الروائي والشاعر والصحفي اللبناني عباس بيضون (الفرنسية)
عبد الرحمن مظهر الهلوش
21/6/2023
الشاعر والروائي عباس بيضون: شعراء الجيل الثاني صنعوا قصيدة النثر
ضيف هذا الحوار يعد من أبرز رواد قصيدة النثر العربية، الشاعر والروائي والصحفي اللبناني عباس بيضون، ولد عام 1945 في صور، جنوب لبنان، تتلمذ على يد والده الكاتب محمد زكي بيضون، ودرس الأدب العربي في الجامعة اللبنانية في بيروت، سافر إلى باريس وحصل على الماجستير من جامعة السوربون.
أمضى حياته متنقلا ما بين بيروت، باريس، وبرلين، ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات، بما في ذلك الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية. وحول تأثير تركه العمل السياسي على تجربته الشعرية يقول "لا أظن أن تركي العمل السياسي هو الذي نقلني إلى الشعر أو الرواية"، ويؤكد "لا يسرني أن شعري صعب التداول بنظر القراء".
قصة طويلة بعنوان "الحياة تحت الصفر" لعباس بيضون (الجزيرة)
ويرى عباس بيضون أن "شعراء الجيل الثاني لقصيدة النثر هم الذين صنعوا قصيدة النثر". وأصدر بيضون، مجموعة من الدواوين الشعرية، منها: "صور"، (1985)، و"حجرات"، (1992)، و"أشقاء ندمنا"، (1993)، و"الموت يأخذ مقاساتنا"، (2008)، "بطاقة لشخصين"، (2009)، و"صلاة لبداية الصقيع"، (2014)، و"ميتافيزيق الثعلب"، (2017)،"الحداد لا يحمل تاجا"، (2021). وفي الرواية، صدر له: "تحليل دم"، (2002)، و"مرايا فرانكشتاين"، (2011)، و"ساعة التخلي"، (2013)، و"خريف البراءة"، رواية (2016)، و"بين بابين"، (2020).
ومارس عباس بيضون الكتابة الصحفية في صحف عديدة ليستقر مدير تحرير مسؤولا عن القسم الثقافي في جريدة "السفير"، فإلى الحوار:
- تقول: تعرضت لصدمة الخروج من قريتي، وشعرت بأن عهدي الذهبي السعيد تركته هناك. كما أنك قدمت من الجنوب ومن صور تحديدا إلى بيروت، هل قذفت بك أمواج صور إلى الشعر؟ أم كان لبيروت دور في ذلك؟ وهل ما زلت تحن إلى إقامتك الريفية تلك؟
لا أعرف كيف قلت هذا الكلام ولا أتذكره الآن، ولا أعرف أيضا إذا كان هذا شعوري الآن أو هذا جوابي الآن.
أظن أنني انتقلت من قرية صغيرة لكن إلى مدينة صغيرة، أما كيف كان الأمر صدمة فأظن أن فعل الانتقال نفسه كان مقلقا وكان متعبا وكان ما يشبه السحر، إذ إن هذا الانتقال والدخول إلى المدينة ورؤية ملامحها ومعالمها كان بالنسبة لي يشبه السحر، كنت كمن يمشي في حلم، لكن هذا الحلم لم يكن سعيدا بالضرورة.
هذا الحلم كان مقلقا وكان مخيفا، لنوع ما، كان حلما بالغربة، وحلما بالانتقال (بالمرور) بين الغرباء، كان العالم كله بالنسبة إلي غريبا ومفاجئا، لكن لم تكن هذه المرة الأولى التي أشعر كذلك، في قريتي الصغيرة كان لدي دائما الشعور بأنني غريب، وأن شرودي وحلمي وسرحاني أمور تخصني أنا، لأنني الوحيد في العالم الذي يعيشها.
