Mohammad Kujjah
26 أبريل ·
الحركة العلمية أيام "سيف الدولة الحمداني"
(العمارة - الفلك - الطب)
تحتل مدينة حلب مكانة فائقة الأهمية في التاريخ الإسلامي، ومنذ سنوات الفتح الأولى شرع المسلمون في تحصين المدينة وقلعتها، كما شرعوا ببناء المساجد والمرافق اللازمة. وقد بنى بعض الخلفاء والولاة الأمويين قصوراً في حلب، من بينها (قصر الناعورة) الذي بناه "مَسلمة بن عبد الملك" عام 90هـ. وقصر الحاضر السليماني الذي بناه "سليمان"، وقصر بناه "عمر بن عبد العزيز" في (خناصرة) ، وقد خربها العباسيون. ورغم إهمال العباسيين بلاد الشام فإن "صالح بن علي" وأولاده بنوا قصوراً في (بطياس) 137هـ شرق حلب، و(قصر الدارين) خارج (باب انطاكية) قرب نهر قويق، وأتمّه "سيما الطويل" والي حلب أيام "المعتمد العباسي". وخلال القرن الثالث للهجرة، ومع بداية ضعف الدولة العباسية ونشوء دويلات الأقاليم، خضعت حلب لحكم "أحمد بن طولون" وأسرته في مصر، ومن بعدهم للأسرة الإخشيدية، واستمر الأمر بين المدّ والجزر والصراع بين العناصر المحلية والإقليمية، حتى تمكّن "سيف الدولة" من دخول حلب عام 333هـ وتأسيس الدولة الحمدانية فيها.
*******
أولاً: العمارة في عصر "سيف الدولة":
1- العمارة ذات الطابع العسكري أو شبه العسكري:
وهي المباني الدفاعية القائمة في المدن، ودور سيف الدولة في تمكينها الدفاعي وصيانتها وترميمها واعادة بناء ما تهدم منها ، كالأسوار والأبراج والأبواب، والقلاع بحجومها المتباينة، والمتناثرة على أطراف الدولة، تتقلص وتمتد بحسب نتيجة المعارك مع العدو البيزنطي. ومن أبرز أمثلة هذه المباني العسكرية:
قلعة حلب - أبواب حلب وأسوارها - قلاع الثغور وحصونها - قلعة الحدث.
ولسنا الآن في مجال استقصاء سائر القلاع والحصون التي كان "سيف الدولة" يتعامل معها بناء وهدماً وصيانة فهذا يحتاج دراسة مطولة مستقلة، ويكفي أن نشير الى بعض أسماء هذه الحصون والقلاع، وأكثرها على غرار قلعة الحدث وقلعة مرعش. ومن أمثلة ذلك: حصن الران، حصن شاكر، حصن الجوزات، الهارونية، اسكندرونة، حصن بوقا، قلعة الشغر، قلعة بكاس، طرسوس، عرقة، هنزيط، نهيا، بهنسا، سميساط، حران، البستان دلوك.. الخ.
2- العمارة المدنية:
ومن أبرز أمثلة هذه العمارة في عصر سيف الدولة قصره خارج أسوار حلب، والمعروف باسم (قصر الحلبة). وأرض الحلبة ميدان فسيح في سفح جبل الجوشن غربي نهر قويق، وقد بنى "سيف الدولة" هناك ما يمكن تسميته مدينة صغيرة فيها القصر والمستودعات وخزائن السلاح والاصطبلات وميدان سباق الخيل. وقد وصف هذا القصر بإسهاب كل من المستشرق الفرنسي "دايفيتس"، والمؤرخ الفرنسي "شلمبرجه". وكتب مؤرخون آخرون كيف فتح "سيف الدولة" قصره لكل فنان وأديب موهوب، فوفدوا عليه من جميع الأطراف، من العراق وفارس والشام وبيزنطة والبندقية وجنوة، وكان يستمع إلى الشعراء ويتحبب إلى الكتاب والمصورين، ويمنح المؤرخين الشيء الكثير من عطاياه ومنحه فيعود هؤلاء إلى بلادهم حاملين إلى شعوبهم صورة رائعة من خلق الرجل العالي وشخصيته العجيبة). ومن بالغ الأسف أن هذا القصر العجيب عاش أقل من عشرين عاماً، فقد اقتحم "نقفور فوكاس" حلب ودمّرها، وخرب قصر الحلبة وملحقاته ، وذلك عام 962 م .
