غوته (يوهان فولفغانغ)
Goethe (Johann Wolfgang von-) - Goethe (Johann Wolfgang von-)
غوته (يوهان ڤولفغانغ -)
(1749-1832)
يوهان ڤولفغانغ غوته Johann Wolfgang Goethe شاعر ومسرحي وروائي وقاص وناقد أدبي وجمالي وعالم طبيعيات ورجل دولة، وصل بالأدب الألماني مع صديقه شيلر Schiller إلى ذروته الكلاسيكية. ولد غوته بمدينة فرانكفورت على نهر الماين Frankfurt am Main وتوفي في مدينة ڤايمار Weimar، وهو يتحدر من أسرة برجوازية. كان والده خبيراً حقوقياً وحمل لقب مستشارٍ قيصري Kaiserlicher Rat، ويُعد من أعيان المدينة وذا شخصية جادة مستقيمة، وكانت والدته كَتارينا إليزابت تِكستور Katharina Elisabeth Textor ابنة محافظ فرانكفورت، مثقفة ذات خيال واسع، وكانت تحكي لابنها ڤولفغانغ الكثير من الحكايات الأدبية والشعبية ومن «ألف ليلة وليلة» بأسلوبٍ شهرزادي شائق. وقد كان للعبة مسرح العرائس التي تلقاها هدية من جدته كبير الأثر في ميل الصبي إلى تأليف الحوارات المسرحية واقتباس القصص. وفي أثناء احتلال فرنسا مدينة فرانكفورت حلّ في بيت آل غوته عام 1759 الضابط الفرنسي الكونت تورانك Thoranc المحب للثقافة والمسرح والفنون، فتعرف غوته عن طريقه الرسامين وأساليب عملهم ورافقه إلى عروض المسرحيات الفرنسية وتعلم منه اللغة الفرنسية. لم ينتسب غوته إلى أي مدرسة، بل تلقى تعليمه على يد أبيه وعدد من المعلمين الخاصين في اللغات الألمانية والإنكليزية والإيطالية والعبرية، وفي الرياضيات والتاريخ والجغرافيا والرسم والموسيقا والفروسية والمبارزة والسباحة والرقص. وكان منذ صغره كثير المطالعة، يؤلف القصص ويقرض الشعر، فما إن بلغ الرابعة عشرة حتى قدم لأبيه مجموعة قصائده التي ملأت خمسمئة صفحة. وفي العام الأخير من مرحلة فرانكفورت عشق غوته صبية جميلة أسماها غرِتْشِن Gretchen، وهو الاسم الذي يتردد كثيراً في أعماله اللاحقة، ولاسيما في مسرحية «فاوست» مرتبطاً بالحب والحزن والألم.
غادر غوته مسقط رأسه عام 1765 متوجهاً إلى لايبزيغ Leipzig لدراسة الحقوق نزولاً عند رغبة أبيه. لكنه أبدى اهتماماً كبيراً بمحاضرات الأدب للأديبين غوتشِد[ر] Gotsched وغِلّرت[ر] Gellert كما اتصل بعدد كبير من الأدباء والفنانين في المسرح والأوبرا، والتقى آنّا كترينا شونكوبف Anna Kathrina Schönkopf ابنة صاحب الفندق وتاجر النبيذ، فعشقها، إلا أن غيرته المفرطة أزعجتها فابتعدت عنه، مما آلمه حتى المرض، فعاد إلى فرانكفورت للعلاج. وقد ظهرت هذه التجربة في القصائد الغنائية لديوان «أنِتّه» Annette. وعندما شُفي من مرضه وأزمته النفسية توجه عام 1770 إلى مدينة شتراسبورغ Strassburg ذات الهوية المزدوجة الألمانية الفرنسية لينهي دراسته في جامعتها، ويُعد لقاؤه هناك بالأديب والباحث هردر[ر] Herder منعطفاً في حياته الفكرية والأدبية، ولاسيما أن هِردر، كان يرى أن الشعر ينبع من الوجدان لا من الفكر، وأن أعظم الشعر هو الشعبي منه، وشعر عباقرة الفطرة مثل هوميروس وشكسبير، وبعض شعراء الفرس والعرب، فأخذ غوته بقراءة ودراسة هؤلاء متابعاً إرشاد هردر. وفي الوقت نفسه تردد على محاضرات التشريح الطبي زيادةً في العلم، كما اكتشف الصرح المعماري الألماني