فلسطين (جغرافيا)
Palestine - Palestine
الأدب والمسرح في فلسطين
الشعر:
حتى تخوم العصر الحديث وبداية الانتداب البريطاني لم تشكل فلسطين طوال العصور الإسلامية وحدة إدارية واضحة المعالم ثابتة الحدود، ولم تظهر فيها دولة تتخذ من إحدى مدنها عاصمة تستقطب النشاط الأدبي والعلمي أو تمهد لنشوئه في رعايتها. ويرى العلاّمة إحسان عباس[ر] «أن الفلسطيني هو من ولد في فلسطين، ومن هاجر منها وبقي لها حضور في نفسه كالحنين وما شابه، ومن هاجر إليها وشارك فعلياً في حياتها الثقافية، أما من هاجر منها وهو صغير فلا يعدُّ فلسطينياً حتى وإن كان نسبه المقدسي أو الغزّي..».
بناء على ذلك وبالرجوع إلى المصادر لم يظهر في فلسطين شاعر مهم قبل القرن السادس الهجري، حتى ظهور أبي إسحاق إبراهيم الغزّي[ر] الذي طاف في المدن والبلدان مادحاً الكبراء والعلماء شاكياً تبدل الأحوال حتى وافته المنية في مرو (524هـ/1130م)، وامتاز شعره بجزالة اللغة وتطويع العبارة وتوليد المعاني. ويليه في الأهمية الشعراء العسقلانيون السبعة (ابن أبي الشخباء والمعتمد والقاضي أمير الدولة وابن بلبل النحوي والمكربل وأبو الفتيان مفضل وابن قائد العسقلاني) الذين اتصلوا بالدولة الفاطمية ورجالها من دون أن يقطعوا صلتهم بعسقلان، وهم شعراء مترسلون قادرون على الشعر والنثر معاً، وهم في المقام الأول من شعراء المديح، يخالط شعرهم بعض الغزل. ويُلحَق بهم القاضي الفاضل[ر] الذي كان على صلة وثيقة بصلاح الدين الأيوبي واشتهر برسائله ذات الطريقة الجديدة في الإنشاء، والذي تميز أدبه شعراً ونثراً على حد سواء.
وفي عصر المماليك احتلت مدينة صفد مكانة مرموقة سياسياً وثقافياً؛ فبرزت فيها مجموعة من أسماء العلماء المدرسين والأدباء، مثل الشاعر نجم الدين الصفدي وصلاح الدين الصفدي الذي كان أقوى وأغزر شعراء عصره. يورد المحبي في كتابه «نفحة الريحانة» أسماء عدد كبير من شعراء القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين من مناطق القدس والخليل والرملة وصفد، أبرزهم محمد الصوفي العلمي وحافظ الدين العجمي ومرعي الكرمي وبشير الخليلي وخير الدين الرملي وأحمد الخالدي الصفدي وحسن الدرزي العيلبوني ممن كان لهم صولات وجولات في الشعر والنثر، على اختلاف مواهبهم، وحجم نتاجهم، وتنوع موضوعاتهم، إلا أن دراسة أعمالهم تشير بوضوح إلى تأثير الحكم العثماني السلبي في الثقافة العربية، وتدل على بداية تراجع لافت على مختلف الصعد، بلغ ذروته في عصر الانحطاط. وتجلى هذا التطور على نحو صريح في القرن الثاني عشر للهجرة حسبما يُستنتج من كتاب «تراجم أهل القدس في القرن الثاني عشر» لحسن بن عبد اللطيف الحسني وكتاب «سلك الدرر» للمرادي. ويرى إحسان عباس: «إن الشعر بعامة كان ضحية الإحباط لفقدانه لموضوعاته الصحيحة.. وهذا يصدق حقاً على العصر كله»، والحقيقة الصريحة: «هي أن المدن الفلسطينية منذ القرن الخامس حتى الثاني عشر للهجرة، لم تنجب شاعراً واحداً متفوقاً، يقف في صف واحد وشعراء بلاط سيف الدولة في حلب في القرن الرابع، أو يوازي شعراء المعرّة وحدها في عصر أبي العلاء... فهل نحمل ذلك على أن الفكر لدى أبناء تلك المنطقة كان أقوى دائماً من الخيال؟... قد يكون ذلك صحيحاً».
مع هبوب رياح التغيير القادمة من الغرب الأوربي نحو الشرق العربي منذ القرن الثالث عشر للهجرة (ق19م)، أي مع الامتيازات التي أحرزتها دول الغرب للتدخل في شؤون بلدان المنطقة، ومع انتشار المدارس التبشيرية، وبعض المدارس الحديثة تأثراً بما جرى في لبنان ومصر، بدأت ملامح شعر جديد تظهر في فلسطين، ولاسيما في القدس مركز النشاط التعليمي الجديد. وقد تأثر هذا الشعر بـ «حركة الإحياء» التي رادها في مصر محمود سامي البارودي[ر]، من حيث قوة العبارة وجزالة اللغة، لكنه اتخذ اتجاهاً دينياً بحتاً في فلسطين بسبب انتشار الطرق الصوفية ونفوذها، ولبقاء السلطان العثماني رمزاً لرابطة الجماعة الإسلامية، بما يعني أن فكرة القومية العربية والمصالح العربية كانت غائبة؛ فتطور شعر المديح في منحيين، المدائح النبوية كما في شعر الشيخ يوسف النبهاني (1350هـ)، والمدائح السلطانية عند بعض الشعراء الآخرين. ومع المتغيرات الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أحدثها دستور 1908 العثماني، ومعاناة الشعب العربي في كارثة «السفربرلك»، والحرب العالمية الأولى، ومحاولة العرب الانفصال عن الدولة العثمانية في ما سمي «الثورة العربية الكبرى»؛ أدخلت على الشعر بعض الموضوعات الجديدة على الصعيدين الاجتماعي والوطني، كما التفت الشعر إلى المخترعات الحديثة كالقطار والطائرة. وكان أبرز شعراء تلك المرحلة خليل السكاكيني وإسعاف النشاشيبي وأبو الإقبال اليعقوبي، مما يشير إلى أن حظ فلسطين من الشعر الصحيح آنذاك كان ضئيلاً.
