محمود حسن
منذ ظهورها الاحترافي الأول في فيلم سينمائي عام 1979 في فيلم "كرامر ضد كرامر"، سطع نجم الممثلة الاستثنائية ميريل ستريب، وصار ظهورها في أي فيلم بعده شكلًا من أشكال اتساع ذلك البريق، وكأنه طاقة من الحضور والإبداع تغذي نفسها بنفسها، بريق لا يمكن مقاومته أو حتى إيقافه.
هذا التجدد والحلول في الشخصيات التي تقدمها تتركك حائرًا، وكأنها تغش أو تتعاطى المنشطات، فمن غير المعقول، أن يحظى ممثل بكل هذه الأدوات معًا، وليس من قبيل المصادفة أن الحديث عن أي فيلم تمثل فيه يصبح، بطريقة ما، حديثًا عنها وعن أدائها فيه.
هناك واحد من أجمل التفسيرات الشاعرية التي تحاول فهم موهبتها، وهي أنها ليست إلا ربة منزل، حظيت بخزانة ملابس سحرية، تجعلها ترتدي الشخصيات، كما ترتدي ربة منزل أنيقة الثوب المناسب للحدث المناسب، دون أي تكلف أو جهد.
ميريل ستريب تجعل مهنة التمثيل الشاقة تبدو سهلة وبسيطة، بانخراطها الوجداني المباشر مع مشاعر الشخصية وانعكاس هذه المشاعر على سلوكها الفيزيائي وملامحها وانطباعاتها، وهذا التبسيط للتعقيد الذي تنطوي عليها الشخصيات المركبة التي لعبتها خلال مسيرتها، يجعل الأمر يبدو وكأنه معجزة، كما أنه جعل هوليوود مفتونة بها وبسحرها المحير ذاك. إلى درجة أن كثيرًا من ممثلات جيلها يتهمن الأكاديمية بالانحياز لها، وبأنهم واقعون تحت تأثيرها.
وعلى الرغم من أن هذه واحدة من القراءات التي تحاول الإحاطة بموهبتها وتفسيرها، لكنها تبقى نجمة هوليوود المحبوبة، والممثلة الأكثر ترشيحًا في التاريخ لجائزة الأوسكار بــ21 ترشيحًا، ومئات الجوائز الأخرى، فضلًا عن حصولها على جائزة الأوسكار لثلاث مرات. وسوف يبقى تحليل طبيعة قدراتها وأدواتها كممثلة أمرًا محيرًا للنقاد وللجمهور على حد سواء، ولا حل لهذا الفضول المزعج، سوى القبول والاستمتاع.
لذا ندعوكم للاستمتاع بقائمة من خمسة من اهم أفلام ميريل ستريب، الممثلة دائمة الخضرة.
1- كرامر ضد كرامر
يعد فيلم "كرامر ضد كرامر" أنموذجًا لمدرسة الواقعية الأمريكية على أكثر من مستوى، إن كان على مستوى التمثيل أو الإخراج، أو النص.
قدمت فيه ميريل ستريب أداءً تنبأ بولادة نجمة سينمائية من العيار الثقيل. الأداء المستند على معايير الواقعية الأمريكية الذي يولي أهمية كبرى للدراما بمعناها العميق الداخلي، والتحولات ذات الرتم البطيء المتجهة نحو العمق، والحوارات المكثفة التي تنبع من عالم داخلي مضطرب، قدمته ميريل ستريب بمعايشة آخاذة وهادئة وبتقنين مدروس، خاصة أنها خاضت تجربتها الاحترافية الأولى من هذا المستوى أمام ممثل من وزن العبقري داستن هوفمان.
تدور قصة الفيلم حول تيد كرامر، الشاب العامل في مجال الإعلانات والمهجوس بتحقيق ذاته مهنيًا، وزوجته التي ضاقت ذرعًا بروتينها اليومي ورعاية طفلهما الوحيد، فتقرر الانفصال عنه. يجد تيد كرامر نفسه بشكل مفاجئ أنه مسؤول عن رعاية طفل صغير، دون أن يكون لديه أي فكرة مسبقة أو عملية عن هذا الأمر وأن عليه الموازنة بين رعايته وبين ضغوطات العمل وإلحاح النجاح المهني، يبدأ تيد بالتقرب من ابنه وتنشأ بينهما علاقة متينة تتخذ يومًا تلو آخر بعدًا أعمق مما كانت عليه، وبعد أن يتعلق كلاهما بالآخر، تقوم الزوجة برفع دعوى لكسب حق رعاية ابنها، تكسب الزوجة جوانا المعركة القضائية، لكنها تتخلى عن حق الرعاية لزوجها في النهاية.
