ما هو التولد التلقائي ؟
تقوم فكرة (التولد التلقائي – abiogenesis) على نشوء الحياة على الأرض من مكونات غير حية (الجماد) قبل 3.5 مليار سنة، وتفترض فكرة التولد التلقائي أن الأشكال الحية الأولى نشأت بسيطةً للغاية وأصبحت معقدةً أكثر فأكثر من خلال عملية تدريجية. أما النشوء الحيوي والذي يعني أن الحياة اشتُقت من تكاثر (إنتاج) حياة أخرى ربما سُبقت بالتولد التلقائي والذي أصبح مستحيلًا عندما اتخذ الغلاف الجوي للأرض تكوينه الحالي.
ورغم أن العديد من الأشخاص يساوون بين التولد التلقائي والنظرية القديمة للتولد الذاتي (العفوي)، فإن هاتين الفكرتين مختلفتان جدًا؛ إذ كان يُعتقد وفقًا لنظرية التولد الذاتي أن الكائنات المعقدة (كاليرقة أو الفأر) نشأت فوريًا وبشكلٍ متواصل من مكونات غير حية. وفي حين أن الخطوات الافتراضية للتولد الذاتي قد دُحضت أوائل القرن السابع عشر ورُفضت بشكلٍ قاطع في القرن التاسع عشر، فقد ظلت نظرية التولد التلقائي من دون إثبات أو دحض.
نظرية أوبارين وهولدين:
عرض كل من العالم البريطاني (جون بوردون ساندرسون هالدان – J.B.S. Haldane) وعالم الكيمياء الحيوية الروسي (ألكسندر أوبارين – Aleksandr Oparin) في العشرينيات من القرن الماضي -بشكلٍ مستقل- أفكارًا مشابهةً بشأن الظروف اللازمة لأصل الحياة على الأرض، إذ اعتقدا أن الجزيئات العضوية يمكن أن تتشكل من مواد غير حية بوجود طاقة خارجية، وأن الغلاف الجوي البدائي كان في طور التقلص (امتلك كميات قليلة من الأوكسجين الحر) واحتوى على النشادر (الأمونيا) وبخار الماء وغازات أخرى.
وظن كلاهما أيضًا أن الأشكال الأولى للحياة ظهرت في المحيط الدافئ البدائي وكانت غيرية التغذية (أي أنها تتغذى على المواد المشكلة مسبقًا من المركبات الموجودة على الأرض البدائية) وليست ذاتية التغذية (أي أنها تحصل على غذائها من ضوء الشمس والمواد غير العضوية).
صورة: ألكسندر أوبارين-1970 Tass/Sovfoto
كما اعتقد أوبارين أن الحياة تطورت من “coacervates” وهي تجمعات كروية مجهرية من جزيئات دهنية تشكلت ذاتيًا وتماسكت من خلال قوى كهربائية راكدة، وقد تكون أسلاف الخلايا.
يؤكد العمل الذي قام به أوبارين أن الأنزيمات أساسية من أجل التفاعلات البيوكيميائية للاستقلاب، والذي يعمل بكفاءة أكبر عند احتوائه على كريات مرتبطة بالغشاء حين يكون خاليًا من المحاليل المائية. أما هولدين غير المطلع على كريات أوبارين اعتقد أن الجزيئات العضوية البسيطة تشكلت أولًا، في وجود الأشعة فوق البنفسجية، وأصبحت معقدةً أكثر فأكثر، وأخيرًا انتهى بها الأمر لتشكل الخلايا. وصاغت أفكار هولدين وأوبارين الأساس للمزيد من الأبحاث حول التولد التلقائي والتي أُجريت فيما بعد.