ويمكن القول إن وقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني قد غيّر الأوضاع على نحو جذري تقريباً، فقد صارت المواجهة آنذاك على جميع الأصعدة مع سلطة أجنبية طاغية ومتطورة تمهد الطريق بالسبل كافة لتحقيق المشروع الصهيوني، فحدثت انتفاضات عدة عفوية وغير منظّمة، خنقها الاستعمار بعنف، تلتها ثورة القسام عام 1936 وثورة الفلاحين عام 1939. والتغيرات التي طرأت على الحركة المجتمعية في ظل الاستعمار وفي إطار مواجهة صريحة معه فرضت على الشعر الفلسطيني موضوعات جديدة تندرج تحت مفهوم الشعر الوطني السياسي، الخطابي الحماسي. واللافت أن تصوير هذا الشعر للجوانب السلبية كان أوضح من تناوله الجوانب الإيجابية، كما هي الحال في معظم الشعر الوطني في البلدان العربية الأخرى، فندّد بسياسة الانتداب وتحيّزها إلى الصهيونية، وحذّر من خطر الهجرة اليهودية، وأشاد بالمقاومة الشعبية، وخلّد البطولات ومجّد الشهداء، وحضّ على الوفاق الوطني من أجل التحرير، كما ندّد بباعة الأرض وعملاء الاستعمار والانتهازية والصراعات الحزبية وغيرها من السلبيّات. وكان هدف الشعراء هو التوعية والوصول السريع المباشر إلى نفوس الناس. ومن حيث تطور الشكل الفني يمكن عد عام 1930 بداية لافتة مع قصيدة إبراهيم طوقان[ر] «الثلاثاء الحمراء» التي خلّد فيها الشهداء الثلاثة الذين شنقوا في تلك السنة، وفي قصيدة إسعاف النشاشيبي التي رثى فيها أحمد شوقي، فكانت أول قصيدة عربية تخرج من إسار القافية وعدد التفعيلات. إلا أن هاتين المحاولتين البارزتين لم تتركا أثراً واضحاً في سياق الشعر الفلسطيني لأنهما جاءتا أشبه بالمصادفة من دون استمراريّة. ومن شعراء تلك المرحلة إسكندر الخوري البيتجالي وبرهان الدين العبوشي ومحمد العدناني وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي[ر] ووديع البستاني وحسن البحيري ومحمود الأفغاني. لكن الدراسات لم تلتفت للأسف إلا إلى الكرمي وطوقان ومحمود، لذلك يصعب تقييم أشعار هؤلاء من الناحية الفنية، إلا أن المشترك بينهم جميعاً هو الموضوعات السابقة الذكر. وحسب إحسان عباس ليس بينهم من شاعرٍ سوى طوقان، «يتلوه أبو سلمى ولكن لا يدانيه».
كانت نكبة عام 1948 منعطفاً حاسماً في تطور الأدب الفلسطيني، فصارت شخصيّة «اللاجئ» بكل ما تعنيه من أبعاد إنسانية وسياسية محوراً رئيسياً في الشعر والنثر والمسرح. وقد استمرت حالة الانذهال بما حدث وبأصدائه في المهاجر العربية حتى الغزو الثلاثي لمصر عام 1956 وظهور شخصية «البطل المنقذ» جمال عبد الناصر في دعوته الوحدوية «التي كانت (خشبة الخلاص) في تصوّر الشاعر الفلسطيني»، والتي تحققت عام 1958. وعلى الرغم من انفصام الوحدة السورية المصرية، وخيبة الأمل بما كان معلقاً على الثورة العراقية، طغى على الفلسطيني شعور بأن العودة باتت في الأفق القريب، ما دام «المنقذ» قد جعل القضيّة الفلسطينية قضية العرب الأولى، وقضية دولية أيضاً.
وفي الوقت نفسه برزت مسألة انقسام الأدب الفلسطيني ما بين الداخل (الأراضي المحتلة) والخارج (المهاجر العربية والأجنبية)، فبينما كان أدب المنافي آنذاك مغرقاً في التشاؤم والاستكانة إلى الإنقاذ المرتقب، كان شعر الأرض المحتلة يمثِّل الإصرار على المقاومة، كما في قصائد محمود درويش. وفي أثناء هذه المرحلة تأثرت غالبية الشعراء الفلسطينيين بالموجة الشعرية الجديدة التي تجلت في قصائد نازك الملائكة[ر] والسّياب[ر] والبياتي[ر]. ومع النكبة الثانية عام 1967 تفرّقت سبل التعبير الأدبي في وجهات جديدة، رادها في الستينيات والسبعينيات توفيق زياد[ر] ومحمود درويش وسميح القاسم، وإضافة إلى يوسف الخطيب وهارون هاشم رشيد ومحمود سليم الحوت وتوفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وكمال ناصر ومعين بسيسو وسلمى الجيوسي، وغيرهم. وقد توزّعت الشعراء الفلسطينيين تيارات رئيسية ثلاثة، متعايشة ومتصاهرة، هي: الاتباعيون، والمخضرمون، والمحدثون. وأخذت دواوين هؤلاء وقصائدهم تنتشر على الصعيد العربي عبر دور النشر اللبنانية، وإذاعة فلسطين من دمشق. وكان غسان كنفاني قد نشر عام 1966 «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة» وأعقبه عام 1968 بكتاب «الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948- 1968» وقد تميّز الشعر الفلسطيني في تلك الآونة بتأثّره بموجة الشعر الحر التي راجت في الشعر العربي المعاصر، وبالمزاوجة بين الشكلين التقليدي والحر، وبتعلقه بالتراث والتاريخ والأسطورة، وباستلهامه أفكار الواقعية الاشتراكية والقومية العربية مع أفول الرومنسية ونمو الرمزية، وبالتأثر على نحو لافت بأسلوبي لوركا[ر] وماياكوفسكي[ر]، وبالبحث المستمر عن شكل شعري جديد يستوعب الهزة الحضارية المستجدة بلغة قادرة على مواجهتها.