لم أكن أشعر على الإطلاق أن هذا الأمر أتقاسمه مع آخرين، لم أكن أشعر أن هذا الشرود والحلم كان طبيعة عامة جامعة، طبيعة لكل الناس. كنت أشعر أنني وحدي الذي يعيش كذلك، وحدي الذي يملك هذه الملكة، وحدي الذي يسرح ويشرد ويعيش عمليا في شروده وفي سرحانه، يعيش في مخيلته، أريد أن أقول إن المدينة الصغيرة هذه التي أقلقني بادئ الأمر الانتقال إليها تحولت فيما بعد وبعد وقت طويل إلى سريتي الشخصية المخيلة أو الحقيقية، لأنني لا أستطيع أن يميز على الإطلاق بين الحقيقي والمتخيل في علاقتنا بالواقع.
طال الوقت حتى وجدتني أكتب قصيدة طويلة هي عبارة عن ديوان كامل، قصيدة طويلة عن صور، لا أعرف ما الذي حدا بي إلى كتابة هذه القصيدة، ربما حدا لي هذا الشعور لأنني أملك حياة وإن هذه الحياة التي أملكها تقع خارجي، وأنا لا أستطيع بنحو ما أن أستخرجها من نفسي، إنني حين أتكلم عن نفسي، إنني حين أتكلم عن مدينتي وعن انتقالي إليها، إنما أحرر نفسي من هذه الغربة، وإنني في تسجيلي لهذه الوقائع، وفي تسجيلي لهذه الأحاسيس، إنما أتحرر منها، إنما أحولها إلى طبيعة أو إلى واقع.
*لنبدأ من نشأتك ودراستك وأول ميولك نحو الكتابة، ما الذي تغير بالنسبة إليك بعد ترك العمل السياسي والاتجاه إلى الشعر والرواية؟
لا أظن أن تركي العمل السياسي هو الذي نقلني إلى الشعر أو الرواية، كنت دائما أشعر منذ ولادتي أن عملي هو الكتابة، وأشعر منذ ولادتي أنني أنتمي إلى الأدب على نحو ما، أنتمي إلى الأدب الذي كان والدي أيضا ينتمي إليه، لكنني شعرت بعد تركي للعمل السياسي، شعرت أنني أستطيع أن أختار، كنت من قبل ضائعا بين خيارات كثيرة، بين خيارات تتكالب علي، من دون أن أحدد موقفا منها، ومن دون أن أستطيع أن أختار بينها. وجدتني أقرر أنني كاتب، أقرر أنني لنحو ما وبدرجة أولى شاعر. إنني أنا شاعر، قبل هذه اللحظة لم أكن قادرا على هذا القرار، قبل هذه اللحظة كان شعوري دائما بأنني متقاسم بأنني مختلط، بأنني متوزع بين هنا وهناك. وأن هذه الحيرة وهذا الضياع يؤدي بي إلى كسل وإلى استنكاف عن العمل، إلى نوع من الراحة الشخصية التي أركن إليها فلا أفعل شيئا، ولا أمارس شيئا وإنما أكتفي بالحلم بالأشياء وتخيلها.
- وماذا عن الذين يرون أن شعرك صعب التداول والوصول وصعب الفهم؟ هل ذلك يضعك في موقف سلبي تجاه قرائك؟
أما أن شعري صعب التجاوز فهذا أمر لا يسرني، ولا يسعدني، لأنني أظن دائما أننا نكتب أسهل ما نستطيعه داخل الإطار الذي نكتب فيه وداخل المشاعر الغامضة والأسئلة المقلقة والأسئلة المستعصية المطروحة علينا.