تجربة ميلر وأوري:
اختبر كل من الكيميائييَن الأمريكييَن (هارولد كلايتون أوري – Harold C. Urey) و(ستانلي ميلر – Stanley Miller) عام 1953 نظرية أوبارين وهولدين وأنتجوا بنجاح جزيئات عضوية من بعض العناصر غير العضوية، والتي اعتُقد أنها وجدت على الأرض قبل ظهور الأحياء. مزج العالمان في تجربتهما مياهًا دافئةً مع خليط من أربع غازات: بخار الماء، والميثان، والأمونيا، والهيدروجين الجزيئي، ثم أرسلوا شرارةً كهربائيةً لهذا “الغلاف الجوي”. وكانت العناصر الأربعة تمثل على التوالي المحيط البدائي والغلاف الجوي قبل ظهور الأحياء والحرارة (على هيئة صاعقة). وبعد أسبوع وجد ميلر وأوري أن الجزيئات العضوية البسيطة بما فيها الأحماض الأمينية (الوحدات البنائية للبروتينات) قد تشكلت تحت ظروف تحاكي الأرض البدائية.
المفاهيم الحديثة للتولد التلقائي:
تستند افتراضات التولد التلقائي الحديث بشكلٍ كبير إلى نفس المبادئ الأساسية التي استندت عليها تجربتي أوبارين-هولدين وميلر-أوري، باستثناء وجود فروقات دقيقة بين العديد من النماذج التي وضعَت لشرح عملية التدرج من جزيء غير حي إلى كائن حي، وتختلف هذه التفسيرات تبعًا إلى ما إذا كانت الجزيئات العضوية المعقدة أصبحت أولًا كيانات ذاتية التضاعف مفتقرةً للوظائف الاستقلابية، أم أنها كانت بالبداية جسيمات ما قبل خلوية ذات وظيفية استقلابية ومن ثم طورت قدرةً على التضاعف الذاتي.
هذا ونوقشت بيئة التولد التلقائي أيضًا، فبينما تشير بعض الأدلة إلى أن الحياة قد تكون نشأت من مكونات غير حية في فتحات حرمائية (كهرومائية) في قاع المحيط، قد تكون عملية التولد التلقائي حدثت في مكانٍ آخر مثل أعماق سطح الأرض، حيث اعتمدت الجسيمات ما قبل الخلوية على الميثان أو الهيدروجين، أو نشأت على شواطئ المحيط، إذ ربما انبثقت (البروتينات الحرارية – proteinoids) من تفاعل الأحماض الأمينية مع الحرارة ثم دخلت (انضمت) المياه بمثابة قطرات بروتينية شبيهة بالخلية.
ويقترح بعض العلماء أن التولد التلقائي حدث أكثر من مرة واحدة. وفي مثالٍ لهذا السيناريو المحتمل نشأت أنواع مختلفة من الحياة، يمتلك كل منها نموذج بناء بيوكيميائي مختلف يعكس طبيعة المواد غير الحيوية التي تطور منها. ولكن في النهاية يكسب نوع الحياة المستند للفوسفات (للحياة المعيارية نموذج بناء بيوكيميائي يتطلب الفوسفور) ميزةً تطوريةً على جميع أنواع الحياة غير المستندة للفوسفات (الحياة اللامعيارية)، وبالتالي أصبح هذا النوع أكبر أنواع الحياة انتشارًا على الأرض.
وتقود هذه الفكرة العلماء إلى استنتاج وجود محيط حيوي “شبحي- ظلي” وهو نظام داعم للحياة مكون من كائنات دقيقة ذات بنية بيوكيميائية خاصة واستثنائية، ربما وجدت في السابق أو لا تزال موجودة على الأرض.
وكما أثبتت تجربة ميلر وأوري؛ فإن الجزيئات العضوية تستطيع التشكل من مواد لا حيوية تحت قيود الغلاف الجوي الأرضي قبل الحيوي. ووجد الباحثون منذ خمسينيات القرن الماضي أن الأحماض الأمينية قد تتكون ذاتيًا من ببتيدات (بروتينات صغيرة)، يمكن أن يبنى هذا الوسيط الرئيسي في عملية تركيب نيوكليوتيدات الحمض النووي الريبوزي (RNA) (وهي مركبات تحتوي على النيتروجين وترتبط بمجموعات السكر والفوسفات) من مواد أولية قبل حيوية.