القوطي (الغوطي)، أي كنيسة مونْسْتَر Das Münster من بين كثير من الصروح الألمانية في المدينة، فدرسه من حيث جمالية النسب المعمارية التي تظهر قوة النفس الألمانية وصلابتها، ثم وضع كتابه «في فن العمارة الألماني» Von deutscher Baukunst عام (1773). وفي شتراسبورغ أيضاً أحب غوته الصبية فريدريكه بريون Friedericke Brion التي ألهمته بعض أجمل قصائده وقصصه التي ضمنّها دواوينه ومسرحياته اللاحقة، لكنه تخلى عن الفتاة فجأة دونما سبب واضح، وفي نهاية السنة اللاحقة حصل غوته على الإجازة في الحقوق وعاد في نهاية عام 1771 إلى فرانكفورت ليمارس المهنة، إلا أن والده وأحد أقربائه هما اللذان أدارا العمل، في حين التفت غوته إلى كتاباته الأدبية، فبدأ التخطيط لمسرحية «غوتس فون برليشنغن» Götz von Berlichingen وأخرجها عام 1773 فتكللت بالنجاح الواسع، ولفتت انتباه أنصار حركة «العاصفة والاندفاع» Sturm und Drang الأدبية الفكرية، إذ شعروا بشكسبير يُبعث ألمانياً، ففي هذا النص طبَّق غوته بحرص كل النظريات الجديدة في المسرح، ويعود موضوع المسرحية إلى مرحلة «حرب الفلاحين» في عامي (1524-1525). وكانت النتيجة الجدل الحاد الذي تفجر حول شخصية غوتس المحارب القوي الواثق من نفسه، الذي عجز عن المطالبة بحقه الطبيعي في حرية السلوك والتفكير في عصره. تحتوي المسرحية على شخوص من جميع طبقات وشرائح المجتمع، ويتحدث كل منها بلغته التي تتناسب وخلفيته الاجتماعية والثقافية. وهنا يتضح تأثير كل من مارتين لوتر وهانس ساكس[ر] H.Sachs في صياغة المسرحية لغوياً.
بدأ غوته رواية «آلام الشاب ڤِرْتر» Die Leiden des jungen Werthers عام (1774)، إلا أنه في أثناء إقامته في مدينة ڤتْسلار Wetzlar عام 1772 للحصول على إجازة الدفاع أمام المحاكم الأعلى مرتبة، عشق الصبية شارلوتّه بوف Charlotte Buff التي كانت مخطوبة لأحد الوجهاء، فكبت حبه، والتفت إلى فتاة مثقفة جميلة تدعى مكسيمليانِه لاروش Maximiliane Laroche ألهته عن ذكرى شارلوته الأليمة. وفي الحقبة ذاتها انتحر أحد معارفه من وجهاء المدينة يأساً من حبه لامرأة متزوجة، فدخلت هذه التجارب الثلاث في صلب رواية «ڤِرْتر» التي أحدثت عند نشرها دوياً هائلاً وجعلت من غوته أديباً مشهوراً ومحط اهتمام النقاد، ولاسيما بعد أن نشر وأخرج في العام نفسه مأساة «كلاڤيغو» Clavigo التي تعالج الصراع بين الحب والوفاء من جهة، والطموح المهني والشهرة من جهة أخرى. وفي خضم المرحلة نفسها بدأ غوته العمل على مادة «فاوست» التي شغلت ما يقارب ستة عقود من حياته حتى اكتملت فنياً، كما أبدى اهتماماً عميقاً بمتابعة أعمال معاصريه من أدباء مرحلة «العاصفة والاندفاع» مثل كلوبشتوك[ر] Klopstock ولِنتس[ر] Lentz وهردر. واللافت في سعة اهتمامات غوته هو التفاته إلى شخصية النبي محمد r، وتناولها من وجهة نظر مغايرة كلياً لما كان سائداً آنذاك عن الإسلام ونبيه. ففي أوائل السبعينيات اشتغل غوته على مسرحية بعنوان «محمد» Mohamed، بقيت شذرة غير مكتملة، تعرض شخصية النبي بصفته عبقرياً يحمل قبساً ربانياً يريد نشره بين الناس من أجل خيرهم، لكنهم يقفون في وجهه بقسوة، إلى أن يدرك بعضهم صدق الرسالة فيؤمن ويبصر.
