فريسك
Fresco - Fresque
الفريسك
كلمة فريسك fresco لفظ إيطالي يفيد معنى «رطب». وتستخدم للدلالة على التصوير الجداري أياً كان، ولكنها لا تنطبق في الواقع إلا على الأعمال المصنوعة وفق تقانة خاصة طبقها المصريون القدامى، ومازالت على حالها منذ ذلك الحين، وتقوم هذه التقانة على وضع ألوان مائية مركبة أساساً من السيليكات silicate، على طلاء جداري رطب هو خليط من الرمل والكلس، فتتكون بعد جفاف هذه العملية الكيميائية مادة قاسية كالإسمنت تعلوها قشرة شفافة.
ويعد فن التصوير الجداري من أقدم الفنون. وربما بدأ عندما لمس ذلك الإنسان القديم جدار كهفه بأصابع يده الملوثة بالطين أو غيره، فتركت أثرها على جدار الكهف ومما لفت نظره أهمية هذا الاكتشاف للتعبير بالصور الجدارية عن المخاوف والمشاعر المختلفة، فأخذ يصور على جدران كهفه الحيوانات التي تخيفه وتحيط به، معتقداً أن تصوير هذه الحيوانات من شأنه أن يأسرها ويقيدها، متخيلاً أن للفن قوة سحرية.
ومن أقدم روائع التصوير الجداري:
ـ صور جدارية مكتشفة عام 1940 في كهف لاسكو[ر] Lascaux في جنوب غربي فرنسا، وتمثل هذه الصور الحيوانات المختلفة ومشاهد الصيد.
ـ صور جدارية مكتشفة في كهف ألتاميرا Altamira في شمالي إسبانيا.
لفتت هذه الصور الجدارية التي تعود إلى نحو 15000ق.م أنظار الآثاريين ومؤرخي الفن والتقنيين الذين أعجبوا ببقائها طوال آلاف السنين، مما دفعهم إلى دراستها والحرص على معرفة موادها وتقاناتها.
استخدم الإنسان القديم الألوان الترابية الغنية بأكسيد الحديد؛ فكان يعجنها في الماء لتصبح كالطينة ليستخدمها في التصوير، واستخدم الحوّار المتميز بلونه الأبيض، وربما استخدم المواد الشحمية أو نخاع العظم في تثبيت الألوان، وكذلك الصبغة النباتية بعد غليها في الماء.
وتجدر الإشارة إلى تدرج ألوان الصور الجدارية من الأصفر الترابي إلى الأحمر الترابي ثم إلى البني.
وكان يتم التصوير الجداري على طينة كلسية من جص أو حوّار، تغطي الجدار الحجري أو الترابي أو الطيني، في مساحات لونية، وسطحها محاط بخط. يبدأ العمل برسم تخطيطي على الطينة ثم يقوم الفنان بتقوية خطوط الرسم التخطيطي بلون غامق. وربما كانت عملية التصوير الجداري تتم بأصابع اليد أو شعر الحيوانات. وهكذا أخذ الإنسان القديم يمارس فن التصوير الجداري على الطين الرطب بوساطة مساحيق لونية تُعجن وتمدد بالماء وتوضع على طينة جدار ما زالت رطبة. والجدير بالذكر أن ملمس الفريسك وقساوة سطحه بعد الجفاف يعودان إلى التفاعلات الكيميائية الحاصلة في أثناء جفاف طينة الجدار، ومن شأن هذه التفاعلات أن تجعل ذرات المواد الملونة تتماسك بذرات الطين. واستخدم الإنسان الفنان مجموعة من الألوان كان يسحقها في حجر طبيعي مجوف، ثم يمزجها بمواد شحمية وذلك بعدما لاحظ أن هذه المواد تشكل طبقة تحمي الصور من العوامل الطبيعية. وكان يستخدم بياض البيض وسيطاً لاصقاً ومثبتاً للون، ويمدد المواد الملونة بالخل والماء، لأن وظيفة الخل حفظ البيض من الفساد والتعفن. وكان يضيف الشمع العسلي أو الغراء إلى البيض. ويستخدم الأصماغ النباتية السائلة أو اللاصقة بعد نقعها في الماء لتصير هلامية. وكانت وظيفة هذه الأصماغ إعطاء قوام هلامي للأتربة الملونة، وذلك بعد مزجها بها لاستخدامها في تصوير الجدار المطلي بطبقة من الجص، مما يجعل هذه الأصباغ تقوم بدور تثبيت الألوان على الجدار، كما تسهم في قساوة اللون وتماسكه. وكان يستخدم الغراء الحيواني من الجلد أو العظم عوضاً عن الأصماغ النباتية ليكون وسيطاً لاصقاً ومثبِّتاً للون.