وقد يدعم الدليل الأخير فرضية عالم (RNA)، وهي تشير إلى أن الأرض البدائية احتوت على وفرة من أنواع الحياة المعتمدة على (RNA) والناتجة من خلال تفاعلات كيميائية قبل الحيوية. وفي الحقيقة أن الحمض النووي الريبوزي (RNA) لا يحمل ويترجم المعلومات الوراثية فقط، ولكنه يُعتبَر محفزًا أيضًا، أي جزيء يزيد من معدل التفاعل دون أن يستنفد نفسه؛ أي أن محفزًا واحدًا قد ينتج أشكالًا حيويةً متعددةً، وهذا سيكون ملائمًا خلال ظهور الحياة على الأرض، وبهذا تكون فرضية عالم (RNA) أحد المفاهيم الأساسية للتضاعف الذاتي الأول في التولد التلقائي.
ضمت بعض نماذج التوليد التلقائي الحديثة المعتمدة على الاستقلاب كريات “coacervates” التي تحتوي على الأنزيمات، لكنها اقترحت حدوث تدرج متواصل من الجزيئات العضوية البسيطة لكريات “coacervates”، وخاصةً “protobionts” وهي تجمعات جزيئات عضوية والتي تُبرز بعض خصائص الحياة، ومن المحتمل أن (بدائيات النوى – prokaryotes) نتجت عن تجمعات “protobionts”، وبدائيات النوى هي كائنات تفتقر لنواة خاصة وللعضيات الأخرى بسبب غياب الأغشية الداخلية، ولكنها قادرة على الاستقلاب والتضاعف الذاتي وسريعة التأثر بالانتخاب الطبيعي.
ولا تزال الأمثلة عن بدائيات النوى الأولية موجودةً على الأرض، وتضم العتائق التي تستوطن البيئات القاسية ذات الظروف المشابهة لتلك التي كانت قبل مليارات السنين، والزراقم (الطحالب الزرقاء المخضرة) التي تزدهر في البيئات القاسية أيضًا، وصاحبة الأهمية الخاصة في فهم أصل الحياة بسبب قدرتها على التركيب الضوئي.
و(الأستروماتوليتس – Stromatolites) رواسب تشكلت من نمو الطحالب الزرقاء المخضرة وهي أقدم الأحافير في العالم، إذ يرجع تاريخها إلى 3.5 مليار سنة.
صورة: طحلب أزرق مخضر في بركة Morning Glory Pool في متنزه Yellowstone National Park في Wyoming.
بقي هناك العديد من الأسئلة دون إجابة بشأن التولد التلقائي، إذ لم تثبت التجارب حتى الآن التحول الكامل للمواد غير العضوية لهياكل مثل تجمعات “protobionts” أو (جسيمات ما قبل خلوية – protocells)، كما لم نوفَق بعد في حالة عالم (RNA) المقترح هذا بين الاختلافات المهمة في آليات تركيب قواعد البيورين والبيريميدين الضرورية لبناء نيوكليوتيدات الحمض النووي الريبوزي (RNA) الكاملة.
بالإضافة لذلك يؤكد بعض العلماء أن عملية التولد التلقائي هذه لم تكن ضروريةً، إذ يقترحون بدلًا من ذلك أن الحياة قد أُدخلت للأرض بواسطة اصطدام جسم قادم من خارج الأرض، حاملًا معه كائنات حية مثل حجر نيزكي يحمل كائنات وحيدة الخلية، وتعرف هذه الهجرة المفترضة للحياة إلى الأرض باسم (بانسبيرميا أو البذور الكونية – panspermia).
صورة: قمر تيتان (من أقمار كوكب زحل) في فسيفساء من تسع صور التقطتها مركبة الفضاء كاسيني في 26 تشرين الأول وتمت معالجتها لتقليل الستار في الغلاف الجوي للقمر.
لقد استفادت أبحاث التولد التلقائي بشكلٍ كبير من علم الأحياء الفلكي وهو المجال الذي يهتم بالبحث عن حياة خارج كوكب الأرض مع فهم الظروف اللازمة لتشكل الحياة. وكشفت الأبحاث البيوفلكية عن وجود جزيئات عضوية معقدة على قمر تيتان -على سبيل المثال- والذي يفتقد غلافه الجوي للأوكسجين الحر، ما يقدم لمحةً للعلماء حول عمليات تشكل المواد البيولوجية في البيئة الموجودة قبل ظهور الحياة، والتي تماثل المراحل البدائية للأرض.