3- العمارة الدينية:
أ- المسجد الأموي الجامع: يروي "ابن العديم": (وقيل أن جامع حلب كان يضاهي جامع دمشق في الزخرفة والرخام والفسيفساء وهي الفص المذهب). ويذكر المؤرخون أن "نقفور فوكاس" حين دمر مدينة حلب عام 351هـ، 962 م أحرق المسجد الجامع ودمر مئذنته الاموية ، وأكثر الأسواق والدار التي لسيف الدولة وأكثر دور المدينة. وبعد رحيل الروم عن حلب، عاد إليها "سيف الدولة" ودخلها في ذي الحجة سنة 351هـ وعمّر ما خرب منها، وجدد عمارة المسجد الجامع. وبعد وفاته أكمل العمل ابنه "سعد الدولة" ومولاه "قرعويه"ـ
ب مشهد الحسين (أو مشهد النقطة): ويروى أن نقطة دم سالت من رأس "الحسين بن علي" بعد استشهاده في كربلاء حين كان الرأس محمولاً الى دمشق، وتوقف الركب في حلب للاستراحة. وقد بنى سيف الدولة في المكان مشهداً فيه الحجرة التي عليها نقطة الدم. ثم تجدد البناء في العصور التالية. وقد انفجر المشهد بسبب استخدامه مستودعاً للذخيرة خلال الحرب العالمية الأولى. وقد تم إعادة بنائه.
ج- مشهد الدكّة: يروي المؤرخ "ابن أبي طيء": (عمَّر هذا المشهد المبارك ابتغاء وجه الله وقربه إليه على اسم مولانا "المحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب"، الأمير الأجلّ سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان سنة 351هـ"). وقد أعيد بناؤه في الفترة الزنكية، وصنع له صندوق خشبي ثمين أيام "الظاهر غازي الأيوبي" لا يزال موجوداً حتى اليوم.
4- العمارة ذات الطابع الخاص:
وتمثل هذه العمارة المقبرة الملكية الحمدانية في مدينة (ميافارقين) قرب (ديار بكر). وقد كانت هذه المدينة جزءاً من الدولة الحمدانية. وفيها ولد "سيف الدولة" عام 303هـ. ودفن في مقبرتها أفراد الأسرة الحمدانية. وقد حُمل جثمان "سيف الدولة" من حلب إلى ميافارقين بناء على وصيته ليدفن هناك بجانب أفراد أسرته عام 356هـ. ومن المعلوم أن مدينة ميافارقين كانت أثيرةً لدى "سيف الدولة" ولدى الأسرة الحمدانية. فبالإضافة إلى المقبرة الملكية بنى سيف الدولة عدداً من المباني. وأعاد تحصين الأبواب والأسوار.
*******
ثانياً: الفلك أيام "سيف الدولة":
نحاول في هذه الدراسة الموجزة أن نبين أهم المراصد وما يتعلق بها من أدوات ونظريات فلكية في فترة "سيف الدولة الحمداني"، ونعلم أنه يوجد أكثر من 5000 مخطوطة تتناول الفلك العربي مبعثرة في مكتبات العالم تحتوي على معلومات خصبة وغنية، واكتشف الأستاذ "دافيد كينج" عام 1970م أن كثيراً من النظريات المنسوبة "لنيكولاوس كوبرنيكوس" هي من أعمال العلماء العرب، أمثال الفلكي العربي "ابن الشاطر" (المتوفي عام 777هـ-1375م) و"نصير الدين الطوسي".
وبعد ذلك بثلاث سنوات (1973م) عثر على مخطوطات عربية في بولندا، اتضح منها أن "كوبرنيكوس" قد اطلع عليها، ومن هنا بدأ التركيز على علم الفلك العربي. ومن أهم المتابعات هو تتبع المراصد الفلكية العربية، ومنها المراصد أيام "سيف الدولة الحمداني". وقد بنيت مراصد كثيرة نذكر منها: مرصد على قمة جبل قاسيون في دمشق، ومرصد الشماسية ومرصد شرف الدولة، ومرصد أنطاكية ومرصد مراغة، ومرصد أولوغ بك بسمرقند.
