سناء عبد العزيز الروائية الأميركية التي ارتدت ثوب راهبة بوذية تكشف عالما يجهل البشر أنهم يعيشون فيه.
عندما فازت الكاتبة الأميركية الكندية روث أوزكي بجائزة المرأة للإبداع 2022 عن روايتها الرابعة "كتاب الشكل والفراغ"، صرحت بأنها لم تتعود الفوز بأي شيء، لكن أول ما يلفت الانتباه في مسيرة روث، هو أن كل أعمالها اقتنصت نصيباً من الترشيحات والجوائز المرموقة، سواء في مجال الكتابة أو صناعة الأفلام. ولعل تنوع اهتماماتها بين الكتابة والإخراج والأنشطة البيئية والنسوية والتدريس الجامعي والجوانب الدينية والروحية، لهو بذاته أكبر نجاح يمكن أن يحققه أي إنسان وسط كل هذه البلبلة والتشويش المتواصل.
في روايتها الأولى "عامي مع اللحوم"/ My Year of Meats الفائزة بجائزة كيرياما للكتاب الآسيوي، وجائزة أيموس للكتاب الأميركي عام 1998، ترصد روث بخفة وبراعة، الفروق الشاسعة بين الثقافات لا سيما الثقافتين الأميركية واليابانية، من خلال قصة امرأتين يفصل بينهما المحيط الهادئ. لكن برنامجاً تلفزيونياً عن المطبخ الياباني ترعاه شركة أميركية لتصدير اللحوم، يصبح جسر لقاء بينهما، مع وجود أكبر حاجز مائي على وجه الكرة الأرضية، فإذا بمناطق القرب المدهشة تستبين رغم المسافة واختلاف السن والتنشئة والثقافة.
الوجه الآخر للحزن
اتضح ذكاء روث وحسها الفكاهي وقدرتها على استجلاب الكوميديا من قلب المأساة مع صدور روايتها الثانية "كافة المخلوقات"/ All Over Creation. تقول في حوار معها: "أمتلك حس فكاهة عجيباً، لأن الجانب الآخر من الأشياء الكارثية عادة ما يثير الضحك. هنالك سبب في احتواء مآسي شكسبير دائماً عبر مهرجين. كل شيء يفجر الضحك، وكل شيء يدعو إلى الحزن بالفعل، إنه الاثنان معاً".
تورطنا روث في "كافة المخلوقات" مع بطلتها، الابنة الضالة لمزارع في ولاية أيداهو، مركز صناعة زراعة البطاطا التي تعود بعد عقدين من هربها في الـ15 من عمرها، لتشهد احتضار الزراعة، وننجرف معها في دراما مروعة حول الطعام المعدل وراثياً، والتلاعب بالحياة الطبيعية، مما يجعل الطبيعة تربي حقداً حيالنا. حازت الرواية على جائزة الكتاب الأميركية، وجائزة ويلا الأدبية للرواية المعاصرة، ووصفها الكاتب مايكل بولان بأنها "رواية ذكية وجذابة عن عالم لا ندرك أننا نعيش فيه".
نشأت روث، ابنة عالم اللغويات والأنثروبولوجيا فلويد لونسبري وعالمة اللغة ماساكو يوكوياما، على قراءة الكاتبة الأميركية وعالمة الأحياء راشيل كارسون التي تناولت في كتبها العلاقة بين جميع الكائنات الحية، واعتماد الرفاه الإنساني على الطبيعة، إلى جانب شغفها بمتابعة قضايا العلوم والتكنولوجيا والدين والسياسة البيئية وثقافة البوب العالمية، وقدرتها المدهشة على تطويعها في أعمالها. في "حكاية عن الوقت الراهن"/ A Tale for the Time Being التي تنتمي إلى ما وراء الخيال (الميتاحكي)، نتعرف على فتاة أميركية يابانية أيضاً في عمر الـ16 عاماً وتعيش في طوكيو، وكاتبة أميركية يابانية تعيش في جزيرة قبالة سواحل كولومبيا البريطانية، تعثر على مذكراتها في صندوق طعام القطط، وقد جرفتها الأمواج بعد أن ضرب تسونامي اليابان 2011. فتاتنا بدورها تعاني من اغتراب في وطنها! وهو ما دفع روث لتقديم مفهوم عكسي عن الاغتراب من خلال الفتاة التي عادت مجبرة بعد أن تشبعت بالحياة الأميركية وتكافح الآن من أجل الاندماج في البيئة الجديدة ومقاومة التنمر من زملائها في موطنها، وحين تتقطع بها السبل تفكر في الانتحار، ولكن قبل ذلك تريد أن توثق حياة جدتها الكبرى جيكو، الراهبة البوذية التي بلغت من العمر أكثر من 100 عام، لكن السرد ينفلت رغماً عنها إلى كتابة الذات، فتناوبه روث بين المرأتين، حتى تتكشف الجسور بين عالميهما في النهاية.
