الفتوحات العربية والإسلامية Islamic conquests

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الفتوحات العربية والإسلامية Islamic conquests

    فتوحات اسلاميه

    Islamic conquests - Conquêtes islamiques

    الفتوحات العربية والإسلامية

    كانت الفتوحات العربية الإسلامية نتيجة حتمية وطبيعية لظهور الدولة العربية الفتية في المدينة المنورة إثر هجرة الرسول r إليها، وتَنَزُّلِ آيات الجهاد بعد النهي عن القتال في نيف وسبعين آية، وكانت الآيات القرآنية بشأن هذا الإذن تحمل في طياتها أسباب المشروعية؛ من دفعٍ للظلم ومنع الفتنة عن الدين، وردِ الاعتداء عن الدعاة إلى الله وحماية الموطن، قال الله تعالى: )أُذِنَ للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا وأنَّ الله على نصرهم لقدير الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلاَّ أن يقولوا ربُنا الله[ (الحج 39-40)، وهي أول آية نزلت في القتال كما قال ابن عباس، وتلا هذه الآية، الآية 39 من سورة الأنفال )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير(.
    وكان أمر القتال أولاً قاصراً على قريش ومن يمالئها، فلما كان فتح مكة تنزلت الآية 36 من سورة التوبة التي تنص بشكل واضح على وجوب قتال من يقاتل المسلمين كافة مهما كانت هويته )وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة(.
    كان لتشريع الجهاد أهمية كبرى، لأنه أعطى المسلمين في المدينة صفة الدولة التي لا تستغني عن مجالدة أعدائها والجهاد في سبيل نشر مبادئها، إذ إن الدعوة الإسلامية لابُد لها من قوة تحميها ودرع يصونها، لأن الحق والحرية لا يعيشان إلا في ظلّ القوة والنظام، وتنفيذ أحكام الشرائع والنظم الاجتماعية لا يتأتى من دون سلطة، وبقاء الجماعة وعزتها لا يكون إلا بنشر الرسالة الإسلامية والدفاع عنها بقوة السلاح، ولكن هذا لا يعني أن الرسول r طرح مهمة الداعي إلى الإسلام والمبلّغ لتعاليمه، بعد أن اجتمع لديه جيش كبير؛ فهذا ابن سعد يعرض طائفة من الكتب التي بعث بها الرسول r من المدينة إلى الشيوخ وغيرهم من أعضاء القبائل العربية المختلفة، إضافةً إلى الكتب التي أرسلها إلى الملوك والأمراء خارج الجزيرة العربية يدعوهم إلى اعتناق الإسلام. ومما يثير اهتمام الباحث عند دراسته هذه الكتب، موقف كل من كسرى وهرقل منها، لأن البلاد العربية التي سوف يعمد العرب إلى فتحها وتحريرها كانت تحت سيطرة هاتين القوتين: الساسانية والبيزنطية.
    كان الرسول r قد بعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى بكتاب وفيه «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حياً، أسلِم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس»، فمزق كسرى كتاب رسول الله r وقال: «يكتب إلي هذا وهو عبدي»، فقال رسول الله r «مُزِّق ملكه».
    أما هرقل، فإنه عندما قدم عليه كتاب رسول الله r مع دحية بن خليفة الكلبي يدعوه إلى الإسلام، جمع بطارقة الروم وأخبرهم أنه جمعهم لخير، وأنه قد أتاه كتاب هذا الرجل يدعوه إلى دينه «وإنه والله للنبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتبنا، فهلموا فلنتبعه ونصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا»، فنخروا نخرةً واحدة حتى خافهم على نفسه وقال لهم: «يا معشر الروم إني قد قلت لكم المقالة التي قلت، لأنظر كيف صلابتكم على دينكم لهذا الأمر الذي قد حدث، وقد رأيت منكم الذي أُسَرُّ به».
    وفي عام الوفود في العام التاسع للهجرة، بعد أن فتح الله على المسلمين مكةَ ومكن لهم من البيت، بدأت الوفود تنطلق من كل صوب متجهةً إلى النبي r معلنةً إسلامها وولاءها، ولا يتبين من المتوافر من روايات المؤرخين صدى لذلك كله بين عرب الشام إلا ما يذكره ابن هشام عن إسلام فروة بن عمرو الجذامي الذي بعث إلى رسول الله r رسولاً بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء. وكان فروة عاملاً للروم على من يواليهم من العرب، وكان منزله بمعان وما حولها من أرض، ولكن الروم عندما بلغهم إسلامه حبسوه، ثم صلبوه على ماء يقال له عفراء بفلسطين.
    إن مواقف كل من كسرى فارس وهرقل بيزنطة وما حدث لفروة بن عمرو الجذامي، كلها تبرهن على أن الإسلام لن يجد أرضاً رحبةً في البلاد الواقعة تحت سيطرة البيزنطيين والساسانيين، ولذلك كان لابَّد من تحرير الأراضي العربية المحتلة لكي تنتشر رايات الإسلام خفاقة حولها.
    تحرير العراق وفتح إيران في العهد الراشدي
    إن فكرة الفتح ونشر الإسلام خارج حدود الجزيرة، متناسبة مع عمومية الدعوة، تقتضي ألا تقتصر على عرب الجزيرة، بل على العرب القاطنين خارجها وعلى أمم الأرض جميعاً. والعراق لم يكن غريباً عن سكان الجزيرة العربية، وكان امتداداً لمنازلها وداراً لهجراتها، كانوا ينتقلون إليه ويسكنونه، كما كانوا ينتقلون إلى الشام ويسكنونها. وكان الفرس هنا كما كان الروم هناك يجدون في هذه القبائل التي تقارب حياتها حياة الحَضَر، أداة تكفيهم من خطر العرب. وكانت العلاقات بين الفرس والمناذرة[ر] تختلف تبعاً للظروف والأوضاع، ولم يستقم الأمر في مرة على حال معينة أمداً طويلاً، ومهما يكن من أمر هذه الصلات في الجاهلية، فقد كان العراق هدفاً من أهداف حركة الفتوح الإسلامية، ولذلك لم يكد خالد بن الوليد يفرغ من حروب الردة، حتى كتب إليه الخليفة أبو بكر وهو في اليمامة أن يمضيَ إلى العراق، فيدخلها من أسفلها، وكتب كذلك إلى عياض بن غنم أن يأتي المصيَّخ ويدخل العراق من أعلاها، وأيهما سبق إلى الحيرة فهو أمير على صاحبه.
    يمكن تلخيص حركة فتح العراق في المراحل الآتية:
    المرحلة الأولى تبدأ بمسير خالد من اليمامة، وكانت المعركة الأولى في طريقه معركة ذات السلاسل في الكاظمة، وكان على رأس الفرس عامل كسرى على ثغر الأُبلَّة هرمز، أسوأ أمراء الفرس جواراً للعرب، وكان العرب قد ضربوه مثلاً للخبث، حتى قالوا: «أخبث من هرمز، وأكفر من هرمز». انهزم الفرس وقتل هرمز، وهربت البقية من الجيش الفارسي، وجمع خالد ما خلَّفوه من متاع وفيها السلاسل التي كان أفراد الجيش الفارسي يقيِّدون أنفسهم بها.
    وتُعدُّ معركة المذار (صفر 12هـ/633م) المعركة التالية في الأهمية، انتصر فيها خالد على القائد قريانس الذي سيره كسرى أردشير مدداً لفلول هرمز. ومما يلفت الانتباه في معركة المذار، ما يتحدث به الطبري عن المعاملة الحسنة التي عامل بها خالد فلاحي العراق الذين أجابوا إلى الخراج، فأقرَّهم على أرضهم وحُفظت لهم حقوقهم وعدّوا ذمةً للمسلمين.