ويميز الباحثون في فن التصوير الجداري نوعين هما:
ـ التصوير الجداري على الجص الندي (فريسكو) fresco.
ـ التصوير الجداري على الجص الجاف (سيكو) secco.
والجدير بالذكر أن أهمية العمل الفني تعتمد على جمال الرسم والتصوير وجمال التقنية وطريقة معالجة المواد.
يعد فن التصوير الجداري من أقدم الفنون التي نشأت وازدهرت في مصر والعراق وفلسطين وسورية وكريت واليونان وإيطاليا والبلاد السلافية وغيرها. وقد برع قدماء المصريين في التصوير الجداري، وزيّنوا به جدران معابدهم ومدافنهم في وادي الملوك (الأقصر)، وعبّروا بصورهم الجدارية عن مختلف ميادين حياتهم اليومية وفعالياتهم المختلفة ومعتقداتهم الروحية. وصوروا عالم النبات والحيوان والطير. ومازالت روائعهم الجدارية تدل على ذوق ذلك الفنان، وحسه الجمالي، ومهارته اليدوية، وخبرته التقنية. وكان يحرص على قوة التعبير عن الواقع متمسكاً بمعيار المشابهة مع الأصل. ومن روائع تلك الصور الجدارية: «أربع فتيات يمارسن رياضة الكرة» و«موسيقيات ينظمن حفلة موسيقية» و«قطة ترقب الطيور» و«سرب من الإوز بالألوان الطبيعية وبأسلوب بسيط».
إن التأمل في هذه الروائع الجدارية جعل الباحثين يستنتجون أن ذلك الفنان قد سبق عصره في محاولة بيان خلفية العمل الفني المتمثلة بالأعشاب الصغيرة بين الإوز. وتلاحظ براعة الفنان في تصوير الثياب الملونة والمزخرفة، واستخدام أكثر الألوان جمالاً ونضارة.
وفي تل العقير في العراق اكتشف معبد زُيّنت جدرانه بصور جدارية من الألف الرابع قبل الميلاد وعُدّت أقدم الصور الجدارية في بلاد ما بين النهرين. وفي فلسطين، في تليلات الغسول اكتشفت بقايا تصوير جداري ملون يمثل زخارف هندسية وأشكالاً بشرية وهندسية وحيوانية، وتعد أول محاولة لزخرفة القسم الداخلي من المنزل. ومن هذه الصور الجدارية صورة «كوكب متعدد الأشعة». وفي سورية أظهرت التنقيبات الأثرية روائع التصوير الجداري في ماري ودورا أوروبوس وتدمر وحمص والقلمون وتل أحمر. ومن الصور الجدارية التي تزين جدران القصر الملكي: «الملك زمري ليم ملك ماري يتلقى شارات السلطة من الربّة عشتار» و«ربّة الخصب واقفة وممسكة بيديها وعاء يفيض منه الماء» و«قطاف التمور من أشجار النخيل» و«رجل يقود ثور الأضحية». ومن أجمل الصور الجدارية في المعبد التدمري في دورا وصورة «سادنين يقومان بالطقوس الدينية بحضور أفراد أسرة كونون»، و«سادن يضحي قرب مذبح». والجدير بالذكر أن هناك توقيع الفنان إيلاساموس، وأن صور هذا المعبد قد صورت على فترات مما يفسر اختلاف سوية مستواها الفني. ومن أجمل صور جدران الكنيسة السكنية في دورا أوروبوس «السيد المسيح الراعي الصالح قرب قطيعه» و«آدم وحواء» و«معجزات السيد المسيح» و«قيامة السيد المسيح». وفي تل برسيب (تل أحمر) أظهرت التنقيبات صوراً جدارية تبلغ مساحتها نحو 130 متراً مربعاً لم يبق منها سوى أجزاء بسيطة. وفي كنيسة مار ليان في حمص رسوم جدارية مسيحية جميلة حلت محل الفسيفساء، وهي تمثل السيد المسيح وإلى يمينه السيدة العذراء والقديسة مريم المجدلية، وإلى يساره القديس يوحنا المعمدان وشخص آخر. وفي الحنية اليسرى صورة جدارية للإنجيليين لوقا ويوحنا. وفي الحنية اليمنى صورة جدارية للإنجيليين مرقص ومتى.