نشأ في الأرض المحتلة في السبعينيات جيل شعري جديد، وازاه جيل آخر خارجها في العواصم العربية المحيطة، وفي قصائد كلا الجيلين ثمة حساسية مرهفة مؤسَّسة على واقعية صلبة. ومن شعراء جيل الداخل على سبيل الذكر لا الحصر عبد اللطيف عقل وعلي الخليلي وميشيل حداد وليلى علوش وسميرة الخطيب وجمال قعوار وأنطوان شماس وفدوى طوقان ويعقوب حجازي. ومن شعراء جيل الخارج خالد أبو خالد ومي صايغ ووليد سيف ومعين بسيسو ومحمود صبح ويوسف الخطيب وناجي علوش وعز الدين المناصرة ومحمد القيسي وعصام ترشحاني وصالح هواري.
يرى الباحث محمود شريح أن الشعر الفلسطيني في الأرض المحتلة وخارجها، من حيث مضمونه، قد جرى «في خمسة مجارٍ رئيسية: فهناك المجرى الذاتي الغنائي، وفيه عبّر الشعراء عن مشاعرهم في قصائد غزلية ووصفية. وهناك مجرى وطني، وفيه عبّر الشعراء عن انتمائهم الفلسطيني. ومجرى قومي عبّر فيه الشعراء عن انتمائهم العربي. والمجرى الرابع أممي نادى الشعراء عبره بتأييدهم الثورة في كل مكان في وجه التعسف والاضطهاد والاحتلال. أما المجرى الخامس فإنساني قدّم الشعراء عبره نماذج وصوراً إنسانية».
وقد قامت المجلات المتخصِّصة، مثل «الكاتب الفلسطيني» التي صدرت في دمشق (1978-1980)، ومجلة «الكرمل» التي صدرت في بيروت عام 1981 ثم انتقلت إلى نيقوسيا، ومجلة «شؤون فلسطينية» التي صدرت في بيروت عام 1971، بدور المنبر الرائد لعيون الشعر الفلسطيني المعاصر وكانت إسهاماً فعلياً في نقده وتوجيهه. ومن الأسماء التي برزت في هذه المجلات، غير من سبق ذكرهم، مريد البرغوتي وأمجد ناصر وأحمد دحبور وخيري منصور وصخر. وسواء في ما نشر في هذه المجلات، أو الصحف في الداخل والخارج، أو في الدواوين، فقد تعددت موضوعات الشعر الفلسطيني المعاصر وتنوّعت، إلا أنها دارت جميعها ضمن محاور رئيسية هي: إحساس مؤلم بالمنفى وضياع الوطن وإخفاق الثورة، وعزم على التصدي لمأساة المنفى بالثبات والنضال، وبالتأكيد على الهوية الفلسطينية والاعتزاز بالقومية العربية وبمنجزات الثورة الفلسطينية، وبفهم واع ٍ لمراحل النضال وحدس تاريخي مرهف وتأريخ الواقع بهدف اختزان التجربة في الذاكرة. ويمكن تحديد سمات منجزات التجارب الشعرية الفلسطينية ما بعد نكسة عام 1967 بازدهار التيار الواقعي المتكئ على غنائية تستفيد من طاقات النشيد والقصة والخطاب والمسرح والرسالة، وباستخدام الأسطورة المحلية، ولاسيما منها التموزية في مجلة «شعر»، وبإثراء القاموس الشعري الحديث ورفده بمفردات نابعة من خصوصية التجربة الفلسطينية، وباللحاق بركب الشعر الحديث عالمياً من حيث تجديد القالب وتشكيله مع اقترابٍ من روح السريالية، وبعودة إلى وجدانية تهمس بالمألوف والمعاش لتوحي بالأمل، كما في بعض قصائد إبراهيم نصر الله ووليد سيف والمناصرة والقيسي.
كان محمود درويش أحد شعراء المقاومة البارزين في الأرض المحتلة؛ مما عرّضه لمشكلات متلاحقة مع سلطة الاحتلال، فحزم أمره وخرج عام 1971 ليستقر في بيروت حيث تابع عمله الصحفي، ولكن في مجلة «شؤون فلسطينية»، ثم في مجلة «الكرمل» الأدبية الفكرية التي احتلت مكانة متقدمة ومتميزة في الأوساط الثقافية العربية؛ لجرأتها ورصانتها وانفتاحها على أحدث التيارات العالمية المهمة. وعلى أثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وخروج المقاومة الفلسطينية، تنقَّل درويش بين قبرص وتونس وفرنسا والأردن إلى أن عاد إلى الأرض المحتلة واستقر في رام الله التي صيَّرها الإسرائيليون ميدان حرب عام 2002. وبعد مرحلة الشعر الصدامي التحريضي السياسي المقاوم أخذ شعره ينحو بالتدريج نحو الموضوعات الفكرية والتأمّل الفلسفي، فتراجع بريق شعره على الصعيد الجماهيري وتعمّق اهتمام النقد بمضامين قصائده الجديدة وتجلياتها على صعيد التعبير الفني. وهو من الشعراء الفلسطينيين القلائل الذين تُرجمت قصائدهم إلى لغات عدة، فتجاوز تأثيره النطاق المحلي إلى الأفق العالمي، وصار يُعدُّ بين كبار شعراء القرن العشرين. وقد حاز درويش كثيراً من الجوائز العربية والدولية.