في المراصد العربية الإسلامية في العصور الوسطى، كانت هناك آلات فلكية لرصد الكواكب والنجوم ومعرفة خطوط الطول والعرض. وقد اهتم العلماء العرب المسلمون بآلات الرصد وهرعوا إلى ابتكارها، وذلك لأن ما ورثوه عن الإغريق كان بسيطاً لا يفي باحتياجاتهم العلمية. ومن أكثر آلات الفلك التي نالت اهتماماً من علماء الفلك العرب المسلمين: الإسطرلاب والمزولة. ولقد ثبت أن آلات (ذات السمت والارتفاع) و(ذات الأوتار) و(المشبهة بالمناطق) و(عصا الطوسي)، كلها من مخترعات العرب، عدا ما اخترعوه للمراصد من البراكير والمساطر وعدا التحسينات التي أدخلوها على آلات الرصد المعروفة للإغريق وغير الإغريق.
الإسطرلاب هو عبارة عن جهاز يستطيع به الفلكي أن يعين زوايا ارتفاع الأجرام السماوية عن الأفق في أي مكان. (أسطر: نجم/ وليب: مرآة/ أي مرآة النجوم أو صورة النجوم). وكان أول من ألّف كتاباً وصف به صنع وطريقة استعمال الإسطرلاب هو "محمد بن إبراهيم الفزاري" (توفي 180ه). استخدمه المسلمون في بادئ الأمر لتحديد مواعيد الصلاة، واتجاه القبلة، ودخول رمضان، ومعرفة صلاتي الخسوف والكسوف. وفي مرحلة لاحقة استخدموه في قياس ورصد الأبعاد المختلفة. وقد استفاد "كوبرنيكوس" من إسطرلاب الزرقالي ونوه به في مؤلفاته بأنه أحسن إسطرلاب صنع في القرون الوسطى. وفي حلب أيام "سيف الدولة" برز الفلكي الشهير "أبو الفرج العجلي" وابنته "مريم الإصطرلابية"، وكان عملهما استكمالاً للعلماء السابقين في مدينة حلب.
ويرجع تاريخ أول تسجيل علمي للكسوف إلى القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي عندما سجل "البيروني" أول تصور للكسوفين القمري والشمسي في كتابه تحقيق ما للهند رداً على مزاعم وخرافات علماء الهند، الذين قالوا عن التنين الذي يأكل قرص القمر فذكر: (إن كسوف القمر أي خسوفه، إن هو إلا دخوله في الظل، وكسوف الشمس إن هو إلا ستر القمر للشمس عنا). وبهذا يتضح بأن علماء العرب والمسلمين اكتشفوا كروية الأرض وحركتها حول الشمس قبل "كوبرنيكوس" (878هـ)، وليس كما يدعي الغرب خطأ وبهتاناً بأن "كوبرنيكوس" هو صاحب فكرة دوران الأرض حول الشمس.
وهكذا نرى أن فترة "سيف الدولة الحمداني" كانت زاهرة بالمراصد والآلات الفلكية والنظريات الفلكية الهامة، التي مهّدت للثورة الفلكية على نظريات "بطليموس" وكتابه (المجسطي)، والتي توّجت بما يعرف بالثورة "الكوبرنيكية" بكون الشمس مركز العالم وليس الأرض.
*******
ثالثاً: الطب أيام "سيف الدولة":
لم تكن مدينة حلب وبقية مدن الدولة الحمدانية بمعزل عن التطورات العلمية والحضارية التي عرفها القرن الرابع للهجرة في سائر مجالات العلوم الإنسانية والبحتة والتطبيقية. وعرف هذا العصر أئمة علم على امتداد العالم الإسلامي في الطب "كالرازي" صاحب كتاب (الحاوي)، و"اسحق بن عمران و"عريب القرطبي"، و"علي بن أبي العباس المجوسي"، و"ابن الجزار القيرواني" الذي ألف مجموعة من كتب الطب النادرة، و"الزهراوي" شيخ الجراحين المسلمين في الأندلس.
