فتوحات اسلاميه
Islamic conquests - Conquêtes islamiques
الفتوحات العربية والإسلامية
كانت الفتوحات العربية الإسلامية نتيجة حتمية وطبيعية لظهور الدولة العربية الفتية في المدينة المنورة إثر هجرة الرسول r إليها، وتَنَزُّلِ آيات الجهاد بعد النهي عن القتال في نيف وسبعين آية، وكانت الآيات القرآنية بشأن هذا الإذن تحمل في طياتها أسباب المشروعية؛ من دفعٍ للظلم ومنع الفتنة عن الدين، وردِ الاعتداء عن الدعاة إلى الله وحماية الموطن، قال الله تعالى: )أُذِنَ للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا وأنَّ الله على نصرهم لقدير الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلاَّ أن يقولوا ربُنا الله[ (الحج 39-40)، وهي أول آية نزلت في القتال كما قال ابن عباس، وتلا هذه الآية، الآية 39 من سورة الأنفال )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير(.
وكان أمر القتال أولاً قاصراً على قريش ومن يمالئها، فلما كان فتح مكة تنزلت الآية 36 من سورة التوبة التي تنص بشكل واضح على وجوب قتال من يقاتل المسلمين كافة مهما كانت هويته )وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة(.
كان لتشريع الجهاد أهمية كبرى، لأنه أعطى المسلمين في المدينة صفة الدولة التي لا تستغني عن مجالدة أعدائها والجهاد في سبيل نشر مبادئها، إذ إن الدعوة الإسلامية لابُد لها من قوة تحميها ودرع يصونها، لأن الحق والحرية لا يعيشان إلا في ظلّ القوة والنظام، وتنفيذ أحكام الشرائع والنظم الاجتماعية لا يتأتى من دون سلطة، وبقاء الجماعة وعزتها لا يكون إلا بنشر الرسالة الإسلامية والدفاع عنها بقوة السلاح، ولكن هذا لا يعني أن الرسول r طرح مهمة الداعي إلى الإسلام والمبلّغ لتعاليمه، بعد أن اجتمع لديه جيش كبير؛ فهذا ابن سعد يعرض طائفة من الكتب التي بعث بها الرسول r من المدينة إلى الشيوخ وغيرهم من أعضاء القبائل العربية المختلفة، إضافةً إلى الكتب التي أرسلها إلى الملوك والأمراء خارج الجزيرة العربية يدعوهم إلى اعتناق الإسلام. ومما يثير اهتمام الباحث عند دراسته هذه الكتب، موقف كل من كسرى وهرقل منها، لأن البلاد العربية التي سوف يعمد العرب إلى فتحها وتحريرها كانت تحت سيطرة هاتين القوتين: الساسانية والبيزنطية.
كان الرسول r قد بعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى بكتاب وفيه «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حياً، أسلِم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس»، فمزق كسرى كتاب رسول الله r وقال: «يكتب إلي هذا وهو عبدي»، فقال رسول الله r «مُزِّق ملكه».
أما هرقل، فإنه عندما قدم عليه كتاب رسول الله r مع دحية بن خليفة الكلبي يدعوه إلى الإسلام، جمع بطارقة الروم وأخبرهم أنه جمعهم لخير، وأنه قد أتاه كتاب هذا الرجل يدعوه إلى دينه «وإنه والله للنبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتبنا، فهلموا فلنتبعه ونصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا»، فنخروا نخرةً واحدة حتى خافهم على نفسه وقال لهم: «يا معشر الروم إني قد قلت لكم المقالة التي قلت، لأنظر كيف صلابتكم على دينكم لهذا الأمر الذي قد حدث، وقد رأيت منكم الذي أُسَرُّ به».
