في “كتاب اللمحات” صقر عليشي يوجز الوجيز ويداعب العديد من القامات الأدبية والشعرية
تشرين- ثناء عليان:
(طرتُ سريعاً.. طرت سريعاً جداً.. أسرع من ريح عاتية. ومخرت عباب سماوات عالية.. لم ينجُ علوٌّ فيها منّي.. ورأيت جبالاً، حانية الهامة،.. تمرق من تحتي.. نمتُ،..وكان الغيم يسير وئيداً.. أدنى من تحتي
لا شيءَ يأتي، ولا شيءَ يُولدُ… مهما يكنْ من فراغ… هكذا قالتِ الفلسفهْ.. هكذا حسمتْ أمرَها!.. لم يكنْ حسمُها مستساغْ.. ومفاهيمُها.. لم تكنْ دوماً مُنصفهْ..)..
هذه الشذرات للشاعر صقر عليشي مختارة من ديوانه “كتاب اللمحات” الصادر عن اتّحاد الكتاب العرب مؤخراً، وهو الديوان الحادي عشر يضم ثلاثين لمحة على امتداد 130 صفحة من القطع المتوسط في هذه المجموعة مداعبات ومحاورة لعديد من القامات الأدبية والشعرية .. وهي تتسم بالطرافة والجدة.. وهناك استعمال بشكل مغاير للتاريخ والأسطورة.. وقد حاول عليشي في هذا كله المحافظة على الروح الساخرة والفكاهة والتهكم مما اتفق على أنه يسم تجربته الشعرية، ويطبعها بطابع خاص..
لمولوده الجديد “كتاب اللمحات” أقام اتحاد الكتاب العرب- فرع طرطوس- حفل توقيع حضره ثلة من الأدباء والمثقفين والمهتمين بالشعر.. يقول الشاعر صقر عليشي في تصريح لـ “تشرين”: لهذا الكتاب خصوصية في تجربتي، وهو يختلف عن المجموعات التي سبقته من حيث موضوعاته وطريقة تناولها، وهو يشكل نشيداً واحداً يتغنى بالحياة ويمجدها ويحاول لمس ما هو جوهري فيها، سابراً أغوار النفس البشرية ومكنوناتها.. وتأتى أهمية هذه المجموعة في محاولتها نفض الترهل والرتابة عن كاهل القصيدة وإظهار تفردها في قراءة الأشياء والنظر إليها، وتعدد الدلالات مع بساطة وابتعاد عن الإغراق في الذهنية، وباختصار هي مغامرة على حدود الخطر…
كنت حريصاً في تجربتي- يضيف عليشي- على الابتعاد عن التكرار وقول ما قيل، وربما نجحت في هذا إلى حد ما.. وهو ما تكلم عنه ولاحظه الكثير من النقاد، وكنت دائماً أعطي هذا الجهد والوقت اللازمين، إلا أنه في كل أعمالي وإن اختلفت وتنوعت مواضيعها وأشكالها ما يشير بوضوح إلى سمات ونكهة تدل وتؤشر باتجاهي.
ويؤكد صاحب “كتاب اللمحات” أنه حين عرف ذات مرة أن الشعر هو التجلي الأسمى للغة، لم يكن يمزح، ولم يكن يلقي الكلام على عواهنه، وبقي حريصاً على أن يظهر هذا التجلي في أبهى حلله المستطاعة لديه.
يعطي الشاعر عليشي البساطة (وليس المباشرة) أهمية كبيرة ويفضلها على الغموض.. وهو ليس ضد الغموض ضمن حدود معقولة، والبساطة هي أصعب وأنأى وأبعد شأواً في موازين الفن والجمال، الغموض قد يأتي خادعاً في أحايين كثيرة. أما البساطة فليست قادرة على الخداع، إما أن تكون أو لا تكون، وقديماً كان يطلق على هذا النوع عند نقادنا: السهل الممتنع، نعم هو كذلك.
الشاعر منذر عيسى تحدث عن شخصية الشاعر الشفافة، وانتمائه إلى الجذور الريفية، والطفولة التي رافقتهُ وجعلت تجربته الشعرية تتوهَّج وتتألق، مؤكداً أن الشاعر صقر عليشي يقتطع من جسده وروحه شعراً، يجري بعفوية نبع يتدفق عنوة من بين صخور جبالنا.. يكتب بصدق وعفوية يسيطر عليها المنطق والبساطة والرؤيوية، هدفه عالم خالٍ من الشرور يسوده الحب والوفاء والإيثار، منسجماً مع ما يؤمن به من أفكار وما يحمله من مبادئ.. والشاعر عليشي له خطه الشعري المميز، قادم إلى المدينة من ريف غني لم يستطع الفكاك من مشاهده، كما لم يستطع مغادرة طفولته فبقيت منابع الشعر مرافقة له.
بدورها أكدت الأديبة ميرفت علي لـ “تشرين” أن الشاعر صقر عليشي، يمتازـــ كما العادةـــ بالبناء الفني المتماسك، وباحترام القصيدة الشعرية الحداثية والتمكُّن الواثق من عناصرها، والقدرة على تحريكها في الاتجاهات التخييلية والفكرية المُراد الإفصاح عنها ومقاربتها.. وما زالَ الشاعر “عليشي” والكلام للأديبة علي يُثبت عند كل إصدار شعري أنه ليس (ابن اليوم) في التعامل مع النص الشعري، إذ إنه منذ زمن مديد كرَّس أستاذيَّة في الشعر مستحقة، سمةُ الاختزال في المنطوق الشعري، وكلَّما عُنيَ بانتقاء مفردات وتراكيب أقلّ للتعبير عن فكرته، حقَّق قبولاً لدى القارئ وأدهشهُ. وتؤكد أن الديوان يعكسُ اهتمام الشاعر بالقضايا الميتافيزيقية والفلسفية والأدبية والوجودية، كما بالأنسنة والتشخيص، والدعابة، والطرافة التي تجعلُ قصيدته خفيفة الظل مُستملحة من جانب القرَّاء، وترى أنه في (ديوان اللمحات) قد أوجزَ الوجيز من القول، وكثَّف اللحظة الشعرية ومشهديَّاتها المتتابعة كما لم يفعل أحدٌ من قبله.
يشار إلى أنه تم تكريم الشاعر من قبل اتحاد الكتاب العرب في طرطوس.