«صقر عليشي» على برق لمحاته يُلبس النجمَ حذاءً ويعيد ترتيب الدّروب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • «صقر عليشي» على برق لمحاته يُلبس النجمَ حذاءً ويعيد ترتيب الدّروب


    «صقر عليشي» على برق لمحاته يُلبس النجمَ حذاءً ويعيد ترتيب الدّروب


    تشرين- راوية زاهر:
    «أسرعُ من عفريت الجنّ
    إلى بلقيس
    وأسرع من ردّ الطّرف
    نقلتُ الصّرح بما فيه من ثقلٍ
    في المعنى
    طرتُ قريباً من درب التّبانة
    وهناك شاهدتُ الإنسانْ
    يحطّ على طرف الأقمار
    ولكن
    لاتنسوا حين وصلتُ
    إلى هذا العصر
    وصلتُ على ظهر حمار»
    هكذا بهذه اللمحة التاريخية الـ(بانوراما)، يبدأ الشاعر صقر عليشي كتابه «اللمحات».. وفيه يسامرك من علياء التبانة، ويطالبك بخلع نعال الهمّ قبل ولوجك في لمحات رؤاه، يصلبك على أعمدة الخيال بجسدٍ خفيف، وحين يهبط من درب تبّانته المجازي عبر دروب القصيدة إلى عالم متلّقيه الأرضي يصل ممتطياً حماره، ولربما هو مطيته المجازية رغم كل ما يحيط بهذا الكون من تطور وتكنولوجيا..
    وكتاب «اللمحات» مجموعة شعرية جديدة للشاعر صقر عليشي صادرة عن اتّحاد الكتاب العرب بثلاثين لمحة على مقياس الدهشة؟ وفيها نتقفى روائع كتاب خُطّ بأصابعٍ تعرف من أين تؤكل اللهفة، وبفكر يرسم رؤاه على عتبات الغيم بكامل لياقة الجمال والدهشة.
    فبين مدارج الطبيعة وشعراءٍ من العصور الغابرة سطّر عليشي لمحاته، ناصحاً المعرّي بالتخلص من محبسيه، وداخلاً على عوالم الصعلكة باستحضار الشاعر عروة بن الورد وقضية الصعلكة، ولينين وجيفارا، وجنوحهم إلى الثورات العادلة على الواقع الظالم، ومخاطباً صديقه الناقد سعد الدين كليب يراوده على علاقته بالجمال.. والكثير الكثيرمن اللمحات المرتبطة بعلائق متشابكة مع الواقع الإنساني بأسلوبٍ فلسفي بالغ الشعرية والجمال والدهشة.
    فاصطلاحاً، لمْحَات ولمَحَات :اسم مرّة من لمحَ، لمح إلى: نظرة عاجلة وسريعة أو إشارة أو تلميح، ولمحة عن حياة فلان أي أدركه بلمحة واحدة، ولمحةً عن أبيه: تعني شبهه.. والجميل الذي استوقفني كان في معنى اللمحة المعجمي (النظرة السريعة)، لمحة البرق، أي قدر لمعة البرق من الزمان.. وهذا ما يميّز أسلوب صقر عليشي، فهو من تميّز ببساطة العرض ورقة الفكرة، وما يرافقها من دهشة الحضور والخواتيم الشائقة كوميضٍ بارقٍ لايفارق المخيلة بسهولة، فكانت سمات المعنى المزغرد على قافية اللمحات من بدايتها وحتى سرمدية القصيدة.
    ففي لمحته عن الريح مال كما غيرها من اللمحات لاستخدام أسلوب الأنسنة، إذ أنسن الريح فجعلها تثور تارة، وتهدأ تارة أخرى، تسافر من دون أن تحدّد وجهتها وتمرّغ أنف الأفق بالأرض، تشتم وتتفلسف، توبخ حفيدها النسيم وتقول له:
    «(يا بن الذين)..
    إنها الرّيح…
    تهتز هذه القصيدة
    إن عصفتْ
    ويهتز منزل جدّي
    القديم
    إذا سافرت
    لا تقولُ إلى أين!
    إن غضبتْ
    أخذت بالهزيم
    لكم مرّغتْ أنف الأفق بالأرض
    فأربدّ وهو كظيم.»
    وسنتوقف عند الناقد عطية مسوح وما قاله في تعليقه على لمحة الشعر في الكتاب: «الشعر في اللمحات ليس أداة في يد الشاعر، ليس كلماتٍ يلوّح بها فيثير الناس أو يرضي مشاعرهم ورغباتهم أو يشاركهم مشاعره، بل إن الشعر يفعل ما يشاء، يفرض ذاته على الشاعر فيسبقه ويقوده، وهو نسغ الزمان والمكان، يغذيهما ويثريهما بما يبثّ فيهما من حياة.».. وصقر عليشي الذي مافتئ يرى غير الجمال، ولكنه في حضرة جنازة جماعية، وقف بكامل لياقته الحزنية الجميلة واسترسل يلوّن ملامح إنسانية مهدورة، وفرحاً مهرّباً وأنيناً على بلادٍ حزينة، أصابتها لعنة الظلمة والحرب والحاجة فكان للوطن في ضمير الجمال الحزين حضورٌ مع لمحات الشاعر.. وتحت عنوان :
    «لمحةٌ عن بلادي
    لا يلاقي هنا خائن حرجاً
    لا يلاقي الكريم له ماء وجهٍ
    ليستره
    لا تلاقي الحقيقة من جهة
    لتشدّ الرّكاب على فرسٍ
    لا تلاقي في الثلوج بياضاً
    لتلبسه
    لا تلاقي الأراجيح عيداً
    يهزّ لها فرحة.»
    وفي انزياحٍ عن سنن اللغة وولوج عميق بالصيغ الأسلوبية المنتمية إلى مستويات لسانية مختلفة صوتية ودلالية وتركيبية، تميل لمحات عليشي.
    فإلى السند والهند يسير مفتشاً عن توابل القصيدة،
    فلا تجزع أيها الشاعر، فقصيدتك ذات مذاقٍ لذيذ، لاحاجة للتوابل ولا المخاطرة بنفسك على طريق الحرير، فمعانيك مترفة، شهية الحضور وعنيدة،
    والريح فيها تمرّغ أنف الأفق بالأرض، وذاتها توّبخ حفيدها النسيم على ضوء بلاغات الأنسنة، والحنين يجري في السواقي ولغته تستشعر الخوف..
    فعليشي يستخدم لغة الأنا الشعرية ضمير المتكلم (متمثلة بتاء الرفع المتحركة، ياء المتكلم، وأنا الضمير المنفصل) مغرقاً إيانا في الجمال والدهشة، محققاً تناغماً فريداً بين الخيال الغارق في مجازيته ورؤيته الشعرية في اندماجٍ رائع، مع شفافية ورقة يندر أن يخلو منها نص.
    وعليشي من هنا شاعرٌ عريق كان قد امتلك أدواته، وغاص بحدثية مشاهده التخييلية في عُباب اللغة، وامتطى صهوة البلاغة تاركاً لذهنية القارئ ووعيه إمكانية العثور بسلاسة على الدلالة الشعرية للصورة.

