يتعلق (التخلق المتوالي – epigenesis) بالطريقة التي يحدد فيها الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) التطور ، وليس العكس. كتب (لورنس ستيرن – Laurence Sterne) في روايته الكوميدية (تريسترام شاندي – Tristram Shandy) عام 1759، هاجيًا فيها مفهوم (الأُنيسان – homunculus): «إن الأُنَيسان (القزم) يا سيدي، مهما بدا وضيعًا أو صغيرًا ومضحكًا، في عصر الهزل الحالي بنظر الحمقى والمتحيزين، فإنه بمنظور المنطق والبحث العلمي يتكون مثلنا، من جلد وشعر وشحوم ولحم وأوردة وشرايين وأربطة وأعصاب وغضاريف وعظام وأعضاء تناسلية وسوائل ومفاصل -إنه كائن بنفس مقدار الحيوية- بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يمكن لهذا المخلوق زميلنا، فعلًا وبقدر سيدي مستشار إنكلترا، أن ينتفع، وأن يتأذى، وأن يحصل على تعويض؛ بمعنى آخر، يمتلك هذا المخلوق جميع حقوق ومطالب الإنسانية…»
التخلق المتوالي
بحسب تعاليم التنمية السابقة للعلم، ينمو هذا الكائن الحي من نموذج بدئي كامل التشكل مثالي ومُصغر، ما يُعرَف بـ(التكون المسبق – preformationism). قد يبدو التحديد المسبق الخام غريبًا حاليًا، ولكن أولئك الراغبون بتحدي فكرة وجود اختلافات خلقية بين الجنسين في مهارات مثل الرياضيات أو رمي القذائف، يختارون وجهة نظر تدعو بشكل أساسي للتكون المسبق، عند ادعائهم أنه: «طالما لا يستطيع المولودون الجدد حساب الرياضيات أو إصابة هدف بدقة، فلا يمكننا الاستدلال إلى أن هذه السلوكيات تتأثر بعوامل حيوية».
وأحد الأمثلة الأخرى على ما سبق هو الادعاء الموثوق بشكل واسع والذي يشير إلى أنه لا يمكن للجينات المفردة أن تكون مهمةً في التطور. ويقابله افتراض التكون المسبق هنا بأنه لا بد من مساهمة العديد من الجينات في كل صفة من صفات الكائن الحي، ببساطة لكونه أكبر وأكثر تعقيدًا من الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) الخاص به.
ويُعتبر التخلق المتوالي بديل التكون المسبق، ويعود مصطلحه لأرسطو، الذي استخدم مثال نسج شبكة بمثابة تشبيه لطريقة توليد التخلق المتوالي للكائنات الحية، عوضًا عن تكوينهم مسبقًا. وبالفعل يمكن إدراك مدى ملائمة ذاك التشبيه اليوم، تبعًا لحقيقة كون الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) يؤلف بنية الحموض الأمينة المنظومة في سلسلة، والتي تُحدَد نماذج طيها بواسطة العديد من خواص البروتينات المتشكلة منها، ومن هذه الزاوية يمكن النظر للكائن الحي بالفعل بمثابة شبكة من البروتينات المنسوجة على نحو وثيق، ويُعتبر هذا المنظور بالتأكيد أكثر صحةً من اعتباره مادةً طُبعت بواسطة قوالب جاهزة كمنظور التكون المسبق.
ولكن تقوم وتستطيع الجينات المفردة تحديد ميزات معقدة لكائنات حية كاملة، فعلى سبيل المثال، يحدد الجين المفرد (SRY) الجنس لدى الثديات، ليس من خلال تسجيل وتحديد كل جانب يختلف فيه أحد الجنسين عن الآخر لدى الكائن الحي البالغ، وإنما بتوجيه التطور بعيدًا عن المسار الأنثوي، الذي كان ليسلكه لولا ذلك، ونحو المسار الذكوري.