    تتالت بعد المذار المعارك على الجبهة الشرقية حتى وصل خالد إلى الحيرة، فوزع قادته على حصونها، وطلب منهم أن يبدؤوا بالدعاء أي أن يعرضوا عليهم الإسلام أو الجزاء أو المنابذة (القتال) فإن قبلوا قبلوا منهم، وإن أبوا إلا المنابذة يؤجلوهم يوماً. فلما انقضى الأجل انقضَّ المسلمون على من في الحصون، وبعد مفاوضات بين خالد وزعماء الحيرة، ذَكَّرهم فيها خالد بعروبتهم، وأوضح لهم ما يحمله الإسلام من الإنصاف والعدل، اتفق وإياهم على أن يدفعوا الجزية. وبعد أن استقام لخالد ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد، استخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو، وعيَّن عدداً من القادة على المناطق المختلفة ثم توجه إلى الأنبار، ولما رأى شيرزاد صاحبها أنه لا قِبل له بالصمود في وجه خالد صالحه على ما أراد على أن يخلي سبيله متعهداً ألاّ يأخذ شيئاً من مال أو متاع فقبل خالد وخلَّى سبيله. وبعد أن فرغ خالد من فتح الأنبار قصد عين التمر فدانت له. وبعدها كانت معارك عديدة أهمها الفِِرَاضُ وهي على تخوم الشام والعراق، ويذكر الطبري أنه لما اجتمع المسلمون بالفراض حميت الروم واغتاظت، واستعانوا بمن يواليهم من مَسَالح أهل فارس، وأنه جَرت معركة بين خالد وبين جيش مكَّون من الفرس ورجالات القبائل والروم، وأن النصر كان فيه لخالد وأن عدد القتلى من الأعداء كان كبيراً. ثمَّ أمر أبو بكر خالد بن الوليد بالتوجه إلى الشام لدعم جيوش المسلمين فيها.
    تبدأ المرحلة الثانية من فتوح العراق مع خلافة عمر بن الخطاب الذي ندب الناس مع المثنى بن حارثة أمير جيش العراق، وكان أبو عبيدة بن مسعود الثقفي أول منتدب، وتبعه عدد كبير من الناس. وكانت أولى المعارك التي خاضها أبو عبيدة هي معركة النمارق التي كان الفرس قد أعدوا لها القوى الداخلية، وعبؤوا الجند ولقوا المسلمين فيها من خلفهم ومن بين أيديهم ومن أمامهم، ولكن النصر كان للعرب، كما انتصر أبو عبيدة في معركة السقاطية بكسكر. ولكن المعارك لم تستقم في نسق واحد، فالنصر الذي حققه المسلمون في المعارك السابقة، قابلته هزيمة الجسر في منطقة قس الناطف على الفرات،وكانت هذه المعركة انتكاسة كبيرة للعرب كادت أن تفقدهم جميع ما حققوه من انتصارات في العراق، وقتل في هذه المعركة جمع كبير من القوات العربية، كان من بينهم أبو عبيدة نفسه، كما جرح المثنى ولكنه استطاع بفضل حنكته وإقدامه تخليص العرب من الفناء بالانسحاب، ثمَّ تمكن بالمدد الذي أرسله إليه عمر ابن الخطاب أن ينتقم لهزيمة الجسر في معركة البويب التي كان من نتائجها سيطرة المسلمين على السواد كله (جنوبي العراق)؛ أي المنطقة الممتدة بين الفرات ودجلة.
    شعر الساسانيون بخطورة الموقف، ولهذا اجتمع ملوك الفرس وحلّوا مشكلة وراثة العرش واتخذوا يزدجرد لرئاستهم، فأخذ يزدجرد يجمع القوى ويحشد الجند ويسمي الجنود لكل مسلحة كانت للفرس أو موضع ثغر، فسمى جند الحيرة والأنبار والأبلة، وثار سكان هذه المناطق على المسلمين.
    قابل المسلمون التجنيد العام بمثله، واجتمع عند عمر جيش كبير انتخب لقيادته الصحابي سعد بن أبي وقاص الذي سار حتى وصل القادسية[ر] قرب الكوفة، حيث جرت المعارك الحاسمة سنة 14هـ، والتي انتصر فيها العرب انتصاراً ساحقاً، ثمَّ تقدم المسلمون نحو المدائن التي تمَّ فتحها سنة 16هـ، وخاضوا في الطريق إليها عدداً من المعارك مع الفرس الذين سعوا إلى إنقاذ المدائن عاصمتهم، وقد أعقب ذلك انسحاب الفرس إلى حُلْوان التي كانت مركزاً حصيناً على حافة المرتفعات الفارسية، فكانت معركة جلولاء على الضفة اليمنى من نهر ديالي أواخر عام 16هـ، فهزم الله الفرس وأصاب المسلمون بها من الفيء أفضل مما أصابوا بالقادسية، فغادر يزدجرد حُلْوان إلى إقليم فارس، حيث جرت الموقعة الكبرى التي يطلق عليها العرب فتح الفتوح في نهاوند[ر] جنوبي همذان سنة 21هـ. كانت هزيمة الفرس في نهاوند إيذاناً بسقوط المقاومة المنظمة كلها، وتابع المسلمون تقدمهم حتى غلبوا على أصفهان ثم اصطخر ثم تساقطت مدن خراسان في أيدي الأحنف بن قيس[ر]، وقُتل يزدجرد بعد سلسلة من التنقلات في مرو سنة 31هـ/651م في خلافة عثمان بن عفان، وكان مقتله مؤشراً واضحاً على انهيار المقاومة الفارسية واختفاء الأسرة الساسانية عن عرش إيران، وقد بلغ المسلمون حدود نهر جيحون، وكتب عمر فيما يروي الطبري إلى الأحنف «لا تجوزنّ النهر واقتصر ما دونه».
    وبينما كان المسلمون يصلون حدود النهر، كانت جيوش أخرى تجتاز الخليج فتنساح في منطقة فارس وفي سواحل كرمان، ثم تتقدم بعد ذلك إلى مكران، ولكن هذه لم يتم فتحها إلا في خلافة معاوية بن أبي سفيان.
    تحرير بلاد الشام والجزيرة

  • #2
    كانت الشام والطريق المؤدية إليها محط اهتمام الرسول r في الفترة الأخيرة من حياته، ويتضح هذا من نشاطاته العسكرية في شمال الحجاز وأطراف الشام الجنوبية (مؤتة 8هـ، ذات السلاسل 8هـ، تبوك 9هـ)، ويمكن أن يُردَّ اهتمام الرسول إلى عوامل مختلفة، فالشام طبوغرافياً امتداد طبيعي للجزيرة العربية، وللشام مكانتها الدينية ولاسيما القدس التي كانت قبلة المسلمين قبل مكة، وكان إسراء الرسول r إليها ومعراجه منها، يضاف إلى ذلك كثرة القوافل التجارية التي كانت تتجه إلى القسم الجنوبي من بلاد الشام إلى غزة وبصرى، وكثرة القبائل العربية المتواجدة في هذه المنطقة التي أطلق عليها الطبري اسم أرض قضاعة ويعني بها أرض فلسطين.
    وكان بَعثُ أسامة بن زيد، أول عمل عسكري جرى زمن أبي بكر في بلاد الشام، ومعروف أن الهدف المعلن من بعث أسامة كان ما أعلنه الرسول r عن رغبته في الانتقام من قتلة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة شهداء مؤتة[ر]، وأن أبا بكر إنما أراد أن ينفِّذ رغبة رسول الله r، على الرغم مما كانت تعانيه المدينة في تلك الآونة من مشكلات نتيجة لأحداث الردة، وكان بَعثُ أسامة في الواقع يهدف إلى سبر قوة العدو البيزنطي، وتعرُّف أحواله وردود فعله، وجدية القبائل العربية وقوتها ومدى تضامنها مع الروم للسير قدماً في تحقيق هدف دولة الإسلام الأولى، لذا التفت أبو بكر إلى الشام في أوائل عام 13هـ/634م، وسيَّر إليها جيوشاً قوامها رجال مخلصون وقفوا إلى جانبه في محنة الردة.