- في إحدى محاضراتك، تقول "الشعر لم يبدأ بعد"، رغم أنك كنت قد بدأت الكتابة في أوائل السبعينيات ونشرت أول أعمالك "الوقت بجرعات كبيرة" سنة 1982
"الشعر لم يبدأ بعد"، هذا العنوان لمحاضرة لي في الجامعة الأميركية في بيروت، استلهمته من الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889-1976)، الذي يقول إن "الفلسفة لم تبدأ بعد"، حين يقول هايدغر إن الفلسفة لم تبدأ بعد، كان يعني أن نموذج الفلسفة غائب، وحين أقول إن الشعر لم يبدأ بعد، أعني الأمر نفسه، أعني أن نموذج الشعر وأن شكل الشعر وأن المثال الشعري، وأن الشعر بشكل عام ليس شيئا نستطيع أن نحدده، ليس شيئا نستطيع أن نجده، نحن دائما في بحث عن الشعر.
نحن دائما في مقترب من الشعر، نحن دائما في محاولة لإيجاد ما يشبه الشعر، ما يتراءى لنا أنه إطار الشعر، ما يتراءى لنا أنه نظير الشعر، نحن نكتب نظير الشعر، في الوقت ولا نعرف عن الشعر إلا ذلك، نحن نحاول أن نتخيل ما هو الشعر ونحاول أن نجد ما يتراءى لنا أنه حقيقة الشعر، أنه شبيه الشعر، أنه مثل الشعر، والشعر دائما هو هذا المثال الذي نسعى إليه، والذي يهمنا فقط أن نقترب منه، أو أن نجد إطارا له، أن نجد فقط ما يشبهه.
- لماذا تأخر عباس بيضون في الإعلان عن ولادته الشعرية إن صح التعبير إلى سن الـ37؟
لماذا تأخرتُ عن إعلان ولادتي الشعرية: أظن أنني لست الوحيد في ذلك، في ذلك الوقت كنا نظن أنه أمر جلل، وأن الشعر ليس شيئا نستطيع أن ندعيه فورا كنا نتأخر كثيرا عن ادعاء الشعر، كنا نظن أن الشعر أكثر وأكبر وأبعد من أن نصل إليه دفعة واحدة، كنا نظن أننا حين نقرر أن نكون شعراء يلتزم (يتطلب) الأمر منا التزاما واضحا، ويستلزم منا أيضا تبنيا واضحا وقرارا واضحا، وهو قرار يشبه الحياة، قرار على مستوى الحياة، أن نكون شعراء، هذا يعني أن نكون شيئا آخر، أن نكون أنفسنا، أن نكون فوق أنفسنا إذا جاز التعبير. أن نكون أمام أنفسنا.
- هل يعد عباس بيضون من شعراء الجيل الثاني لقصيدة النثر في لبنان، وهل أخذت تلك القصيدة لديك اتجاهات وحساسيات وأشكالا مختلفة عن الشعراء الآخرين؟
أحسب أن الجيل الثاني والأجيال التي تلت هي التي تصنع على نحو متدرج قصيدة النثر، حين نتكلم عن قصيدة النثر نتكلم الآن عن إيجاد قصيدة ذات حدود وذات موضوع وذات مساحة، وحين نتحدث عن قصيدة النثر لا نتكلم عن حيز عام نتكلم عن حيز خاص، وأظن أن شعراء الجيل الثاني والجيل الذي سبقهم يساهمون أكثر فأكثر في هذا النموذج الجزئي لقصيدة النثر، يساهمون في إيجاد قصيدة النثر كقصيدة لا كشعر عام.
- أثناء إقامتك في فرنسا اطلعت على تجارب بعض الشعراء، ومنهم الشاعر الفرنسي بيار جان جوف، تقول إنك افتتنت بأشعاره وخصوصا في قصيدته "عرق الدم"، هل ساهم ذلك في تغيير مسارك بالاتجاه إلى نمط كتابي آخر؟ وهل قرّبك ذلك من عالمية الشعر؟
حين قرأت "عرق الدم" للروائي والشاعر الفرنسي بيير جان جوف (1887-1976)، لم أقرأ نصا وديوانا فتنني كما أثارني "عرق الدم". أنا أدين "لعرق الدم" في شعري وفي حياتي وفي ثقافتي الشعرية وفي فهمي للشعر، لكنني لا أدين "لعرق الدم" فقط؛ أنا أدين لشعراء كثر هؤلاء الشعراء أستحضرهم على نحو أو آخر في شعري، إن هذا الشعر هو في جانب منه قراءة للشعر، هذا الشعر هو في جانب منه نظرية في الشعر، هذه النظرية وهذه القراءة استمددتها وأستمر في استمدادها من شعراء يعنوني، وجان جوف أحدهم.
