فنون الشعر الأندلسي وعددها
تنوعت أغراض وفنون الشعر الأندلسي، بالأخص ما اشتهر وازدهر في عصر الموحدين والطوائف فيها؛ وهو أزهى عصور الأدب الأندلسي، وهو ما يعود في ذلك لكونه عصر المحنة الكبرى؛ ما بين المسلمين والنصارى، والحروب التي وقعت حينها، علاوة على ثراء تلك الفترة بأهل الثقافة العربية الأصلية[١]، الأمر الذي عاد بالشعر والشعراء إلى تنويع أغراضهم وفنونهم الشعرية؛ فكانت فنون الشعر تضم تسعة أغراضٍ وألوان مختلفة تحت مظلتها، وهي؛المدح، الغزل، الطبيعة، الغربة، الخمر والمجون، الرثاء، الشعر الديني، الهجاء، والشعر التعليمي[٢].
فنون الشعر الأندلسي وأغراضه
امتزجت فنون الشعر الأندلسي بالواقع الذي يعيشه شعراءها؛ فكان المدح لغاياتٍ سياسية، وكان الغزل المادي، والعفيف منه، وكان هنالك وصف المناظر الطبيعية والتغني بها، لذلك كانت الفنون التالية كاملة:
المديح
اتخذ شعراء ذلك العصر من نظمهم للأشعار والنثر طريقًا وسببًا لتقرب من الخلفاء، اللذين كانوا يلاقونهم بالعطاء السخي كذلك، وذلك لدعم ممالكهم وإشاعة دعوتها، الأمر الذي جعل الشعراء يُعرَفون بلقب شعراء الخلافة الموحدية، وشعراء الدولة الرسميين، أشهر شعراء تلك الحقبة أبو بكر بن مجبر، الذي كانت أكثر مدائحة تدور حول الخليفة المنصور[٤]، وأبو علي إدريس اليماني، الذي مدح باديس حبوس صاحب غرناطة قائلًا[٥]:
القائد الجرد العتاق كأنها
لججٌ زواخر أو عوارض لمع
متوقد في الحادثات إذا دجت
فكأنه فيها شهاب يسطع
علم هو القمر المباهي طالعا
صهناجة وهم النجوم الطلع
متسربلين لكل حربٍ مرةٍ
بأسا يقرع كل من لا يقرع
فلو أنهم رفضوا الأسنة والقنا
قامت قلوبهم بها والأذرع
وقد انقسم شعر المديح إلى عدة أقسام أهمها وأكثرها شيوعًا؛ شعر الجهاد، إذ أكثر شعراء ذاك العصر من وصف المعارك والحروب، نتيجةً لصراع الدولة الإسلامية مع الروم، والغزو النصراني الحاصل حينها، فأشادوا بانتصارات الموحدين، ورافقوهم في الغزوات وتغنوا بانتصاراتهم، وتغنوا بغزوات المنصور أيضًا، كان أكثر الشعراء تغنيًا بذلك ابن مجبر، فوصف الاستعدادات للغزو، وتأهب الجيش للقتال، مبشرًا بالنصر.[٦]
الغزل
ترف الحياة وتحضرها في ذلك العصر، جعل من شعر الغزل مادةً جاذبةً للشعراء، وتعبيرًا عن عاطفتهم الإنسانية، وذلك بنوعيه المؤنث والمذكر، كما استطاع الشعراء التخلص من الغزل القديم، مثل البكاء على الأطلال، وذكر الأوصاف، بل أصبح أقرب ما يكون إلى الغناء[٧]، وقد أقيم شعر الغزل الأندلسي إلى قسمين ممَن يمثلون من الشعراء، فكان يوجد شعر الغزل المحافظ، وهو العفيف الحافظ للتقاليد والأعراض الاجتماعية، والقسم الآخر هو الشعر الماجن؛ أي الذي ذكر أوصاف الجسد، وليالي الخمر، وما إلى ذلك[٨]، ومن أمثلة شعر الغزل الأندلسي قول الشاعر ابن شهيد[٩]:
ولمّــا تَــمَـلأَ مِـن سُـكْـرِهِ
فنامَ ونامَت عُيونُ العَسَسْ
دَنَــوْتُ إِلَيـهِ عـلى بُـعْـدِهِ
دُنُوَّ رَفِيقٍ دَرَى ما الْتَمَسْ
أَدِبُّ إِلَيْهِ دَبِــيـبَ الكَـرَى
وأَسْـمُـو إِلَيْهِ سُمُوَّ النَّفَسْ
أُقَـبِّلـُ مـنـه بَياضَ الطُّلَى
وأَرْشُـفُ مـنه سَوادَ اللَّعَسْ
وبِـتُّ بـه لَيْـلتـي نـاعِـماً
إِلى أَنْ تَبَسَّمَ ثَغْرُ الغلَسْ.
