«حكاياتُ المعبد اليابانيّ» لـ«محمد عضيمة»… أزهارُ كرزٍ ورائحةُ ترابٍ!
تشرين- جواد ديوب:
يروي لنا الشاعر محمد عضيمة، السوريُّ المغترب إلى «بلاد الشمس المشرقة/اليابان»، تجربةَ العيش هناك.. يحكي لنا ببساطة متناهية كشربة ماء، عن تلك المنمنمات الحياتية التي شكلت «الياباني» كشخصية تبدو «مختلفة» عن كل سكان هذا الكوكب.
يحكي لنا من دون استعارات شعرية أو بلاغات لغوية أو اقتباسات فكرية، كما لو أن يابانياً يروي لنا ما تعنيه اليابان بالنسبة له، وما تبدو عليه في نظر الآخرين/كل الآخرين! فالعقود المديدة التي عاشها عضيمة في «تلك البلاد البعيدة» تجعله حكّاءً يصوّرُ المشاهدَ بصدق وتلقائية والكثير من المحبة، ومن دون استعلاء، لكن بذكاء لمّاح والتقاطات مدهشة للفروق بين بيئة الناس المنتمين إلى «الديانات التوحيدية» سواء في العالم العربي أو أوروبا أو أمريكا، والناسِ في اليابان «الروحانية» ذات الآلهة المتعددة، والتي أُعجِبتْ بالحداثة الغربية، فأخذت منها بشجاعة وثقة من دون كثيرٍ من حسابات الربح والخسارة، ومن دون أن تفقدَ «فكرتها عن الأصالة»، «فالياباني أخضع تفاصيل تلك الحداثة لنظرته الوجودية الخاصة بالإنسان، فهنا، في بلاد الشمس المشرقة، يضيعُ الأوروبي تماماً: هذه حداثته ولا يستطيع التعرف عليها، هذه روايته ولا يستطيعُ قراءتها، يشمُّ رائحةَ باريس لكنها ليست باريس، بل ما فوق باريس، يشمّ رائحة برج إيفل لكنه ليس برج إيفل، بل ما فوق برج إيفل، إنه برج طوكيو، لقد طالت الهفهفةُ اليابانية جميعَ مظاهر الحداثة المنقولة، وأوصلتها إلى الأوج… مع احترامٍ كاملٍ لإنسانية الإنسان»!
لا تخلو «حكايات المعبد الياباني» (الصادرة عن دار التكوين) من الطرافة الرقيقة الحلوة، ومن النقد اللطيف الذي يقدمه «عضيمة» مسبوقاً دائماً بـ «صديقي العزيز» مخاطباً القارئ بتحية محببة، ومتبوعاً باستحياءِ ولباقةِ ياباني ينحني بعد كل تعليقٍ ساخر!
ويجعلنا نعيشُ الطبيعة، ونتذوق «الساكيه»، ونفهم لماذا «يقدّس» اليابانيون -مهما كانت درجتهم العلمية أو طبقتهم الاجتماعية- شجرةَ الكرز بوصفها «شجرتهم الوطنية»، التي تلوّنُ بأزهارها البنفسجية أرواحهم وعقولهم وخيالاتهم من المهد إلى اللحد، وسوف يملأ ذِكرُها الأدبَ الياباني، شعراً وروايةً ومسرحاً، ورسوماً ولوحاتٍ بشكل لا يحصى…«لأنها ترتبط جوهرياً بدين اليابان المحلّي أي «الشنتوية»، فليس لهذا الدين من كتاب مقدّس سوى الطبيعة؛ فهي بجبالها وأنهارها وأعشابها وأشجارها وجميع عناصرها، المعبد الحقيقي لهذا الدين»!
ولذلك كثيرٌ من شعراء اليابان تمنوا الموت وهم يستندون بظهورهم إلى جذع شجرة الكرز المزهرة، وماتوا فعلاً، وهذا ما قاله وتحقق له شاعرٌ قديم: «أرغبُ الموتَ في الربيع/تحت أزهار الكرز/ في منتصف نيسان»!
اللافت على صعيد التقنية السردية أن كل حكاية جديدة تبدأ تقريباً من حيث انتهت سابقتُها، كما لو أننا أمام «أرخبيلٍ من جزر الحكايات» في حين «عُضيمة» ينقلنا معه كما السندباد من مغامرة إلى مغامرة ومن أعجوبة إلى أعجوبة، لكنه في كل واحدة تقريباً لا ينجو من «فخ» المقارنة، ومن مصيدة الحنين الموجع إلى ذاك الريف السوري مهد طفولته، فنجده وهو يحكي لنا عن «التاتامي والحصير والطفولة» كيف أنه: «لا شيء يخطر في بالي، من عصر الطفولة ذاك، كما تخطرُ صورةُ الفُرش الممدودة فوق حصائر على الأرض، بانتظار من يرمي نفسه فوقها وينام… فحتى اليوم، لأغلبية غرف النوم اليابانية: مجموعة حصائر سميكة على شكل مستطيلات ذات حجم واحد (تاتامي) مضفورة من سويقات الرزّ، تتلاصق فيما بينها كأحجار البلاط… نُخرجها مساء ونمدّها للنوم، وفي الصباح نطويها ونعيدها إلى مكانها داخل الجدار» وحين قدمتْ له ولصديقه إحدى مضيفات الفندق فراشين للنوم مصنوعين من هذا النوع…تذكّرَ البيتَ الطيني في ضيعته: «إنه السلوكُ نفسه بحذافيره لشخوص بيتنا ذاك، وأكادُ أناديهم بالاسم قبل النوم».
ما يحكيه الشاعر عضيمة صاحبُ التجربة الطويلة في «الغربة والغرابة اليابانية» هو تأملاتٌ وتحليلاتٌ مذهلة في نباهتها، لأنه يجعلنا ننتبه، فنتأمل، ونفكر، ونقارن ونكتشف، وفوق كل ذلك نستمتع…. تماماً كما الياباني الذي لديه في صلب تكوينه الروحي وعقيدته «الشنتوية» أنّ كل شيء يجبُ أن« يصبَّ في بحيرة السعادة الإنسانية على هذه الأرض»!