وفي عام الوفود في العام التاسع للهجرة، بعد أن فتح الله على المسلمين مكةَ ومكن لهم من البيت، بدأت الوفود تنطلق من كل صوب متجهةً إلى النبي r معلنةً إسلامها وولاءها، ولا يتبين من المتوافر من روايات المؤرخين صدى لذلك كله بين عرب الشام إلا ما يذكره ابن هشام عن إسلام فروة بن عمرو الجذامي الذي بعث إلى رسول الله r رسولاً بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء. وكان فروة عاملاً للروم على من يواليهم من العرب، وكان منزله بمعان وما حولها من أرض، ولكن الروم عندما بلغهم إسلامه حبسوه، ثم صلبوه على ماء يقال له عفراء بفلسطين.
إن مواقف كل من كسرى فارس وهرقل بيزنطة وما حدث لفروة بن عمرو الجذامي، كلها تبرهن على أن الإسلام لن يجد أرضاً رحبةً في البلاد الواقعة تحت سيطرة البيزنطيين والساسانيين، ولذلك كان لابَّد من تحرير الأراضي العربية المحتلة لكي تنتشر رايات الإسلام خفاقة حولها.
تحرير العراق وفتح إيران في العهد الراشدي
إن فكرة الفتح ونشر الإسلام خارج حدود الجزيرة، متناسبة مع عمومية الدعوة، تقتضي ألا تقتصر على عرب الجزيرة، بل على العرب القاطنين خارجها وعلى أمم الأرض جميعاً. والعراق لم يكن غريباً عن سكان الجزيرة العربية، وكان امتداداً لمنازلها وداراً لهجراتها، كانوا ينتقلون إليه ويسكنونه، كما كانوا ينتقلون إلى الشام ويسكنونها. وكان الفرس هنا كما كان الروم هناك يجدون في هذه القبائل التي تقارب حياتها حياة الحَضَر، أداة تكفيهم من خطر العرب. وكانت العلاقات بين الفرس والمناذرة[ر] تختلف تبعاً للظروف والأوضاع، ولم يستقم الأمر في مرة على حال معينة أمداً طويلاً، ومهما يكن من أمر هذه الصلات في الجاهلية، فقد كان العراق هدفاً من أهداف حركة الفتوح الإسلامية، ولذلك لم يكد خالد بن الوليد يفرغ من حروب الردة، حتى كتب إليه الخليفة أبو بكر وهو في اليمامة أن يمضيَ إلى العراق، فيدخلها من أسفلها، وكتب كذلك إلى عياض بن غنم أن يأتي المصيَّخ ويدخل العراق من أعلاها، وأيهما سبق إلى الحيرة فهو أمير على صاحبه.
يمكن تلخيص حركة فتح العراق في المراحل الآتية:
المرحلة الأولى تبدأ بمسير خالد من اليمامة، وكانت المعركة الأولى في طريقه معركة ذات السلاسل في الكاظمة، وكان على رأس الفرس عامل كسرى على ثغر الأُبلَّة هرمز، أسوأ أمراء الفرس جواراً للعرب، وكان العرب قد ضربوه مثلاً للخبث، حتى قالوا: «أخبث من هرمز، وأكفر من هرمز». انهزم الفرس وقتل هرمز، وهربت البقية من الجيش الفارسي، وجمع خالد ما خلَّفوه من متاع وفيها السلاسل التي كان أفراد الجيش الفارسي يقيِّدون أنفسهم بها.
وتُعدُّ معركة المذار (صفر 12هـ/633م) المعركة التالية في الأهمية، انتصر فيها خالد على القائد قريانس الذي سيره كسرى أردشير مدداً لفلول هرمز. ومما يلفت الانتباه في معركة المذار، ما يتحدث به الطبري عن المعاملة الحسنة التي عامل بها خالد فلاحي العراق الذين أجابوا إلى الخراج، فأقرَّهم على أرضهم وحُفظت لهم حقوقهم وعدّوا ذمةً للمسلمين.
