتعلق بالنحو والصرف.
ومن يقرأ مقدمة «المخصص» يرى أن ابن سيدَهْ نثر جلّ مادة المكتبة اللغوية والنحوية في هذا الكتاب.
أما كتابه الثالث الذي انتهى إلينا فهو «شرح مشكل شعر المتنبي» وهو تفسير لغوي وتعليقات نحوية وصرفية ونقدات عابرة خص بها طائفة من شعر المتنبي.
وما وراء ذلك من كتبه فليس هناك إلا أسماء لها وشيء من أوصافها، ككتاب «الأنيق في شرح حماسة أبي تمام»، قيل إنه في ست مجلدات، وقد رواه عنه تلميذه أبو سليمان ولد الإمام ابن حزم الظاهري، وله أيضاً «شرح صدر كتاب سيبويه»، وقد ذكر باسم: الإيضاح والإفصاح في شرح كتاب سيبويه، وله كذلك «شواذّ اللغة» ويسمى أيضاً شوارد اللغة، ذكر أنه في خمس مجلدات، وله «شرح أبيات الجمل للزجاجي»، و«شرح إصلاح المنطق» و«الوافي في أحكام علم القوافي» و«الملخص» في العروض، و«تقريب الغريب المصنف». ووصلت أرجوزة من نظمه ذكر في مقدمتها شيئاً من حياته وتحصيله العلمي.
وحفظت كتب التراجم أسماء عدد من العلماء الذين تتلمذوا له، منهم أبوبكر محمد بن علي بن خلف النحوي المعروف بابن طرشميل، وأبو عبد الله محمد بن عيسى بن معيون الفارض، ونصر بن عيسى بن نصر بن سحابة، وأبو عبد الله محمد الشذوني، والفقيه أبو سليمان ولد الإمام ابن حزم الظاهري.
نبيل أبو عمشة
(398 ـ 458هـ/1007 ـ 1065م)
أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيدَهْ، الأندلسي، أعلم أهل الأندلس باللغة والنحو والأشعار، وأحفظهم، يشهد بذلك ضخامة تصانيفه مع أنه كان ضريراً يملي من حفظه.
ولد في «مرسيّة» شرقيّ الأندلس ثم انتقل إلى «دانية» فعاش بها حتى مات.
بدأ ابن سيدهْ حياته بحفظ القرآن، فأتمّه وهو ابن ست سنوات، ثم راح ينهل من كتب التفسير كتفسير ابن عباس وغيره، وارتقى بعد ذلك إلى كتب معاني القرآن ولاسيما «معاني القرآن وإعرابه للزجاج»، تلت ذلك مرحلة القراءة في كتب الرّماني وأبي علي الفارسي وابن جنّي، وفي هذه المرحلة اطّلع على كتب اللغة والشعر، وتلا ذلك كله مرحلة تأمّل فيها حدود المنطق.
وقد صرح ابن سيدَهْ بهذا التدرّج في مراحل حياته العلمية في مقدمة أرجوزة له في اللغة.
أما شيوخه في العلم فهم قلّة، وقد حفظت لنا كتب التراجم أسماءهم، وأوّلهم والده إسماعيل ابن سيدَهْ، وكان نحويّاُ لغويّاُ، لقي أبا بكر الزبيدي وروى عنه مختصر كتاب العين المنسوب للخليل، وقد قرأ ابن سيدَهْ الابن على والده هذا الكتاب، ومنهم الفقيه أبو عمر أحمد الطلمنكي (ت 429هـ)، الذي قرأ عليه ابن سيدَهْ كتاب «الموطّأ» و«صحيح البخاري» وكتب أبي عبيد القاسم بن سلام وغيرها، ومنهم أيضاً أبو عثمان «نافع»، من أهل مالقة، واسمه سعيد بن محمد الهذلي القرطبي، ونافع لقب له لكثرة قراءته بحرف نافع من رواية ورش وقالون، وهو نحوي أيضاً، أخذ كتاب «الجمل» عن شيخه أبي الحسن الأنطاكي، وعلى نافع هذا قرأ ابن سيدَهْ كتاب سيبويه، ومنهم كذلك أبو العلاء صاعد وهو ممن أخذ عن السيرافي وأبي علي الفارسي في رحلته إلى المشرق، وقد روى عنه ابن سيدَهْ كتابه المشهور «الفصوص» الذي ألفه على طريقة الأمالي، وسمع منه كتاب «مجاز القرآن» لأبي عبيدة، وروى عنه أيضاً «إصلاح المنطق» ليعقوب بن السكيت، وجملة من كتب الغريب والصفات والأسماء.
ولا ريب أن عماه ترك أثراً في نفسه، وقد ألمح مترجموه إلى هذا الأثر، فذكروا في صفاته أنه كان يشعر بأنه مظلوم في دهره الغشوم، وأن حقّه مهضوم، لأنه لم ينل من دنياه ما يريد، فكان يصبّ جام غضبه على الناس، لأنهم «يتطارحون على الدرهم والدينار»، يعلّق مثلاً على بيت للمتنبي فيقول: «لو وثقنا بفهم بني الزمان لغنينا عن إطالة البيان» ولعلّ هذا هو الذي دفعه إلى الاعتداد بنفسه وربما إلى التعالي على العلماء في مقدّمات كتبه، كقوله في مقدمة كتابه «المحكم»: «وأمّا ما في كتاب «الإصلاح» و«الألفاظ» وكتب ابن الأعرابي وأبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي وغيرهم من أمثال هذا الذي وصفت فأكثر من أن يحصى مدده أو يحصر عدده، وهل يقوم بانتقاد هذا النوع إلا مثلي من ذوي الحفظ الجليل، والاضطلاع بعلم النحو وصناعة الخليل، وإن كنت بين حثالة جهلت فضلي، وأساء الدهر في جمعهم بمثلي»
بيد أن أهم صفاته هي قوة حافظته، ومن يقرأ مؤلفاته يعجب لهذه الحافظة الواعية، ويدرك غزارة علمه وقدرته على التأليف الموسوعي.