وعلى صعيد تطورات الشعر الفلسطيني بعد اتفاقية أوسلو يحتاج الأمر إلى متابعة متأنية ورصد وافٍ للنتاج الشعري في الداخل والخارج، وكذلك على صعيد الدراسات النقدية التي تناولته وهذا ما لم يتوفر حتى اليوم بصورة كافية.
القصة:
قامت الصحف والمجلات في فلسطين ولبنان بدور مهم في التعريف بفن القصة والرواية عن طريق الترجمة من اللغات الروسية والفرنسية والإنكليزية منذ بدايات القرن العشرين، وكان الرائد على مستوى الترجمة والتأليف في فلسطين خليل بيدس صاحب مجلة «النفائس العصرية» التي أسسها عام 1908. ومن بعده ظهرت أسماء محمود الإيراني ونجاتي صدقي وعبد الحميد ياسين وجبرا إبراهيم جبرا وعارف العزوني وعلي كمال ونجوى قعوار فرح. وما يلفت النظر في المجموعات القصصية لبعض هؤلاء هو غلبة الأجواء الأوربية عليها من حيث التقاليد الاجتماعية، على الرغم من أن بعض شخصياتها يحمل أسماء عربية، مما يشي بالاقتباس عن أصول متفرقة. وقد كانت غاية الكتّاب دائماً الموعظة الأخلاقية والتثقيف. ويرى يعقوب العودات في كتابه «من أعلام الفكر والأدب في فلسطين» أن محمود الإيراني صاحب مدرسة حديثة في فن القصة القصيرة، كما عدَّه مؤرخو الأدب الفلسطيني المعاصر الرائد الأول للقصة الفلسطينية التي اسـتوحت موضوعاتها من الواقع المعيش بأسـلوب يراوح بين الطبيعية[ر] والواقعية، ويليه في الأهمية والتأثير نجـاتي صـدقي. ومع مجموعـة «عَـرَق وقصص أخـرى» (1956) لجبرا إبراهيم جبرا خَطَتْ القصة الفلسطينية خطوة فنية لافتة، إذ خرجت على مفهوم الدور التربوي المرشد للأدب إلى عدّ الفن غاية في ذاته، ولا يجوز أن يكون وسيلة، وإلا هبط مستواه. وقد عزف علي كمال كما جبرا على الوتر نفسه.
بعد نكبة 1948 صار للأحداث التاريخية تأثيرها في الواقع الاجتماعي وتطوراته، وهذا هو ما ظهر في القصص الجديدة، حيث تلمَّس النقد الأدبي نقلة نوعية نحو رؤية واقعية عميقة تربط بين الحركة الاجتماعية الاقتصادية وبين الممارسة السياسية لسلطة الاحتلال، وأثرها في حياة الإنسان الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وخارجها. وكان إميل حبيبي أول من طرح مأساة اللاجئ في قصته «لا حيدة في جهنم...!» (1948). ويعد أمين فارس ملحس رائد الواقعية الاشتراكية في القصة الفلسطينية، ولاسيما في قصتيه «مرزوق» و«صبرية» (1952). ومنذئذٍ تتالت المجموعات القصصية المتباينة المضامين والأشـكال لنبيـل خـوري في «كُـفر» (1952) ولمحمد أديب العامري في «شعاع النور وقصص أخرى» (1953) ولسميرة عزام في «أشياء صغيرة» (1954) و«الظل الكـبير» (1956) و«قصص أخرى» (1960). وكان إميل حبيبي قد نشر عام 1954 قصة ذات دلالة بالغة بعنوان «بوابة مَنْدلباوم» (المكان الوحيد الذي كان يُسمح للفلسطينيين عبوره إلى القدس في أثناء احتفالات عيد الميلاد) حيث يصور سلوك طفلة تتحرك بين جانبي البوابة من دون أن تدرك خطورة الحالة. وفي مجموعتها الرابعة «الساعة والإنسان» (1961) طرحت سميرة عزام أول مرة مسألة مخيمات اللاجئين ومآسيها. وفي العام نفسه أصدر غسان كنفاني مجموعته القصصية الأولى «موت سرير رقم 12»، تلتها عام 1963 مجموعة «أرض البرتقال الحزين» ثم «عالم ليس لنا» (1965) ثم «عن الرجال والبنادق» (1968). وعبر قصص هذه المجموعات يتطور فن القصة بين يدي كنفاني على صعيد المضمون والشكل معاً؛ إنه يعالج مأساة الفلسطيني منذ فجيعة النكبة الأولى حتى النكبة الثانية عام 1967 متتبعاً مختلف المصائر وأشكال العيش والبحث عن الهوية، هوية الذات والوطن، حتى الوصول إلى حل المقاومة والتمسك بالبندقية مَخْرَجاً من عذابات الاحتلال في الداخل وشتات المخيمات في الخارج. ويعتمد كنفاني في قصصه لغة مكثفة زخمة بالإيحاء والدلالة الغنائية، تنوس في تصويرها الحدثَ بين الواقعية الصارخة أحياناً والرومنسية المجنّحة أحياناً أخرى، راسماً إطار الحدث تارة بضربات سريعة من ريشة حاذقة، وغائصاً تارة أخرى، عند لحظات حساسة معينة، إلى أدق تفاصيل المشهد، مانحاً القارئ إمكانية مشاركته في الوصول معاً إلى الهدف المقصود من هذه القصة. وفي عام 1968 صدر في الناصرة لتوفيق فياض مجموعة «الشارع الأصفر» التي تجاوز الكاتب في قصصها «طابع السرد التقليدي ليصل إلى نوع جديد من التركيب الحديث مع تضمين القصة أبعاداً عدة واقعية ورمزية، تمزج بين الوطن والتراث، فتكتسب مضمونها الكفاحي والرمزي من دون أن تهمل القضايا الاجتماعية اليومية».