تعرف غوته في عام 1774 فيلسوف الأديان السويسري يوهان كاسبَر لاڤاتر J.K.Lavater الذي صار من أصدقائه الخلص، كما تعرف كارل أوغُست Karl August الذي صار أمير ڤايمار وصديق غوته وراعيه. وفي العام التالي تعرف غوته ليلي شونِمَن Lili Schönemann فعشقها وخطبها، ولكن سرعان ما رفضته عائلتها الأرستقراطية لأنه لا يليق بها اجتماعياً. وللسبب نفسه رفضتها عائلة غوته لأن الفتاة لن تنسجم وأجواء البرجوازية، فأنهى غوته الخطبة وفي قلبه جرح عميق، عبّر عنه في مسرحية «سْتِلاّ» Stella عام (1775) وفي ملحمـة «هِرْمَن ودوروتيا» Hermann und Dorothea عـام (1797) وفي مسرحيـة «إغمونت» Egmont عـام (1788)، كما في كثير من القصائد.
تلقى غوته عام 1775 دعوة إلى ڤايمار من أميرها كارل أوغست فلباها بلهفة، واستدعى هردر من شتراسبورغ لينضم إليه. وفي ڤايمار عشق غوته السيدة شارلوته فون شتاين Charlotte von Stein وهي أم لسبعة أطفال، وتكبره بسنوات عدة، وهي سيدة واسعة الثقافة، رزينة ذات خبرة حياتية رصينة، استطاعت أن تلجم تهور غوته حياتياً وتكبح جماحه، فكانت علاقتهما نموذجاً للصداقة الحميمية الراقية والمؤثرة في تبلور شخصية غوته وتحول كتاباته بالتدريج من الاندفاعات العاطفية إلى رزانة العقل، ممهدة بذلك للمرحلة الكلاسيكية. ويرى بعض الباحثين أنه لولا السيدة فون شتاين لما بقي غوته في ڤايمار التي كانت آنئذ قرية كبيرة أكثر منها مدينة، مقارنة بفرانكفورت ولايبزيغ وشتراسبورغ. لكن الأمير المحب والمشجع للآداب والفنون استدعى إليها عدداً من كبار الأدباء والفنانين والعلماء، فحوَّلها بجهودهم في مدة قصيرة إلى حاضرة للمسرح والثقافة، ولاسيما بعد انضمام هردر ثم شيلر إلى غوته الذي صار عام 1776 مستشاراً للأمير فانغمس في أعباء إدارة الإمارة. وفي عام 1779 رفّعه الأمير إلى مرتبة وزير، ثم حصل له من القيصر يوزف الثاني Josef II عام 1783 على لقب «نبيل»، فصار اسمه فون غوته von Goethe. نجح غوته في تسيير دفة الإمارة مالياً واقتصادياً وثقافياً، وكان نِعم المرشد للأمير في الشؤون السياسية، ولكن من دون تدخل مباشر. وكان يفضل لإمارة ڤايمار وغيرها من الإمارات الصغيرة أن تتحد في حلف يحافظ على استقلالها بعيداً عن هيمنة بروسيا في الشمال أو النمسا في الجنوب، إلا أن مشروعه السياسي لم يتحقق إلا على يد نابليون، وإن لسنوات قليلة.