وفي دير مار يعقوب في قارا أنقذت المديرية العامة للآثار والمتاحف بقايا صور جدارية مهمة تمثل قديسين، وتعد من روائع فن التصوير الجداري المسيحي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين. وفي كنسية مار سركيس في قارا صور جدارية جميلة متقابلة وعلى إحداها كتابة لاتينية، وفي دير مار موسى الحبشي قرب النبك صور جدارية مسيحية مهمة تم ترميمها وصارت موضوع اهتمام المواطنين وأفواج السائحين وعشاق الفنون الجميلة. وفي تدمر زُين جدار مدفن الإخوة الثلاثة بصورة جدارية كبيرة جميلة تمثل أسطورة (آشيل) وتتميز بألوانها الحارة، كما زُين الجداران الجانبيان في هذا المدفن بصور وسط أوسمة (ميداليات) جميلة. وفي البرج الجنائزي «إيلا بيل» في تدمر صور جدارية جميلة يسودها اللون الأزرق الجميل، وهناك صور جدارية تمثل نباتات الكرمة والزيتون وسعف النخيل. والجدير بالذكر الاعتقاد بأن وجود الصور الجدارية في المدافن من شأنه أن يضفي جواً من السرور والراحة للموتى في مدافنهم الموحشة. ويلاحظ أن جفاف المناخ في تدمر وغيرها من المحافظات السورية أسهم في المحافظة على هذه الصور الجدارية المهمة والجميلة آلاف السنين. وقد تميزت هذه الصور الجدارية بخطوط مبسطة بيد فنان ماهر تميزت روائعه الفنية بنسب تشريحية صحيحة. وأظهرت التنقيبات الأثرية في جزيرة كريت أجمل الصور الجدارية في قصر مدينة كنوسوس Cnossos، وحمل جمال صورة الفتاة الكثيرين ليطلقوا عليها اسم «الباريسية» وذلك لجمالها وأناقتها.
وكان للفريسك دور كبير في تجميل جدران الكنائس في أقطار أوربا في العصر الكارولينجي الذي استمر تقليده الفني في العصر الرومنسي. ففي داخل الكنائس الرومانسكية (الرومية المسيحية) تبدو الفراغات قليلة جداً، في حين أن المساحات الجدارية تبدو واسعة جداً أفاد منها الفنان الرومنسكي بتغطيتها بروائع فن التصوير الجداري الذي شهد عصره الذهبي. كل هذا أسهم في ازدهار فن التصوير الجداري. ولكن يلاحظ عدم معرفة المنظور مما جعل هذه الصور الجدارية تبدو كالسجاد.
وكان دور الصور الجدارية في الكنائس الرومنسكية تعليمياً وتجميلياً، اقتبست موضوعاتها غالباً من منمنمات المخطوطات، وكانت برامجها دينية وقصصية، تروي القصص الدينية المختلفة، مما يجعل هذه الصور الجدارية صوراً مقدسة تبدو كأنها كتاب مقدس في صور مقدسة، وتتحدث بلغتها البصرية عن تاريخ العالم من وجهة نظر العقيدة الدينية.
استمر ازدهار فن التصوير الجـداري في عصر النهضة وقام الفنان الإيطالي تشيمابويه Cimabue ما بين (1240-1302) بتصوير جـدارياته بروح فنية جديدة. وقـام تـلميذه جيـوتـو[ر] Giotto ما بين (1266-1337) بمتابعة الرسالة الفنية حتى إنه لٌقّب باسم «أبو التصوير الحديث»، فكان أول من أدخل في روائعه الفنية صور الطبيعة وصور أشخاصٍ في حالة الحركة، وتميزت صوره بأوضاعها القريبة من الحقيقة. وكان فنان التصوير الجداري، قبل كل شيء، محافظاً على اهتمام الفن البيزنطي بالوضوح والروحانية، وبطولة الحياة الإنسانية في عصر كان تذوق القوة والبطولة فيه يطبع فن فلورنسا. ومن روائع الصور الجدارية: «معجزة النبع» و«حياة القديس فرانسوا الأسيزي» و«قبلة يهوذا».
وتألق نجم الفنـان فرا آنجيليكو[ر]Fra Angelico ما بين (1387-1457) بين المصورين الكبار في فلورنـسا، وهو يمثل الفريق الروحـي بين المصـورين في حيـن أن مازاتشيو[ر] Masaccio ما بين (1402- 1428) يمثل الفريق ذا الاتجاه الجسدي بين المصورين، وحدد القيم التشكيلية والإنسانية لعصر النهضة. ومن روائعه الجدارية: «حياة القديس بطرس» و«دفع الغرامة».