    ولو تتبع الباحث أنباء هذه الجيوش محاولاً تصنيفها لوجد نفسه أمام فيض متدفق من الروايات والأسماء والقيادات. ويبدو أن هذا الفيض من الروايات يعود إلى ما كان من كثرة البعوث من جهة، وإلى الخلط الذي كان بين الجيش والإمداد وإلى إهمال الفواصل الزمنية في بعض الروايات من جهة أخرى، ويمكن التمييز في الروايات المتعددة التي تتحدث عن وقائع الجيوش الإسلامية في بلاد الشام أنها تنتظم في مرحلتين:
    المرحلة الأولى التي تركز فيها نشاط القادة العرب على نحو أساسي في المناطق التي كانت القبائل العربية تؤلف فيها الأكثرية السكانية وليس حول مدن الشام الرئيسية: دمشق، القدس، غزة، بصرى، أو المدن الساحلية المهمة العديدة. أما في المرحلة الثانية فقد اشتبك الجيش العربي مع العناصر البيزنطية في معارك كبرى، انتهت إلى التغلب على الشام ومطاردة البيزنطيين، وفتحت للجيش في الشمال الطريق إلى الجزيرة وما وراءها وفي الجنوب الطريق إلى مصر وما دونها.
    تبدأ هذه المرحلة عندما طلب الخليفة أبو بكر من خالد بن الوليد أن يترك قيادة القوات العربية في العراق للمثنى بن حارثة، وأن يتوجه مع قسم من جيشه إلى الشام لرفد الجيوش العربية هناك. وقام خالد بقطع الصحراء في زمن قياسي لا يتجاوز خمسة أيام، وصل بعدها إلى الشام في ربيع الآخر سنة 13هـ، وقصد بصرى حيث التقى بيزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وأبي عبيدة ابن الجراح، واشترك معهم في فتح بصرى، أول مدن الشام التي فتحت في خلافة أبي بكر، ثم اتجه الجميع جنوباً لنجدة عمرو بن العاص في وادي عربة. ولما علم البيزنطيون بهذا التجمع العسكري العربي غَيَّروا خطتهم وقصدوا أجنادين[ر]، حيث جمعوا قواتهم في وحدة متراصة، ولكن القوات العربية انتصرت عليهم انتصاراً ساحقاً في جمادى الأولى سنة 13هـ فاضطروا إلى التراجع، وأخذوا يعدون العدة لمواجهة العرب ثانية، فكانت معركة اليرموك[ر] التي كانت القيادة العليا فيها لخالد بن الوليد، وكان القتال عنيفاً استبسل فيه الطرفان، وبينما المعارك ناشبة، جاء صاحب البريد من المدينة يحمل خبر موت أبي بكر ومبايعة عمر بن الخطاب خليفة للمسلمين، وعَزلِ خالد عن إمارة الجيش المقاتل في اليرموك، وتسليم الإمرة إلى أبي عبيدة بن الجراح الذي أخفى الأمر عن الجيش، وتابع خالد القتال حتى النصر.
    ثمَّ سار أبو عبيدة نحو دمشق في المحرم سنة 14هـ، وحاصرها حصاراً عنيفاً بالزحوف والترامي والمجانيق، ولما أيقن حكامها بالهلاك لعدم وصول الإمدادات إليهم وهنت عزائمهم، وتختلف الروايات في كيفية وقوع الصلح وشروطه وفي تاريخ الفتح ومدة الحصار، وأغلب الظن أن المدينة فُتحت في قسم منها حرباً وفي قسم منها صلحاً. ويذكر ابن عساكر نص الكتاب الذي كتبه أبو عبيدة على لسان أهل دمشق بمناسبة عقد الصلح، والكتاب موضع نقاش بين المؤرخين.
    ترك أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان في دمشق، وتوجَّه مع بقية قادته إلى فِحل من أرض الأردن حيث انتصروا على الروم انتصاراً باهراً، وانصرف أبو عبيدة مع خالد من فحل إلى حمص وتركا شرحبيلَ وعمراً في الأردن وفلسطين.
    ويبدو من تتبع الفتوح بعد ذلك، أن هزيمة اليرموك وفتح دمشق وانتصار العرب في فحل كان بمنزلة تسليم زمام بلاد الشام إلى المسلمين، لأنه مكّنهم من السيطرة على هذه المنطقة المتوسطة من الشام التي تحمي ظهورهم بالبادية، وأن يتوجهوا منها شمالاً وجنوباً. أما في الجنوب فينتهي بهم الأمر إلى فتح بيت المقدس سنة 17هـ/638م، وإلى السيطرة على قيسارية وهي مـدينة ساحلية أتاح لـها مركـزها الساحلي أن تتلقى إمـداد الـروم بحـراً، ولكنها استسلمت أخيراً سنة 19هـ/640م. وفي الشمال توالت الفتوح بعد حمص، ودخلت الجيوش الإسلامية حماة وشيزر وقنسرين وحلب وأنطاكية حصن المسيحية الحصين، ثمَّ توجَّهت بعد ذلك إلى الشرق إلى الجزيرة التي كانت أسهل البلدان فتحاً، والتي كان يقطنها كثير من العرب قبل الإسلام، وقد تناوشت هذه البلاد قبل الإسلام أيدي الروم والفرس، ولم يكن لها كيان مستقل، وقد جاء فتح العرب للجزيرة منسجماً مع السير في حركة الفتوح الإسلامية، لأن الاكتفاء بالشام كان معناه فقدها بعد قليل، وكان اهتمام العرب بتأمين فتوحاتهم هو الذي أدّى إلى بسط رقعتها، توخياً لحماية أفضل، ولاسيما أن إقليمي الجزيرة وشمالي الشام كانا وحدة تتمم بعضها بعضاً، من حيث ارتباط حصونها وتعرضها لغارات البيزنطيين.
    وكما اتصلت فتوح الجزيرة بفتوح الشام، اتصلت فتوح أرمينيا بفتوح الجزيرة، لكي يؤمن المسلمون ثغور الجزيرة في موقعها الحساس، وكانت أرمينيا قبل الفتح الإسلامي منقسمة إلى قسمين، وقع القسم الأكبر وهو الجزء الشرقي من أراضيها تحت التبعية الفارسية، والجزء الغربي الأصغر تحت النفوذ البيزنطي. وعندما جمع الخليفة عثمان بن عفان (23-34هـ) الشام والجزيرة لمعاوية، غدت مسائل الحدود تعالج بنشاط أكبر، فتوجهت حملات عدة من الثغور الجزرية بقيادة حبيب بن مسلمة الفهري الذي استولى على عاصمة أرمينيا البيزنطية تيودوسيبوليس (قاليقلا في المصادر العربية)، وبعد ذلك أمدّه معاوية بجيش آخر لاستكمال الفتح، وجرت بينه وبين البيزنطيين على أرض أرمينيا معارك عديدة انتهت بسيطرة العرب على هذا الجزء من أرض أرمينيا، وتابع بعد ذلك زحفه على القسم الفارسي حتى بلغ مدينة دفين Dwin (دبيل في المصادر العربية)، وأتم حبيب بن مسلمة فتح أرمينيا بوصوله إلى مدينة تفليس، حيث عقد صلحاً مع أهلها مقابل اعترافهم بالسيادة الإسلامية. وحين قامت الفتنة سنة 34هـ، اضطر معاوية إلى سحب قواته المرابطة في أرمينيا ليستخدمها في صراعه مع الخليفة علي بن أبي طالب، وقد أدَّى انسحاب الجيش الإسلامي من أرمينيا إلى حدوث فراغ استغله البيزنطيون لاسترجاع سيادتهم على هذا الموقع الحساس، على أنه ما كادت الخلافة تؤول إلى معاوية سنة 41هـ حتى استعاد هذا الإقليم، وعادت أرمينيا إلى التبعية العربية طوال فترة الحكم الأموي.