حصل غوته من الأمير على منزل ذي حديقة واسعة، ولكن فقيرة، فاعتنى بها بشغف، اقتداءً بفلسفة روسو[ر] J.J.Rousseau واسبينوزا[ر] B.Spinoza التي تدعو إلى التوحد مع الطبيعة، وبعد سنوات قليلة اضطر غوته، آسفاً وحزيناً، للانتقال إلى منزل واسع في وسط المدينة يفي بأعبائه المتنامية على صعيد الإدارة والتنظيم اقتصادياً وثقافياً. وفي أثناء هذه المرحلة الـڤايمارية قام غوته بعدد من الرحلات المهمة داخل ألمانيا وخارجها، كان لها كبير الأثر في توسيع معارفه واتصاله بالبشر وبالطبيعة، كرحلته برفقة الأمير إلى جبال الهارتس Harz عام 1777 والرحلة السويسرية 1779 وزياراته لشتوتغارت وفرانكفورت وشتراسبورغ. وكان من ثمار هذه المرحلة شعر غنائي غزير وقصائد مناسبات كثيرة وعدد من التمثيليات الترفيهية لحفلات البلاط، إلى جانب بعض مسرحيات الفصل الواحد، مثل «أخ وأخت» Die Geschwister عام (1776)، و«انتصار الوجدانية» Triumph der Empfindsamkeit عام (1778)، ثم الصيغة النثرية لمسرحية «إفيغينيه» Iphigenie عام (1779)، إلى جانب بعض أجزاء مسرحية «إغمونت» ومسرحية «تاسو» Tasso ومشروع رواية «ڤيلهلم مايستر» Wilhelm Meister. وعندما تأكد الشاعر من أن جل وقته الثمين يضيع هدراً في العمل الإداري والتنظيمي ومن أن مصادر إلهامه آخذة بالنضوب تملَّكته فكرة ضرورة الهروب من السائد إلى أجواء جديدة مغايرة. وفي أثناء وجوده في منتجع كارلسباد Karlsbad في شهر أيلول من عام 1786 حزم أمره وغادر إلى إيطاليا. وفي حين أثنى الأمير على قرار غوته، فقد أثار سفره المباغت نقمة السيدة فون شتاين، مما أدى إلى القطيعة بينهما. نضج غوته بما يكفي لمواجهة الحياة من دون مرشد أو كابح لجموح عاطفته، ولهذا لم يحاول إعادة المياه إلى مجاريها بينه وبين شارلوته فون شتاين. جال غوته في إيطاليا مدة عامين، شكَّلا المخاض الملائم لولادته الجديدة رائداً للحركة الكلاسيكية الألمانية، فقد خبر فيهما تجارب ثرية وعميقة على الصعيد الفني والأدبي والعلمي، وعلى مستوى الاحتكاك المباشر بالناس والطبيعة بعيداً عن الممارسات المألوفة. وإلى جانب ذلك كله أتيح له الوقت وصفاء المزاج ليتم جميع المسرحيات التي كان قد بدأ بها، ولاسيما الصيغة الشعرية من «إفيغينيه في تاورِس» Iphigenie auf Tauris فاتحة الحقبة الكلاسيكية الألمانية، وهي اقتباس من نص أوربيدس[ر]، وقد أضفى على الصيغة الشعرية الشكل الكلاسيكي كي تتناسب اللغة مع المضمون الواضح والمتسق، وأراد من خلالها التعبير عن كل الطاقات والقوى الإنسانية في سياق منسجم مترابط. فالمثل الأعلى لم يعد كثيراً من التعقل - كما في عصر التنوير - أو كثيراً من المشاعر - كما في مرحلة العاصفة والاندفاع - بل صار المثل الأعلى للجمال هو المثل الأبولوني المتسم بالاعتدال والصرامة في الوقت نفسه، وبالسمو والجلال الهادئ والفرح العاقل، كما دوّن كماً من اليوميات ساعدته لاحقاً على تأليف كتاب «الرحلة الإيطالية» Die italienische Reise.