ويعد أوتشيلو[ر]Uccello ما بين (1397- 1475) أول من أدخل قواعد المنظور في التصوير وصور المعارك الحربية. ومن روائع الفنان ميكلانجلو[ر]Michelangelo ما بين (1475- 1564) صوره الجدارية المشهورة في كنيسة سكستين Sixtine. والجدير بالذكر منها موضوع: خـلق الإنسان. واشتهر الفنان رافايلّـوRaffaello ما بين (1483-1520) بلوحـته الجداريـة المشهورة «مدرسة أثيـنا» في مبنى الفاتيكان في رومـا. ومن روائـع الفنان تييبولو[ر] Tiepolo ما بين (1696-1770) «كليوباترا في انطلاقة رحلتها» في قصر لابيا في البندقية.
بشير زهدي
Fresco - Fresque
الفريسك
كلمة فريسك fresco لفظ إيطالي يفيد معنى «رطب». وتستخدم للدلالة على التصوير الجداري أياً كان، ولكنها لا تنطبق في الواقع إلا على الأعمال المصنوعة وفق تقانة خاصة طبقها المصريون القدامى، ومازالت على حالها منذ ذلك الحين، وتقوم هذه التقانة على وضع ألوان مائية مركبة أساساً من السيليكات silicate، على طلاء جداري رطب هو خليط من الرمل والكلس، فتتكون بعد جفاف هذه العملية الكيميائية مادة قاسية كالإسمنت تعلوها قشرة شفافة.
ويعد فن التصوير الجداري من أقدم الفنون. وربما بدأ عندما لمس ذلك الإنسان القديم جدار كهفه بأصابع يده الملوثة بالطين أو غيره، فتركت أثرها على جدار الكهف ومما لفت نظره أهمية هذا الاكتشاف للتعبير بالصور الجدارية عن المخاوف والمشاعر المختلفة، فأخذ يصور على جدران كهفه الحيوانات التي تخيفه وتحيط به، معتقداً أن تصوير هذه الحيوانات من شأنه أن يأسرها ويقيدها، متخيلاً أن للفن قوة سحرية.
ومن أقدم روائع التصوير الجداري:
ـ صور جدارية مكتشفة عام 1940 في كهف لاسكو[ر] Lascaux في جنوب غربي فرنسا، وتمثل هذه الصور الحيوانات المختلفة ومشاهد الصيد.
ـ صور جدارية مكتشفة في كهف ألتاميرا Altamira في شمالي إسبانيا.
لفتت هذه الصور الجدارية التي تعود إلى نحو 15000ق.م أنظار الآثاريين ومؤرخي الفن والتقنيين الذين أعجبوا ببقائها طوال آلاف السنين، مما دفعهم إلى دراستها والحرص على معرفة موادها وتقاناتها.
استخدم الإنسان القديم الألوان الترابية الغنية بأكسيد الحديد؛ فكان يعجنها في الماء لتصبح كالطينة ليستخدمها في التصوير، واستخدم الحوّار المتميز بلونه الأبيض، وربما استخدم المواد الشحمية أو نخاع العظم في تثبيت الألوان، وكذلك الصبغة النباتية بعد غليها في الماء.
وتجدر الإشارة إلى تدرج ألوان الصور الجدارية من الأصفر الترابي إلى الأحمر الترابي ثم إلى البني.
«حملة عسكرية» (فريسكو من الأسلوب المصري القديم في معبد حتشبسوت) |
«شيرون يعلم أخيل العزف على القيثارة» (فريسكو من الأسلوب الامبراطوري الروماني الرابع) |
ويميز الباحثون في فن التصوير الجداري نوعين هما:
ـ التصوير الجداري على الجص الندي (فريسكو) fresco.
ـ التصوير الجداري على الجص الجاف (سيكو) secco.
والجدير بالذكر أن أهمية العمل الفني تعتمد على جمال الرسم والتصوير وجمال التقنية وطريقة معالجة المواد.