    فتوح مصر
    أصبح فتح مصر ضرورة بعد فتح الشام، وذلك لتأمين الفتوح الإسلامية فيها، ولتأمين المدينة المنورة نفسها مركز الخلافة لأنها قريبة من مرفأ القلزم على البحر الأحمر، ولا يبعد أن يرسل الروم حملة من تلك الناحية تنتقم لما حلَّ بممتلكاتها في الشام، وغالباً ما خضعت مصر والشام في العصور المختلفة لحكم دولة واحدة، لأن كليهما يتمم الآخر، فلا يمكن جعل الحدود بين القطرين حداً منيعاً فاصلاً، كما أن كليهما كان يقع على طريق التجارة العالمية بين الشرق والغرب، فكانت تربطهما مصالح تجارية وحربية واحدة.
    سار عمرو بن العاص من قيسارية بفلسطين إلى مصر، على رأس جيش مكون من أربعة آلاف مقاتل وقِيْلَ ثلاثة آلاف وخمسمئة في سنة 18هـ/639م، ووصل إلى العريش ومنها إلى الفَرَمَا حيث لَقي أول مقاومة من الجنود البيزنطيين استوقفته شهراً، ولكنه تغلب عليها في أوائل سنة 19هـ. ثم تابع سيره حتى بلغ أم دنين، حيث نشب قتال عنيف بين المسلمين والبيزنطيين الذين تحصنوا في حصن بابليون الذي كان العرب يسمونه قصر الشمع أو الحصن. ويظهر أن المقاومة البيزنطية في الحصن كانت شديدة، بدليل أن عمرو بن العاص استنجد بالخليفة عمر بن الخطاب الذي أمده بأربعة آلاف مقاتل، وقد حاصر العرب الحصن إلى سنة 20هـ. ويذكر المؤرخون أن المقوقس صاحب مصر حين رأى أن لا قبل لبيزنطة بالعرب، وأن حصارهم سيطول وأنهم سيقتحمون الحصن خرج هو ونفر من الأشراف وطلبوا الصلح من عمرو بن العاص، وبعد نقاش طويل قبل المقوقس الشروط ولكنه اشترط أن لا يبت في أمر الروم نهائياً إلا بعد أن يكتب إلى هرقل بذلك، وكان جواب هرقل وجوب محاربة المسلمين والانتصار عليهم، ولما كان الوضع الداخلي في مصر والخلافات الدينية بينها وبين القسطنطينية قد وصلت إلى حدِّ التأزم، فقد قرر المقوقس ألاّ ينصاع إلى أمر هرقل وأن يلتفت إلى العرب يجري معهم الصلح المطلوب.
    تبدأ المرحلة الثانية بفتح الإسكندرية، عاصمة البلاد وثغرها في العصر الإغريقي والروماني، وثانية حواضر بيزنطة في الشرق بعد أنطاكية.
    سار عمرو لمحاصرتها وأخذ في تحطيم المقاومة التي صادفها في طريقه حتى وصل الإسكندرية وألقى عليها الحصار، وكان البيزنطيون يدركون أهمية الإسكندرية التجارية والبحرية والحربية، ويعرفون جيداً أنه إذا أخفق العرب في فتح الإسكندرية فلا فائدة من استيلائهم على مصر كلها، إذ ستظل الإسكندرية شوكة في جانبهم.
    ويُقال إن هرقل استعد للخروج لمباشرة حرب الإسكندرية بنفسه، ولكنه توفي في 11 شباط 20هـ/641م قبل أن يفعل شيئاً. ويبدو أن المقاومة في الإسكندرية كانت شديدة، ولا عجب فقد كان الروم يسيطرون على البحر وكان المدد يأتي إليهم عن هذا الطريق، إضافة إلى ذلك مناعة حصون الإسكندرية التي كان يحميها من جهة البر الغياض والبحيرات وترعة الإسكندرية. على الرغم من كل هذه العوامل، فقد مكّن الله المسلمين من فتح الإسكندرية عنوة، وأجبروا البيزنطيين وقواتهم ورجال الإدارة منهم على الرحيل عنها، ودخل عمرو المدينة وعدَّ أهلها ذمة يحق لمن أراد منهم الخروج أن يخرج ومن أراد الإقامة أن يقيم.
    عقب سقوط الإسكندرية، امتد نفوذ العرب تدريجياً إلى سائر أقاليم مصر ثمَّ اتجه عمرو إلى برقة عقب الانتهاء من فتح مصر مباشرة، لتأمين مركز العرب في مصر ففتحها وفرض على أهلها الجزية، وفي 22هـ غزا عمرو طرابلس ويقال إنه غزاها سنة 23هـ، وفكر بعد فتحها أن يغزو بلاد المغرب كلها، إلا أن عمر بن الخطاب نهاه عن ذلك، وربما تخوف الخليفة من تفرق المسلمين في بلاد كثيرة ولمَّا تثبت أقدامهم فيها بعد.
    وينبغي ملاحظة أن فتح مصر النهائي واستخلاصها من أيدي البيزنطيين، لم يتم إلا في سنة 25هـ/645م عندما عاود الروم الهجوم على الإسكندرية في عهد الامبراطور كونستانز الثاني Constans II خلال (21-48هـ/641-668م) الذي أرسل أسطولاً كبيراً هدفه إبعاد العرب عن مصر إبعاداً تاماً، واستولى الجيش على الإسكندرية، وزحف باتجاه بلاد مصر السفلى، وتزعزع مركز العرب في مصر، وكان الوالي آنذاك هو عبد الله بن سعد بن أبي السرح من قِبل الخليفة عثمان بن عفان، ولذا سأل أهل مصر الخليفة أن يرسل عمرو بن العاص لمحاربة الروم لأن له معرفة وخبرة بحربهم، وتمّ جلاء الروم عن مصر على يديه واستولى ثانية على الإسكندرية عنوة، ثمَّ صَالح أهلها كما قتل قائد جيش الروم.
    الفتوحات في العصر الأموي
    كان للأوضاع الداخلية للدولة الإسلامية انعكاسها على سياستها الخارجية من جهة، وعلى حركة الفتح عموماً من جهة أخرى. ويتضح هذا بدءاً من سياسة الخليفة معاوية الذي لم يول النشاط العسكري على الجبهة الشرقية الاهتمام نفسه الذي أولاه لحروبه مع الروم البيزنطيين براً وبحراً، لأنه وجد أن الروم يتربصون بدولته على أكثر من جبهة، وأنّ قربهم من عاصمته يجعل خطرهم مباشراً، ولذلك وجَّه اهتمامه إلى أرمينيا فاستعادها من البيزنطيين، ثم أخذ يحاول السيطرة على الجزر القريبة من الساحل الشامي، ففتح المسلمون قبرص وأرواد ورودس سنة 53هـ، فتحها جنادة بن أمية الأزدي، ثم التفت معاوية للمغرب العربي الذي كان البيزنطيون يسيطرون فيه على الشريط الساحلي الممتد من طرابلس إلى طنجة في المغرب الأقصى.
