الصَّعلكة والصَّعاليك
إنَّ لمفهوم الصَّعلكة والصّعاليك عدّة تعريفات، فلفظ "الصّعلوك" عند ابن منظور، والجواهريّ يقترن بكلّ فقيرٍ مُعدم، بينما يُطلَق لفظ "الصّعاليك" عند العرب على اللّصوص المتلصّصين، ثمّ بدأ هذا المفهوم عند العرب يأخذ منحًى آخر يرتبط بالشّجعان الفرسان، الثّائرين على أوضاعهم الاجتماعيّة. وبيّن الدّكتور"شوقي ضيف" أنّ الصّعاليك كانوا يتّبعونَ نظامًا شبيهًا بالفروسيّة؛ حيث أنّهم لا يغيرون على شريفٍ، ولا يسلبون الكريم حقّه. وقد أجمع اللّغويّون على أنّ الصّعاليك كانوا يغيرون، ويقطعون الطّرق على القبائل لاسترداد حقوقهم المسلوبة، وهذا ما اتّفق عليه صاحب تاج العروس. ومن أشهر الشّعراء الصّعالكة في العصر الجاهليّ: عروة بن الورد، وتأبّط شرًا، والشّنفري.[١]
ملامح شخصيّة الصّعاليك
تطوّر مفهوم الصّعلكة، ولم يعدْ مقتصرًا على الشّخص الفقير المعدم فقط، بل أصبح مقترنًا بالثّوريّ الشّجاع الفارس، الّذي ثار على أوضاعه الاجتماعيّة، وأخذ حقّه عنوةً من كلّ غنيّ بخيل ممتنع عن العطاء، في ظلّ مجتمع لا يسير على القانون، ولا تحميه الشّرطة، ولا يلجأ إلى محاكم منظّمة، ممّا جعل الصّعاليك يثورون على النّظام الماليّ، ويسعون إلى استرداد حقوقهم بالقوّة، وقد كانوا يرون أنّ مساعيهم هذه مشروعة.[٢]
لقد عُرف الصّعالكة بخفّة يدهم، وعدْوهم في الصّحراء، وخبرتهم بطرقها. كما عُرفوا بشجاعتهم، وعدم اكتراثهم بالمخاطر الّتي يلاقونها في سبيل تحقيق مساعيهم الشّريفة، وبإيمانهم بحتميّة الموت، ممّا جعلهم لا يهابونه، وقد جاء شعرهم صورةً حيّة لما كانوا يمتازون به، فها هو أمير الصّعالكة عروة بن الورد، يخاطب زوجته بهذه الأبيات:[٢]
أَقِلّــي عَلَيَّ اللَــومَ يا بِنْتَ مُنــذِرٍ
وَنامي وَإِن لَم تَشتَهي النَومَ فَاِسهَري
ذَرينــي وَنَفسـي أُمَّ حَسّانَ إِنَّنــي
بِهـا قَبلَ أَن لا أَملِـكَ البَيـعَ مُشتَـــري
أَحاديثَ تَبقى وَالفَتى غَيرُ خالِــدٍ
إِذا هُـوَ أَمـســى هامَــةً فَـــوقَ صُـيَّــرِ
تُجاوِبُ أَحجارَ الكِناسِ وَتَشتَكـي
إِلى كُــلِّ مَعــروفٍ رَأَتــــهُ وَمُـنــكَــــرِ
ذَريني أُطَوِّف في البِـلادِ لَعَـلَّنـي
أُخَلّيكِ أَو أُغنـــيكِ عَن سوءِ مَحضِري
فَإِن فازَ سَهــمٌ لِلمَنِيَّــةِ لَـم أَكُـــن
جَزوعًــا وَهَـل عَن ذاكَ مِـن مُتَــأَخِّـــرِ
وَإِن فازَ سَهمي كَفَّكُم عَن مَقاعِدٍ
لَكُــم خَلــفَ أَدبــارِ البُيــوتِ وَمُنــظَـــرِ
شعر الصعاليك
إنّ دراسة شعراء الصّعاليك وشعرهم، والإلمام به، وبخصائصه، ومميّزاته ليست بالأمر السّهل؛ وذلك بسبب ندرة ما وصلنا من قصائد متعلّقة به، كما أنّ معظم أشعار الصّعاليك فُقدت، ولم يصلنا منها إلا القليل، ولعلّ ذلك يعود إلى عدّة أسباب منها:[٣]
أوّلًا: اعتماد الرّواة على جمع ونقل وتدوين أشعار أشهر الشّعراء، وإهمال كلّ شاعر مغبون غير معروف، وقد قال ابن قتيبة في ذلك: "كان أكثر قصدي للمشهورين من الشّعراء الّذين يعرفهم جلّ أهل الأدب، والَّذين يصحُّ الاحتجاج بأشعارهم، في الغريب، وفي النّحو، وفي كتاب الله عزّ وجلّ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ثانيًا: القضاء على شعر الصّعاليك، من قبائلهم، بسبب سلوك الشّعراء الصّعاليك، ورفضهم لقوانين قبائلهم، ممّا جعل أشعارهم تُهمل، ولا تُحفظ، ويُقضى عليها.