    وأهم ما ميّز لمحات الشاعر؛ أن كل صورة شكلت وحدة لسانية في حد ذاتها، وعجت بأسلوبها الإخباري،وقد مالت لمحات عليشي إلى الانزياح التداولي بعلامة العلاقة بين الشاعر والمتلقي، وكذلك حملت نصوصه صفة الانزياح الدلالي لعلاقتها المباشرة بالواقع وإحالتها إليه.
    وصقر عليشي متصوفٌ عتيق يجول في محراب اللغة والمعاني، يميل في حقله المعجمي إلى العلو والرفعة،وربط الحسي بالمعنوي بشكلٍ لافت (تركتُ لها يقظتي حارساً).. وقد برزت البلاغة بأبهى صورها فعجّ الكتاب بالاستعارات والكنايات والتشابيه محدثة صدمة الجمال الأكبر من قبيل:
    (أخذتُ بيد الأشجار، نَفَس الأشياء، الكلمات تمضي بقميص البيت الشفاف، يبدّل الشعر الإقامة والثياب).. (أذني الغموض، طريق يتلعثم )، وكلها استعارات مكنية شخصنت الأشياء وألبست المعنويات ثوب الأشياء المادية، كما برز التشبيه بأنواعه في محاولة واضحة للتوضيح وإعمال الخيال وإثارة المشاعر(غصون الحكاية: بليغ إضافي، دروبٌ تراوغ كالثعلب: تشبيه مجمل) .. ومن ناحية اللغة أيضاً استخدم الشاعر تقنية التقديم والتأخير في محاولة بلاغية للتأكيد على أهمية المتقدم والتشويق للمتأخر على نحو:
    «لصيد البرق
    حكمته
    لمدّ الظّلّ
    خفّته.»
    واستخدم كذلك الجناس الناقص (الجَمل، الجُمل).
    والاستخدام الأبهى(غضّ، بضّ)، والأعظم كان استخدام الشاعر للتناص، إذ أحالنا رغم كل جماليات الأسلوب الذي حملته اللمحات إلى عوالم أخرى أكثر دلالة ليحملها حمولة جَملٍ من الأفكار والمعاني، أعادنا إلى أسطورة الرّخ في أدب المغاربة، والسندباد، وهدد بلقيس..
    (رميتُ السكين،
    وجدتُ الأمة ميتة
    والشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ) :
    حكمة أعادتنا إلى قول مشهور لأسماء بنت أبي بكر لابنها.. فهنا تضمين، كما ضمن بعض نصوصه أشعاراً لامرئ القيس.. (تلك صخور حطّها السيل من علٍ) ، متضمن في بيت امرئ القيس المشهور :
    مكرّ مفرّ مقبلٍ مدبرٍ معاً
    كجلمود صخرٍ حطّه السيل من علّ.
    ليختم الشاعر بلمحة عن الحنين مستسلماً لقدريته وسطوته..
    «ليس على خلق الحنين
    اعتراض.»..
يعمل...
X