لكني لا أستطيع أن أقول إن جان جوف كان الأكثر تأثيرا في شعري، وكنت قلت دائما إن الشاعر الذي ردني إلى الشعر بعد فترة من القطيعة والخمول كان الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس (1909-1990)، لكن لم يكن ريتسوس، الوحيد الذي يسهم في تجربتي الشعرية، ويتغلغل ويتداخل في هذه التجربة، هناك شعراء آخرون بعضهم شعراء نثر وبعضهم الأغلب شعراء وزن، لكن لا يمكنني مثلا وعلى سبيل المثال إلا أن أذكر شعراء فرنسيين مثل، سان جون بيرس (1887-1975)، وشعراء إنكليز مثل، توماس ستيرنز إليوت (1888-1965)، وشعراء ألمان بوجه خاص مثل الشاعر الألماني فريدريش هولدرلينا (1770-1843)، كل هؤلاء يشكلون على نحو ما معرفتي بالشعر وشعري الخاص.
عباس بيضون: لا أريد أن نتحرر من التراث، هذه دعوة سطحية إلى حد كبير لكن لا ينبغي أن نكون استنساخا (غيتي)
- نشأت في عائلة على علاقة بالتراث، والدك كان كاتبا، وجدك لأمك كان شيخ دين، هل سرت على خطا الأب والجد؟ أم سعيت إلى نقض هذا الإرث؟ وهل أنت مع فكرة أن يتم تحرير الشعر من التراث، ومن المعنى والرسائل؟
أسأل نفسي دائما هذا، لكن حين نتحدث عن التراث يجب أن نعرف أي تراث نتحدث عنه، حين نتحدث عن التراث لا نستطيع بسهولة أن نجد صلة وثيقة بين المتنبي وقصيدة النثر، وبين المتنبي والشاعر أنسي الحاج (1937-2014)، لا نستطيع بسهولة أن نجد هذه الصلة، ولا نستطيع بسهولة أن نتكلم عن انتقال متدرج من المتنبي وأبي نواس حتى محمد الماغوط (1934-2006)، هناك فجوة بين شعراء الحداثة والقدامى الذين طال قدمهم والذين هم قدماء كثيرا، بيننا وبين هؤلاء القدماء فجوة، لكن مع ذلك كله، هناك شيء يجمعنا هناك الشعر.
إن الشعر موجود عند المتنبي وعند أبي نواس وعند الماغوط وعند أنسي الحاج وعند أدونيس، وعند كل هؤلاء، وبين هؤلاء وأولئك ثمة صلة ما، لا نستطيع أن نحددها، ولا نعرفها بالضبط، لكن من المؤكد أن المتنبي حاضر على نحو ما بطريقة ما في شعر المحدثين، أقول ذلك لأننا نقرأ بافتتان وبإعجاب شديد شعره وشعر أبي نواس، وغيرهما، نقرأ بإعجاب شديد عالمين بنفس الوقت، وإن هذه القصيدة التي نقرؤها بإعجاب شديد لا سبيل لها لتدخل بشعرنا ولا سبيل لها لتدخل بلغتنا.
نعرف مع ذلك كله أن شعرنا يبقى في لغتنا، لكن لا نستطيع أن نحدد هذا الشيء، لا نستطيع أن نعرفه لأنه شيء من الشعر، لأن غموضه وألغازه هما أيضا من طبيعته، إنهما من طبيعة الشعر، الشعر يدخل في الشعر، والشعر يتقلب على الشعر، بدون أن نعرف كيف كان ذلك وكيف صار ذلك وكيف يمكن أن نكون في هذا العصر على صلة بامرئ القيس وأية صلة بيننا وبين امرئ القيس.