تتالت بعد المذار المعارك على الجبهة الشرقية حتى وصل خالد إلى الحيرة، فوزع قادته على حصونها، وطلب منهم أن يبدؤوا بالدعاء أي أن يعرضوا عليهم الإسلام أو الجزاء أو المنابذة (القتال) فإن قبلوا قبلوا منهم، وإن أبوا إلا المنابذة يؤجلوهم يوماً. فلما انقضى الأجل انقضَّ المسلمون على من في الحصون، وبعد مفاوضات بين خالد وزعماء الحيرة، ذَكَّرهم فيها خالد بعروبتهم، وأوضح لهم ما يحمله الإسلام من الإنصاف والعدل، اتفق وإياهم على أن يدفعوا الجزية. وبعد أن استقام لخالد ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد، استخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو، وعيَّن عدداً من القادة على المناطق المختلفة ثم توجه إلى الأنبار، ولما رأى شيرزاد صاحبها أنه لا قِبل له بالصمود في وجه خالد صالحه على ما أراد على أن يخلي سبيله متعهداً ألاّ يأخذ شيئاً من مال أو متاع فقبل خالد وخلَّى سبيله. وبعد أن فرغ خالد من فتح الأنبار قصد عين التمر فدانت له. وبعدها كانت معارك عديدة أهمها الفِِرَاضُ وهي على تخوم الشام والعراق، ويذكر الطبري أنه لما اجتمع المسلمون بالفراض حميت الروم واغتاظت، واستعانوا بمن يواليهم من مَسَالح أهل فارس، وأنه جَرت معركة بين خالد وبين جيش مكَّون من الفرس ورجالات القبائل والروم، وأن النصر كان فيه لخالد وأن عدد القتلى من الأعداء كان كبيراً. ثمَّ أمر أبو بكر خالد بن الوليد بالتوجه إلى الشام لدعم جيوش المسلمين فيها.
تبدأ المرحلة الثانية من فتوح العراق مع خلافة عمر بن الخطاب الذي ندب الناس مع المثنى بن حارثة أمير جيش العراق، وكان أبو عبيدة بن مسعود الثقفي أول منتدب، وتبعه عدد كبير من الناس. وكانت أولى المعارك التي خاضها أبو عبيدة هي معركة النمارق التي كان الفرس قد أعدوا لها القوى الداخلية، وعبؤوا الجند ولقوا المسلمين فيها من خلفهم ومن بين أيديهم ومن أمامهم، ولكن النصر كان للعرب، كما انتصر أبو عبيدة في معركة السقاطية بكسكر. ولكن المعارك لم تستقم في نسق واحد، فالنصر الذي حققه المسلمون في المعارك السابقة، قابلته هزيمة الجسر في منطقة قس الناطف على الفرات،وكانت هذه المعركة انتكاسة كبيرة للعرب كادت أن تفقدهم جميع ما حققوه من انتصارات في العراق، وقتل في هذه المعركة جمع كبير من القوات العربية، كان من بينهم أبو عبيدة نفسه، كما جرح المثنى ولكنه استطاع بفضل حنكته وإقدامه تخليص العرب من الفناء بالانسحاب، ثمَّ تمكن بالمدد الذي أرسله إليه عمر ابن الخطاب أن ينتقم لهزيمة الجسر في معركة البويب التي كان من نتائجها سيطرة المسلمين على السواد كله (جنوبي العراق)؛ أي المنطقة الممتدة بين الفرات ودجلة.
شعر الساسانيون بخطورة الموقف، ولهذا اجتمع ملوك الفرس وحلّوا مشكلة وراثة العرش واتخذوا يزدجرد لرئاستهم، فأخذ يزدجرد يجمع القوى ويحشد الجند ويسمي الجنود لكل مسلحة كانت للفرس أو موضع ثغر، فسمى جند الحيرة والأنبار والأبلة، وثار سكان هذه المناطق على المسلمين.