عندما عاد غوته إلى ڤايمار في حزيران عام 1788 طلب من الأمير أن يخفف عنه جملة من الأعباء الإدارية، كي يتفرغ أكثر للفن والعلم والأدب، فسلمه الأمير إدارة مسرح البلاط، فنجح في ذلك فصار مسرح ڤايمار بالتعاون مع شيلر قدوة للحركة المسرحية المتطورة في ألمانيا كلها، ولاسيما على صعيد التخطيط الثقافي للموسم المسرحي كله، والالتفات إلى إعداد النصوص المسرحية للخشبة بما يلائم جمهور ڤايمار الآن وهنا وما يثير تفكيره وتساؤلاته، هذا إلى جانب تنامي التركيز على دور المخرج والمرشد المسرحي Dramaturg في عملية إبداع العرض المسرحي. أشرف غوته أيضاً على جامعة يينا Jena، فاجتذب إليها نخبة الفلاسفة، من مثل فيشتِه[ر] (فيخته) Fichte وهيغل[ر] Hegel وشِلينغ Schelling وأبرز الأدباء آنذاك من مثل برنتانو[ر] Brentano وتيك Tieck وڤوس Voss. والتفت في الوقت نفسه إلى بحوثه العلمية في البصريات، ولاسيما في الألوان والطيف، التي مازالت موضع اهتمام الباحثين حتى اليوم. وعكف على علم الحيوان وعلم النبات فأنشأ علم المورفولوجيا Morphologie الجديد (علم الشكل) المنبثق في رأيه من تداخلهما، ووضع نظريته في قانون ضرورة وجود القطبين المتضادين شرطاً للحياة واستمراريتها، كوجود الذكر والأنثى والدافئ والبارد والصالح والطالح. وعلى الرغم من هذا الانشغال الكثيف في العلوم نشر غوته مجموعة قصائد «المراثي الرومية» Romische Elegien عام (1790) إلى جانب بعض المسرحيات الترفيهية للبلاط. وفي هذه الأجواء التي أدت إلى ضعف علاقات غوته اجتماعياً وانعزاله النسبي مال قلبه إلى كريستيانه ڤولبيوس Christiane Vulpius بين عامي (1765-1816) وهي صبية من عامة الشعب شبه أمية، فأقامت في منزله مع أختها وإحدى قريباتها، إلا أنه لم يستطع الاقتران بها رسمياً، خوفاً من ملامة البلاط والوسط الاجتماعي، لكنها ظلت معه نِعم الرفيقة حتى عام 1806 عندما دافعت عنه ببسالة في وجه جنود نابليون، فأعلن زواجهما، واعترف بأبوته لابنهما أوغست الذي كان في السابعة عشرة من عمره حينذاك.
عندما قامت الثورة الفرنسية استقبلها غوته بغضب وحنق شديدين، وعدها من أبشع أحداث التاريخ، لما تمخضت عنه من مذابح وفظاعات غير إنسانية، فقد كان بطبيعته العلمية يميل إلى التطور الطبيعي ويكره الطفرة أو الثورة. وفي عام 1792 عندما حشدت الملكيات الأوربية قواتها لنصرة الملكية الفرنسية المنهارة، شارك غوته فيها باسم ڤايمار، فخبر حقيقتها ونتائجها وتحول إلى نصير لأفكار الثورة الرئيسية، المرتبطة بالحرية والعدالة والأخوة في وطن واحد للجميع. وقد عبر غوته عن موقفه من الثورة ورجالها وأخلاقياتها في صياغته الروائية للقصة الشعبية «الثعلب راينِكه» Reinecke Fuchs عام (1794) التي تعود إلى أوائل القرون الوسطى، وكذلك في ملحمة «هرمَن ودوروتيا».
