قدرة البشر على النطق ليست جامدة. وتستطيع الزراعة مساعدتنا في فهم السبب. خلال الستة آلاف سنة الماضية أو ما يقرب من ذلك استبدلت المجتمعات الزراعية تدريجيًا لحم الطرائد صعب المضغ والنباتات البرية التي كانت شائعة في النظام الغذائي الخاص بالبشر الصيادين-الجامعين بمشتقات الألبان ومنتجات الحبوب ما شكل عاملًا موجّهًا لمسار التطور عند البشر.
يّدعي العلماء أن التحول إلى هذه الأطعمة اللينة نتيجة تطوير الزراعة المعالجة قد غير من تركيب فكّي الإنسان مع الوقت. ما مكن البشر من نطق بعض الأصوات بسهولة مثل f و v، وأدى لتغيير اللغات حول العالم.
يقول عالم اللغة المقارنة داميان بلاسي من جامعة زيورخ وزملاؤه أن الأشخاص الذين يمضغون الأطعمة القاسية يتعرضون لتغير في الفك يؤدي لتغير طريقة انطباق الأسنان في مرحلة الطفولة. بينما يحتفظ الأشخاص الذين يتناولون طعامًا لينًا بنفس الإطباق لمرحلة البلوغ. أفاد الباحثون في تقرير في مجلة العلوم في الخامس عشر من مارس أن المحاكاة الحاسوبية تقترح أن البالغين الذين تتقدم أسنانهم العلوية على السفلية قليلًا لديهم قدرة أكبر على إنتاج أصوات محددة تتطلب لمس الشفة السفلى للأسنان العليا.
يصنف اللغويون هذه الأصوات الموجودة في نصف لغات العالم تقريبًا كأصوات شفوية-سنية (تنطق باستعمال الشفتين والأسنان :المترجم). وعندما تتبّع بلاسي وزملاؤه تغير اللغة مع الزمن في اللغات الهندو-أوربية المنطوق بها حاليًا من أيسلندا إلى الهند، وجدوا أن احتمالية استعمال الأصوات الشفوية-السنية في هذه اللغات قد ارتفعت بشكل كبير خلال الستة آلاف أو السبعة آلاف سنة الماضية، وهي الفترة التي بدأ فيها ظهور بعض الأطعمة مثل الحبوب المطحونة ومشتقات الألبان.
وقال بلاسي في مؤتمر صحفي عبر الهاتف في الثاني عشر من مارس: «لقد ظهرت الأصوات الشفوية-السنية عند البشر مؤخرًا. وتظهر بشكل بارز في المجتمعات التي لديها تقاليد قديمة لتناول الطعام اللين». وتوافقه في ذلك كلير باورن عالمة اللغات في جامعة ييل والتي لم تشارك في هذه الدراسة، إذ قالت أنه إذا أصبحت بعض الأصوات أسهل نطقًا فستزداد فرص ظهور هذه الأصوات في الكلمات. ولكن قد لا يحدث تغير في طريقة النطق الفعلية لهذه الكلمات. لذلك فقد كان الدليل على الاندماج السريع للأصوات الشفوية-السنية في في العديد من اللغات شيئًا مفاجئًا كما تقول كلير باورن.
لقد كان اللغويون يعتقدون تقليديًا أن البشر كانوا دائمًا قادرين على نطق كل الأصوات المستخدمة حاليًا في ما يقرب من 7000 لغة. في الحقيقة، إن العناصر التشريحية الضرورية للكلام – كالحنجرة أو صندوق الصوت المتموضعة في أسفل العنق – قد تطورت في الأنواع البشرية المنقرضة التابعة لجنس الهومو قبل 500,000 سنة. وهكذا ظهر الإنسان العاقل homo sapiens قبل 300,000 سنة ولديه الاستعداد البيولوجي للتحدث.