أما في مدينة حلب أيام "سيف الدولة" فيبرز "الفارابي" العالم الموسوعي الذي ولد في مدينة فاراب (257ه-870م) وإليها انتسب. وفد إلى بغداد في عهد الخليفة المقتدر للتزوّد بالعلم ثم ارتحل إلى حران ثم إلى دمشق وعاد إلى حلب فاتصل بأميرها "سيف الدولة الحمداني" وفي سنة (339ه-950م) صحب الأمير إلى دمشق وتوفي وهو في الثمانين من عمره. وضع "الفارابي" طائفة جليلة من الكتب والرسائل ضاع أكثرها وكان بعضها في الطب. وأغلبها في المنطق والفلسفة والأخلاق وأشهر كتبه (إحصاء العلوم).
أما أشهر أطباء سيف الدولة فهو "عيسى الرقي" وأصله من مدينة (تفليس) في بلاد الكرج " جورجيا اليوم "، كان طبيباً وعشاباً وشاعراً ومترجماً عن السريانية . ولهذا كان يأخذ أربعة أرزاق، عن كل علم رزقاً. كما كان في بلاط "سيف الدولة" طبيب يدعى "أبا الحسين بن كشكرايا"، ويروي "ابن أبي أصيبعة" أنه كان متقناً في صناعة الطب، واختص بعلاج عن طريق حقنة تقي من المواد الحادة، ولهذا دعي (صاحب الحقنة)، وكان أستاذه "ثابت بن قرة الحراني" المشهور. وترك بعض الكتابات الطبية. كذلك عرف عن الشاعر "كشاجم" اهتمامه بالطب، وقد أضاف إلى لقبه حرفاً آخر فأصبح "طكشاجم". وكل حرف يدل على المهنة التي يزاولها. ويذكر الطبيب "أبو الحسن بن بطلان" الذي زار حلب خلال النصف الأول من القرن الخامس الهجري، أنه وجد في حلب بيمارستاناً صغيراً، وعمل على توسيعه.
وتنقل كثير من المراجع على لسان "عبيد الله بن جبرائيل" قوله: (حدّثني من أثق بقوله أن "سيف الدولة" كان إذا أكل الطعام حضر على مائدته أربعة وعشرون طبيباً).
*******
26 أبريل ·
الحركة العلمية أيام "سيف الدولة الحمداني"
(العمارة - الفلك - الطب)
تحتل مدينة حلب مكانة فائقة الأهمية في التاريخ الإسلامي، ومنذ سنوات الفتح الأولى شرع المسلمون في تحصين المدينة وقلعتها، كما شرعوا ببناء المساجد والمرافق اللازمة. وقد بنى بعض الخلفاء والولاة الأمويين قصوراً في حلب، من بينها (قصر الناعورة) الذي بناه "مَسلمة بن عبد الملك" عام 90هـ. وقصر الحاضر السليماني الذي بناه "سليمان"، وقصر بناه "عمر بن عبد العزيز" في (خناصرة) ، وقد خربها العباسيون. ورغم إهمال العباسيين بلاد الشام فإن "صالح بن علي" وأولاده بنوا قصوراً في (بطياس) 137هـ شرق حلب، و(قصر الدارين) خارج (باب انطاكية) قرب نهر قويق، وأتمّه "سيما الطويل" والي حلب أيام "المعتمد العباسي". وخلال القرن الثالث للهجرة، ومع بداية ضعف الدولة العباسية ونشوء دويلات الأقاليم، خضعت حلب لحكم "أحمد بن طولون" وأسرته في مصر، ومن بعدهم للأسرة الإخشيدية، واستمر الأمر بين المدّ والجزر والصراع بين العناصر المحلية والإقليمية، حتى تمكّن "سيف الدولة" من دخول حلب عام 333هـ وتأسيس الدولة الحمدانية فيها.
*******
أولاً: العمارة في عصر "سيف الدولة":
1- العمارة ذات الطابع العسكري أو شبه العسكري:
وهي المباني الدفاعية القائمة في المدن، ودور سيف الدولة في تمكينها الدفاعي وصيانتها وترميمها واعادة بناء ما تهدم منها ، كالأسوار والأبراج والأبواب، والقلاع بحجومها المتباينة، والمتناثرة على أطراف الدولة، تتقلص وتمتد بحسب نتيجة المعارك مع العدو البيزنطي. ومن أبرز أمثلة هذه المباني العسكرية:
قلعة حلب - أبواب حلب وأسوارها - قلاع الثغور وحصونها - قلعة الحدث.