    فتوح المغرب والأندلس
    قام العرب منذ خلافة عثمان (23-34هـ) وفي فترة تزيد على العشرين عاماً بغزوات اقتصرت على ولاية إفريقية البيزنطية ولكنهم لم يستقروا فيها، ولعلّ أول من خطا نحو توطيد الفتح العربي في المغرب هو عقبة بن نافع[ر] الذي ولاه الخليفة معاويـة عـلى إفـريقية وقيادة الفتـح فيها سنة 50هـ/670م، فرأى أن يتخذ للمسلمين مدينة تكون عزاً للإسلام إلى آخر الدهر، فكان بناء القيروان[ر]، وقد استتبع بناؤها نتائج على درجة كبيرة من الأهمية، إذ لم يكد يتم تخطيطها حتى ظهرت ولاية إفريقية الإسلامية، وبدأت أنظار العرب تتجه إليها إذ أصبح لهم فيها عاصمة أو مركز يتبعه الإقليم.
    لم يكد عقبة ينتهي من بناء مدينة القيروان سنة 55هـ/675م، حتى قام والي مصر مسلمة بن مخلد بعزله، وتعيين مولاه أبي المهاجر دينار مكانه، وأمضى الوالي الجديد سبع سنوات في ولايته قام فيها بغزوات وصلت حتى أقصى شمالي ولاية إفريقية أي إلى منطقة تونس الحالية، كما اتجه في غزواته غرباً ووصل إلى أبواب تلمسان. وفي سنة 62هـ/681م أعاد يزيد بن معاوية عقبة بن نافع إلى ولاية إفريقية ليقوم بحملته المشهورة التي اخترق فيها المغرب حتى أقصاه ليصل إلى المحيط الأطلسي، حيث تنسب إليه الرواية قوله المشهور: «يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك». وفي أثناء عودة عقبة من المغرب الأقصى ومحاولته استعادة مدينة تهودة، هوجم من قبل كُسَيلة زعيم قبائل أَوْربة مع حلفائه من الروم، واستشهد سنة 65هـ، مع أصحابه ودفن في منطقة تهودة، وطغى اسمه على المدينة التي أصبحت تعرف باسم سيدي عقبة.
    لم تقتصر النكسة على مقتل عقبة ومن معه، بل تعدت إلى ما كسبه المسلمون في إفريقية، فقد اتجه كسيلة وحلفاؤه نحو القيروان، وتراجع زهير بن قيس البلوي نائب عقبة على القيروان إلى برقة، ودخل كسيلة القيروان ليبقى فيها أميراً قرابة أربع سنوات مستفيداً من وضع المركز الحرج آنذاك، حيث توفي يزيد بن معاوية سنة 64هـ، وافتتحت بوفاته مرحلة الاضطراب الذي انتقلت فيه الخلافة من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني، فلما استقرّت الأمور نسبياً لعبد الملك أرسل زهير بن قيس البلوي إلى إفريقية لقتال كسيلة، فالتقى به وبحلفائه من الروم سنة 69هـ/688م وانتصر زهير وقُتِل كسيلة. ويذكر ابن الأثير أنه قُتِل مع كسيلة رجال من البربر والروم وملوكهم وأشرافهم، ولكن الروم البيزنطيين استغلوا غياب زهير عن برقة ليغيروا عليها، ووافق ذلك قدوم زهير بن قيس من إفريقية إلى برقة فباشر قتالهم، ولكن الروم تكاثروا عليه، فقتلوا زهيراً وأصحابه ولم ينج منهم أحد، وعظم الأمر على الخليفة عبد الملك، ولكنه لم يَرُدَّ على هذه الضربة بسرعة لانشغاله بأمر منافسه على الخلافة عبد الله بن الزبير[ر]، ولكنه ما إن قضى على الحركة الزبيرية حتى عَيَّنَ ولأول مرة رجلاً من أهل الشام هو حسّان بن النعمان الغساني الذي غادر الشام سنة 73هـ/692م.
    ركَّز حسان هجومه أول الأمر على الروم وقاعدتهم البحرية والإدارية قرطاج Cartagena، واحتلها إلا أنه أخفق أمام الخصوم الآخرين من بربر الأوراس بزعامة الكاهنة[ر]، التي كان جميع من بإفريقية من الروم خائفين منها وجميع البربر لها مطيعين، فاضطر إلى التراجع إلى برقة حيث أقام بها وبنى هناك قصوراً عرفت بقصور حسان.
    ملكت الكاهنة المغرب كله بعد حسان خمس سنوات، ولجأت إلى تخريب القرى والعمران حتى تزيل مطامع العرب في إفريقية حسب رأيها، وهذا ما أوقع بينها وبين المستقرين من أفارقة وروم، وقدّم ذلك لحسان فرصة مواتية في الوقت الذي وصلت فيه إمدادات جديدة، فسار ثانية نحو إفريقية، حيث استُقبل بالترحاب، وتوجَّه بعد ذلك إلى بلاد الجريد حيث الكاهنة التي جابهته في موقعتين قُتِلت في الثانية منهما بعد مطاردتها إثر هزيمة جيشها.
    عاد حسان بعد انتصاره إلى القيروان ليقوم بتوطيد الفتح وسلطان المسلمين، فدوّن الدواوين سنة 82هـ، وصالح على الخراج وكتبه على عجم إفريقية وعلى من أقام معهم على دين النصارى، وأراد حسان أن يأخذ الساحل من الروم، فاتجه إلى إنشاء قاعـدة بحريـة جديدة تحل مكان قرطاج، وهذه القاعدة البحرية هي تونس[ر] التي بنيت خلف بحيرة متصلة بالبحر بمدخل ضيق يمكن إغلاقه. وبإنشاء هذا الميناء الجديد اضمحلّ شأن قرطاج وانصرف الناس عنها، ولم تعد مدينة يرغب البيزنطيون باستردادها.
    كان بناء مدينة تونس، ثم بناء دار صناعتها نقطة تحول في تاريخ الحوض الغربي للمتوسط، فلم يعد النشاط البحري فيها وقفاً على البيزنطيين، بل دخل العرب في الميدان، وكان اهتمام ولاة بني أمية بدار الصناعة في تونس وبناء السفن فيها هو الذي مهّد وساعد على غزو صقلية[ر]، في أيام زيادة الله الأول الأغلبي سنة 212هـ/827م الذي انتهى بفتحها سنة 264هـ/877م وإخراج البيزنطيين منها.
    عُزِل حسان الذي أتّم فتح ولاية إفريقية، ووطد سلطان المسلمين بها سنة 87هـ، وعُيّن مكانه موسى بن نصير الذي استطاع بسرعة فتح المغرب كله ما بين 87-90هـ، ومع أن الروايات حول خط سيره مضطربة، ولكن يستفاد منها أن المراحل الرئيسية كانت عبوره المغرب الأوسط من الداخل، ثم تجاوزه له والوصول إلى شمال المغرب الأقصى حيث فتح طنجة، وانحداره أخيراً للجنوب حتى سِجِلْماسَة ودرعة.
    بينما كان العرب يُتِمون فتح الشمال الإفريقي كله باستثناء سبتة التي استعصت عليهم لأنها محاطة بالبحر من جميع الجهات ويصلها بالبحر عنق ضيق، كانت إسبانيا تعاني في نهاية القرن السابع وأوائل الثامن للميلاد أزمةً اقتصادية اجتماعية أسفرت عن نقمة السكان من الفلاحين عامة، وأزمة دينية نجمت عن سيطرة الإكليروس واضطهاد اليهود، وأزمة سياسية تمثَّلت بصراع على العرش بين وقله وارث العرش الذي لم يعترف به النبلاء وبين زعيم النبلاء لذريق Roderich Rodrigo الذي اغتصب العرش سنة 90هـ/708م، وفي الوقت الذي كان فيه موسى يتحرق لفتح سبتة وصلت رسالة من يوليان Julian حاكم سبتة يعرض على موسى بن نصير استسلام سبتة للعرب ويدعوهم إلى فتح إسبانيا.