توضح الصورة الفرق بين جمجمة أنثى رومانية من البشر الصيادين-الجامعين (على اليسار) وبين جمجمة رجل يوناني بالغ عمرها 2500 عام (على اليمين)، إذ تفتقر جمجمة الأنثى لبروز الأسنان العلوية.
لاحقًا في عام 1985 جادل اللغوي تشارلز هوكيت أن لغات البشر الصيادين-الجامعين لم تتضمن فعليًا الأصوات الشفوية-السنية. وهو يدعي أن ذلك بسبب تآكل الأسنان الشديد في مرحلة الشباب الناتج عن مضغ الأطعمة القاسية باستمرار الذي يؤدي لتحريك الأسنان العليا ونقلها مباشرة فوق الأسنان السفلى. وهو يعلل أن ترتيب الأسنان الناتج عن ذلك بشكل حافة-إلى-حافة يجعل من الصعب تشكيل الأصوات الشفوية-السنية. إن صح ذلك، فإن اقتراحه يعني أن ظهور الأطعمة اللينة في المجتمعات الزراعية ساهم في حماية شكل العضة وانطباق الأسنان ورفع من احتمالية وجود الأصوات الشفوية-السنية في اللغات المنطوقة.
تدعم المحاكاة الحاسوبية في هذه الدراسة فكرة هوكيت. إذ أظهرت أن تقدم الأسنان العلوية إلى الأمام قليلًا بعد أن كانت منطبقة على الأسنان السفلية قد جعل نطق الأصوات الشفوية-السنية أسهل بكثير. كل هذا لم يكن ليحصل لولا الزراعة التي شكلت عاكلّا دافعًا لتطور البشر.
تحليل إحصائي للغات وأساليب الحياة لأكثر من 2400 تجمع سكاني حول العالم وجد أن الصيادين-الجامعين في المتوسط يستعملون في كلامهم صوتًا شفويًا-سنيًا واحدًا مقابل أربعة أصوات شفوية-سنية يستعملها البشر في المجتمعات التي تنتج الغذاء وتعالجه. وجدت دراسة أقرب للغات الصيادين-الجامعين في جرينلاند، وجنوب أفريقيا، وأستراليا أمثلة قليلة فقط من الأصوات الشفوية-السنية. يقول الباحثون أن السجلات التأريخية تشير إلى أن الكلمات التي تحتوي على مثل هذه الأصوات قد استُعيرت بواسطة التواصل مع الناس من الدول الصناعية.
يقول مارك باغل عالم البيولوجيا التطورية في جامعة ريدينغ في إنجلترا إن الميل لاستخدام الأصوات الخاطئة الشائعة على نطاق واسع يمكن أن يساعد في تفسير سبب الاندماج السريع لهذه الأصوات في العديد من اللغات. ويتكهن باغل أنه لو أصبحت هذه الأصوات أسهل نطقًا في الفترة الأخيرة – ما يجعلها أكثر عرضةً لأن تنطق بالصدفة – فإنها يمكن أن تصبح جزءًا لا يتجزأ في الكثير من اللغات المحلية.
يقول عالم الأنثروبولوجيا البيولوجي روبرت كوروسيني من جامعة إيلينوي الجنوبية في كوربونديل أنه على الرغم من أن النتائج الأخيرة صحيحة بشكل أساسي؛ إلا أن تقدم أسنان الإنسان العلوية إلى الأمام قد زاد كثيرًا بعد الثورة الصناعية التي بدأت في إنجلترا في أواخر القرن الثامن عشر أكثر من الزيادة التي حصلت بعد اختراع الزراعة قبل 6000 سنة أو أكثر. ويدّعي أن معالجة الأطعمة المصنعة وتعليبها، وربما استعمال الشوكة في المجتمعات الغربية؛ بحيث أصبح بالإمكان قطع الطعام بكلتا اليدين بدلًا من إمساكه بيد واحدة وإمساك الطرف الآخر من قطعة الطعام بالأسنان الأمامية كلها لعبت دورًا كبيرًا في الحفاظ على تقدم الأسنان العلوية على السفلية.