الفيلم حصد خمس جوائز أوسكار، من بينها أوسكار أفضل ممثلة لميريل ستريب، والتي كانت بمثابة منصة إطلاقها في سماء النجومية في هوليود.
2- اختيار صوفي
لم تمض سنوات كثيرة على حصولها على أوسكارها الأول، حتى عادت وسلبت العقول بأداء خرافي لشخصية صوفي في فيلم "اختيار صوفي" الذي يعد واحدًا من اعظم الأداءات التمثيلية لشخصية نسائية في تاريخ السينما بحسب كثير من النقاد.
تتألق ميريل ستريب بتأدية شخصية صوفي، المرأة البولندية الناجية بصدفة غريبة من معسكرات النازية إبان الحرب العالمية الثانية، الهاربة إلى الولايات المتحدة، وتحديدًا إلى نيويورك. تلك الفتاة البولندية المسيحية التي كسرت احتكار الإبادة لصالح اليهود، تجمعها علاقة حب ومساكنة مع شاب يهودي مضطرب عاطفيًا، يلتقي الاثنان بشاب آخر لديه حلم بأن يصبح كاتبًا روائيًا عظيمًا، وتنشأ بين الثلاثة علاقة صداقة قوية، وغريبة في قوتها، ومع تزايد وتيرة هذه العلاقة تبدأ شخصية صوفي بالتكشف، وتروي الأهوال التي عايشتها في معسكرات الاعتقال النازية.
صوفي الأم التي أجبرها الجنود الألمان على الاختيار بين طفليها أي واحد منهما يموت وأي منهما يعيش، كان على الأم أن تتخذ قرارًا مروعًا، تمنح فيه الحياة لواحد من ابنيها وتسلبه من الآخر. يقال إنه بعد عرض الفيلم، صار تعبير "اختيار صوفي" يستخدم لوصف الاختيارات الصعبة والمتعادلة في قسوتها التي يمكن ان تواجه الإنسان.
حصلت على أوسكارها الثاني عن أدائها لشخصية صوفي، وأظهرت فيه أدواتها كممثلة، وبحثها العميق والتزامها الجاد تجاه التجسيد، من خلال اتقانها اللكنة البولندية في الإنجليزية واللغة البولندية، إضافة إلى تعلمها اللغة الألمانية، وهذا ما بين مدى شغفها والتزامها، بعيدًا عن موهبتها الواضحة، وبأنها ممثلة تتجه صعودًا ولا يمكن إيقافها.
3- المرأة الحديدية
في فيلم السيرة الذاتية هذا، الذي يتناول حياة رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، لم تكن ميريل ستريب تمثل مارغريت تاتشر، بل كانت مارغريت تاتشر. المقاربات الأدائية التي سلكتها الممثلة الكبيرة، على مستوى الشكل والمضمون، كانت كفيلة بتقريب السيدة الحديدية من المجال التعاطفي لكل معاصري سياستها في مختلف أنحاء العالم، لقد أضفت ميريل ستريب سحر شخصيتها الحية على شخصية مثيرة للجدل ومنحتها الفرصة لتكشف عن مصدر صلابتها وقوتها التي اشتهرت بها، ومن خلال تجسيد مرحلتين عمريتين من حياة تاتشر، حلقت ميريل ستريب بمستويين أدائيين مختلفين على مستوى توظيف أدوات الممثل، ولو أنها بدت أكثر حرية وانطلاقًا في مرحلة الشيخوخة، لكنها لم تنس أن هذه المرأة العجوز المصابة بالخرف، هي حطام امرأة حديدية، تصدت لخيارات صعبة، واتخذت قرارات، فيها من الأمومة بقدر ما فيها من السياسة.