قابل المسلمون التجنيد العام بمثله، واجتمع عند عمر جيش كبير انتخب لقيادته الصحابي سعد بن أبي وقاص الذي سار حتى وصل القادسية[ر] قرب الكوفة، حيث جرت المعارك الحاسمة سنة 14هـ، والتي انتصر فيها العرب انتصاراً ساحقاً، ثمَّ تقدم المسلمون نحو المدائن التي تمَّ فتحها سنة 16هـ، وخاضوا في الطريق إليها عدداً من المعارك مع الفرس الذين سعوا إلى إنقاذ المدائن عاصمتهم، وقد أعقب ذلك انسحاب الفرس إلى حُلْوان التي كانت مركزاً حصيناً على حافة المرتفعات الفارسية، فكانت معركة جلولاء على الضفة اليمنى من نهر ديالي أواخر عام 16هـ، فهزم الله الفرس وأصاب المسلمون بها من الفيء أفضل مما أصابوا بالقادسية، فغادر يزدجرد حُلْوان إلى إقليم فارس، حيث جرت الموقعة الكبرى التي يطلق عليها العرب فتح الفتوح في نهاوند[ر] جنوبي همذان سنة 21هـ. كانت هزيمة الفرس في نهاوند إيذاناً بسقوط المقاومة المنظمة كلها، وتابع المسلمون تقدمهم حتى غلبوا على أصفهان ثم اصطخر ثم تساقطت مدن خراسان في أيدي الأحنف بن قيس[ر]، وقُتل يزدجرد بعد سلسلة من التنقلات في مرو سنة 31هـ/651م في خلافة عثمان بن عفان، وكان مقتله مؤشراً واضحاً على انهيار المقاومة الفارسية واختفاء الأسرة الساسانية عن عرش إيران، وقد بلغ المسلمون حدود نهر جيحون، وكتب عمر فيما يروي الطبري إلى الأحنف «لا تجوزنّ النهر واقتصر ما دونه».
وبينما كان المسلمون يصلون حدود النهر، كانت جيوش أخرى تجتاز الخليج فتنساح في منطقة فارس وفي سواحل كرمان، ثم تتقدم بعد ذلك إلى مكران، ولكن هذه لم يتم فتحها إلا في خلافة معاوية بن أبي سفيان.
تحرير بلاد الشام والجزيرة
Islamic conquests - Conquêtes islamiques
الفتوحات العربية والإسلامية
كانت الفتوحات العربية الإسلامية نتيجة حتمية وطبيعية لظهور الدولة العربية الفتية في المدينة المنورة إثر هجرة الرسول r إليها، وتَنَزُّلِ آيات الجهاد بعد النهي عن القتال في نيف وسبعين آية، وكانت الآيات القرآنية بشأن هذا الإذن تحمل في طياتها أسباب المشروعية؛ من دفعٍ للظلم ومنع الفتنة عن الدين، وردِ الاعتداء عن الدعاة إلى الله وحماية الموطن، قال الله تعالى: )أُذِنَ للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا وأنَّ الله على نصرهم لقدير الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلاَّ أن يقولوا ربُنا الله[ (الحج 39-40)، وهي أول آية نزلت في القتال كما قال ابن عباس، وتلا هذه الآية، الآية 39 من سورة الأنفال )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير(.
وكان أمر القتال أولاً قاصراً على قريش ومن يمالئها، فلما كان فتح مكة تنزلت الآية 36 من سورة التوبة التي تنص بشكل واضح على وجوب قتال من يقاتل المسلمين كافة مهما كانت هويته )وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة(.