وقال في ذلك ابن شهيد أيضًا:[١٠]
ولمّا فَشا بِالدَّمْعِ مِنْ سِرِّ وجْدِنا
إِلى كاشحِينا ما القُلُوبُ كواتِمُ
أَمرْنا بإِمْساكِ الدُّمُوعِ جُفُونَنا
لِيْشجي بما تطوِي عَذُولٌ
فظَلَّتْ دُمُوعُ العيْنِ حيْرى كأَنَّها
خِلالَ مآقِينا لآلٍ توائِمِ
أَبَى دَمْعُنا يَجْرِي مَخافةَ شامِتِ
فنَظَّمهُ بَيْنَ المحاجِرِ ناظِمُ
وراقَ الهَوى منَّا عُيُونٌ كَرِيمةٌ
تَبسَّمْنَ حتى ما تَرُوقُ المباسِمُ.
الطبيعة
الطبيعة والبيئة هي الملهم الأول للشعراء ومنبعًا لأشعارهم، وهذا ما انعكس على شعراء الأندلس؛ إذ كان وصف الطبيعة والتغني بها أهميةً بالغة لديهم، وربما عوامل الفتنة والحروب، علاوةً على مظاهر الحسن فيها، سببًا في توقهم للتغني بالطبيعة والبلاد كاملة، وقد ذكروا الطبيعة مع المرأة، وشبهوا محاسنها بمفاتن الطبيعة، من مثل تشبيه القد بالغصن، والشعر بالليل وما إلى ذلك، ومن مثال ذلك، قول الشاعر ابن زيدون[١١]:
الهوى في طلوع تلك النجوم.. والمعنى في هبوب ذاك النسيم.
وقول ابن صارة الأندلسي واصفًا فيه للنهر وصفاء ماءه[١٢]:
تترقرق الأمواج فيه كأنها
عكن الخصور تهزها الأعجاز.
الغربة والحنين
عبر الشاعر الأندلسي عن عاطفة صادقة، وإحساسٍ مرهف إبان ما عاناه من مرارة الغربة، فكان حنينه ساعة اغترابه أصدق ما نطق في شعره، وذلك خلال حروب النصارى وسقوط معظم المدن في أيديهم، فجر على لسانهم الشعر الكثير، ومن ذلك ما قال ابن خربون[١٣]:
لِلَّهِ ما هاجَ لَمعُ البارِقِ السَّارِي
عَلى فُؤادِ غَريبٍ نازِحِ الدَّارِ
أَكَبَّ في الأُفقِ مِنهُ قادِحٌ عَمِلٌ
يَنقَدُّ ثَوبُ الدُّجَى عَن زَندِهِ الوارِي
كانَ الصِّبا وَطَري إِذ كُنتُ في وَطَنِي
فَقَد فُجِعتُ بِأَوطانِي وَأَوطارِي
فَأَينَ تِلكَ الرُّبى وَالسَّاكِنونَ بِها
وأَينَ فيها عَشِيَّاتِي وَأَسحارِي
مَلاعِبٌ نَثَرَت أَيدِي الرِّياحِ بِها
ما شِئتَ مِن دِرهَمٍ ضَربٍ وَدينارِ
ما لِلزَّمانِ أَلا حُرٌّ يُنَهنِهُهُ
يَفرِي أَديمي بِأَنيابٍ وَأَظفارِ.
الرثاء
وهو يعني البكاء على الميت، ومدحه بما كان، وقد عرف الرثاء ابن منظور بأنه: "البكاء على الميت، وذكر محاسنه"، أما المبرد فقد حصره في أنه التعزية؛ أي السلو وحسن الصبر على المصائب [١٤]، وقد جاء الرثاء للأقارب من ذكورٍ أو إناث، وللنفس وما تحت ذلك من شواهد القبور، ورثاء الشخصيات العامة كالملوك والأمراء، والرثاء على الأصدقاء، والجواري، والغلمان، علاوةً على الرثاء على الدول والممالك[١٥]، أما عن ألوان الرثاء في الشعر الأندلسي فقد جاء منها ثلاثة؛ الندب أو النواح، التأبين، والعزاء، ومن الأمثلة على ذلك، ما قاله أمية أبي عامر الأصيلي في رثاء أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الوزير، حيث قال[١٦]:
على مصرع الفهري ركني وموئلي
بكيت وأبكي طول دهري وحق لي
أؤبن من مات الندى يوم موته
وقلص ظل الجود عن كل مرمل
تولى ابن إبراهيم فالغرب بعده
لكل غريب الدار حلقة جلجل
فأصبحت الآمال بعد محمد
تنادي ألا بعدًا لكل مؤمل.