ترشحت الرواية لعديد من الجوائز منها جائزة البوكر عام 2013 وجائزة دبلن الدولية، وفازت بأكثر من جائزة مثل ياسنايا بوليانا الأدبية لأفضل رواية أجنبية في القرن الـ21، وجائزة كندا - اليابان الأدبية، وجائزة دوس باسوس 2014 وغيرها.
لحاف الذاكرة
بعد فوز روايتها الرابعة "كتاب الشكل والفراغ" بجائزة المرأة للإبداع، أصبحت روث حديث الأوساط العالمية، وهي الرواية التي كتبتها بعد أن تم ترسيمها "كاهنة زن" عام 2015. ربما لهذا حلقت بأزمة الهوية المطروحة في رواياتها الثلاث السابقة، إلى آفاق أوسع.
يحكي "كتاب الشكل والفراغ" باعتباره الراوي والنص، مأساة أسرة صغيرة فقدت عائلها الوحيد. بينجي عازف الكلارينت المسكين الذي خار جسده أثناء عودته ذات ليلة تحت تأثير الخمر والمخدرات، يتكوم جوار أكياس القمامة، ولم يخطر بباله المشوش أن شاحنة دجاج ستمر بعد قليل وتدهسه تحت عجلاتها. مات بينجي وترك زوجته أنابيل وابنه الوحيد بيني أوه، في مأزق وجودي، خصوصاً بغيابه المفاجئ، كاد يعصف بهما معاً. وبدلاً من مساندة كل منهما الآخر راح كل منهما يختبر الحزن بمفرده، مطوراً علاقة غريبة مع الأشياء. فيتبدى اكتئاب أنابيل في إهمال مظهرها وزيادة وزنها وهوسها بالاقتناء وتسريب الساعات الفارغة على مواقع التبضع. وكل هذا يضاف إلى ولعها القديم بالاحتفاظ بالذكريات، كملابس ابنها وهو ما زال طفلاً ولعبه وحاجاته والفناجين والأطباق التي تكسرت، وكل ما أجبرها على الخروج من الخدمة، ولم يطاوعها قلبها على التخلي عنه. وفي الوقت نفسه تسعى جاهدة لصنع "لحاف الذاكرة" من قمصان بينجي، وفي مشهد فنتازي تتحرك قمصان المتوفى لترتيب نفسها بنفسها أمام عيونهما الذاهلة، حتى يتكدس البيت إلى حد الاختناق.
في المقابل يطور بيني حاسة سمع قوية تمكنه من سماع أصوات جميع الأشياء الموجودة في منزله. الجوارب لا تحبذ الانفصال بعضها عن بعض وتريد أن تكون معاً، الكتب تطالب بشيء من النظام على الرف المهمل، همسات الخشب، شبح الصنوبر، تمتمة القلم الرصاص. معظم هذه الأشياء تشتكي له تاريخاً طويلاً من سوء الاستخدام والمعاملة المهينة، وبعضها يسبه بألفاظ نابية وأصوات كريهة يقشعر لها بدنه. حتى بقايا الطعام في الثلاجة بوسع الصبي الذي في سن الـ14 فحسب، أن يستدل على شكواها سواء من آهات الجبن المتعفن، أو تنهدات ورق الخس الذابل، وأنين نصف كوب زبادي على الرف الخلفي: "الأشياء متطلبة للغاية. تشغل المساحة. إنها تريد اهتمامك، وستدفعك إلى الجنون إذا سمحت لها بذلك".