Palestine - Palestine
الأدب والمسرح في فلسطين
الشعر:
حتى تخوم العصر الحديث وبداية الانتداب البريطاني لم تشكل فلسطين طوال العصور الإسلامية وحدة إدارية واضحة المعالم ثابتة الحدود، ولم تظهر فيها دولة تتخذ من إحدى مدنها عاصمة تستقطب النشاط الأدبي والعلمي أو تمهد لنشوئه في رعايتها. ويرى العلاّمة إحسان عباس[ر] «أن الفلسطيني هو من ولد في فلسطين، ومن هاجر منها وبقي لها حضور في نفسه كالحنين وما شابه، ومن هاجر إليها وشارك فعلياً في حياتها الثقافية، أما من هاجر منها وهو صغير فلا يعدُّ فلسطينياً حتى وإن كان نسبه المقدسي أو الغزّي..».
بناء على ذلك وبالرجوع إلى المصادر لم يظهر في فلسطين شاعر مهم قبل القرن السادس الهجري، حتى ظهور أبي إسحاق إبراهيم الغزّي[ر] الذي طاف في المدن والبلدان مادحاً الكبراء والعلماء شاكياً تبدل الأحوال حتى وافته المنية في مرو (524هـ/1130م)، وامتاز شعره بجزالة اللغة وتطويع العبارة وتوليد المعاني. ويليه في الأهمية الشعراء العسقلانيون السبعة (ابن أبي الشخباء والمعتمد والقاضي أمير الدولة وابن بلبل النحوي والمكربل وأبو الفتيان مفضل وابن قائد العسقلاني) الذين اتصلوا بالدولة الفاطمية ورجالها من دون أن يقطعوا صلتهم بعسقلان، وهم شعراء مترسلون قادرون على الشعر والنثر معاً، وهم في المقام الأول من شعراء المديح، يخالط شعرهم بعض الغزل. ويُلحَق بهم القاضي الفاضل[ر] الذي كان على صلة وثيقة بصلاح الدين الأيوبي واشتهر برسائله ذات الطريقة الجديدة في الإنشاء، والذي تميز أدبه شعراً ونثراً على حد سواء.
وفي عصر المماليك احتلت مدينة صفد مكانة مرموقة سياسياً وثقافياً؛ فبرزت فيها مجموعة من أسماء العلماء المدرسين والأدباء، مثل الشاعر نجم الدين الصفدي وصلاح الدين الصفدي الذي كان أقوى وأغزر شعراء عصره. يورد المحبي في كتابه «نفحة الريحانة» أسماء عدد كبير من شعراء القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين من مناطق القدس والخليل والرملة وصفد، أبرزهم محمد الصوفي العلمي وحافظ الدين العجمي ومرعي الكرمي وبشير الخليلي وخير الدين الرملي وأحمد الخالدي الصفدي وحسن الدرزي العيلبوني ممن كان لهم صولات وجولات في الشعر والنثر، على اختلاف مواهبهم، وحجم نتاجهم، وتنوع موضوعاتهم، إلا أن دراسة أعمالهم تشير بوضوح إلى تأثير الحكم العثماني السلبي في الثقافة العربية، وتدل على بداية تراجع لافت على مختلف الصعد، بلغ ذروته في عصر الانحطاط. وتجلى هذا التطور على نحو صريح في القرن الثاني عشر للهجرة حسبما يُستنتج من كتاب «تراجم أهل القدس في القرن الثاني عشر» لحسن بن عبد اللطيف الحسني وكتاب «سلك الدرر» للمرادي. ويرى إحسان عباس: «إن الشعر بعامة كان ضحية الإحباط لفقدانه لموضوعاته الصحيحة.. وهذا يصدق حقاً على العصر كله»، والحقيقة الصريحة: «هي أن المدن الفلسطينية منذ القرن الخامس حتى الثاني عشر للهجرة، لم تنجب شاعراً واحداً متفوقاً، يقف في صف واحد وشعراء بلاط سيف الدولة في حلب في القرن الرابع، أو يوازي شعراء المعرّة وحدها في عصر أبي العلاء... فهل نحمل ذلك على أن الفكر لدى أبناء تلك المنطقة كان أقوى دائماً من الخيال؟... قد يكون ذلك صحيحاً».
مع هبوب رياح التغيير القادمة من الغرب الأوربي نحو الشرق العربي منذ القرن الثالث عشر للهجرة (ق19م)، أي مع الامتيازات التي أحرزتها دول الغرب للتدخل في شؤون بلدان المنطقة، ومع انتشار المدارس التبشيرية، وبعض المدارس الحديثة تأثراً بما جرى في لبنان ومصر، بدأت ملامح شعر جديد تظهر في فلسطين، ولاسيما في القدس مركز النشاط التعليمي الجديد. وقد تأثر هذا الشعر بـ «حركة الإحياء» التي رادها في مصر محمود سامي البارودي[ر]، من حيث قوة العبارة وجزالة اللغة، لكنه اتخذ اتجاهاً دينياً بحتاً في فلسطين بسبب انتشار الطرق الصوفية ونفوذها، ولبقاء السلطان العثماني رمزاً لرابطة الجماعة الإسلامية، بما يعني أن فكرة القومية العربية والمصالح العربية كانت غائبة؛ فتطور شعر المديح في منحيين، المدائح النبوية كما في شعر الشيخ يوسف النبهاني (1350هـ)، والمدائح السلطانية عند بعض الشعراء الآخرين. ومع المتغيرات الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أحدثها دستور 1908 العثماني، ومعاناة الشعب العربي في كارثة «السفربرلك»، والحرب العالمية الأولى، ومحاولة العرب الانفصال عن الدولة العثمانية في ما سمي «الثورة العربية الكبرى»؛ أدخلت على الشعر بعض الموضوعات الجديدة على الصعيدين الاجتماعي والوطني، كما التفت الشعر إلى المخترعات الحديثة كالقطار والطائرة. وكان أبرز شعراء تلك المرحلة خليل السكاكيني وإسعاف النشاشيبي وأبو الإقبال اليعقوبي، مما يشير إلى أن حظ فلسطين من الشعر الصحيح آنذاك كان ضئيلاً.