    وكان يوليان الذي يرجح كونه والياً بيزنطياً قد متَّن علاقته بالأسرة القوطية Goths المالكة في إسبانيا لعزلته، إثر تقلص النفوذ البيزنطي في بقية الشمال الإفريقي بعد الفتح العربي الإسلامي، فلما انتصر لذريق لجأ إلي يوليان أفراد من الأسرة المالكة القوطية بعد اغتصاب العرش منها. وعندما طرق العرب باب مدينته وجد الفرصة للتحالف معهم ضد لذريق غاصب عرش إسبانيا.
    اتصل موسى بن نصير بالخليفة الوليد بن عبد الملك الذي وافق على القيام بالفتح، على أن تسبقه حملة استطلاعية يقوم بها العرب أنفسهم لاختبار مدى صدق يوليان، ومن أجل تلك الغاية أنفذ موسى حملة بقيادة طريف بن مالك سنة 91هـ، فسار في أربع سفن ونزل شبه الجزيرة التي عرفت فيما بعد باسم ميناء طريف Tarifa، فأصاب غنائم كثيرة وعاد إلى موسى ليخبره بما تمّ معه. حينذاك لم يبق لدى موسى شك في إمكانية نجاح الفتح فعهد إلى مولاه طارق بن زياد بإتمام هذه المهمة.
    نجح المسلمون بقيادة طارق بن زياد ثم بقيادة موسى بن نصير وطارق في أن يستكملا فتح إسبانيا التي أطلق عليها العرب اسم الأندلس ما بين سنة 92 وسنة 95هـ، وهو الاسم المحلي لمنطقة جنوب شرقي إسبانيا Andalucia.
    وعند وادي لكة[ر] جرت بين الجيش الإسلامي وجيش لذريق معركة استمرت أسبوعاً ابتداءً من 28 رمضان سنة 92هـ/19 تموز 711م انتصر فيها العرب انتصاراً حاسماً، وانتهت باختفاء لذريق من المعركة وهزيمة جيشه. وأدّى ذلك إلى اختلال كبير في القوى، فبينما تحطمت القوة القوطية بسبب فداحة الخسائر التي لحقت بجيشها، حصل طارق بن زياد على تغطية لخسائره، وزيادة في قواته بفضل ما غنمه من خيول كثيرة كانت كافية لإركاب جيشه، وإعطائه قوة في الحركة، وعلى صعيد الرجال تقاطرت أعداد كبيرة من المغرب إلى الأندلس بعدما علموا بالنصر المؤزر الذي أحرزه إخوانهم.
    تلا هذه الخطوة خطوة أخرى، فقد وجد طارق أنه لابد من متابعة السير لاستئصال شأفة القوى القوطية المعادية، فاتجه شمالاً حيث كانت فلول الجيش القوطي قد تجمعت عند مدينة استجة في محاولة للتصدي للجيش الإسلامي. وعلى الرغم من المقاومة العنيفة حقق العرب نصراً كبيراً على خصومهم، ثم اتجه طارق بناءً على نصيحة يوليان إلى طليطلة Toledo العاصمة، حتى لا يفسح المجال للنظر في أمرهم وجمع الفلول المهزومة وتجنيد غيرها، فترك طارق فرقاً من جيشه أمام كل مدينة لحصارها، واندفع بكتلة الجيش الرئيسية إلى طليطلة حيث حقق المفاجأة، وأدركها قبل أن يتدبر أهلها أمر الدفاع عنها، لذا غادرها النبلاء والإكليروس مذعورين، وسقطت المدينة من دون مقاومة على الرغم من حصانتها الطبيعية والصنعية.
    بعد فتح طليطلة سار طارق متجهاً نحو الشمال الشرقي، ووصل إلى وادي الحجارة Guadalajara، ثمَّ عاد إلى طليطلة حيث جاءت أوامر موسى بن نصير والي إفريقية بوقف الفتح ريثما يصل، وكان ذلك بعد عام واحد من بدء العمليات الحربية في الأندلس.
    هناك أكثر من تعليل عند المؤرخين لأمر موسى طارقاً بوقف الفتح، ولكن طبيعة الظروف التي كانت تحيط بالفتح الإسلامي آنذاك تجعل الباحث يثق بالروايات على قلتها، القائلة بأن موسى أتى إلى الأندلس لمصلحة الفتح، ورفض الروايات الأخرى على كثرتها. فمن المعلوم أن طارقاً اخترق الأندلس من أقصى الجنوب إلى ما فوق الوسط اختراق السهم، وبقيت البلاد من الجانبين غير خاضعة للمسلمين تتجمع فيها حاميات قوطية، وهذا يجعل خط الفتح الإسلامي عرضة للانقطاع، ولذلك فإن موسى بن نصير عندما عبر إسبانيا اتجه غرباً، وبدأ عملياته العسكرية بالتوجه إلى شذونة التي فتحها ثم فتح قرمونة Carmona، ثم ألقى الحصار على إشبيلية أشهراً حتى استسلمت، ثم تابع سيره شمالاً فحاصر ماردة Mérida، وخاض معارك عدة مع حاميتها التي استسلمت يوم الفطر عام 94هـ. وسار موسى من مدينة ماردة يريد طليطلة، فخرج طارق للقائه وقضيا فترة الشتاء فيها، حيث وطد موسى مظاهر السيادة الإسلامية على العاصمة القوطية، وبعد ذلك سار موسى إلى الشمال ففتح لاردة Lerida ومنها انعطف شرقاً ففتح طركونة Tarragona، ولم يستطع التوسع على الساحل لعودة المولى مغيث من دمشق وإبلاغه أمر الخليفة الوليد بوجوب عودته مع طارق، ليقدما للخليفة الحساب عن نتائج حملاتهما. فتخلى موسى عند ذلك عن استكمال فتح الشمال الشرقي الذي يسهل فتحه، وركز جهوده على فتح المنطقة الشمالية الغربية من شبه الجزيرة التي عرفها العرب باسم جليقية، وهي بلاد جبلية وعرة، كانت مركزاً من أهم مراكز المقاومة القوطية.
    ترك موسى بن نُصير ابنه عبد العزيز أميراً على الأندلس الذي اتخذ من إشبيلية قاعدة له، وقضى على ما بقي من جيوب المقاومة في الأندلس، ولكن الجند اغتالوه بعدما نُكب والده في المشرق، وبعد فترة من الفوضى بقيت فيها الأندلس من دون والٍ تمَّ الاتفاق على تعيين أيوب بن حبيب ابن أخت موسى بن نصير والياً على الأندلس، وقام هذا بنقل الحاضرة إلى قرطبة[ر] Córdoba التي ستصبح قاعدة الولاة والدولة الأموية التي عاشت قروناً عدة بعدها.
    الفتوحات في الجبهة الشرقية
    الفتوح في منطقة ما وراء النهر:
    كان اليونان يطلقون على منطقة ما وراء النهر اسم ترانس أوكسانيا Transoxania، وهي التي تقع بين نهر أموداريا Amudarya (جيحون) وسرداريا Syrdaria (سيحون).
    وقد تكوَّنت في هذه المناطق ممالك مستقلة غير واضحة الحدود، منها: مملكة الخُتَّل وهي على تخوم السند ومملكة الصغد، ومن أشهر مدنها بخارى وسمرقند والصغانيان وأعمالها متصلة بترمذ، ومملكة خوارزم، ومن بلاد ما وراء النهر الشاش وفرغانة، ومنذ سقوط امبراطورية كوشان Kushan أصبحت هذه المناطق تحكم من قبل أمرائها المحليين.