كان لتشريع الجهاد أهمية كبرى، لأنه أعطى المسلمين في المدينة صفة الدولة التي لا تستغني عن مجالدة أعدائها والجهاد في سبيل نشر مبادئها، إذ إن الدعوة الإسلامية لابُد لها من قوة تحميها ودرع يصونها، لأن الحق والحرية لا يعيشان إلا في ظلّ القوة والنظام، وتنفيذ أحكام الشرائع والنظم الاجتماعية لا يتأتى من دون سلطة، وبقاء الجماعة وعزتها لا يكون إلا بنشر الرسالة الإسلامية والدفاع عنها بقوة السلاح، ولكن هذا لا يعني أن الرسول r طرح مهمة الداعي إلى الإسلام والمبلّغ لتعاليمه، بعد أن اجتمع لديه جيش كبير؛ فهذا ابن سعد يعرض طائفة من الكتب التي بعث بها الرسول r من المدينة إلى الشيوخ وغيرهم من أعضاء القبائل العربية المختلفة، إضافةً إلى الكتب التي أرسلها إلى الملوك والأمراء خارج الجزيرة العربية يدعوهم إلى اعتناق الإسلام. ومما يثير اهتمام الباحث عند دراسته هذه الكتب، موقف كل من كسرى وهرقل منها، لأن البلاد العربية التي سوف يعمد العرب إلى فتحها وتحريرها كانت تحت سيطرة هاتين القوتين: الساسانية والبيزنطية.
كان الرسول r قد بعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى بكتاب وفيه «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حياً، أسلِم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس»، فمزق كسرى كتاب رسول الله r وقال: «يكتب إلي هذا وهو عبدي»، فقال رسول الله r «مُزِّق ملكه».
أما هرقل، فإنه عندما قدم عليه كتاب رسول الله r مع دحية بن خليفة الكلبي يدعوه إلى الإسلام، جمع بطارقة الروم وأخبرهم أنه جمعهم لخير، وأنه قد أتاه كتاب هذا الرجل يدعوه إلى دينه «وإنه والله للنبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتبنا، فهلموا فلنتبعه ونصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا»، فنخروا نخرةً واحدة حتى خافهم على نفسه وقال لهم: «يا معشر الروم إني قد قلت لكم المقالة التي قلت، لأنظر كيف صلابتكم على دينكم لهذا الأمر الذي قد حدث، وقد رأيت منكم الذي أُسَرُّ به».
وفي عام الوفود في العام التاسع للهجرة، بعد أن فتح الله على المسلمين مكةَ ومكن لهم من البيت، بدأت الوفود تنطلق من كل صوب متجهةً إلى النبي r معلنةً إسلامها وولاءها، ولا يتبين من المتوافر من روايات المؤرخين صدى لذلك كله بين عرب الشام إلا ما يذكره ابن هشام عن إسلام فروة بن عمرو الجذامي الذي بعث إلى رسول الله r رسولاً بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء. وكان فروة عاملاً للروم على من يواليهم من العرب، وكان منزله بمعان وما حولها من أرض، ولكن الروم عندما بلغهم إسلامه حبسوه، ثم صلبوه على ماء يقال له عفراء بفلسطين.
إن مواقف كل من كسرى فارس وهرقل بيزنطة وما حدث لفروة بن عمرو الجذامي، كلها تبرهن على أن الإسلام لن يجد أرضاً رحبةً في البلاد الواقعة تحت سيطرة البيزنطيين والساسانيين، ولذلك كان لابَّد من تحرير الأراضي العربية المحتلة لكي تنتشر رايات الإسلام خفاقة حولها.
تحرير العراق وفتح إيران في العهد الراشدي
إن فكرة الفتح ونشر الإسلام خارج حدود الجزيرة، متناسبة مع عمومية الدعوة، تقتضي ألا تقتصر على عرب الجزيرة، بل على العرب القاطنين خارجها وعلى أمم الأرض جميعاً. والعراق لم يكن غريباً عن سكان الجزيرة العربية، وكان امتداداً لمنازلها وداراً لهجراتها، كانوا ينتقلون إليه ويسكنونه، كما كانوا ينتقلون إلى الشام ويسكنونها. وكان الفرس هنا كما كان الروم هناك يجدون في هذه القبائل التي تقارب حياتها حياة الحَضَر، أداة تكفيهم من خطر العرب. وكانت العلاقات بين الفرس والمناذرة[ر] تختلف تبعاً للظروف والأوضاع، ولم يستقم الأمر في مرة على حال معينة أمداً طويلاً، ومهما يكن من أمر هذه الصلات في الجاهلية، فقد كان العراق هدفاً من أهداف حركة الفتوح الإسلامية، ولذلك لم يكد خالد بن الوليد يفرغ من حروب الردة، حتى كتب إليه الخليفة أبو بكر وهو في اليمامة أن يمضيَ إلى العراق، فيدخلها من أسفلها، وكتب كذلك إلى عياض بن غنم أن يأتي المصيَّخ ويدخل العراق من أعلاها، وأيهما سبق إلى الحيرة فهو أمير على صاحبه.
