محمد باقي محمد.. معه تتلاطمُ الجهاتُ على وقع مقامات الحبّ والنّوى

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • محمد باقي محمد.. معه تتلاطمُ الجهاتُ على وقع مقامات الحبّ والنّوى


    محمد باقي محمد.. معه تتلاطمُ الجهاتُ على وقع مقامات الحبّ والنّوى


    تشرين- راوية زاهر:

    في (ارتطام الجهات) المجموعة القصصية للأديب محمد باقي محمد ثمة توليفة لمنجزات حطّت رحالها على منصّات الإبداع والألق.. و(ارتطام الجهات)؛ عنوان تقليدي خُطّ على غلاف الكتاب، مأخوذ من عنوان القصة الأولى التي بدأ بها المؤلف كتابه، وستكون لنا معها وقفة.

    أمّا الكتاب بتفصيلاته؛ فقد ضمّ بين وريقاته السُّمر خمسَ قصص قصيرة، تجوب عوالم الحرب المترامية الأطراف والمجازر المتوّزعة على امتداد المفازات المرئية في مدى النظر.. وكان للتغريبة السّورية الحصة الكبرى.. ففي القصة الأم (في ارتطام الجهات)، والاستسلام لتصاريف القدر الذي رمى البطل ذات غفلة في متاهات الحروب خارج الحدود في أفغانستان، وصليل الحرب الراجع لأيديولوجيات وعقائد ومحسوبيات منخرطة في عمق الوجود والوقوع في الأسر، وقد حمل بعينين معصوبتين عصيتين على التنبؤ بالزمان أوالمكان لتنبس شفة من جملة شفاه تنبئ المأسورين بوصولهم إلى سجن (غوانتامو ) وقد حملت القصة عنوان (مجاز الغفلة).

    وقصة أخرى اجتماعية المنحى بحدثٍ بسيط (القندريس البري)، وأخرى عاطفية، كانت مفتوحة الزمان والمكان حصلت أحداثها في روسيا مع مغتربَين عاشا قصة حبّ بكل أبعادها، وكتب لهما الفراق على قارعة المطار، وبعد أربعين عاماً يجمعهما سوق الخضار، ليفرقهما منعطف جديد بعد أن رغبا في ألا تنتهي لحظات اللقاء، وهي تحت عنوان (لمقام النوى).

    أما القصة الموجعة التي تأخذ بتلابيب الروح فكانت إحدى قصص المجزرة الأرمنية (أرمنوهي)، في غفلة من هروب لفتاة في مقتبل الشباب برفقة أخيها، يحالفهما الحظ بالهرب من هول مجزرة طالت البشر والحجر، ولكنه يدير ظهره عليهما في منتصف رحلة الفرار، وتلقي «الجندرمة» العثمانية القبض عليهما فتوسع الأخ ضرباً، ويتناوب جنود الدورية على اغتصاب الفتاة غير آبهين بصدى ألمها الذي مزّق حدود السماء على مسمع ومرأى أخيها العاجز لتتسربل بدمها، وفي احتضان أبدي تسّلم وأخيها الروح لباريها.

    أمّا القصة الأخيرة التي اتجهت إلى السرد الطويل والمقاطع الموزعة على أرقام، بمقامات أربعة، فهي تميل إن صحت التّسمية إلى مقطع روائي طويل، تحت عنوان

    (مفازات العشق).. والمقامات هي: مقام الحبّ، مقام النّوى، تقاسيم السّواد، مقام الموت.. والقصة بتقسيماتها اللافتة أشبه بلوحاتٍ ومشاهد سينمائية باعثة على المتعة والتشويق، وتثير الحكاية جدلية واسعة حول وقوع رجل في أتون الهوى بين امرأتين مثاليتين للعشق، زوجة لايطيق فراقها وعشيقة ملكت عليه فؤاده، لتكشف زوجته رسائله العشقية على حين غفلة، وبِطِين الغواية يتلوّث في مقامات النوى، لتؤول الحكاية إلى هزائم مبكرة، وأزمنة تغشاها الملالة والرداءة والسّأم، فلا الزوجة استطاعت تجاوز خيانته، ولاهو بمقدوره الابتعاد عنها، ولا التخلي نفسياً وروحياً عن المرأة التي تعيش حياة أسريّة غاية في التعقيد والشك، لتنتهي القصة بموت العاشق صريعاً تحت ملاءة الصّقيع والبرد وصورة تترنح بين قدميه لعشيقته، وهذا ما جعل النهاية تنذر بزلازل تالية مفتوحة على كل الاحتمالات من صراعات ودهشة.

    في (ارتطام الجهات): عنوان المجموعة، وعلى الرغم من تخصيصه لقصة واحدة إلا أنه يصلح بامتياز لكل المجموعة، فهو شامل يحمل حالة من الإرباك والضّياع والتشتت، فتداخل الجهات ليس إلا اعترافاً واضحاً وصريحاً بسيطرة الشتات، والوقوع في صراعات الزمن ببعده الموضوعي والنّفسي، لتسيطر حالة مربكة على الشخصيات بين التقدّم والإحجام والتريّث.

    ففي قصة (ارتطام الجهات) التي أخذت المجموعة عنوانها، توّزع المكان بين دمشق وحلب، ليدور الحدث في إطاره الزماني حول استدعاء «سعد» للخدمة الاحتياطية، وحالة التشظي والحرب في مكان ينزّ صدأ وباروداً، ووقوعه على مرمى رصاصة من قناص يحتل شرفات الزمن، وبين أم سعد الملتاعة والتي تعدُّ لطلة الحضور الأول للقصة، وخطيبة سعد التي هي الشخصية التالية، وقد تناثرت لوحة الحياة الأخيرة على صورتهما، ليشي المشهد الدرامي الأخير للقصة بفجيعة الخاتمة، عناق يجمع الأم والخطيبة بعد معانقة الشهيد للثرى ورحلته الأبدية إلى عالم السرمد.

    «تعانقتا بقوة ثمّ انخرطتا في نشيج حارّ، وعلى البعد كان ثمّة مهر يخبّ محمحماً في كل اتجاه».. أمّا الحوار فغلب عليه «المونولوج» فتحول في الكثير من القصص إلى عنصر انتماء وانبثاق داخل النص، فهذا النوع من الحوار هو الأكثر قدرة على التعبير عن العوالم الداخلية للنفس، وخاصة أن القصص تميل إلى عالم العلاقات السرية والتخفي من سطوة الأعراف والتقاليد وجلد كل ما هو خارج عن أعراف القبيلة الأم،

    فتثير بذلك جملة من الدّوافع والتناقضات والصراعات لتتضارب في عراك بين الخير والشر أوالرفض والقبول. هكذا سيكون عندما تتحول المرأة في مكان ما إلى حقبة وحلم وعمر.

    لغة الكاتب عالية جداً تعكس ثقافة واسعة، وأن ثمة معجماً لغويّاً ثراً يخدم أدوات إبداعه المتنوّعة، وقد تجلى واضحاً في سكب الصياغة وتنويعات السرد.
يعمل...
X