ولسنا الآن في مجال استقصاء سائر القلاع والحصون التي كان "سيف الدولة" يتعامل معها بناء وهدماً وصيانة فهذا يحتاج دراسة مطولة مستقلة، ويكفي أن نشير الى بعض أسماء هذه الحصون والقلاع، وأكثرها على غرار قلعة الحدث وقلعة مرعش. ومن أمثلة ذلك: حصن الران، حصن شاكر، حصن الجوزات، الهارونية، اسكندرونة، حصن بوقا، قلعة الشغر، قلعة بكاس، طرسوس، عرقة، هنزيط، نهيا، بهنسا، سميساط، حران، البستان دلوك.. الخ.
2- العمارة المدنية:
ومن أبرز أمثلة هذه العمارة في عصر سيف الدولة قصره خارج أسوار حلب، والمعروف باسم (قصر الحلبة). وأرض الحلبة ميدان فسيح في سفح جبل الجوشن غربي نهر قويق، وقد بنى "سيف الدولة" هناك ما يمكن تسميته مدينة صغيرة فيها القصر والمستودعات وخزائن السلاح والاصطبلات وميدان سباق الخيل. وقد وصف هذا القصر بإسهاب كل من المستشرق الفرنسي "دايفيتس"، والمؤرخ الفرنسي "شلمبرجه". وكتب مؤرخون آخرون كيف فتح "سيف الدولة" قصره لكل فنان وأديب موهوب، فوفدوا عليه من جميع الأطراف، من العراق وفارس والشام وبيزنطة والبندقية وجنوة، وكان يستمع إلى الشعراء ويتحبب إلى الكتاب والمصورين، ويمنح المؤرخين الشيء الكثير من عطاياه ومنحه فيعود هؤلاء إلى بلادهم حاملين إلى شعوبهم صورة رائعة من خلق الرجل العالي وشخصيته العجيبة). ومن بالغ الأسف أن هذا القصر العجيب عاش أقل من عشرين عاماً، فقد اقتحم "نقفور فوكاس" حلب ودمّرها، وخرب قصر الحلبة وملحقاته ، وذلك عام 962 م .
3- العمارة الدينية:
أ- المسجد الأموي الجامع: يروي "ابن العديم": (وقيل أن جامع حلب كان يضاهي جامع دمشق في الزخرفة والرخام والفسيفساء وهي الفص المذهب). ويذكر المؤرخون أن "نقفور فوكاس" حين دمر مدينة حلب عام 351هـ، 962 م أحرق المسجد الجامع ودمر مئذنته الاموية ، وأكثر الأسواق والدار التي لسيف الدولة وأكثر دور المدينة. وبعد رحيل الروم عن حلب، عاد إليها "سيف الدولة" ودخلها في ذي الحجة سنة 351هـ وعمّر ما خرب منها، وجدد عمارة المسجد الجامع. وبعد وفاته أكمل العمل ابنه "سعد الدولة" ومولاه "قرعويه"ـ
ب مشهد الحسين (أو مشهد النقطة): ويروى أن نقطة دم سالت من رأس "الحسين بن علي" بعد استشهاده في كربلاء حين كان الرأس محمولاً الى دمشق، وتوقف الركب في حلب للاستراحة. وقد بنى سيف الدولة في المكان مشهداً فيه الحجرة التي عليها نقطة الدم. ثم تجدد البناء في العصور التالية. وقد انفجر المشهد بسبب استخدامه مستودعاً للذخيرة خلال الحرب العالمية الأولى. وقد تم إعادة بنائه.
ج- مشهد الدكّة: يروي المؤرخ "ابن أبي طيء": (عمَّر هذا المشهد المبارك ابتغاء وجه الله وقربه إليه على اسم مولانا "المحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب"، الأمير الأجلّ سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان سنة 351هـ"). وقد أعيد بناؤه في الفترة الزنكية، وصنع له صندوق خشبي ثمين أيام "الظاهر غازي الأيوبي" لا يزال موجوداً حتى اليوم.
