20/1/2014
صنعائي".. حكاية بحث عن وطن
عبد الغني المقرمي
في روايتها الأخيرة "صنعائي" حاولت الكاتبة اليمنية نادية الكوكباني التسلل إلى مجاهل الأمس القريب عبر ثنائية الإنسان والمكان بما يمثلانه من أبعاد اجتماعية وتاريخية وسياسية بهدف تسليط الضوء على حقبة زمنية من تاريخ اليمن الحديث شهدت فيها مدينة صنعاء منعطفا مهمّا كان له ما بعده.
ولأن العنوان –كعتبة للدخول إلى النص- ينبغي أن يكون لافتا، فقد نجحت القاصة في جعل عنوان روايتها مُثيرا لفضول القارئ، فحرف الياء الذي ذُيّلتْ به كلمة "صنعائي" يمكن قراءته في سياقين دلالين مختلفين: ياء المتكلم الدال على الملكية، وبذلك تكون إشارة العنوان مكانية، أو ياء النسَب، فتكون الإشارة الإنسانية احتمالا قويا.
فهل كان العنوان دالا مكانيا أم إنسانيا أم هما معا؟ تساؤل يرافق القارئ على مدار فصول الرواية العشرة.
" لكسر الرتابة السردية فقد تناوب السردَ صوتان: صباح وحميد، ومن خلال هذا التناوب برزت كثير من المتناقضات التي حفل بها جو الرواية العام " |
تبدأ أحداث الرواية -الصادرة عن مركز عبادي للدراسات والنشر بصنعاء في 280 صفحة- بعودة أسرة يمنية من منفاها الاختياري في القاهرة إلى صنعاء بعد ثلاثين عاما: "صباح" خريجة كلية الفنون الجميلة بالقاهرة (الشخصية المحورية في الرواية)، وأمها، وأبوها الذي عاد جسدا مسجى ليدفن بصنعاء بموجب وصية منه، لتتوالى إثر ذلك أحداث الرواية في سياقات متنوعة يجمعها هدف واحد حدّدتْه بطلة الرواية سلفا بالكشف عن العلاقة الحميمية الغامضة التي ربطتْ أباها بمدينة صنعاء القديمة.
ولتحقيق ذلك استأجرت صباح دارا من دور المدينة كمرسم لها، ولتكون على مقربة من روح هذه المدينة العريقة في رحلة بحث عن وطن فقده أبوها بين هذه الأزقة والجدران، وحمله في تلافيف فؤاده شجنا مستعادا ورثته هذه القديسة القادمة بشوق لا يوصف.
وفي هذا المرسم تعرفت صباح على "حميد" ورأت فيه صنعانية أبيها: المعيار الذي وضعته بينها وبين نفسها لاختيار شريك العمر، لتبدأ بينهما قصة عاطفية ولدتْ مباغتة، ونمتْ مثيرة، فمضطربة، ثم خفتت رويدا رويدا حتى وصلت -بسبب تصادم الأفكار والرؤى- إلى قطيعةٍ مطْبقة..
ولكسر الرتابة السردية فقد تناوب السردَ صوتان: صباح وحميد، ومن خلال هذا التناوب برزت كثير من المتناقضات التي حفل بها جو الرواية العام، والتي أفضت إلى إزاحة الستار عن سر والد صباح الذي حمله ثلاثة عقود في المنفى.
لقد كان والد صباح ضمن الأبطال الذين دافعوا عن مدينة صنعاء أثناء الحصار الذي فرضته فلول الإمامة عام 1968 مدة سبعين يوما، وما أن انكسر هذا الحصار وبدأت المدينة تلمْلمُ جراحاتها وتحتفي بانتصارها حتى جوزي هؤلاء الأبطال جزاء سنمّار: سحلا، واعتقالا، وتشريدا، وكل ذلك من أطراف تقليدية دخيلة على المسار الثوري تربّصت بهؤلاء الأبطال، ورأت فيهم خطرا على مصالحها، فكانت الفترة من 22 إلى 24 أغسطس/آب 1968 رحى حرب انتقامية كان وقودها هؤلاء الأبطال لا سواهم.
كان من نصيب والد صباح الاعتقال عاما ونصف العام في سجن "القلعة" حيث لقي صنوف العذاب النفسي والجسدي، وحين خرج مهيضَ الجناح كان الرحيل بعيدا عن مدينته الأثيرة خيارا مرّا، فكانت القاهرة منفى اختياريا له، حيث حمل معه أسرته وذكرياته بحلوها ومرها.
" في ثنايا الرواية يتبدى الصراع محتدما ومتنوعا بين أطراف شتى منحت السياق العام للرواية جوا من الإثارة، كالصراع بين مظاهر العراقة في مدينة صنعاء ومظاهر التمدن الحديثة " |
في خلفية الرواية قدمت القاصة مدينة صنعاء القديمة بأبعادها التاريخية والاجتماعية والدينية، فتحدثت عن عاداتها وتقاليدها وأساطيرها وفنونها، وعن حمّاماتها التركية ومقاهيها وحدائقها ومساجدها، وبتفصيل أكثر تحدثت عن "المسمورة والمنقورة"، وهما حجران يتربعان على عمودين متقابلين من أعمدة الجامع الكبير، "يشاع بين الناس أن الدعوة بينهما مستجابة، وأن من حلف بينهما كاذبا عوقب من يومه".
أُثِّثتْ الرواية بكثير من المعلومات التاريخية، كسبب تسمية "خزيمة" أكبر مقابر مدينة صنعاء بهذا الاسم، ومعلومات عن السائلة التي تمر وسط المدينة، وأشارت إلى أمكنة غيرت أسماءها القديمة بأخرى جديدة، وإلى أن أحاديث نبوية كثيرة في فضل صنعاء يتبادلها العامة، وهي واهية الرواية، وضعيفة السند.
وفي ثنايا الرواية يتبدى الصراع محتدما ومتنوعا بين أطراف شتى منحت السياق العام للرواية جوا من الإثارة، كالصراع بين مظاهر العراقة في مدينة صنعاء ومظاهر التمدن الحديثة، وفي ثنايا ذلك تظهر ثقافة القاصة المعمارية (هي مهندسة معمارية ومحاضرة في كلية الهندسة بجامعة صنعاء)، والصراع بين ثقافات الأجيال المتتابعة، والصراع بين قوى التنوير والقوى التقليدية التي تتناسل بنمطية عجيبة، ولا تزال تحكم قبضتها على المشهد.
ويظهر في ثنايا الرواية حب القاصة -التي ولدت بمدينة تعز وتنسب إلى مدينة كوكبان في محافظة المحويت- لمدينة صنعاء حدَّ الوله، فهي ليست مسرحا للأحداث، وإنما روح حية تبادل قاطنيها حبا بحب.
يتّضح ذلك من خلال غوص القاصة في جغرافية المكان، وتفاصيل المشهد، واستيعابها للمسارات الاجتماعية التي تتفاعل فيه، وتألمها من خلال شخصيات الرواية من مظاهر الخراب التي تزحف في المدينة العريقة بصمت قاتل.
المصدر : الجزيرة