المرحلة الأولى تبدأ بمسير خالد من اليمامة، وكانت المعركة الأولى في طريقه معركة ذات السلاسل في الكاظمة، وكان على رأس الفرس عامل كسرى على ثغر الأُبلَّة هرمز، أسوأ أمراء الفرس جواراً للعرب، وكان العرب قد ضربوه مثلاً للخبث، حتى قالوا: «أخبث من هرمز، وأكفر من هرمز». انهزم الفرس وقتل هرمز، وهربت البقية من الجيش الفارسي، وجمع خالد ما خلَّفوه من متاع وفيها السلاسل التي كان أفراد الجيش الفارسي يقيِّدون أنفسهم بها.
وتُعدُّ معركة المذار (صفر 12هـ/633م) المعركة التالية في الأهمية، انتصر فيها خالد على القائد قريانس الذي سيره كسرى أردشير مدداً لفلول هرمز. ومما يلفت الانتباه في معركة المذار، ما يتحدث به الطبري عن المعاملة الحسنة التي عامل بها خالد فلاحي العراق الذين أجابوا إلى الخراج، فأقرَّهم على أرضهم وحُفظت لهم حقوقهم وعدّوا ذمةً للمسلمين.
تتالت بعد المذار المعارك على الجبهة الشرقية حتى وصل خالد إلى الحيرة، فوزع قادته على حصونها، وطلب منهم أن يبدؤوا بالدعاء أي أن يعرضوا عليهم الإسلام أو الجزاء أو المنابذة (القتال) فإن قبلوا قبلوا منهم، وإن أبوا إلا المنابذة يؤجلوهم يوماً. فلما انقضى الأجل انقضَّ المسلمون على من في الحصون، وبعد مفاوضات بين خالد وزعماء الحيرة، ذَكَّرهم فيها خالد بعروبتهم، وأوضح لهم ما يحمله الإسلام من الإنصاف والعدل، اتفق وإياهم على أن يدفعوا الجزية. وبعد أن استقام لخالد ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد، استخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو، وعيَّن عدداً من القادة على المناطق المختلفة ثم توجه إلى الأنبار، ولما رأى شيرزاد صاحبها أنه لا قِبل له بالصمود في وجه خالد صالحه على ما أراد على أن يخلي سبيله متعهداً ألاّ يأخذ شيئاً من مال أو متاع فقبل خالد وخلَّى سبيله. وبعد أن فرغ خالد من فتح الأنبار قصد عين التمر فدانت له. وبعدها كانت معارك عديدة أهمها الفِِرَاضُ وهي على تخوم الشام والعراق، ويذكر الطبري أنه لما اجتمع المسلمون بالفراض حميت الروم واغتاظت، واستعانوا بمن يواليهم من مَسَالح أهل فارس، وأنه جَرت معركة بين خالد وبين جيش مكَّون من الفرس ورجالات القبائل والروم، وأن النصر كان فيه لخالد وأن عدد القتلى من الأعداء كان كبيراً. ثمَّ أمر أبو بكر خالد بن الوليد بالتوجه إلى الشام لدعم جيوش المسلمين فيها.