لم تتوطد أواصر الصداقة بين غوته وشيلر إلا في عام 1794، فأثمر اللقاء بين العبقريتين الفريدتين أدبياً ومسرحياً وعلمياً عقلانية الكلاسيكية الألمانية التي ظهر تأثيرها عميقاً في معظم أنحاء أوربا. أحس كلاهما بحاجة أحدهما للآخر وبضرورة تكاملهما: غوته بحسيته العالية وواقعيته وشيلر بعقلانيته المثالية. وفي عام 1794 كتب شيلر إلى غوته يقول: «وإني لآمل أن نسير ما بقي من طريقنا معاً، ولآمل أن يكون في ذلك نفع أكبر، فإن رفاق السفر الذين يلتقون متأخراً بعد رحلة طويلة يكون لديهم بقدر التأخر ما يحكيه بعضهم للبعض الآخر». وقد تحقق أمل شيلر، إذ استجاب غوته لندائه، فأثمر التعاون الوثيق مجموعة من روائع الكلاسيكية الألمانية. ففي العام نفسه نشر غوته في مجلة شيلر «ربات الفصول الأربعة» Die Horen قصصاً مستلهمة من أجواء «ألف ليلة وليلة»، ثم نشر روايته «سنوات تعلم ڤيلهلم مايستر» Wilhelm Meisters Lehrjahre بين عامي (1795-1796) في أربعة أجزاء، التي مهدت الطريق لظهور الرواية التربوية Bildungsroman في أوربا، وهي في الوقت نفسه استمرار لرواية «رسالة ڤيلهلم مايستر المسرحية» Wilhelm Meisters theatralische Sendung عام (1785) التي استشرفت ظهور المسرح القومي الألماني. وبين عامي 1796-1797 نشر غوته في مجلة شيلر الجديدة «تقويم ربات الفنون» Musenalmanach مجموعة «قصائد ڤينيسية هجائية قصيرة» Venezianische Epigramme ومجموعة قصائد «هدايا المائدة» Xenien الهجائية السياسية بالاشتراك مع شيلر. وفي عام 1797 ظهرت ملحمة «هرمن ودوروتيا» التي عدها شيلر ذروة الأدب الألماني، وعالج فيها غوته قضايا الأخلاق البرجوازية بحس عالٍ بالمسؤولية. وفي عام 1803 نشر غوته مسرحية «الابنة الطبيعية» Die naturaliche Tochter التي يذكّر عنوانها مباشرة بمسرحية «الابن الطبيعي» Le Fils naturel عام (1757) لمعاصره الفرنسي ديدرو[ر] D.Diderot. وبعد سنتين ترجم عنه غوته حوارية «ابن أخ رامو» Le neveu de Rameau عام (1763) ذات المعالجة الجدلية الساخرة للأخلاق الاجتماعية البرجوازية. وفي المرحلة نفسها عاد غوته لمعالجة موضوعته الأثيرة فاوست، فنشر عام 1801 «فاوست - شذرة» Faust ein Fragment إلى جانب مجموعة من أروع البالادات.
في عام 1805 توفي شيلر بمرض رئوي أجهز عليه في مقتبل العمر، فقال غوته: «لقد ضاع مني بضياعه نصف وجودي…» وبموت شيلر بدأت شيخوخة غوته، فكثرت أمراضه وتلاحقت، لكنه لم يفقد أبداً صفاء ذهنه ولم يتوان عن الكتابة المنتجة. وكانت السنوات بين وفاة شيلر ووفاة زوجته كريستيانه صاخبة بالأحداث المؤلمة والحزينة على الصعيدين العام والخاص، مما دفعه إلى المزيد من التركيز على مشروعاته الأدبية، ولكأنه يسابق الزمن، فنشر عام 1808 الجزء الأول الكامل من «فاوست» Faust I، وتلتها عام 1809 مسرحية «باندورا» Pandora ورواية «الأنساب المختارة» Die Wahlverwandtschaften التي نقل فيها ظاهرة التبادلات المزودجة من ميدان الكيمياء إلى مجال العلاقات البشرية، ولاسيما علاقات الحب، كما بدأ كتابة الجزء الأول من سيرته الذاتية «من حياتي: أدب وحقيقة» Aus meinem Leben, Dichtung und Wahrheit، ثم نشر الجزء الثاني عام 1800 والثالث 1814، أما الرابع والأخير فإنه لم ينشر إلا عام 1833 لتعرضه لأشخاص مازالوا على قيد الحياة.
