المقامات في اللغة جمع مقامة، وهي تعني في الاصطلاح المجلس والجماعة من الناس فيه، تبع ذلك تعريفٌ آخر وهو أن المقامة هي الأحدوثة من الكلام؛ أي أن الناس أيضًا، يجتمعون في مجلسٍ، وتذكر عندهم المقامة، ولكنها في معناها الأشمل تعني أقاصيص قصيرة، يرويها مغامرٌ أديب، طلبًا للأعطيات والمعونات، أما عن أول من ابتدع هذا الفن، فهو بديع الزمان الهمذاني، فكان بطل مقاماته هو أبو الفتح الإسكندري، وهو من نسج خياله، أما عن غرض ابتداعه لهذا الفن فهو غرض تعليمي في قالبٍ قصصي فكاهي جاذب للقلوب، فانتشرب مقاماته في أصقاع العالم الإسلامي، حتى جاء الحريري.[١]
مؤلف مقامات الحريري
الحريري صاحب مقامات الحريري، أحد أئمة العصر، وآخر البلغاء، وخاتمة الأدباء
القاسم بن علي الحريري البصري الحرامي، صاحب مقامة الحرامية المشهورة، والتي ذاع صيته منها، له خمسين مقامةً اشتملت على كلامٍ كثير من كلام العرب، فكانت دلالة على فضله، وغزارة علمه، واطلاعه، ومادته[٢].
نشأة الحريري
هو أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري، ولد في قرية مشان القريبة من البصرة عام 446 هجري، والتي انصرف إليها لتلقي علومه في محلة بني حرام فيها، وقد كان شديد الذكاء والفطنة، علاوةً على أنه من ذوي اليسار؛ أي من ذوي المرتبة والنفوذ، إذ امتلك في قريته ثماني عشرة نخلةً، وفي البصرة كان يحمل للخليفة أخبار الناس والجيش، فكان صاحب الخبر فيها، ويذكر من صفاته أنه مرهف الشعور، صادق الإحساس، حسن السيرة، مستقيم الخلق، ملتزمًا لدينه.[٣]
علم الحريري
أخذ الحريري علمه من علماء البصرة في اللغة والأدب[٤]، وقد بلغ في علمه وفنه في المقامات ذروةً شاهدةً لا تُدرك، وهذا ما أجمع العلماء عليه، ورغم أنه أشار إلى تأثره بمقامات بديع الزمان، فقال في ذلك: "هذا مع اعترافي بأنّ البديع رحمه الله سباق غايات، وصاحب آيات، وأن المتصدي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف إلا من فُضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته"، وقد بدأ تأليف مقاماته عام 495، وأنهاها عام 504 للهجرة، والتي كان بطلها أبو زيد السروجي، والحارث بن همام البصري[٥].
شيوخ الحريري وتلاميذه
سمع الحريري الحديث من أبي تمام المقري، وأبي القاسم الفضل القصباني، وأبي القاسم الحسين الباقلاني، أما الفقه فأخذه عن أبي إسحاق الشيرازي، وأبي نصر بن الصباغ، كما أنه قرأ الفرائض، والحساب على أبي الفضل الهمذاني، وأبي حكيم الخبري، أما الأدب فقد أخذه وتلقّاه عن أبي الحسن علي المجاشعي، ويذكر أن ابنه عبد الله أبو القاسم كان أو تلاميذه إلى جانب الوزير علي بن طراد، وغيرهم الكثير[٦].
أسلوب الحريري
أسلوب الحريري في مقاماته يصفها هو فيما يقول: "فأنشأت خمسين مقامةً، تحتوي على جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغُرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره، إلى ما وشحتها به من الآيات، ومحاسن الكنايات، ورصعته فيها من الأمثال العربية، واللطائف الأدبية، والأحاجي النحوية، والفتاوى اللغوية، والرسائل المبتكرة، والخطب المحبرة، والمواعظ المبكية، والأضاحيك الملهية، مما أمليت جميعه على لسان أبي زيد السروجي، وأسندت روايته إلى الحارث ابن همام البصري"، ويتضح من ذلك أنه أساليبه مبتكرة ومتنوعة، علاوةً على احتوائها على غزارةٍ لغوية هائلة من الألفاظ، فتراه ابتعد في أسلوبه عن التكرار بقدر ما استطاع، وربما تكون الخلاصة بأن الحريري استعمل في أسلوبه شتى ألوان البيان، والمعاني، والبديع، والسجع[٧].
منهج الحريري
ينهج الحريري نهج من سبقه في المقامات، من مثل بديع الزمان، فيقول هو على لسانه في منهجه: "إلى أنْ أُنْشئَ مَقاماتٍ أتْلو فيها تِلْوَ البَديعِ، وإنْ لمْ يُدْرِكِ الظّالِعُ شأوَ الضّليعِ.."، ولكنه في مقاماته يفوقه في جودة السكب، وقوة الأسلوب.[٨]
مؤلفات الحريري
للحريري كتب ومقالات عدة، فقد كان من الأعلام في اللغة والأدب اللذين يؤخذ برأيهم، فكتب[٤]:
درة الغواص في أوهام الخواص، وهو كتاب يبين فيه أوهام الكتاب وأخطائهم.
ملحة الإعراب في النحو وهي أرجوزة.
أما في المقامات التي يقال بأنه وضعها لشرف الدين أبي نصر أنوشروان بن خالد بن محمد القانوني، وهو وزير الخليفة الإمام المسترشد بالله، أما عن أول ما وضع من المقامات فهي المقامة الحرامية، ومجموع مقاماته كلها خمسين مقامة[٤]، وهي[٩]:
المقامة الصنعانية: وهي عن أبا زيد؛ إذ كان واعظًا، ثم عكف على شرب النبيذ مع تلميذٍ له.