ويمكن القول إن وقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني قد غيّر الأوضاع على نحو جذري تقريباً، فقد صارت المواجهة آنذاك على جميع الأصعدة مع سلطة أجنبية طاغية ومتطورة تمهد الطريق بالسبل كافة لتحقيق المشروع الصهيوني، فحدثت انتفاضات عدة عفوية وغير منظّمة، خنقها الاستعمار بعنف، تلتها ثورة القسام عام 1936 وثورة الفلاحين عام 1939. والتغيرات التي طرأت على الحركة المجتمعية في ظل الاستعمار وفي إطار مواجهة صريحة معه فرضت على الشعر الفلسطيني موضوعات جديدة تندرج تحت مفهوم الشعر الوطني السياسي، الخطابي الحماسي. واللافت أن تصوير هذا الشعر للجوانب السلبية كان أوضح من تناوله الجوانب الإيجابية، كما هي الحال في معظم الشعر الوطني في البلدان العربية الأخرى، فندّد بسياسة الانتداب وتحيّزها إلى الصهيونية، وحذّر من خطر الهجرة اليهودية، وأشاد بالمقاومة الشعبية، وخلّد البطولات ومجّد الشهداء، وحضّ على الوفاق الوطني من أجل التحرير، كما ندّد بباعة الأرض وعملاء الاستعمار والانتهازية والصراعات الحزبية وغيرها من السلبيّات. وكان هدف الشعراء هو التوعية والوصول السريع المباشر إلى نفوس الناس. ومن حيث تطور الشكل الفني يمكن عد عام 1930 بداية لافتة مع قصيدة إبراهيم طوقان[ر] «الثلاثاء الحمراء» التي خلّد فيها الشهداء الثلاثة الذين شنقوا في تلك السنة، وفي قصيدة إسعاف النشاشيبي التي رثى فيها أحمد شوقي، فكانت أول قصيدة عربية تخرج من إسار القافية وعدد التفعيلات. إلا أن هاتين المحاولتين البارزتين لم تتركا أثراً واضحاً في سياق الشعر الفلسطيني لأنهما جاءتا أشبه بالمصادفة من دون استمراريّة. ومن شعراء تلك المرحلة إسكندر الخوري البيتجالي وبرهان الدين العبوشي ومحمد العدناني وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي[ر] ووديع البستاني وحسن البحيري ومحمود الأفغاني. لكن الدراسات لم تلتفت للأسف إلا إلى الكرمي وطوقان ومحمود، لذلك يصعب تقييم أشعار هؤلاء من الناحية الفنية، إلا أن المشترك بينهم جميعاً هو الموضوعات السابقة الذكر. وحسب إحسان عباس ليس بينهم من شاعرٍ سوى طوقان، «يتلوه أبو سلمى ولكن لا يدانيه».
كانت نكبة عام 1948 منعطفاً حاسماً في تطور الأدب الفلسطيني، فصارت شخصيّة «اللاجئ» بكل ما تعنيه من أبعاد إنسانية وسياسية محوراً رئيسياً في الشعر والنثر والمسرح. وقد استمرت حالة الانذهال بما حدث وبأصدائه في المهاجر العربية حتى الغزو الثلاثي لمصر عام 1956 وظهور شخصية «البطل المنقذ» جمال عبد الناصر في دعوته الوحدوية «التي كانت (خشبة الخلاص) في تصوّر الشاعر الفلسطيني»، والتي تحققت عام 1958. وعلى الرغم من انفصام الوحدة السورية المصرية، وخيبة الأمل بما كان معلقاً على الثورة العراقية، طغى على الفلسطيني شعور بأن العودة باتت في الأفق القريب، ما دام «المنقذ» قد جعل القضيّة الفلسطينية قضية العرب الأولى، وقضية دولية أيضاً.
وفي الوقت نفسه برزت مسألة انقسام الأدب الفلسطيني ما بين الداخل (الأراضي المحتلة) والخارج (المهاجر العربية والأجنبية)، فبينما كان أدب المنافي آنذاك مغرقاً في التشاؤم والاستكانة إلى الإنقاذ المرتقب، كان شعر الأرض المحتلة يمثِّل الإصرار على المقاومة، كما في قصائد محمود درويش. وفي أثناء هذه المرحلة تأثرت غالبية الشعراء الفلسطينيين بالموجة الشعرية الجديدة التي تجلت في قصائد نازك الملائكة[ر] والسّياب[ر] والبياتي[ر]. ومع النكبة الثانية عام 1967 تفرّقت سبل التعبير الأدبي في وجهات جديدة، رادها في الستينيات والسبعينيات توفيق زياد[ر] ومحمود درويش وسميح القاسم، وإضافة إلى يوسف الخطيب وهارون هاشم رشيد ومحمود سليم الحوت وتوفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وكمال ناصر ومعين بسيسو وسلمى الجيوسي، وغيرهم. وقد توزّعت الشعراء الفلسطينيين تيارات رئيسية ثلاثة، متعايشة ومتصاهرة، هي: الاتباعيون، والمخضرمون، والمحدثون. وأخذت دواوين هؤلاء وقصائدهم تنتشر على الصعيد العربي عبر دور النشر اللبنانية، وإذاعة فلسطين من دمشق. وكان غسان كنفاني قد نشر عام 1966 «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة» وأعقبه عام 1968 بكتاب «الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948- 1968» وقد تميّز الشعر الفلسطيني في تلك الآونة بتأثّره بموجة الشعر الحر التي راجت في الشعر العربي المعاصر، وبالمزاوجة بين الشكلين التقليدي والحر، وبتعلقه بالتراث والتاريخ والأسطورة، وباستلهامه أفكار الواقعية الاشتراكية والقومية العربية مع أفول الرومنسية ونمو الرمزية، وبالتأثر على نحو لافت بأسلوبي لوركا[ر] وماياكوفسكي[ر]، وبالبحث المستمر عن شكل شعري جديد يستوعب الهزة الحضارية المستجدة بلغة قادرة على مواجهتها.