لا أريد أن نتحرر من التراث، هذه دعوة سطحية إلى حد كبير، لا بد أن لنا تراثنا وأننا لا نستطيع أن نتحرر من تراثنا، لكن اختلاطنا بهذا التراث لن يكون على الإطلاق استنساخا ولا يكون على الإطلاق حذوا، ستكون صلتنا بالشعر إجمالا لهذا الذي يجمعنا هو الشعر، بدون أن يعرفوا مثالا لهذا الشعر وبدون أن يعرفوا نموذجا أخيرا ونهائيا.
- يقول بعض النقاد عن مجلة "شعر" التي أسسها يوسف الخال عام 1958، إنها كانت بداية لأكبر حركة شعرية حديثة. ماذا يقول عباس بيضون عن "شعر" المجلة، وعن المؤسس يوسف الخال وعن شعراء مجلة "شعر"؟
مجلة "شعر" كانت من دون شك في ريادة الشعر وحملت لفترة طويلة ولا تزال تحمل رسالة الحداثة الشعرية، لكننا كي لا نظلم ولكي لا نهمل نحن مضطرون لأن نعترف بغير مجلة "شعر"، وبالتأكيد لمجلة "شعر" مكانتها ودورها في هذا السياق، لماذا مثلا لا نعترف بمجلة "الآداب" التي احتضنت قصيدة التفعيلة، بينما قصيدة النثر احتضنتها مجلة "شعر" على نحو ما، وقصيدة التفعيلة قصيدة مهمة جدا ولا تزال تحافظ على أهميتها ولا يزال لها شأنها الكبير، وقد انجلت أكثر ما انجلت في مجلة "الآداب" وتبنتها هذه المجلة.
مجلة "شعر" هي التي أنتجت عددا من شعرائنا المرموقين، والتي أنتجت أيضا سجالا حول الشعر لا يزال يتردد حتى الآن، مجلة شعر هذه أظن أنها أتمت رسالتها وأننا الآن نعيش ما بعدها، إننا الآن مضطرون إلى أن نحيل مجلة "شعر" على التراث، عندما نتحدث عن التراث، مجلة "شعر" صارت تراثا، وشعراء مجلة "شعر" صاروا جزءا من تراثنا بالمعنى الإيجابي جدا للكلمة، بمعنى أن القصيدة الحديثة صنعت تراثا وهي الآن تتدرّج من التراث، وهي الآن تبني على التراث، وقصيدة مجلة "شعر" هي هذا التراث، مجلة "شعر" التي كانت صلة الوصل الأولى بيننا وبين القصيدة الغربية، هي الآن بترجماتها ونصوصها جزء هائل من تراثنا.
- تقول كلما تقدمت في السن، غاب عني مفهوم الشعر، هل وصلت إلى تعريف نهائي للشعر؟ وهل أنت راض عن مسيرتك الشعرية؟ وماذا كان عباس بيضون يحلم غير أن يكون شاعرا؟
كلما تقدمت في السن غاب عني مفهوم الشعر، فعلا، لأنني أتيقن ذلك لأننا لا نستطيع أن نصل إلى مفهوم للشعر، أتيقن مع تقدم السن أن الشعر ليس دعوة وأن الشعر ليس رسالة، أن الشعر هو العمل الشعري، وهو الممارسة الشعرية، مع الممارسة الشعرية نبتعد كثيرا أو قليلا عن النظرية، نبتعد كثيرا أو قليلا عن النموذج المتوهم في عقولنا للشعر في مخيلاتنا للشعر، نبتعد عن الشعراء الآخرين أيضا، الشعراء الذين فتنونا في حقب من حياتنا، ومع تقدمنا في السن نصنع قصيدتنا ونحن بدرجة من التواضع التي نعرف معها أن هذه القصيدة لن تكون الشعر كله، وأن هذه القصيدة ليست الشعر، وأن هذه القصيدة هي قصيدتنا نحن، وهذه القصيدة ذرة في الشعر، هي نثرة من نثرات الشعر.