ثالثًا: اعتماد شعر الصّعاليك على إظهار الجانب الذّاتيّ، وإهمال الحديث عن قبائلهم؛ ممّا جعل قبائلهم لا يعبؤون بقراءة أشعار الصعاليك، ولا يحفلون بها، فهي لا تصوّر حياتهم.
رابعًا: ضياع معظم تراث الصّعاليك.
وعلى هذا، فإنّه لم يصلنا من أشعار الصّعاليك إلّا ديوانين، هما ديوان عروة بن الورد زعيم الصّعاليك، وديوان الشّنفرى، وأنّ هذا الشّعر قد توزّع بين مصادر الثّقافة العربيّة المختلفة. وعلينا إن أردنا جمع ديوان الصّعاليك البحث بين كلّ هذه المصادر الثّقافيّة المتعدّدة.[٤]
خصائص شعر الصّعاليك
عُرف أدبُ الصّعاليك بتميّزه، وخروجه عن المألوف؛ حيث كان صورة حيّة صادقة عن طبيعة حياتهم، كما كان يعكس شخصيّتهم، ولعلّ من أبرز ما كان يميّزه:[٥]
أوّلًا: تميّز المقطوعات في أشعارهم، الّتي تعتمد على قصر الأنفاس، بحيث تتألّف كلّ مقطوعة من بيتين إلى سبعة أبيات، ويعود هذا القصر في المقطوعات إلى أنّ همّ الشّعراء لم يكن في الإطالة والإجادة، بل نقل صورة التّشرّد، والتّوتّر، والتّقلّب، وهذا يعود أيضًا إلى طبيعة حياتهم الصّحراويّة، وما كان فيها من قتلٍ، وسطٍ، وإغارةٍ، وتشرّد؛ ممّا جعلهم يصوّرون هذا بمقاطع قصيرة، صوّروا فيها السّلب والإغارة والحبّ والهوى، بأبسط أسلوب، فيه تعبير عن قسوة الحياة وشدّتها.
ثانيًا: الوحدة الموضوعيّة في أشعارهم، وهذا ما يميّزها عن القصائد الجاهليّة، الّتي كانت تعتمد على المقدّمة الطّلليّة، بينما امتاز شعر الصّعاليك بوحدة الموضوع، حيث لا يصعب على أي قارئ أن يضع عنوانًا مناسبًا لها، يعبّر عن موضوعها وغرضها الشّعريّ.