يعد فن التصوير الجداري من أقدم الفنون التي نشأت وازدهرت في مصر والعراق وفلسطين وسورية وكريت واليونان وإيطاليا والبلاد السلافية وغيرها. وقد برع قدماء المصريين في التصوير الجداري، وزيّنوا به جدران معابدهم ومدافنهم في وادي الملوك (الأقصر)، وعبّروا بصورهم الجدارية عن مختلف ميادين حياتهم اليومية وفعالياتهم المختلفة ومعتقداتهم الروحية. وصوروا عالم النبات والحيوان والطير. ومازالت روائعهم الجدارية تدل على ذوق ذلك الفنان، وحسه الجمالي، ومهارته اليدوية، وخبرته التقنية. وكان يحرص على قوة التعبير عن الواقع متمسكاً بمعيار المشابهة مع الأصل. ومن روائع تلك الصور الجدارية: «أربع فتيات يمارسن رياضة الكرة» و«موسيقيات ينظمن حفلة موسيقية» و«قطة ترقب الطيور» و«سرب من الإوز بالألوان الطبيعية وبأسلوب بسيط».
إن التأمل في هذه الروائع الجدارية جعل الباحثين يستنتجون أن ذلك الفنان قد سبق عصره في محاولة بيان خلفية العمل الفني المتمثلة بالأعشاب الصغيرة بين الإوز. وتلاحظ براعة الفنان في تصوير الثياب الملونة والمزخرفة، واستخدام أكثر الألوان جمالاً ونضارة.
وفي تل العقير في العراق اكتشف معبد زُيّنت جدرانه بصور جدارية من الألف الرابع قبل الميلاد وعُدّت أقدم الصور الجدارية في بلاد ما بين النهرين. وفي فلسطين، في تليلات الغسول اكتشفت بقايا تصوير جداري ملون يمثل زخارف هندسية وأشكالاً بشرية وهندسية وحيوانية، وتعد أول محاولة لزخرفة القسم الداخلي من المنزل. ومن هذه الصور الجدارية صورة «كوكب متعدد الأشعة». وفي سورية أظهرت التنقيبات الأثرية روائع التصوير الجداري في ماري ودورا أوروبوس وتدمر وحمص والقلمون وتل أحمر. ومن الصور الجدارية التي تزين جدران القصر الملكي: «الملك زمري ليم ملك ماري يتلقى شارات السلطة من الربّة عشتار» و«ربّة الخصب واقفة وممسكة بيديها وعاء يفيض منه الماء» و«قطاف التمور من أشجار النخيل» و«رجل يقود ثور الأضحية». ومن أجمل الصور الجدارية في المعبد التدمري في دورا وصورة «سادنين يقومان بالطقوس الدينية بحضور أفراد أسرة كونون»، و«سادن يضحي قرب مذبح». والجدير بالذكر أن هناك توقيع الفنان إيلاساموس، وأن صور هذا المعبد قد صورت على فترات مما يفسر اختلاف سوية مستواها الفني. ومن أجمل صور جدران الكنيسة السكنية في دورا أوروبوس «السيد المسيح الراعي الصالح قرب قطيعه» و«آدم وحواء» و«معجزات السيد المسيح» و«قيامة السيد المسيح». وفي تل برسيب (تل أحمر) أظهرت التنقيبات صوراً جدارية تبلغ مساحتها نحو 130 متراً مربعاً لم يبق منها سوى أجزاء بسيطة. وفي كنيسة مار ليان في حمص رسوم جدارية مسيحية جميلة حلت محل الفسيفساء، وهي تمثل السيد المسيح وإلى يمينه السيدة العذراء والقديسة مريم المجدلية، وإلى يساره القديس يوحنا المعمدان وشخص آخر. وفي الحنية اليسرى صورة جدارية للإنجيليين لوقا ويوحنا. وفي الحنية اليمنى صورة جدارية للإنجيليين مرقص ومتى.