نستطيع أن نقول أيضا ونعرف أيضا أن هذه القصيدة قد لا تكون هي الشعر، قد لا تكون هي المثال الشعري، قد تكون مزعومة ومدعاة. وبهذا المعنى أستطيع القول إن ما نصل إليه مع تقدم السن هو أننا نيأس نهائيا من تحديد الشعر ونيأس أكثر فأكثر من إيجاد نموذجه العام، من إيجاد القصيدة بشكل عام أو القصيدة الأولى (القصيدة الأم)، القصيدة الرائدة القصيدة التي يبني عليها ويستنسخها الآخرون.
- هل دخولك إلى الرواية وصل إلى مرحلة الألفة أم لم تستطع التأقلم مع الجو الروائي؟ وهل توافق على أن الرواية أكثر حاجة من الشعر بالنسبة للكاتب؟
أنا كتبت عددا لا بأس به من الروايات، يجعل مني روائيا، ويجعلني مستحقا لاسم الروائي، لكن هذه الروايات لم أكتبها إلا لأن الرواية دائما حاضرة وماثلة في أذهاننا وفي مخيلاتنا، أحسب أننا جميعا نحلم بكتابة الرواية، أحسب جميعا أننا -الكتّاب- بعد أن نحلم مطولا بكتابة قصيدة وحين نصل إلى نحو ما إلى هذه القصيدة نبدأ بالحلم بالرواية.
والرواية بالنسبة لنا تبدو أكثر فأكثر حاجة حقيقية، ويبدو أكثر فأكثر أننا لا نستطيع بالشعر أن نقول أنفسنا بالكامل، يبدو لنا أننا لا نستطيع بالشعر أن نقول عددا من الأسرار وعددا من الألغاز وعددا من التفاصيل التي لا يقولها الشعر، الشعر يعبر بها ويكثفها ويحولها إلى إشارة ويحولها إلى حجة وإلى طبعة وإلى إطار. في الرواية نملك أكثر من ذلك، في الرواية تبقى هذه التفاصيل وهذه الألغاز وهذه الأسرار الصغيرة؛ تبقى على طبيعتها، تبقى ألغازا، وتبقى أسرارا.
في حين قد تتحول في الشعر إلى نوع من الميتافيزيق، قد تتحول في الشعر إلى ما يتعدى الواقع إلى ما لا واقع له، إلى مجرد إشارة لا نعرف إلى أين تتجه ولا نعرف أين هي بالضبط.
في الرواية نحن نرتاح من تعب الشعر، ونحن لا نصنع الشعر، ولا نهتدي إليه، الشعر هو ما يهتدي إلينا، وهو ما يصنعنا، نحن ننتظر أن يصل الشعر إلينا ننتظر أن يجدنا الشعر، أن يهتدي الشعر إلينا، ننتظر أن يصادفنا الشعر، الشعر هو هكذا، ليس شيئا منوطا بالإرادة، أو منوطا بالرغبة.
الرواية من هذه الناحية هي مزيج من الإرادة وما فوق الإرادة، هي مزيج من الإرادة والوحي، من الاستلهام، الرواية هي كذلك، في الرواية شعر، في الرواية ما يعوضنا أحيانا عن الشعر، لأننا في لحظة ما نحتاج إلى هذا الشعر، الذي نتعرف عليه كشعر، لأن الشعر القصيدة هو ما لا نتعرف عليه كشعر، ما نتعرف عليه دائما كشيء من الغيب كشيء من الوحي كشيء وراء العالم، ثم إن الرواية هي حاجتنا للكتابة، بينما الشعر قد ينقطع، قد لا يبقى لنا قد يهجرنا وقد يتركنا، وفي الرواية نجد دائما طريقا ما للوصول إليها. نجد طريقا ما للاقتراب منها.
تعليق