تعرف غوته عام 1811 في فرانكفورت إلى ماريانّه يونغ Marianne Jung ذات الثلاثين عاماً فتطورت بينهما علاقة حب كبير، فريدة في نوعها، استمرت حتى وفاته، وكانت أجمل لقاءاتهما تتمحور حول مباريات قرض الشعر بينهما. وفي ربيع عام 1814 قرأ غوته ترجمة المستشرق النمساوي يوزِف فون هامر - بورغْشْتَل Josef von Hammer- Purgstall لديوان الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي[ر]، فنتج من لقائه الثنائي بماريانه وحافظ «الديوان الغربي الشرقي» West östlicher Diwan الذي صدر عام 1819، ويحتل المكان الثاني في الأهمية بعد «فاوست» بين مؤلفات غوته كلها. وفي عام 1827 نشر غوته الصيغة النهائية الكاملة للديوان، الذي قسمه على خطى الشاعر حافظ إلى أبواب بموضوعات مختلفة، فهذا للحب وذاك للخمرة أو للحكمة، إلخ. ويعبر الشاعر في ديوانه هذا بأسلوب الشعر الشرقي عن حبه الكبير لماريانه، وكذلك عن أحد موضوعاته الأثيرة، العزوف عن الحياة. وتتصل قصائد الديوان ببعضها اتصال حلقات السلسة، والكتاب التاسع «كتاب زُليخة» Buch Suleika هو حوارية شعرية بين حبيبين هما حاتم وزليخة، أي بين غوته وماريانه، ويتضمن الكتاب قصيدة «جينجو بيلوبا» التي تعبر عن أهم موضوع في العصر الكلاسيكي، وهو الطموح إلى التناغم والانسجام بين الأشياء التي تبدو متباينة ومختلفة.
ويعد «الديوان الغربي الشرقي» أبرز وثيقة عبّر فيها غوته عن موقفه من مسألة الأديان (اليهودية والمسيحية والإسلام والمجوسية)، وكان نصيب الإسلام الأوفر، ولاسيما أن الديوان قد نشأ تحت تأثير إسلامي خالص عبْر أشعار حافظ الشيرازي، التي قال عنها في مذكراته عام 1815: «لقد أثرت مجموعة أشعاره فيَّ تأثيراً عميقاً قوياً، حملتني على أن أنتج وأفيض بما أحس وأشعر، لأني لم أكن قادراً على مقاومة هذا التأثير القوي على نحو آخر، لقد كان التأثير حياً قوياً»؛ ولهذا فإن الطابع الإسلامي غالب على كل شيء فيه، فحتى القصص التي وجدت أصولها في المسيحية ووردت في القرآن، أخذها غوته عن القرآن، كما فعل في قصة أهل الكهف مثلاً. ولطالما أظهر غوته إعجابه الشديد بالإسلام، حتى عدّه والتقوى شيئاً واحداً، وقد قال فيه أيضاً: «إذا كان معنى الإسلام هو التسليم لله، فعلى الإسلام نحيا ونموت جميعاً». وفي كتابه «المسيحية وأديان العالم»Christentum und die Weltreligionen عام (1970) قال الباحث اللاهوتي السويسري هانس كونغ Hans Küng: «ما من أحد ساهم في إعادة الاعتبار للإسلام في أوربا بعد تهكم ڤولتير مثل غوته في الديوان الغربي الشرقي».