ثالثًا: خروج أشعارهم عن النّمط المألوف في الشّعر الجاهلي، فقاموا بإلغاء المقدّمة الطّلليّة في أشعارهم، والّتي كانوا يرون أنّها تلهيهم عن غرضهم الأساس، وهو إظهار صورة التّشرّد، والفقر، والتّقلّب، والتّفرّق، وقد استعاضوا عنها باللجوء إلى توظيف الحوار الحيّ، الّذي جعله الشّاعر مع زوجته أو صاحبته، مثل ما جاء في قصيدة الشّنفرى البائيّة "غارة على العوص"، والّتي استهلّ فيها حوارًا بينه وبين صاحبته، حيث دعاها إلى أن تتركه وحاله. أمّا عمرو بن برّاقة فقد استهلّ قصيدته بنصيحة صاحبته، الّتي حثّته على عدم تعريض نفسه للمخاطر، وأن يجعل ليله راحةً له، فيتعجّب من نصحها، ويقول:[٥]
تَقولُ سُلَيمى لا تَعَرَّض لِتَلفَةٍ
وَلَيلُكَ عَن لَيلِ الصَعاليكِ نائِمُ
وَكَيفَ يَنامُ اللَيلَ مَن جُلُّ مالِهِ
حُسامٌ كَلَونِ المِلحِ أَبيَضُ صارِمُ
غَمُوضٌ إِذا عَضَّ الكَريهَةَ لَم يَدَع
لَهُ طَمَعاً طَوعُ اليَمينِ مُلازِمُ
أَلَم تَعلَمي أَنَّ الصَعاليكَ نَومُهُم
قَليلٌ إِذا نامَ الخَلِيُّ المُسالِمُ
جُرازٌ إِذا مَسَّ الضَريبَةَ لَم يَدَع
بِها طَمَعاً طَوعُ اليَدَينِ مُكَارِمُ
رابعًا: اعتمادهم على الواقعيّة في نقل حياتهم بما فيها من خيرٍ وشرّ، فتبرز في أشعارهم وصف التّشرّد والتّنقّل، والإغارة والسّطو، ووصف المخاطر الّتي كانوا يتعرّضون إليها في الصّحراء، والتّغنّي بشجاعتهم وفروسيّتهم، وسرعتهم في الصّحراء، وخفّة يدهم، وسعيهم للحرّيّة، وعدم خوفهم من الموت، ووصف ثورتهم على المجتمع الفاسد، ووصفهم للجنّ، والغيلان، والطّير، والحيوانات.
خامسًا: ابتعادهم عن الخيال والأوهام.
سادسًا: الاعتماد على السّرد القصصيّ، ونقل الوقائع بدقّةٍ، ووصف الحوادث المثيرة، والمغامرات الّتي كانوا يلجؤون إليها فُرادى وجماعات.
مثال على شعر الصعاليك
مقطوعة "دعيتني للغنى" لعروة بن الورد، يقول فيها:[٦]
دَعيني لِلغِنى أَسعى فَإِنّي
رَأَيتُ الناسَ شَرُّهُمُ الفَقيرُ
وَأَبعَدُهُم وَأَهوَنُهُم عَلَيهِم
وَإِن أَمسى لَهُ حَسَبٌ وَخيرُ
وَيُقصيهِ النَديُّ وَتَزدَريهِ
حَليلَتُهُ وَيَنهَرُهُ الصَغيرُ
وَيُلفى ذو الغِنى وَلَهُ جَلالٌ
يَكادُ فُؤادُ صاحِبُهُ يَطيرُ
قَليلٌ ذَنبُهُ وَالذَنبُ جَمٌّ
وَلَكِن لِلغِنى رَبٌّ غَفورُ
يحثّنا عروة في هذه المقطوعة إلى السّعي، من أجل الرّزق الحلال الطّيّب، والعمل بجدّيّة من أجل تحسين الوضع الاجتماعيّ والمادّيّ، والبحث عن الرّزق في وطنٍ آخر، إذا لم نجده في وطننا، فالأرض متّسع للجميع، وعلى الإنسان ألا ينسى أرضه الأولى مسقط رأسه. ويطلب عروة من زوجته أن تتركه ينطلق لبلاد الله، ليحصل على المال والثّروة، فالنّاس ينظرون إلى الفقير على أنّه شرّ النّاس. ويرى عروة أنّ ذنب الفقير كبير عند المجتمع، حتّى لو كان هيّنًا، ولكنّ الله غفور