تقوم فكرة (التولد التلقائي – abiogenesis) على نشوء الحياة على الأرض من مكونات غير حية (الجماد) قبل 3.5 مليار سنة، وتفترض فكرة التولد التلقائي أن الأشكال الحية الأولى نشأت بسيطةً للغاية وأصبحت معقدةً أكثر فأكثر من خلال عملية تدريجية. أما النشوء الحيوي والذي يعني أن الحياة اشتُقت من تكاثر (إنتاج) حياة أخرى ربما سُبقت بالتولد التلقائي والذي أصبح مستحيلًا عندما اتخذ الغلاف الجوي للأرض تكوينه الحالي.
ورغم أن العديد من الأشخاص يساوون بين التولد التلقائي والنظرية القديمة للتولد الذاتي (العفوي)، فإن هاتين الفكرتين مختلفتان جدًا؛ إذ كان يُعتقد وفقًا لنظرية التولد الذاتي أن الكائنات المعقدة (كاليرقة أو الفأر) نشأت فوريًا وبشكلٍ متواصل من مكونات غير حية. وفي حين أن الخطوات الافتراضية للتولد الذاتي قد دُحضت أوائل القرن السابع عشر ورُفضت بشكلٍ قاطع في القرن التاسع عشر، فقد ظلت نظرية التولد التلقائي من دون إثبات أو دحض.
نظرية أوبارين وهولدين:
عرض كل من العالم البريطاني (جون بوردون ساندرسون هالدان – J.B.S. Haldane) وعالم الكيمياء الحيوية الروسي (ألكسندر أوبارين – Aleksandr Oparin) في العشرينيات من القرن الماضي -بشكلٍ مستقل- أفكارًا مشابهةً بشأن الظروف اللازمة لأصل الحياة على الأرض، إذ اعتقدا أن الجزيئات العضوية يمكن أن تتشكل من مواد غير حية بوجود طاقة خارجية، وأن الغلاف الجوي البدائي كان في طور التقلص (امتلك كميات قليلة من الأوكسجين الحر) واحتوى على النشادر (الأمونيا) وبخار الماء وغازات أخرى.
وظن كلاهما أيضًا أن الأشكال الأولى للحياة ظهرت في المحيط الدافئ البدائي وكانت غيرية التغذية (أي أنها تتغذى على المواد المشكلة مسبقًا من المركبات الموجودة على الأرض البدائية) وليست ذاتية التغذية (أي أنها تحصل على غذائها من ضوء الشمس والمواد غير العضوية).
صورة: ألكسندر أوبارين-1970 Tass/Sovfoto
كما اعتقد أوبارين أن الحياة تطورت من “coacervates” وهي تجمعات كروية مجهرية من جزيئات دهنية تشكلت ذاتيًا وتماسكت من خلال قوى كهربائية راكدة، وقد تكون أسلاف الخلايا.
يؤكد العمل الذي قام به أوبارين أن الأنزيمات أساسية من أجل التفاعلات البيوكيميائية للاستقلاب، والذي يعمل بكفاءة أكبر عند احتوائه على كريات مرتبطة بالغشاء حين يكون خاليًا من المحاليل المائية. أما هولدين غير المطلع على كريات أوبارين اعتقد أن الجزيئات العضوية البسيطة تشكلت أولًا، في وجود الأشعة فوق البنفسجية، وأصبحت معقدةً أكثر فأكثر، وأخيرًا انتهى بها الأمر لتشكل الخلايا. وصاغت أفكار هولدين وأوبارين الأساس للمزيد من الأبحاث حول التولد التلقائي والتي أُجريت فيما بعد.