    بدأ العرب منذ أن توطدت أقدامهم في خراسان يقومون بغزوات إلى بلاد ما وراء النهر، ثم يعودون إلى مراكزهم في خراسان شتاءً، وكان الوالي سِلم بن زياد (62-63هـ) أول من عبر النهر وأقام في الشتاء هناك.
    لم تأخذ عمليات فتح بلاد ما وراء النهر شكلاً منظَّماً إلا في خلافة الوليد بن عبد الملك، ففي مستهل خلافته سنة 86هـ ولّى الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراقين قتيبة بن مسلم الباهلي خراسان عوضاً من المفضل بن المهلب.
    إن المنجزات العسكرية التي تحققت على يد قتيبة كافية لأن تضعه في مصاف كبار قادة الفتح العربي أمثال خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة وغيرهم، ولعل أبسط ما يمكن أن يساق للدلالة على صحة هذا الادعاء هو أن الفتوح في هذه المنطقة لم تمتد بعد مقتله سنة 96هـ إلى أبعد من هذا المدى الذي وصلت إليه على يديه. ففي سنة 87هـ غزا بيكند وهي أدنى مدن بخارى إلى النهر وتُعرف بمدينة التجار، واستطاع أن يفتح هذه المدينة بعد قتال شديد. وفي سنة 89هـ مضى قتيبة إلى بخارى لقتال ملكها، ولكنه لم يظفر منه بشيء فرجع إلى مرو وكتب إلى الحجاج بذلك، فطلب إليه الحجاج أن يصورها له، فبعث إليه بصورتها، فكتب إليه بخطة لفتحها. ويبدو أن فتح بخارى كان سنة 90هـ وبعد بخارى فتح سمرقند، فدخلها وأحرق أصنامها وبنى فيها مسجداً، وامتدت فتوحات قتيبة إلى دلتا نهر جيحون عند خوارزم وصالحه ملكها سنة 93هـ، كما امتدت إلى الممالك الواقعة قرب نهر سيحون المتاخمة لبلاد الترك، فغزا الشاش وفرغانة سنة 95هـ وساعده في معاركه هذه أناس من أهل الصغد وخوارزم. وبعث جيشاً إلى كاشغر وهي أدنى مدائن الصين، وأوغل حتى بلغ قرب الصين، وفي هذه الغزوة وصل الخبر إلى قتيبة بموت الوليد بن عبد الملك، فلم يستطع أن يسير أكثر من ذلك، وكان عليه أن يتوقف ليعرف ما سيكون عليه الحال زمن الخليفة الجديد سليمان بن عبد الملك.
    كان من العوامل التي ساعدت قتيبة على تحقيق إنجازاته العسكرية، استغلاله للخلافات المتعددة، التي كانت قائمة بين حكام المدن والمقاطعات العديدة وتنافر مصالحهم وتآمرهم على بعضهم، كما أنه كان ببصيرة القائد المحنك، يربط هؤلاء الحكام بمعاهدات صلح تنص على الإقرار بالخضوع، ودفع ما يُتفق عليه من الأتاوة، ويستبقيهم في إماراتهم، فيرضي بذلك غرورهم ويحول دون تجدد ثوراتهم عليه ليستعيدوا سلطانهم الذي سلبهم إياه.
    الفتوح في منطقة السند:
    لا يسهب المؤرخون في الحديث عن الفتوح في منطقة السند، قبل خلافة الوليد بن عبد الملك، وإذا استثني البلاذري لا يوجد عن هذا الأمر معلومات عند المؤرخين الآخرين الذين يبحثون أمور الفتح. ويذكر البلاذري أن الخليفة عثمان بن عفان كتب إلى واليه على العراق عبد الله بن عامر بن كريز، يأمره أن يوجِّه إلى مكران ثغر الهند شخصاً يستطلع أحوالها، وعاد رسول ابن كريز إلى عثمان، وأخبره بأن «ماءَها وَشَل، وتمرها دَقَل، ولصها بطل، إن قلَّ الجيش فيها ضاعوا وإن كثروا جاعوا» فعزف عثمان عن غزوها، ولم يتم فتح مكران إلا في عهد ولاية زياد بن أبيه على العراق (45-53هـ). واستمرت العمليات العسكرية فيما يسميه العرب بثغر الهند إلى زمن عبيد الله بن زياد، فلما كانت ولاية الحجاج بن يوسف على العراقين (75-95هـ) ولىّ الحجاج محمد بن القاسم الثقفي السند وكان قبلها بفارس، وأمره أن يسير إلى الري وأن يقيم في شيراز بانتظار قدوم الإمدادات إليه، وفعلاً أرسل إليه ستة آلاف مقاتل وجهزهم بكل ما يحتاجون إليه حتى المسال والإبر والخيوط، وكان سير محمد سنة 89هـ، وكانت أولى معاركه المهمة المعركة التي انتهت بفتح الديبل (كراتشي اليوم) فبعد أن نزل الديبل وافته السفن التي كانت تحمل الرجال والسلاح وأدوات الحصار، وبعد حصار طويل ورمي كثيف بالمنجنيق افتتح المدينة عنوة، فحطم كثيراً من أصنامها، وخرّب بعض معابدها، واستبقى فيها حامية قوامها 4000 مقاتل وبنى فيها جامعاً، وكان الحجاج في أثناء عمليات محمد ضد الديبل على صلة دائمة به، ويرسل إليه بتوجيهاته وتعليماته كل ثلاثة أيام.
    بعد فتح الديبل سار محمد باتجاه الشمال، وفتح بعض المدن صلحاً وبعضها عنوة، وبلغ «داهر» ملك السند سيرُ محمد إليه فاستعد للقائه، وجمع جيشاً كبيراً وزوده بالفيلة ليرهب خيل العرب، وجرى قتال شديد بين محمد بن القاسم وداهر، لاقى فيه داهر حتفه بعد أن قُتل كثير من أصحابه.
    بعد مقتل داهر غدا محمد سيد بلاد السند ودخل عاصمتها «الرور» عنوة، ثم قطع محمد نهر بياس الذي يؤدي إلى الملتان، المدينة المقدسة الغنية التي سماها العرب بيت الذهب، ويبدو أن سبب غناها هو الصنم الكبير (البد) الذي كان فيها والذي كان الناس يحجون إليه ويقدمون إليه الهدايا والنفائس. بعد أن فتح محمد الملتان توغل في فتوحاته حتى وصل كشمير، وقد كان لوفاة الحجاج بن يوسف الثقفي والوليد بن عبد الملك سنة 96هـ، والنهاية المؤلمة التي لقيها محمد بن القاسم في خلافة سليمان بن عبد الملك أثرها في توقف الفتوح في تلك المنطقة.
    الفتوحات في جرجان وطبرستان:
    ظلت جرجان بعيدة عن المخططات العسكرية، حتى كانت ولاية يزيد بن المهلب على خراسان (97-99هـ) في خلافة سليمان بن عبد الملك، ويبدو أن الظروف الداخلية في جرجان والنزاع الذي نشب بين المرزبان وجماعته من الترك من أهلها هو الذي سهّل مهمة يزيد، فسار بعد وصوله إلى خراسان بجيش عظيم حتى نزل بدهستان (بلد قريب من جرجان) فحاصرها وقطع المواد عنها، فأرسل (صول) إلى يزيد يسأله الصلح على أن يؤمنه على نفسه وماله وأهل بيته، ويدفع إليه المدينة وأهلها وما فيها، فقبل يزيد ذلك، ثم توجه إلى جرجان فتلقاه أهلها بالأتاوة التي كان سعيد بن العاص في خلافة عثمان قد صالحهم عليها، فقبلها وتوجه إلى طبرستان، جنوبي بحر قزوين وهي منطقة جبلية منيعة حصينة، وكان حاكمها يعرف بالأصبهبذ، فلما جاء الإسلام وافتتحت المدن المتصلة بطبرستان، كان يصالح على الشيء اليسير فيقبل منه لصعوبة المسالك إليها، فلما جاءه يزيد استعان الأصبهبذ بالديلم فقاتله يزيد أياماً ثم صالحه الأصبهبذ على مال اختلف المؤرخون في مقداره، وعلى أن يوجهوا إليه في كل عام 4000 رجل، على كل رجل برنس وطيلسان وجام فضة وكسوة.