مثال عن التخلق المتوالي
كما يمكن لجين مفرد تحديد حتى نموذج تلوين حيوان بأكمله، وتُلاحَظ أحد الأمثلة الجيدة على ذلك لدى القطط السيامية، التي تكون آذانها ووجوهها وأرجلها وأذيالها داكنةً عادةً، بينما يكون باقي جسمها أفتح لونًا. سيقترح منظور التكون المسبق فيما يتعلق بهذا المثال، أنه في حال نتج ذلك عن الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) للقطة، فلا بد أنه يحتوي على نوع من الخارطة أو الرسم البياني للأماكن التي يجب التعبير فيها عن الميلانين (الصباغ المشكل للون الأغمق أثناء التطور )، ولكن في الحقيقة جل ما يتطلبه الأمر هو جين وحيد، يحدد ضرورة خضوع التعبير عن الميلانين لدرجة الحرارة المحيطة، فحيثما يكون جلد الحيوان عادةً أبرد (كما في الأطراف) سيُعبَر عن الميلانين بشكل أكبر من المناطق الأدفأ (كالمركزية منها)، ما يؤدي إلى نموذج التلوين المُشاهَد.
بالإضافة إلى وجود حالات يتحدد فيها الجنس بدرجة الحرارة، ويساهم الجين (SRY) ذاته في ذلك، فبالنسبة للتماسيح والسلاحف مثلًا، يرتبط التعبير عنه بدرجة الحرارة المحيطة، بشكلٍ مشابه للتعبير عن الميلانين لدى القطط السيامية. ربما تقترح أبحاث كهذه صحة الفكرة الشائعة عن تساوي أهمية البيئة أو التنشئة مع الطبيعة أو الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) في تحديد النتائج، ولكن حقيقة الآليات التي تعمل بشكل متقابل لدى التماسيح والسلاحف تثبت العكس.
بوضوح، إن كانت البيئة عاملًا مستقلًا حقًا، فقد تقطع كلا الطريقين، فربما تُنتج تغيرات درجة الحرارة أفرادًا من جنس معين أكثر من الآخر، وهذا ما تفعله حقًا؛ إذ تُنتج الأعشاش الأدفأ عددًا أكبر من الذكور لدى التماسيح، مقابل إناث أكثر لدى السلاحف. ولكن يمكن للتطور لوحده تفسير السبب وراء كون الوضع على هذه الحال، وليس على نحو مخالف، فيكمن السبب بأن الحضن الأدفأ يؤمن فقسًا أكبر للبيوض، وتميل الكفة للذكور لدى التماسيح التي ستتوجه بعد ذلك للتنافس على الإناث، بينما تميل لصالح الإناث لدى السلاحف، والتي بإمكانها حمل المزيد من البيوض عند بلوغها.
وفي كلتا الحالتين السابقتين يفسر النجاح الإنجابي النهائي لعدد الأفراد الأكبر الطريقة التي يحدد التطور فيها انتقال التخلق المتوالي المتحرض بالحرارة والذي يحدد الجنس، ما يعني أن التطور والحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) هما المحددان المسيطران، وأنهما يجندان البيئة المُنشئة في التخلق المتوالي ، أي بعبارة أخرى، التنشئة بواسطة الطبيعة.
وأخيرًا، ما علاقة كل ما سبق بنظرية الدماغ المنسوخ؟*
في الحقيقة تُعتبر هذه النظرية الموجودة الوحيدة القادرة على تفسير الأمراض الذهنية بمصطلحات التخلق المتوالي ، ويجدر ذكر أن الجهاز العصبي والدماغ يتطوران من طبقة خلايا الكيسة الأريمية ذاتها التي تشكل الجلد لدى الحيوانات، بمعنى آخر، يمكن مشاهدة ما لوحظ لدى القطط السيامية كنموذج عن التخلق المتوالي للدماغ البشري، كما أن الطريقة التي استغل بها التطور درجات حرارة الحضن لتحديد الجنس لدى التماسيح والسلاحف تثبت سابقةً مدهشةً للجينات المنسوخة المعدلة للنمو والمؤثرة على الترتيبات الإدراكية النوعية للجنس الواحد، كما اقترحتها نظرية الدماغ المنسوخ.
*(نظرية الدماغ المنسوخ – Imprinted brain theory): نظرية في علم النفس التطوري تتعلق بأسباب اضطرابات طيف التوحد والذهان.