تجربة ميلر وأوري:
اختبر كل من الكيميائييَن الأمريكييَن (هارولد كلايتون أوري – Harold C. Urey) و(ستانلي ميلر – Stanley Miller) عام 1953 نظرية أوبارين وهولدين وأنتجوا بنجاح جزيئات عضوية من بعض العناصر غير العضوية، والتي اعتُقد أنها وجدت على الأرض قبل ظهور الأحياء. مزج العالمان في تجربتهما مياهًا دافئةً مع خليط من أربع غازات: بخار الماء، والميثان، والأمونيا، والهيدروجين الجزيئي، ثم أرسلوا شرارةً كهربائيةً لهذا “الغلاف الجوي”. وكانت العناصر الأربعة تمثل على التوالي المحيط البدائي والغلاف الجوي قبل ظهور الأحياء والحرارة (على هيئة صاعقة). وبعد أسبوع وجد ميلر وأوري أن الجزيئات العضوية البسيطة بما فيها الأحماض الأمينية (الوحدات البنائية للبروتينات) قد تشكلت تحت ظروف تحاكي الأرض البدائية.
المفاهيم الحديثة للتولد التلقائي:
تستند افتراضات التولد التلقائي الحديث بشكلٍ كبير إلى نفس المبادئ الأساسية التي استندت عليها تجربتي أوبارين-هولدين وميلر-أوري، باستثناء وجود فروقات دقيقة بين العديد من النماذج التي وضعَت لشرح عملية التدرج من جزيء غير حي إلى كائن حي، وتختلف هذه التفسيرات تبعًا إلى ما إذا كانت الجزيئات العضوية المعقدة أصبحت أولًا كيانات ذاتية التضاعف مفتقرةً للوظائف الاستقلابية، أم أنها كانت بالبداية جسيمات ما قبل خلوية ذات وظيفية استقلابية ومن ثم طورت قدرةً على التضاعف الذاتي.
هذا ونوقشت بيئة التولد التلقائي أيضًا، فبينما تشير بعض الأدلة إلى أن الحياة قد تكون نشأت من مكونات غير حية في فتحات حرمائية (كهرومائية) في قاع المحيط، قد تكون عملية التولد التلقائي حدثت في مكانٍ آخر مثل أعماق سطح الأرض، حيث اعتمدت الجسيمات ما قبل الخلوية على الميثان أو الهيدروجين، أو نشأت على شواطئ المحيط، إذ ربما انبثقت (البروتينات الحرارية – proteinoids) من تفاعل الأحماض الأمينية مع الحرارة ثم دخلت (انضمت) المياه بمثابة قطرات بروتينية شبيهة بالخلية.
ويقترح بعض العلماء أن التولد التلقائي حدث أكثر من مرة واحدة. وفي مثالٍ لهذا السيناريو المحتمل نشأت أنواع مختلفة من الحياة، يمتلك كل منها نموذج بناء بيوكيميائي مختلف يعكس طبيعة المواد غير الحيوية التي تطور منها. ولكن في النهاية يكسب نوع الحياة المستند للفوسفات (للحياة المعيارية نموذج بناء بيوكيميائي يتطلب الفوسفور) ميزةً تطوريةً على جميع أنواع الحياة غير المستندة للفوسفات (الحياة اللامعيارية)، وبالتالي أصبح هذا النوع أكبر أنواع الحياة انتشارًا على الأرض.
وتقود هذه الفكرة العلماء إلى استنتاج وجود محيط حيوي “شبحي- ظلي” وهو نظام داعم للحياة مكون من كائنات دقيقة ذات بنية بيوكيميائية خاصة واستثنائية، ربما وجدت في السابق أو لا تزال موجودة على الأرض.
وكما أثبتت تجربة ميلر وأوري؛ فإن الجزيئات العضوية تستطيع التشكل من مواد لا حيوية تحت قيود الغلاف الجوي الأرضي قبل الحيوي. ووجد الباحثون منذ خمسينيات القرن الماضي أن الأحماض الأمينية قد تتكون ذاتيًا من ببتيدات (بروتينات صغيرة)، يمكن أن يبنى هذا الوسيط الرئيسي في عملية تركيب نيوكليوتيدات الحمض النووي الريبوزي (RNA) (وهي مركبات تحتوي على النيتروجين وترتبط بمجموعات السكر والفوسفات) من مواد أولية قبل حيوية.