4- العمارة ذات الطابع الخاص:
وتمثل هذه العمارة المقبرة الملكية الحمدانية في مدينة (ميافارقين) قرب (ديار بكر). وقد كانت هذه المدينة جزءاً من الدولة الحمدانية. وفيها ولد "سيف الدولة" عام 303هـ. ودفن في مقبرتها أفراد الأسرة الحمدانية. وقد حُمل جثمان "سيف الدولة" من حلب إلى ميافارقين بناء على وصيته ليدفن هناك بجانب أفراد أسرته عام 356هـ. ومن المعلوم أن مدينة ميافارقين كانت أثيرةً لدى "سيف الدولة" ولدى الأسرة الحمدانية. فبالإضافة إلى المقبرة الملكية بنى سيف الدولة عدداً من المباني. وأعاد تحصين الأبواب والأسوار.
*******
ثانياً: الفلك أيام "سيف الدولة":
نحاول في هذه الدراسة الموجزة أن نبين أهم المراصد وما يتعلق بها من أدوات ونظريات فلكية في فترة "سيف الدولة الحمداني"، ونعلم أنه يوجد أكثر من 5000 مخطوطة تتناول الفلك العربي مبعثرة في مكتبات العالم تحتوي على معلومات خصبة وغنية، واكتشف الأستاذ "دافيد كينج" عام 1970م أن كثيراً من النظريات المنسوبة "لنيكولاوس كوبرنيكوس" هي من أعمال العلماء العرب، أمثال الفلكي العربي "ابن الشاطر" (المتوفي عام 777هـ-1375م) و"نصير الدين الطوسي".
وبعد ذلك بثلاث سنوات (1973م) عثر على مخطوطات عربية في بولندا، اتضح منها أن "كوبرنيكوس" قد اطلع عليها، ومن هنا بدأ التركيز على علم الفلك العربي. ومن أهم المتابعات هو تتبع المراصد الفلكية العربية، ومنها المراصد أيام "سيف الدولة الحمداني". وقد بنيت مراصد كثيرة نذكر منها: مرصد على قمة جبل قاسيون في دمشق، ومرصد الشماسية ومرصد شرف الدولة، ومرصد أنطاكية ومرصد مراغة، ومرصد أولوغ بك بسمرقند.
في المراصد العربية الإسلامية في العصور الوسطى، كانت هناك آلات فلكية لرصد الكواكب والنجوم ومعرفة خطوط الطول والعرض. وقد اهتم العلماء العرب المسلمون بآلات الرصد وهرعوا إلى ابتكارها، وذلك لأن ما ورثوه عن الإغريق كان بسيطاً لا يفي باحتياجاتهم العلمية. ومن أكثر آلات الفلك التي نالت اهتماماً من علماء الفلك العرب المسلمين: الإسطرلاب والمزولة. ولقد ثبت أن آلات (ذات السمت والارتفاع) و(ذات الأوتار) و(المشبهة بالمناطق) و(عصا الطوسي)، كلها من مخترعات العرب، عدا ما اخترعوه للمراصد من البراكير والمساطر وعدا التحسينات التي أدخلوها على آلات الرصد المعروفة للإغريق وغير الإغريق.
الإسطرلاب هو عبارة عن جهاز يستطيع به الفلكي أن يعين زوايا ارتفاع الأجرام السماوية عن الأفق في أي مكان. (أسطر: نجم/ وليب: مرآة/ أي مرآة النجوم أو صورة النجوم). وكان أول من ألّف كتاباً وصف به صنع وطريقة استعمال الإسطرلاب هو "محمد بن إبراهيم الفزاري" (توفي 180ه). استخدمه المسلمون في بادئ الأمر لتحديد مواعيد الصلاة، واتجاه القبلة، ودخول رمضان، ومعرفة صلاتي الخسوف والكسوف. وفي مرحلة لاحقة استخدموه في قياس ورصد الأبعاد المختلفة. وقد استفاد "كوبرنيكوس" من إسطرلاب الزرقالي ونوه به في مؤلفاته بأنه أحسن إسطرلاب صنع في القرون الوسطى. وفي حلب أيام "سيف الدولة" برز الفلكي الشهير "أبو الفرج العجلي" وابنته "مريم الإصطرلابية"، وكان عملهما استكمالاً للعلماء السابقين في مدينة حلب.