الشعر التعليمي
كانت الحياة العلمية في الأندلس مزدهرةً أشد ازدهار ذلك العصر، فتنوعت العلوم والمعارف، فنظم الشعراء القصائد والأراضي في هذه العلوم، فمثلًا اشتهر الشاعر ابن مالك في شعره، وقصائده عن النحو، وكان يدرس المسائل الكثيرة في ألفاظٍ قليلة بالنظر والشعر، من مثله ابن زكريا المعافري أيضًا، وقد سخر الشعر التعليمي لحل المسائل الطبية أيضًا من مثل الشاعر ابن طفيل في أرجوزته عن الأمراض، وعوارضها، وعلاجها المشهورة بأجهزة ابن طفيل في الطب، ومن الأمثلة على ذلك من الشعر ما قاله أبو الحسن الكيميائي[١٧]:
لقد قلبت عيناي عن عينه قلبي
بلينة الأعطاف قاسية القلب
يهيم الفتى الشرقي منها بغادة
تشوق إلى شرق وترغب عن غرب
هي الشمس إلا أنها قمرية
هي البدر إلا أنه كامن الشهب
إذا الفلك الناري أطلع شهبها
على الذروة العليا من الغصن والرطبِ
تراءت عروسا برزة الوجه تبتغي
فاقا وكانت خلف ألف من الحجب
الشعر الديني
كان الطابع الإسلامي والتأثر بالقرآن الكريم، والحديث الشريف واضحًا وجليًا في موضوعات الشعر الأندلسي، ومن أهم من يمثل الشعر الديني الإسلامي الأندلسي هو شعر أبي العتاهية، ومما يقول[١٨]:
قَد سَمِعنا الوَعظَ لَويَنفَعُنا
وَقَرَأنا جُلَّ آياتِ الكُتُب
كُلُّ نَفسٍ سَتُوَفّى سَعيَها
وَلَها ميقاتُ يَومٍ قَد وَجَب
جَفَّتِ الأَقلامُ مِن قَبلُ بِما
خَتَمَ اللَهُ عَلَينا وَكَتَب
كَم رَأَينا مِن مُلوكٍ سادَةٍ
رَجَعَ الدَهرُ عَلَيهِم فَاِنقَلَب
وَعَبيدٍ خُوِّلوا ساداتِهِم
فَاِستَقَرَّ المُلكُ فيهِم وَرَسَب
لا تَقولَنَّ لِشَيءٍ قَد مَضى
لَيتَهُ لَم يَكُ بِالأَمسِ ذَهَب
وَاِسعَ لِليَومِ وَدَع هَمَّ غَدٍ
كُلُّ يَومٍ لَكَ فيهِ مضطرب
يَهرُبُ المَرءُ مِنَ المَوتِ وَهَل
يَنفَعُ المَرءَ مِنَ المَوتِ الهَرَب
كُلُّ نَفسٍ سَتُقاسي مَرَّةً
كُرَبَ المَوتِ فَلِلمَوتِ كُرَب
أَيُّها الناسِ ما حَلَّ بِكُم
عَجَباً مِن سَهوِكُم كُلَّ العَجَب
أَسَقامٌ ثُمَّ مَوتٌ نازِلٌ
ثُمَّ قَبرٌ وَنُشورٌ وَجَلَب
وَحِسابٌ وَكِتابٌ حافِظٌ
وَمَوازينُ وَنارٌ تَلتَهِب
وَصِراطٌ مَن يَزُل عَن حَدِّهِ
فَإِلى خِزيٍ طَويلٍ وَنَصَب
حَسبِيَ اللَهُ إِلَهاً واحِداً
لا لَعَمرُ اللَهِ ما ذا بِلَعِب.
الهجاء
الهجاء في لسان العرب لابن منظور هو خلاف المدح، أي الشتم بالشعر، وفي البستان لعبد الله البستاني: معناه؛ عابه وشتمه وتنقصه[١٩]، وقد ظهر الهجاء نتيجةً لاشتداد التنافس بين شعراء الأندلس، فنظموا الأهاجي العميقة، ومنهم من تخصص به، من مثل الشاعر السميسر، وأبو تمام غالب "الحجام"، وابن صارة الأندلسي، ومن أمثلة ذلك، ما قاله الشاعر الأبيض في هجاء شخص اسمه ابن حمدين[٢٠]:
يريد ابن حمدين أن يعتفى
وجدواه أنهى من الكوكب
إذا ذكر الجود حك استه
ليثبت دعواه في تغلب
مثال على الشعر الأندلسي
أحمد بن زيدون؛ وهو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن زيدون المخزومي، ولد في قرطبة عام 394 هجري، من أشعاره في حب محبوبته ولادة ابنة الخليفة المستكفي[٢١]:
أَضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا
وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا
أَلّا وَقَد حانَ صُبحُ البَينِ صَبَّحَنا
حَينٌ فَقامَ بِنا لِلحَينِ ناعينا
مَن مُبلِغُ المُلبِسينا بِاِنتِزاحِهِمُ
حُزناً مَعَ الدَهرِ لا يَبلى وَيُبلينا
أَنَّ الزَمانَ الَّذي ما زالَ يُضحِكُنا
أُنساً بِقُربِهِمُ قَد عادَ يُبكينا
غيظَ العِدا مِن تَساقينا الهَوى فَدَعَوا
بِأَن نَغَصَّ فَقالَ الدَهرُ آمينا.