    عاد يزيد إلى جرجان، وقتل عدداً كبيراً من أهلها لنكثهم العهد وغدرهم، وقَتلِهم عامله عبد الله بن معمر اليشكري والحامية التي كان يزيد قد تركها معه وعدد أفرادها أربعة آلاف، وهذا ما يعرف عند المؤرخين بفتح جرجان الثاني، وبعد انتهائه من عملياته العسكرية، قام ببناء مدينة جرجان التي صارت من أعظم المدن وأشهرها.
    الفتوح في آسيا الصغرى وأوربا:
    على الرغم من الصوائف والشواتي التي كانت تتوالى على أرض الروم في عهد الأمويين والعباسيين، ومحاولات الأمويين في خلافة معاوية وسليمان بن عبد الملك فتح القسطنطينية، فإن آسيا الصغرى (الأناضول) بقيت تحت سلطان الروم البيزنطيين، حتى أحرز السلطان ألب أرسلان السلجوقي عام 465هـ/1071م النصر على البيزنطيين في معركة ملاذكرد بين بحيرة وان ومدينة أرضروم. وكان ذلك سبباً في قيام دولة سلجوقية في آسيا الصغرى عرفت بدولة سلاجقة الروم، كان حاكمها الأول سليمان بن قتلمش ابن عم ألب أرسلان (470-479هـ)، وتعززت الدولة الجديدة بما كان يصل آسيا الصغرى من قبائل تركية، وبدأت آسيا الصغرى منذ ذلك الحين تتحول من روميّة بيزنطية مسيحية إلى تركية مسلمة، وقد استطاع حكام سلاجقة الأناضول انتزاع المزيد من الأرض البيزنطية، واتخذوا من قونية عاصمة لهم، وكانت دولة سلاجقة الروم أطول عمراً من بقية دول السلاجقة، إذ استمر حكمها بين 470-701هـ/1077-1300م. توارث الحكم في هذه المدة بعد المؤسس سبعة عشر حاكماً.
    لفظت دولـة السلاجقة في الأناضول أنفاسها الأخيرة على يد قبيلة تركية جاءَت من أواسط آسيا وأقامت الدولة العثمانية، فعندما توفي علاء الدين كيقباذ الثالث (698-701هـ) بايع الوزراء والأعيان عثمان الغازي بن أرطغرل بالسلطنة، وقلّده كبار العلماء سيف الجهاد، وتأسست بذلك السلطنة العثمانية المجاهدة ضد الروم، استمراراً للسلطنة السلجوقية، واتخذ عثمان (699-726هـ) لسلطنته راية السلاجقة نفسها وهي حمراء، رمز التضحية والجهاد وفي وسطها هلال ونجمة، رمز الارتباط بالله رب السماوات والأرض.
    بـدأ الـسلطان أعمالـه الجهادية بالتوسع في أراضي الدولة البيزنطية، فحاصر أزنيق عام 703هـ/1303م، ثم انتصر على الروم في بورصة وفتحها عام 726هـ/1326م واتخذها ابنه أورخـان غـازي (726-763هـ) عاصمة له، ثم فتح السلطان أورخان مدينة نيقية عام 731هـ/1331م، وضمَّ إمـارة الغـزو (قره صي) عام 746هـ/1345م، واجتازت الجيوش العثمانية آسيا إلى أوربا نجدة للامبراطور الرومي يوحنا السادس كانتاكوزين، فانفتحت أبواب البلقان أمام العثمانيين ففتحوا قلعة غاليبولي وحصنوها.
    وبعـد وفـاة السلطان أورخان استلم ابنه مراد الأول (763-791هـ/1362-1389م) الحكم، واتخذ أدرنة عاصمة له، وأخضع تراقيا ومقدونيا واخترق بـلاد الصرب، والبلغار في معركـة قـوصوه (كوسوفـا) سـنة 791هـ/1389م، ولكنه قتـل في المعركـة وخلفه ابنه بيازيـد الأول، الـذي جـرت في عهده (791-804هـ/1389-1401م) حرب صليبية في نيكوبوليس سنة 798هـ/1396م، اشتركت فيها جيوش أوربا كلها، وكان من نتائجها إحراز الأتراك انتصارات عظيمة وسيطرتهم على شبه جزيرة البلقان كلها، ثم شدد بيازيد حصاره للقسطنطينية، ولكنه اضطر إلى رفع الحصار لظهور تيمورلنك[ر] الذي اصطدم مع بيازيد في معركة أنقرة في 19 ذي الحجة 804هـ/20 تموز 1402م، حيث هزم بيازيد ووقع أسيراً. وقد أتاح ذلك للقسطنطينية أن تنجو من استيلاء الأتراك عليها إلى حين، فلما كان عهد السلطان محمد الثاني الفاتح (855-886هـ/1451-1481م) وقف جهده لفتح القسطنطينية التي كانت مركز المقاومة والعداء للإسلام مدة ثمانية قرون. وفي سنة 857هـ/1453م نجح في فتحها فقضى على البقية الباقية من أراضي الدولة البيزنطية، وفي سنة 864هـ فتح طرابزون، وفي سنة 880هـ أُلحقت القرم بالفتوح، وبذلك أضحت هذه المناطق كلها تابعة لإدارة عثمانية إسلامية.
    نتائج الفتوح الإسلامية
    كان للفتوح العربية الإسلامية التي تمت في العهد الراشدي وفي خلافة بني أمية أثر ملحوظ في سرعة انتشار الدين الإسلامي واللغة العربية، فدخل الدين الإسلامي هذه البلاد منذ دخول العرب إليها، وما لبث على مر الزمن أن تغلب على الأديان التي وجدت قبله، وصار المسلمون أغلبية فيها، وانتشار الإسلام كان يساعد على انتشار العربية، لأنه كان يسبقها ويمهد لها. والذين كانوا يدينون بالإسلام كانوا مضطرين لأن يتصلوا باللغة العربية بطريقة أو بأخرى، بحكم كون القرآن عربياً، ولم يستعص على ذلك إلا الأقسام الشرقية من الامبراطورية الساسانية، فقد انقادت للإسلام، ولكن العربية أصيبت هناك بنكسة حادة، ومهما يكن من تأثير العربية في الفارسية وتغلغلها فيها، فإن اللهجات الإيرانية ظلت محكية في كل قرية ومدينة صغيرة طوال العصور، واستطاعت الفارسية أن تزيح نفوذ العربية الرسمي وأن تركِّز سلطانها فيها في القرن الرابع الهجري.
    إن الفتوحات العربية الإسلامية التي تحققت في القرن الأول الهجري مهّدت لانتشار الإسلام سلمياً في مناطق متعددة من العالم[ر. الإسلام ـ انتشار الإسلام]، وهو الذي ساعد نتيجة لانتشار الإسلام بين القبائل التركية من سلاجقة وتركمان وعثمانيين، على أن تتحول تركيا بقسميها الآسيوي والأوربي (الأناضول وتراقيا) إلى دولة إسلامية نسبة المسلمين فيها 99%، بعد أن بقيت قروناً طويلة تحت سيطرة البيزنطيين.
    نجدة خماش

    تعليق

    يعمل...
    X