وأشهر مؤلفاته بلا شك «المحكم» و«المخصّص».
أما «المحكم» فهو من أعظم معاجم الألفاظ في العربية، طبع منه تسعة أجزاء، قصد فيه مؤلّفه إلى جمع ما تفرّق في الكتب والرسائل من مواد اللغة في مصنّف واحد يغني عنها جميعها، مراعياً دقّة التعبير عن معانيها وتصحيح ما قد يعتورها من آراء لغويّة أو نحويّة خاطئة.
ويتلخّص منهجه في عرض المادة اللغوية بتقسيم المعجم إلى حروف مرتّبة على ترتيب الخليل للمخارج فجاءت مواده مرتبة على النحو الآتي: (ع، ح، هـ، خ، غ، ق، ك، ج، ش، ض، ص، س، ز، ط، د، ت، ظ، ذ، ث، ر، ل، ن، ف، ب، م، ء، ي، و، ا).
ثم قسم كل حرف إلى عدد من الأبواب ترتبط ببنية الكلمة، فعقد باباً للثنائي المضاعف الصحيح، ثم باباً للثلاثي الصحيح، فباباً للثنائي المضاعف المعتلّ، فالثلاثي المعتلّ، فاللفيف، فالرباعي، فالخماسي.
وحافظ ابن سيدَهْ على فكرة التقاليب التي ابتدعها الخليل قبله، فالكلمة توجد في باب حرفها الأسبق من الترتيب المذكور، فكلمة (وضع) في باب العين، وكلمة (بلح) في باب الحاء وهكذا.
ومصادر المحكم غزيرة جداً عرض لها ابن سيدَهْ في المقدمة، ومما جاء فيها قوله: «وأما ما ضمناه كتابنا هذا من كتب اللغة فمصنّف أبي عبيد، والإصلاح، والألفاظ، والجمهرة، وتفاسير القرآن، وشروح الحديث، والكتاب الموسوم بالعين ما صحّ لدينا منه..... وجميع ما اشتمل عليه كتاب سيبويه من اللغة المعلّلة العجيبة، الملخّصة الغريبة.... وأما ما نثرت عليه من كتب النحويين المتأخّرين فكتب أبي علي الفارسي: الحلبيات والبغداديات والأهوازيات...... وكتب أبي الحسن الرّماني كالجامع والأغراض، وكتب أبي الفتح عثمان ابن جنّي....».
وأما «المخصّص» فهو أعظم معاجم المعاني في العربية، لا يماثله كتاب آخر في بابه، طبع في سبعة عشر جزءاً، وقد قسمه ابن سيدَهْ إلى كتب يشتمل كل منها على الألفاظ التي تندرج تحت عنوان ما، وقسم كل كتاب إلى أبواب، وكل باب إلى عنوانات فرعية.
وبدأ معجمه هذا بكتاب خلق الإنسان مفصّلاً فيه تفصيلاً دقيقاً، ثم أتبعه بكتاب الغرائز، ثم كتاب اللباس وكتاب الطعام والسلاح، ثم انتقل من السلاح إلى ما يقاربه وهو الخيل فكانت منطلقه للدخول في عالم الحيوان من إبل وغنم وغير ذلك، وختم كتاب الحيوان بالطير الذي كان منطلقاً للأنواء وما في السماء، ثم عاد إلى الأرضين مجدبة ومخصبة، ثم ولج عالم النبات ثم عالم المعادن، وأخيراً عقد كتباً تتعلق بالنحو والصرف.
ومن يقرأ مقدمة «المخصص» يرى أن ابن سيدَهْ نثر جلّ مادة المكتبة اللغوية والنحوية في هذا الكتاب.
أما كتابه الثالث الذي انتهى إلينا فهو «شرح مشكل شعر المتنبي» وهو تفسير لغوي وتعليقات نحوية وصرفية ونقدات عابرة خص بها طائفة من شعر المتنبي.
وما وراء ذلك من كتبه فليس هناك إلا أسماء لها وشيء من أوصافها، ككتاب «الأنيق في شرح حماسة أبي تمام»، قيل إنه في ست مجلدات، وقد رواه عنه تلميذه أبو سليمان ولد الإمام ابن حزم الظاهري، وله أيضاً «شرح صدر كتاب سيبويه»، وقد ذكر باسم: الإيضاح والإفصاح في شرح كتاب سيبويه، وله كذلك «شواذّ اللغة» ويسمى أيضاً شوارد اللغة، ذكر أنه في خمس مجلدات، وله «شرح أبيات الجمل للزجاجي»، و«شرح إصلاح المنطق» و«الوافي في أحكام علم القوافي» و«الملخص» في العروض، و«تقريب الغريب المصنف». ووصلت أرجوزة من نظمه ذكر في مقدمتها شيئاً من حياته وتحصيله العلمي.
وحفظت كتب التراجم أسماء عدد من العلماء الذين تتلمذوا له، منهم أبوبكر محمد بن علي بن خلف النحوي المعروف بابن طرشميل، وأبو عبد الله محمد بن عيسى بن معيون الفارض، ونصر بن عيسى بن نصر بن سحابة، وأبو عبد الله محمد الشذوني، والفقيه أبو سليمان ولد الإمام ابن حزم الظاهري.
نبيل أبو عمشة