حصلت على أوسكارها الثالث عن أدائها في هذا الفيلم، المنتج عام 2011، وتلقت إشادات بروعة أدائها حتى من قبل الجمهور الأرجنتيني الذي صار أكثر تفهمًا لسياسات تاتشر تجاه جزر فوكلاند بعد عرض الفيلم، وجعل أداء ستريب الرائع الجمهور ينظر لرئيسة الوزراء كامرأة وطنية تحاول خدمة مصالح بلادها.
4- الشيطان يرتدي برادا
كانت مهمة ميريل ستريب في هذا الفيلم تقتضي أن تخلق عالمًا كاملًا، وليس فقط أن تنتمي إليه من خلال الأداء، كان لا بد من وجود ممثلة بموهبة ميريل ستريب، لإبراز كل تعقيدات عالم الأزياء والموضة الغرائبي الباذخ، والسطحي في جوانب كثيرة منه، فكلما كانت الممثلة بارعة، صار هذا العالم ممكنًا وقابلًا للتحقق سينمائيًا، وبالطبع لم يكن مفاجئًا لأحد مدى قدرة ستريب على تحقيق هذه المقاربة، خاصة أن حكاية الفيلم تتمحور حول تمايز بين عالمين، عالم آن هاثوي الفتاة الساذجة رثة الثياب الجاهلة تمامًا بصيحات الموضة وأضواء دور العرض، وبين عالم ميرندا بريستلي التي أدتها ستريب، التي بدت وكأنها روح عالم الموضة.
تصبح الفتاة الرثة مساعدة شخصية لسيدة الموضة القاسية المتكبرة الواقفة على قمة النجاح المهني، وتؤخذ بسحر شخصيتها، وتنجذب لعالمها، لكنها كلما اقتربت من هذا العالم البراق، أحست بخوائه ووحشته وقسوته.
قصة تحول هذه الفتاة الساذجة إلى امرأة بذائقة نيويروكية باريسية نخبوية، كانت أشبه برحلة سحرية في عالم مواز، عكسته ميريل ستريب بأدائها وحدها، الفيلم حصد العديد من الترشيحات لجائزة الأوسكار، ونالت ستريب جائزة الغولدن غلوب عن أدائها لشخصية ميرندا بريستلي.
5 - أغسطس مقاطعة اوساج
على الرغم من أن كثير من النقاد عابوا على فيلم "أغسطس مقاطعة اوساج" طبيعته المسرحية، وابتعاده عن بيئة المادة السينمائية وخصائصها، إلا أن هذا الفيلم قدم ميريل بطريقة مختلفة كليًا، من حيث إمكانية مشاهدتها كممثلة بأدوات مسرحية، فتعقيدات العالم الداخلي لشخصية فيوليت التي لعبتها تحمل مواصفات شخصية مسرحية بحتة، فضلًا عن الحكاية القائمة على فرضية زمانية ومكانية غاية في المسرحة، ومحفزات درامية تناسب شرط العرض المسرحي، أكثر من مناسبتها لمفهوم الفيلم السينمائي، لكن نقاد آخرين رأوا في ذلك ميزة في الفيلم وليس عيبًا فيه، ناهيك عن أن الفيلم مأخوذ عن مسرحية للكاتب تريسي ليتس الحائز على جائزة البوليتزر لأفضل نص مسرحي عن هذه المسرحية التي اقتبست أحداث الفيلم منها.
يعود الماضي في شهر أغسطس في بيت العائلة في مقاطعة اوساج، ويكشف مدى التباعد والتفكك في عائلة فيوليت المرأة العجوز المصابة بسرطان الفم والمدمنة على الحبوب المهدئة، ومن خلال اجتماع العائلة في عطلة الصيف هذه، يحضر الماضي بكل ثقله ويعيد رسم العلاقات بين شخصيات العائلة، لنكتشف أن مآلات الشخصيات في حاضرها، ماهو إلا بسبب أحداث الماضي.
فيلم درامي مشحون بأداء عالي المستوى من ميريل ستريب وجوليا روبرتس، الفيلم تلقى ترشيحات عدة لجائزة الأوسكار، من بينها ترشيح لأفضل ممثلة لميريل ستريب ولجوليا روبرتس عن أدائهما. والفيلم أنتج عام 2013.