وقد يدعم الدليل الأخير فرضية عالم (RNA)، وهي تشير إلى أن الأرض البدائية احتوت على وفرة من أنواع الحياة المعتمدة على (RNA) والناتجة من خلال تفاعلات كيميائية قبل الحيوية. وفي الحقيقة أن الحمض النووي الريبوزي (RNA) لا يحمل ويترجم المعلومات الوراثية فقط، ولكنه يُعتبَر محفزًا أيضًا، أي جزيء يزيد من معدل التفاعل دون أن يستنفد نفسه؛ أي أن محفزًا واحدًا قد ينتج أشكالًا حيويةً متعددةً، وهذا سيكون ملائمًا خلال ظهور الحياة على الأرض، وبهذا تكون فرضية عالم (RNA) أحد المفاهيم الأساسية للتضاعف الذاتي الأول في التولد التلقائي.
ضمت بعض نماذج التوليد التلقائي الحديثة المعتمدة على الاستقلاب كريات “coacervates” التي تحتوي على الأنزيمات، لكنها اقترحت حدوث تدرج متواصل من الجزيئات العضوية البسيطة لكريات “coacervates”، وخاصةً “protobionts” وهي تجمعات جزيئات عضوية والتي تُبرز بعض خصائص الحياة، ومن المحتمل أن (بدائيات النوى – prokaryotes) نتجت عن تجمعات “protobionts”، وبدائيات النوى هي كائنات تفتقر لنواة خاصة وللعضيات الأخرى بسبب غياب الأغشية الداخلية، ولكنها قادرة على الاستقلاب والتضاعف الذاتي وسريعة التأثر بالانتخاب الطبيعي.
ولا تزال الأمثلة عن بدائيات النوى الأولية موجودةً على الأرض، وتضم العتائق التي تستوطن البيئات القاسية ذات الظروف المشابهة لتلك التي كانت قبل مليارات السنين، والزراقم (الطحالب الزرقاء المخضرة) التي تزدهر في البيئات القاسية أيضًا، وصاحبة الأهمية الخاصة في فهم أصل الحياة بسبب قدرتها على التركيب الضوئي.
و(الأستروماتوليتس – Stromatolites) رواسب تشكلت من نمو الطحالب الزرقاء المخضرة وهي أقدم الأحافير في العالم، إذ يرجع تاريخها إلى 3.5 مليار سنة.
صورة: طحلب أزرق مخضر في بركة Morning Glory Pool في متنزه Yellowstone National Park في Wyoming.
بقي هناك العديد من الأسئلة دون إجابة بشأن التولد التلقائي، إذ لم تثبت التجارب حتى الآن التحول الكامل للمواد غير العضوية لهياكل مثل تجمعات “protobionts” أو (جسيمات ما قبل خلوية – protocells)، كما لم نوفَق بعد في حالة عالم (RNA) المقترح هذا بين الاختلافات المهمة في آليات تركيب قواعد البيورين والبيريميدين الضرورية لبناء نيوكليوتيدات الحمض النووي الريبوزي (RNA) الكاملة.
بالإضافة لذلك يؤكد بعض العلماء أن عملية التولد التلقائي هذه لم تكن ضروريةً، إذ يقترحون بدلًا من ذلك أن الحياة قد أُدخلت للأرض بواسطة اصطدام جسم قادم من خارج الأرض، حاملًا معه كائنات حية مثل حجر نيزكي يحمل كائنات وحيدة الخلية، وتعرف هذه الهجرة المفترضة للحياة إلى الأرض باسم (بانسبيرميا أو البذور الكونية – panspermia).
صورة: قمر تيتان (من أقمار كوكب زحل) في فسيفساء من تسع صور التقطتها مركبة الفضاء كاسيني في 26 تشرين الأول وتمت معالجتها لتقليل الستار في الغلاف الجوي للقمر.
لقد استفادت أبحاث التولد التلقائي بشكلٍ كبير من علم الأحياء الفلكي وهو المجال الذي يهتم بالبحث عن حياة خارج كوكب الأرض مع فهم الظروف اللازمة لتشكل الحياة. وكشفت الأبحاث البيوفلكية عن وجود جزيئات عضوية معقدة على قمر تيتان -على سبيل المثال- والذي يفتقد غلافه الجوي للأوكسجين الحر، ما يقدم لمحةً للعلماء حول عمليات تشكل المواد البيولوجية في البيئة الموجودة قبل ظهور الحياة، والتي تماثل المراحل البدائية للأرض.