تبدأ المرحلة الثانية من فتوح العراق مع خلافة عمر بن الخطاب الذي ندب الناس مع المثنى بن حارثة أمير جيش العراق، وكان أبو عبيدة بن مسعود الثقفي أول منتدب، وتبعه عدد كبير من الناس. وكانت أولى المعارك التي خاضها أبو عبيدة هي معركة النمارق التي كان الفرس قد أعدوا لها القوى الداخلية، وعبؤوا الجند ولقوا المسلمين فيها من خلفهم ومن بين أيديهم ومن أمامهم، ولكن النصر كان للعرب، كما انتصر أبو عبيدة في معركة السقاطية بكسكر. ولكن المعارك لم تستقم في نسق واحد، فالنصر الذي حققه المسلمون في المعارك السابقة، قابلته هزيمة الجسر في منطقة قس الناطف على الفرات،وكانت هذه المعركة انتكاسة كبيرة للعرب كادت أن تفقدهم جميع ما حققوه من انتصارات في العراق، وقتل في هذه المعركة جمع كبير من القوات العربية، كان من بينهم أبو عبيدة نفسه، كما جرح المثنى ولكنه استطاع بفضل حنكته وإقدامه تخليص العرب من الفناء بالانسحاب، ثمَّ تمكن بالمدد الذي أرسله إليه عمر ابن الخطاب أن ينتقم لهزيمة الجسر في معركة البويب التي كان من نتائجها سيطرة المسلمين على السواد كله (جنوبي العراق)؛ أي المنطقة الممتدة بين الفرات ودجلة.
شعر الساسانيون بخطورة الموقف، ولهذا اجتمع ملوك الفرس وحلّوا مشكلة وراثة العرش واتخذوا يزدجرد لرئاستهم، فأخذ يزدجرد يجمع القوى ويحشد الجند ويسمي الجنود لكل مسلحة كانت للفرس أو موضع ثغر، فسمى جند الحيرة والأنبار والأبلة، وثار سكان هذه المناطق على المسلمين.
قابل المسلمون التجنيد العام بمثله، واجتمع عند عمر جيش كبير انتخب لقيادته الصحابي سعد بن أبي وقاص الذي سار حتى وصل القادسية[ر] قرب الكوفة، حيث جرت المعارك الحاسمة سنة 14هـ، والتي انتصر فيها العرب انتصاراً ساحقاً، ثمَّ تقدم المسلمون نحو المدائن التي تمَّ فتحها سنة 16هـ، وخاضوا في الطريق إليها عدداً من المعارك مع الفرس الذين سعوا إلى إنقاذ المدائن عاصمتهم، وقد أعقب ذلك انسحاب الفرس إلى حُلْوان التي كانت مركزاً حصيناً على حافة المرتفعات الفارسية، فكانت معركة جلولاء على الضفة اليمنى من نهر ديالي أواخر عام 16هـ، فهزم الله الفرس وأصاب المسلمون بها من الفيء أفضل مما أصابوا بالقادسية، فغادر يزدجرد حُلْوان إلى إقليم فارس، حيث جرت الموقعة الكبرى التي يطلق عليها العرب فتح الفتوح في نهاوند[ر] جنوبي همذان سنة 21هـ. كانت هزيمة الفرس في نهاوند إيذاناً بسقوط المقاومة المنظمة كلها، وتابع المسلمون تقدمهم حتى غلبوا على أصفهان ثم اصطخر ثم تساقطت مدن خراسان في أيدي الأحنف بن قيس[ر]، وقُتل يزدجرد بعد سلسلة من التنقلات في مرو سنة 31هـ/651م في خلافة عثمان بن عفان، وكان مقتله مؤشراً واضحاً على انهيار المقاومة الفارسية واختفاء الأسرة الساسانية عن عرش إيران، وقد بلغ المسلمون حدود نهر جيحون، وكتب عمر فيما يروي الطبري إلى الأحنف «لا تجوزنّ النهر واقتصر ما دونه».
وبينما كان المسلمون يصلون حدود النهر، كانت جيوش أخرى تجتاز الخليج فتنساح في منطقة فارس وفي سواحل كرمان، ثم تتقدم بعد ذلك إلى مكران، ولكن هذه لم يتم فتحها إلا في خلافة معاوية بن أبي سفيان.
تحرير بلاد الشام والجزيرة
تعليق