نشأ في الأرض المحتلة في السبعينيات جيل شعري جديد، وازاه جيل آخر خارجها في العواصم العربية المحيطة، وفي قصائد كلا الجيلين ثمة حساسية مرهفة مؤسَّسة على واقعية صلبة. ومن شعراء جيل الداخل على سبيل الذكر لا الحصر عبد اللطيف عقل وعلي الخليلي وميشيل حداد وليلى علوش وسميرة الخطيب وجمال قعوار وأنطوان شماس وفدوى طوقان ويعقوب حجازي. ومن شعراء جيل الخارج خالد أبو خالد ومي صايغ ووليد سيف ومعين بسيسو ومحمود صبح ويوسف الخطيب وناجي علوش وعز الدين المناصرة ومحمد القيسي وعصام ترشحاني وصالح هواري.
يرى الباحث محمود شريح أن الشعر الفلسطيني في الأرض المحتلة وخارجها، من حيث مضمونه، قد جرى «في خمسة مجارٍ رئيسية: فهناك المجرى الذاتي الغنائي، وفيه عبّر الشعراء عن مشاعرهم في قصائد غزلية ووصفية. وهناك مجرى وطني، وفيه عبّر الشعراء عن انتمائهم الفلسطيني. ومجرى قومي عبّر فيه الشعراء عن انتمائهم العربي. والمجرى الرابع أممي نادى الشعراء عبره بتأييدهم الثورة في كل مكان في وجه التعسف والاضطهاد والاحتلال. أما المجرى الخامس فإنساني قدّم الشعراء عبره نماذج وصوراً إنسانية».
وقد قامت المجلات المتخصِّصة، مثل «الكاتب الفلسطيني» التي صدرت في دمشق (1978-1980)، ومجلة «الكرمل» التي صدرت في بيروت عام 1981 ثم انتقلت إلى نيقوسيا، ومجلة «شؤون فلسطينية» التي صدرت في بيروت عام 1971، بدور المنبر الرائد لعيون الشعر الفلسطيني المعاصر وكانت إسهاماً فعلياً في نقده وتوجيهه. ومن الأسماء التي برزت في هذه المجلات، غير من سبق ذكرهم، مريد البرغوتي وأمجد ناصر وأحمد دحبور وخيري منصور وصخر. وسواء في ما نشر في هذه المجلات، أو الصحف في الداخل والخارج، أو في الدواوين، فقد تعددت موضوعات الشعر الفلسطيني المعاصر وتنوّعت، إلا أنها دارت جميعها ضمن محاور رئيسية هي: إحساس مؤلم بالمنفى وضياع الوطن وإخفاق الثورة، وعزم على التصدي لمأساة المنفى بالثبات والنضال، وبالتأكيد على الهوية الفلسطينية والاعتزاز بالقومية العربية وبمنجزات الثورة الفلسطينية، وبفهم واع ٍ لمراحل النضال وحدس تاريخي مرهف وتأريخ الواقع بهدف اختزان التجربة في الذاكرة. ويمكن تحديد سمات منجزات التجارب الشعرية الفلسطينية ما بعد نكسة عام 1967 بازدهار التيار الواقعي المتكئ على غنائية تستفيد من طاقات النشيد والقصة والخطاب والمسرح والرسالة، وباستخدام الأسطورة المحلية، ولاسيما منها التموزية في مجلة «شعر»، وبإثراء القاموس الشعري الحديث ورفده بمفردات نابعة من خصوصية التجربة الفلسطينية، وباللحاق بركب الشعر الحديث عالمياً من حيث تجديد القالب وتشكيله مع اقترابٍ من روح السريالية، وبعودة إلى وجدانية تهمس بالمألوف والمعاش لتوحي بالأمل، كما في بعض قصائد إبراهيم نصر الله ووليد سيف والمناصرة والقيسي.
كان محمود درويش أحد شعراء المقاومة البارزين في الأرض المحتلة؛ مما عرّضه لمشكلات متلاحقة مع سلطة الاحتلال، فحزم أمره وخرج عام 1971 ليستقر في بيروت حيث تابع عمله الصحفي، ولكن في مجلة «شؤون فلسطينية»، ثم في مجلة «الكرمل» الأدبية الفكرية التي احتلت مكانة متقدمة ومتميزة في الأوساط الثقافية العربية؛ لجرأتها ورصانتها وانفتاحها على أحدث التيارات العالمية المهمة. وعلى أثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وخروج المقاومة الفلسطينية، تنقَّل درويش بين قبرص وتونس وفرنسا والأردن إلى أن عاد إلى الأرض المحتلة واستقر في رام الله التي صيَّرها الإسرائيليون ميدان حرب عام 2002. وبعد مرحلة الشعر الصدامي التحريضي السياسي المقاوم أخذ شعره ينحو بالتدريج نحو الموضوعات الفكرية والتأمّل الفلسفي، فتراجع بريق شعره على الصعيد الجماهيري وتعمّق اهتمام النقد بمضامين قصائده الجديدة وتجلياتها على صعيد التعبير الفني. وهو من الشعراء الفلسطينيين القلائل الذين تُرجمت قصائدهم إلى لغات عدة، فتجاوز تأثيره النطاق المحلي إلى الأفق العالمي، وصار يُعدُّ بين كبار شعراء القرن العشرين. وقد حاز درويش كثيراً من الجوائز العربية والدولية.
