الديوان » سوريا
» نزار قباني
» الطيران فوق سطح العالم
1
قررت نهائياً.. أن أتفرغ لك..
فليس هناك قضيةٌ
تستحق أن يموت الإنسان من أجلها
إلا حبك..
ولا محطةٌ تستحق الوقوف فيها
إلا محطة شعرك الليلي
وليس هناك أيديولوجية متكاملة
أكثر إقناعاً من تقاطيع وجهك..
وليس هناك مكانٌ للانتحار
أعلى من ذروة نهديك..
لقد جربت كل الأعمال اليدويه
من رسمٍ على الزجاج..
وحفرٍ على الخشب
واستنفدت جميع امكانيات الصلصال والسيراميك
فلم أكتشف آنيةً خزفيةً
أكثر تناسقاً من جسدك
وأصغيت إلى عشرات التنويعات على البيانو
فلم أستمع إلى معزوفةٍ
أحسن تأليفاً من أصابعك...
3
أن أتخلى عن جواز سفري
وأصبح واحداً من رعاياك.
قررت نهائياً..
أن أتعلق بأية سحابةٍ
هاربةٍ مع أطفالها باتجاه البحر
فلم يعد لي وطنٌ ألتجئ إليه..
سوى سواحل يديك..
أنت الوطن الأخير الباقي على خريطة الحريه
أنت الوطن الأخير الذي أطعمني من جوعٍ..
وآمنني من خوف..
وكل الأوطان الأخرى.. أوطانٌ كاريكاتوريه
كرسوم والت ديزني..
أو بوليسية...
كمؤلفات آغاتا كريستي..
أنت آخر سنبله..
وآخر قمر..
وآخر حمامه..
وآخر غمامه
وآخر مركبٍ أتعلق به..
قبل وصول التتار....
*
أنت آخر وردةٍ أشمها
قبل أن ينتهي زمن الورد..
وآخر كتابٍ أقرؤه..
قبل أن تحترق كل المكتبات
وآخر كلمةٍ أكتبها
قبل أن يأتي زوار الفجر
وآخر علاقةٍ أقيمها مع امرأه
قبل أن تصبح الأنوثه
كلمةً نفتش عنها بالعدسات المكبره
في المعاجم والموسوعات....
قررت أن أذهب معك..
وآخر نقطةٍ من دمي...
إنني مشتاقٌ إلى الجزر التي لا تتعامل مع الوقت
ولا تقرأ الجرائد اليوميه
لم يعد عندي أي متاعٍ يؤسف عليه...
فلحمي.. أكلته الأسماك بين بيروت ولارنكا
ووطني..
نشلوه من جيبي قبل أن أصعد إلى ظهر
السفينه...
وتذكرة هويتي...
عليها صورة رجلٍ آخر..
كان يشبهني قبل خمسين عاماً..
ماذا تنتظرين كي تفتحي قلوع شعرك الأسود؟؟
إن رائحة الملح والتوتياء في الميناء
تخترقني كسيفٍ معدني
فلماذا لا تفتحين واحداً من شرايينك لإيوائي؟
أنا الذي فتحت جميع شراييني..
لاستقبالك...
5
لم يعد عندي أسئلةٌ أطرحها
فأنت والبحر..
لم يعد عندي ارتباطاتٌ بأي حجر...
أو بأية شجره
أو بأية رائحه..
أو بأية خزانة ملابس..
فكل ما تبقى لي..
هو سروال الجينز الأزرق الذي ألبسه.
والذي كان رفيق تسكعي..
ورفيق السفر.. والمنفى، والمقاهي،
والقطارات،
وبواخر الشحن، والدوار، والليل، والبراندي،
والجنس، والصراخ العصبي في دهاليز الجنون.
كل ما تبقى لي...
هو هذا الجينز التاريخي..
المغطى بالطعنات.. وفتات الخبز..
وفتات الجنس.. وفتات صرخاتي ودموعي..
والذي صار المتحف القومي لمشاعري..
والمفكرة التي أسجل عليها مواعيد الإقلاع..
والرسو.. ومواعيد الغيبوبة والكحول
وصار، بعد سقوط كل الأوطان..
وطني...
6
لن أعود إلى حماقاتي السابقه..
ولن أسألك إلى أين؟
إن الجغرافيا لم تعد عندي ذات موضوع
العالم.
والمسافة بين ولادتي وموتي تحسب
بالسنتيمرات.
لن أسألك إلى أين؟
المهم.. أن تنتزعيني من ذاكرتي
ومن أوراق الرزنامة العربية..
وترميني على ظهر سفينةٍ
لا ترفع علم أي دوله....
فأنا لم أعد مكترثاً بالممالك.. ولا
بالجمهوريات..
إن زجاجة البراندي..
هي الجمهورية الأكثر عدلاً وأماناً في التاريخ..
فاغسلي قدميك بمائها المقدس
فهذه فرصتنا الوحيده..
للطيران فوق سطح العالم....
إن زجاجة البراندي..
هي الجمهورية الأكثر عدلاً وأماناً في التاريخ..
فاغسلي قدميك بمائها المقدس
فهذه فرصتنا الوحيده..
للطيران فوق سطح العالم....