وفي دير مار يعقوب في قارا أنقذت المديرية العامة للآثار والمتاحف بقايا صور جدارية مهمة تمثل قديسين، وتعد من روائع فن التصوير الجداري المسيحي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين. وفي كنسية مار سركيس في قارا صور جدارية جميلة متقابلة وعلى إحداها كتابة لاتينية، وفي دير مار موسى الحبشي قرب النبك صور جدارية مسيحية مهمة تم ترميمها وصارت موضوع اهتمام المواطنين وأفواج السائحين وعشاق الفنون الجميلة. وفي تدمر زُين جدار مدفن الإخوة الثلاثة بصورة جدارية كبيرة جميلة تمثل أسطورة (آشيل) وتتميز بألوانها الحارة، كما زُين الجداران الجانبيان في هذا المدفن بصور وسط أوسمة (ميداليات) جميلة. وفي البرج الجنائزي «إيلا بيل» في تدمر صور جدارية جميلة يسودها اللون الأزرق الجميل، وهناك صور جدارية تمثل نباتات الكرمة والزيتون وسعف النخيل. والجدير بالذكر الاعتقاد بأن وجود الصور الجدارية في المدافن من شأنه أن يضفي جواً من السرور والراحة للموتى في مدافنهم الموحشة. ويلاحظ أن جفاف المناخ في تدمر وغيرها من المحافظات السورية أسهم في المحافظة على هذه الصور الجدارية المهمة والجميلة آلاف السنين. وقد تميزت هذه الصور الجدارية بخطوط مبسطة بيد فنان ماهر تميزت روائعه الفنية بنسب تشريحية صحيحة. وأظهرت التنقيبات الأثرية في جزيرة كريت أجمل الصور الجدارية في قصر مدينة كنوسوس Cnossos، وحمل جمال صورة الفتاة الكثيرين ليطلقوا عليها اسم «الباريسية» وذلك لجمالها وأناقتها.
وكان للفريسك دور كبير في تجميل جدران الكنائس في أقطار أوربا في العصر الكارولينجي الذي استمر تقليده الفني في العصر الرومنسي. ففي داخل الكنائس الرومانسكية (الرومية المسيحية) تبدو الفراغات قليلة جداً، في حين أن المساحات الجدارية تبدو واسعة جداً أفاد منها الفنان الرومنسكي بتغطيتها بروائع فن التصوير الجداري الذي شهد عصره الذهبي. كل هذا أسهم في ازدهار فن التصوير الجداري. ولكن يلاحظ عدم معرفة المنظور مما جعل هذه الصور الجدارية تبدو كالسجاد.
وكان دور الصور الجدارية في الكنائس الرومنسكية تعليمياً وتجميلياً، اقتبست موضوعاتها غالباً من منمنمات المخطوطات، وكانت برامجها دينية وقصصية، تروي القصص الدينية المختلفة، مما يجعل هذه الصور الجدارية صوراً مقدسة تبدو كأنها كتاب مقدس في صور مقدسة، وتتحدث بلغتها البصرية عن تاريخ العالم من وجهة نظر العقيدة الدينية.
استمر ازدهار فن التصوير الجـداري في عصر النهضة وقام الفنان الإيطالي تشيمابويه Cimabue ما بين (1240-1302) بتصوير جـدارياته بروح فنية جديدة. وقـام تـلميذه جيـوتـو[ر] Giotto ما بين (1266-1337) بمتابعة الرسالة الفنية حتى إنه لٌقّب باسم «أبو التصوير الحديث»، فكان أول من أدخل في روائعه الفنية صور الطبيعة وصور أشخاصٍ في حالة الحركة، وتميزت صوره بأوضاعها القريبة من الحقيقة. وكان فنان التصوير الجداري، قبل كل شيء، محافظاً على اهتمام الفن البيزنطي بالوضوح والروحانية، وبطولة الحياة الإنسانية في عصر كان تذوق القوة والبطولة فيه يطبع فن فلورنسا. ومن روائع الصور الجدارية: «معجزة النبع» و«حياة القديس فرانسوا الأسيزي» و«قبلة يهوذا».
وتألق نجم الفنـان فرا آنجيليكو[ر]Fra Angelico ما بين (1387-1457) بين المصورين الكبار في فلورنـسا، وهو يمثل الفريق الروحـي بين المصـورين في حيـن أن مازاتشيو[ر] Masaccio ما بين (1402- 1428) يمثل الفريق ذا الاتجاه الجسدي بين المصورين، وحدد القيم التشكيلية والإنسانية لعصر النهضة. ومن روائعه الجدارية: «حياة القديس بطرس» و«دفع الغرامة».
ويعد أوتشيلو[ر]Uccello ما بين (1397- 1475) أول من أدخل قواعد المنظور في التصوير وصور المعارك الحربية. ومن روائع الفنان ميكلانجلو[ر]Michelangelo ما بين (1475- 1564) صوره الجدارية المشهورة في كنيسة سكستين Sixtine. والجدير بالذكر منها موضوع: خـلق الإنسان. واشتهر الفنان رافايلّـوRaffaello ما بين (1483-1520) بلوحـته الجداريـة المشهورة «مدرسة أثيـنا» في مبنى الفاتيكان في رومـا. ومن روائـع الفنان تييبولو[ر] Tiepolo ما بين (1696-1770) «كليوباترا في انطلاقة رحلتها» في قصر لابيا في البندقية.
بشير زهدي