وعلى صعيد تطورات الشعر الفلسطيني بعد اتفاقية أوسلو يحتاج الأمر إلى متابعة متأنية ورصد وافٍ للنتاج الشعري في الداخل والخارج، وكذلك على صعيد الدراسات النقدية التي تناولته وهذا ما لم يتوفر حتى اليوم بصورة كافية.
القصة:
قامت الصحف والمجلات في فلسطين ولبنان بدور مهم في التعريف بفن القصة والرواية عن طريق الترجمة من اللغات الروسية والفرنسية والإنكليزية منذ بدايات القرن العشرين، وكان الرائد على مستوى الترجمة والتأليف في فلسطين خليل بيدس صاحب مجلة «النفائس العصرية» التي أسسها عام 1908. ومن بعده ظهرت أسماء محمود الإيراني ونجاتي صدقي وعبد الحميد ياسين وجبرا إبراهيم جبرا وعارف العزوني وعلي كمال ونجوى قعوار فرح. وما يلفت النظر في المجموعات القصصية لبعض هؤلاء هو غلبة الأجواء الأوربية عليها من حيث التقاليد الاجتماعية، على الرغم من أن بعض شخصياتها يحمل أسماء عربية، مما يشي بالاقتباس عن أصول متفرقة. وقد كانت غاية الكتّاب دائماً الموعظة الأخلاقية والتثقيف. ويرى يعقوب العودات في كتابه «من أعلام الفكر والأدب في فلسطين» أن محمود الإيراني صاحب مدرسة حديثة في فن القصة القصيرة، كما عدَّه مؤرخو الأدب الفلسطيني المعاصر الرائد الأول للقصة الفلسطينية التي اسـتوحت موضوعاتها من الواقع المعيش بأسـلوب يراوح بين الطبيعية[ر] والواقعية، ويليه في الأهمية والتأثير نجـاتي صـدقي. ومع مجموعـة «عَـرَق وقصص أخـرى» (1956) لجبرا إبراهيم جبرا خَطَتْ القصة الفلسطينية خطوة فنية لافتة، إذ خرجت على مفهوم الدور التربوي المرشد للأدب إلى عدّ الفن غاية في ذاته، ولا يجوز أن يكون وسيلة، وإلا هبط مستواه. وقد عزف علي كمال كما جبرا على الوتر نفسه.
بعد نكبة 1948 صار للأحداث التاريخية تأثيرها في الواقع الاجتماعي وتطوراته، وهذا هو ما ظهر في القصص الجديدة، حيث تلمَّس النقد الأدبي نقلة نوعية نحو رؤية واقعية عميقة تربط بين الحركة الاجتماعية الاقتصادية وبين الممارسة السياسية لسلطة الاحتلال، وأثرها في حياة الإنسان الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وخارجها. وكان إميل حبيبي أول من طرح مأساة اللاجئ في قصته «لا حيدة في جهنم...!» (1948). ويعد أمين فارس ملحس رائد الواقعية الاشتراكية في القصة الفلسطينية، ولاسيما في قصتيه «مرزوق» و«صبرية» (1952). ومنذئذٍ تتالت المجموعات القصصية المتباينة المضامين والأشـكال لنبيـل خـوري في «كُـفر» (1952) ولمحمد أديب العامري في «شعاع النور وقصص أخرى» (1953) ولسميرة عزام في «أشياء صغيرة» (1954) و«الظل الكـبير» (1956) و«قصص أخرى» (1960). وكان إميل حبيبي قد نشر عام 1954 قصة ذات دلالة بالغة بعنوان «بوابة مَنْدلباوم» (المكان الوحيد الذي كان يُسمح للفلسطينيين عبوره إلى القدس في أثناء احتفالات عيد الميلاد) حيث يصور سلوك طفلة تتحرك بين جانبي البوابة من دون أن تدرك خطورة الحالة. وفي مجموعتها الرابعة «الساعة والإنسان» (1961) طرحت سميرة عزام أول مرة مسألة مخيمات اللاجئين ومآسيها. وفي العام نفسه أصدر غسان كنفاني مجموعته القصصية الأولى «موت سرير رقم 12»، تلتها عام 1963 مجموعة «أرض البرتقال الحزين» ثم «عالم ليس لنا» (1965) ثم «عن الرجال والبنادق» (1968). وعبر قصص هذه المجموعات يتطور فن القصة بين يدي كنفاني على صعيد المضمون والشكل معاً؛ إنه يعالج مأساة الفلسطيني منذ فجيعة النكبة الأولى حتى النكبة الثانية عام 1967 متتبعاً مختلف المصائر وأشكال العيش والبحث عن الهوية، هوية الذات والوطن، حتى الوصول إلى حل المقاومة والتمسك بالبندقية مَخْرَجاً من عذابات الاحتلال في الداخل وشتات المخيمات في الخارج. ويعتمد كنفاني في قصصه لغة مكثفة زخمة بالإيحاء والدلالة الغنائية، تنوس في تصويرها الحدثَ بين الواقعية الصارخة أحياناً والرومنسية المجنّحة أحياناً أخرى، راسماً إطار الحدث تارة بضربات سريعة من ريشة حاذقة، وغائصاً تارة أخرى، عند لحظات حساسة معينة، إلى أدق تفاصيل المشهد، مانحاً القارئ إمكانية مشاركته في الوصول معاً إلى الهدف المقصود من هذه القصة. وفي عام 1968 صدر في الناصرة لتوفيق فياض مجموعة «الشارع الأصفر» التي تجاوز الكاتب في قصصها «طابع السرد التقليدي ليصل إلى نوع جديد من التركيب الحديث مع تضمين القصة أبعاداً عدة واقعية ورمزية، تمزج بين الوطن والتراث، فتكتسب مضمونها الكفاحي والرمزي من دون أن تهمل القضايا الاجتماعية اليومية».
تعليق