ويرجع تاريخ أول تسجيل علمي للكسوف إلى القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي عندما سجل "البيروني" أول تصور للكسوفين القمري والشمسي في كتابه تحقيق ما للهند رداً على مزاعم وخرافات علماء الهند، الذين قالوا عن التنين الذي يأكل قرص القمر فذكر: (إن كسوف القمر أي خسوفه، إن هو إلا دخوله في الظل، وكسوف الشمس إن هو إلا ستر القمر للشمس عنا). وبهذا يتضح بأن علماء العرب والمسلمين اكتشفوا كروية الأرض وحركتها حول الشمس قبل "كوبرنيكوس" (878هـ)، وليس كما يدعي الغرب خطأ وبهتاناً بأن "كوبرنيكوس" هو صاحب فكرة دوران الأرض حول الشمس.
وهكذا نرى أن فترة "سيف الدولة الحمداني" كانت زاهرة بالمراصد والآلات الفلكية والنظريات الفلكية الهامة، التي مهّدت للثورة الفلكية على نظريات "بطليموس" وكتابه (المجسطي)، والتي توّجت بما يعرف بالثورة "الكوبرنيكية" بكون الشمس مركز العالم وليس الأرض.
*******
ثالثاً: الطب أيام "سيف الدولة":
لم تكن مدينة حلب وبقية مدن الدولة الحمدانية بمعزل عن التطورات العلمية والحضارية التي عرفها القرن الرابع للهجرة في سائر مجالات العلوم الإنسانية والبحتة والتطبيقية. وعرف هذا العصر أئمة علم على امتداد العالم الإسلامي في الطب "كالرازي" صاحب كتاب (الحاوي)، و"اسحق بن عمران و"عريب القرطبي"، و"علي بن أبي العباس المجوسي"، و"ابن الجزار القيرواني" الذي ألف مجموعة من كتب الطب النادرة، و"الزهراوي" شيخ الجراحين المسلمين في الأندلس.
أما في مدينة حلب أيام "سيف الدولة" فيبرز "الفارابي" العالم الموسوعي الذي ولد في مدينة فاراب (257ه-870م) وإليها انتسب. وفد إلى بغداد في عهد الخليفة المقتدر للتزوّد بالعلم ثم ارتحل إلى حران ثم إلى دمشق وعاد إلى حلب فاتصل بأميرها "سيف الدولة الحمداني" وفي سنة (339ه-950م) صحب الأمير إلى دمشق وتوفي وهو في الثمانين من عمره. وضع "الفارابي" طائفة جليلة من الكتب والرسائل ضاع أكثرها وكان بعضها في الطب. وأغلبها في المنطق والفلسفة والأخلاق وأشهر كتبه (إحصاء العلوم).
أما أشهر أطباء سيف الدولة فهو "عيسى الرقي" وأصله من مدينة (تفليس) في بلاد الكرج " جورجيا اليوم "، كان طبيباً وعشاباً وشاعراً ومترجماً عن السريانية . ولهذا كان يأخذ أربعة أرزاق، عن كل علم رزقاً. كما كان في بلاط "سيف الدولة" طبيب يدعى "أبا الحسين بن كشكرايا"، ويروي "ابن أبي أصيبعة" أنه كان متقناً في صناعة الطب، واختص بعلاج عن طريق حقنة تقي من المواد الحادة، ولهذا دعي (صاحب الحقنة)، وكان أستاذه "ثابت بن قرة الحراني" المشهور. وترك بعض الكتابات الطبية. كذلك عرف عن الشاعر "كشاجم" اهتمامه بالطب، وقد أضاف إلى لقبه حرفاً آخر فأصبح "طكشاجم". وكل حرف يدل على المهنة التي يزاولها. ويذكر الطبيب "أبو الحسن بن بطلان" الذي زار حلب خلال النصف الأول من القرن الخامس الهجري، أنه وجد في حلب بيمارستاناً صغيراً، وعمل على توسيعه.
وتنقل كثير من المراجع على لسان "عبيد الله بن جبرائيل" قوله: (حدّثني من أثق بقوله أن "سيف الدولة" كان إذا أكل الطعام حضر على مائدته أربعة وعشرون طبيباً).
*******