المقامة الحلوانية: وفيها محاسن التشبيهات، والاعتراضات.
المقامة الدينارية: أو القيلية؛ وفيها مدح الدينار، وذمه.
المقامة الدمياطية: اشتملت على محاورة أبي زيد لابنه، وذلك في المواصلة والقطيعة.
المقامة الكوفية: تتحدث عن وقوف أبي زيد منتظرًا مجاوبة أحد له في باب بيتٍ يطلب القرى.
المقامة المراغية: أو الخيفاء؛ وفيها رسالة نصفها معجم، ونصفها مهمل.
المقامة البرقعيدية: تشتمل تعامي أبي زيد عن امرأته، وهي تقوده، وتفرق له الرقاع في مصلى العيد.
المقامة المعرية: تتضمن مخاصمة أبو زيد وابنه في الميل والإبرة.
المقامة الإسكندرية: وفيها مخاصمة أبي زيد وامرأته؛ لأنه باع أثاثها، ورحلها.
المقامة الرحبية: وفيها دعوى أبي زيد على غلام بأنه قتل ابنه.
المقامة الساوية: يقف فيها أبا زيد على القبور واعظًا.
المقامة الدمشقية والغوطية: يكون فيها أبو زيد خفيرًا، فيخفر القافلة بدعواتٍ لقنها في المنام.
المقامة البغدادية: يصف فيها أبي زيد عجوزًا مكدية، ومعها أولادها الصغار الجياع.
المقامة المكية والحجازية: يكون فيها أبا زيد وابنه متغربين.
المقامة الفرضية: فيعرض فيها على أبا زيد لغزًا، ومسألةً فرضية.
المقامة المغربية: فيها عبارات تقرأ طردًا وردًا، لا يغيرها عكس حروفها.
المقامة القهقرية: وتكون تقرأ من أولها بوجه، ومن آخرها بوجهٍ آخر.
المقامة السنجارية: يحكي فيها قصة أبي زيد مع جاره النمام.
المقامة النصيبية: أبو زيد مريض فيها.
المقامة الفارقية: يطلب فيها أبو زيد تكفين ميت.
المقامة الرازية: فيكون فيها أبا زيد واعظًا.
المقامة الفراتية: فترى فيها أبو زيد يفضل الكتابتين الإنشاء والحساب.
المقامة الشعرية: أو الحريمية، وفيها يدعي أبو زيد أن ابنه سرق شعره.
المقامة القطيعية والنحوية: في مسائل ملغّزة في النحو.
المقامة الكرجية: وفيها كافات الشتاء، وطلب ثياب للكساء.
المقامة الرقطاء: حروفها منقوط، وآخر بغير نقط.
المقامة الوبرية: أو البدوية، فيطلب فيها الحرث ناقته الضالة.
المقامة السمرقندية: يخطب فيها أبو زيد خطبةً عريةً من الإعجام.
المقامة الواسطية: صرع فيها أبو زيد أهل الخان وأخذ ما لهم.
المقامة الصورية: يخطب فيها أبو زيد في تزويج مكدية لمثلها.
المقامة الرملية: يعظ فيها أبو زيد الحجاج.
المقامة الطيبية: أو الحربية، فيقوم فيها أبو زيد فقيهًا بمئة مسألةٍ لغزية.
المقامة التفليسية: أبو زيد يكون فيها بقوةٍ فيقوم إلى المسجد مكديًا.
المقامة الزبيدية: فيبيع ولده في صفة غلامٍ ليشتريه الحرث.
المقامة الشيرازية: فيها أبا زيد رب بكرًا، فيطلب ما يجهزها به.
المقامة الملطية: فيها ألغاز للمقايضة بالكلام.
المقامة الصعيدية: ينسب فيها أبو زيد لابنه العقوق.
المقامة المروية: يدخل أبو زيد فيها مكديًا عند الوالي.
المقامة العمانية: أو الصحارية، فيركب فيها أبو زيد البحر.
المقامة التبريزية: تخاصم أبو زيد وزوجته عند القاضي.
المقامة التنيسية: يكون فيها أبو زيد واعظًا، وابنه طالبًا، فعطف الناس أبا زيد على ابنه.
المقامة النجرانية: أبو زيد يلقي فيها ألغازًا.
المقامة البكرية: أو البدوية؛ فيها مدح البكر والثيب.
المقامة الشتوية: أو اللغزية، فيها قصيدة ألغاز.
المقامة الرملية: يختصم أبو زيد وزوجته فيها.
المقامة الحلبية: إنشاء فنونٍ مختلفة من صبيان، معلمهم أبو زيد.
المقامة الحجرية: يكون أبو زيد فيها حجامًا.
المقامة الحرامية: فيها رواية الحرث عن أبي زيد الذي رأى رجلًا يطلب كفارة لذنبه.
المقامة الساسانية: وفيها أن لا صناعة أنفع من الكدية.
المقامة البصرية: يتوب فيها أبو زيد، ويلزم المسجد.
وفاة الحريري
توفي الحريري حسب ما أورده الذهبي في السادس من رجب سنة عشرة وخمسمئة بالبصرة، أما السمعاني فأورد يقول بأنه مات سنة خمس عشر وخمسمائة، وله ثلاثة أبناءٍ؛ محمد (وهو أبو العباس محمد بن القاسم الملقب زين الإسلام الحريري)، عبد الله، وعبيد الله.