» نزار قباني
» الطيران فوق سطح العالم
1
قررت نهائياً.. أن أتفرغ لك..
فليس هناك قضيةٌ
تستحق أن يموت الإنسان من أجلها
إلا حبك..
ولا محطةٌ تستحق الوقوف فيها
إلا محطة شعرك الليلي
وليس هناك أيديولوجية متكاملة
أكثر إقناعاً من تقاطيع وجهك..
وليس هناك مكانٌ للانتحار
أعلى من ذروة نهديك..
لقد جربت كل الأعمال اليدويه
من رسمٍ على الزجاج..
وحفرٍ على الخشب
واستنفدت جميع امكانيات الصلصال والسيراميك
فلم أكتشف آنيةً خزفيةً
أكثر تناسقاً من جسدك
وأصغيت إلى عشرات التنويعات على البيانو
فلم أستمع إلى معزوفةٍ
أحسن تأليفاً من أصابعك...
3
أن أتخلى عن جواز سفري
وأصبح واحداً من رعاياك.
قررت نهائياً..
أن أتعلق بأية سحابةٍ
هاربةٍ مع أطفالها باتجاه البحر
فلم يعد لي وطنٌ ألتجئ إليه..
سوى سواحل يديك..
أنت الوطن الأخير الباقي على خريطة الحريه
أنت الوطن الأخير الذي أطعمني من جوعٍ..
وآمنني من خوف..
وكل الأوطان الأخرى.. أوطانٌ كاريكاتوريه
كرسوم والت ديزني..
أو بوليسية...
كمؤلفات آغاتا كريستي..
أنت آخر سنبله..
وآخر قمر..
وآخر حمامه..
وآخر غمامه
وآخر مركبٍ أتعلق به..
قبل وصول التتار....
*
أنت آخر وردةٍ أشمها
قبل أن ينتهي زمن الورد..
وآخر كتابٍ أقرؤه..
قبل أن تحترق كل المكتبات
وآخر كلمةٍ أكتبها
قبل أن يأتي زوار الفجر
وآخر علاقةٍ أقيمها مع امرأه
قبل أن تصبح الأنوثه
كلمةً نفتش عنها بالعدسات المكبره
في المعاجم والموسوعات....
قررت أن أذهب معك..
وآخر نقطةٍ من دمي...
إنني مشتاقٌ إلى الجزر التي لا تتعامل مع الوقت
ولا تقرأ الجرائد اليوميه
لم يعد عندي أي متاعٍ يؤسف عليه...
فلحمي.. أكلته الأسماك بين بيروت ولارنكا
ووطني..
نشلوه من جيبي قبل أن أصعد إلى ظهر
السفينه...
وتذكرة هويتي...
عليها صورة رجلٍ آخر..
كان يشبهني قبل خمسين عاماً..
ماذا تنتظرين كي تفتحي قلوع شعرك الأسود؟؟
إن رائحة الملح والتوتياء في الميناء
تخترقني كسيفٍ معدني
فلماذا لا تفتحين واحداً من شرايينك لإيوائي؟
أنا الذي فتحت جميع شراييني..
لاستقبالك...
5
لم يعد عندي أسئلةٌ أطرحها
فأنت والبحر..
لم يعد عندي ارتباطاتٌ بأي حجر...
أو بأية شجره
أو بأية رائحه..
أو بأية خزانة ملابس..
فكل ما تبقى لي..
هو سروال الجينز الأزرق الذي ألبسه.
والذي كان رفيق تسكعي..
ورفيق السفر.. والمنفى، والمقاهي،
والقطارات،
وبواخر الشحن، والدوار، والليل، والبراندي،
والجنس، والصراخ العصبي في دهاليز الجنون.
كل ما تبقى لي...
هو هذا الجينز التاريخي..
المغطى بالطعنات.. وفتات الخبز..
وفتات الجنس.. وفتات صرخاتي ودموعي..
والذي صار المتحف القومي لمشاعري..
والمفكرة التي أسجل عليها مواعيد الإقلاع..
والرسو.. ومواعيد الغيبوبة والكحول
وصار، بعد سقوط كل الأوطان..
وطني...
6
لن أعود إلى حماقاتي السابقه..
ولن أسألك إلى أين؟
إن الجغرافيا لم تعد عندي ذات موضوع
العالم.
والمسافة بين ولادتي وموتي تحسب
بالسنتيمرات.
لن أسألك إلى أين؟
المهم.. أن تنتزعيني من ذاكرتي
ومن أوراق الرزنامة العربية..
وترميني على ظهر سفينةٍ
لا ترفع علم أي دوله....
فأنا لم أعد مكترثاً بالممالك.. ولا
بالجمهوريات..
إن زجاجة البراندي..
هي الجمهورية الأكثر عدلاً وأماناً في التاريخ..
فاغسلي قدميك بمائها المقدس
فهذه فرصتنا الوحيده..
للطيران فوق سطح العالم....
إن زجاجة البراندي..
هي الجمهورية الأكثر عدلاً وأماناً في التاريخ..
فاغسلي قدميك بمائها المقدس
فهذه فرصتنا الوحيده..
للطيران فوق سطح العالم....
تعليق