من أبرز قصائد غوته في المرحلة الأخيرة من حياته ما أجمع النقاد على تسميته بـ«قصائد الاعترافات» Bekennisgedichte، من مثل «كلمات أصلية أورفية» (نسبة إلى أورفيوس الإغريقي) Urworte Orphisch و«منبوذ» Paria و«ثلاثية العواطف الجياشة» Trilogie der Leidenschaften التي تضم القصيدة الشهيرة «مرثية ماريّنباد» Marienbader Elegie و«تذكارات شيلر» Schillers Reliquien و«وصية» Vermachtnis، إضافة إلى مجموعة «مبادىء وتأملات» Maximen und Reflexionen عام (1833). انكب غوته في هذه المرحلة على مادة «سنوات تجوال ڤيلهلم مايستر» Wilhelm Meisters Wanderjahre فأنهى صيغتها الأولى عام 1821 والتامة عام 1829. وإذا كان موضوع «سنوات تعلم ڤيلهلم مايستر» هو تعليم فرد، فإن موضوع «سنوات التجوال» تعليم للبشرية كلها. والتطور الذي يرسمه طريق ڤيلهلم مايستر في إبداع الشاعر هنا يتطابق مع تطور فلسفة غوته نفسه، من فردية إلى قومية فإلى إنسانية، إذ كان غوته الشيخ يحرص كل الحرص على أن يكون بعمله ملكاً للبشرية كلها، لا لنفسه ولا لأمته الألمانية فحسب.
مع مطلع عام 1832 أتم غوته «مأساة فاوست ـ الجزء الثاني» Der Tragödie zweiter Teil، وبذلك يكون الشاعر قد أنجز العمل الجبار الذي رافقه طوال ستين عاماً من عمره. وفيه أعاد صياغة الموضوع الشعبي في الشكل الكلاسيكي: «مقدمة في السماء» تتبعها خمسة فصول. وتتكون المأساة من أبيات مقفاة أصبح معظمها مقولات مأثورة. وعلى الصعيد الفلسفي صار قدر العالم فاوست، الذي لا تستطيع دراسة العلوم أن ترضيه، ممثلاً لقدر كل إنسان طموح أخطأ الطريق، فيظهر الشيطان مفيستوفيلِس Mephistopheles ليعرض عليه خدماته، مطالباً بروح فاوست ثمناً لمساعدته. ويصير العقد مع الشيطان رهاناً بين الاثنين. ويقود مفيستوفيلس فاوست عبر مختلف مجالات الحياة الاجتماعية في ظل هيمنة الكنيسة الكاثوليكية على مقاليد الأمور كافة في العصور الوسطى. وفي هذا الجزء تحتل مأساة الفتاة البرجوازية اليافعة غرِتْشِن Gretchen الحيز الأكبر، فهي تسقط تراجيدياً ضحية ضيق أفق الأخلاق البرجوازية وصرامة التعاليم الكنسية. وفي الجزء الثاني بدأ غوته بشخصية هِلينا الإغريقية Helena ممثلةً لكمال الجمال والثقافة الكلاسيكيين بوصفها نموذجاً يطمح فاوست إلى استعادته. ثم تعود الأحداث إلى العصور الوسطى لتتداخل مع العصر الإغريقي في محاولة لتوحيد الثقافتين عن طريق شخصية يوفوريون Euphorion ابن هِلينا وفاوست. وفي جزأي المأساة يتضح مبدأ التوازي، ومبدأ التصاعد في تكرار بعض الأحداث من عصور مختلفة. أما الخلاص من الرهان بين فاوست ومفيستو في الجزء الثاني فيبرِز مفهومين مختلفين للعصر، ففي حين يعلم مفيستو أن اللحظة محدودة في الزمن يراهن العالم المتنور والطموح فاوست على خلودها ويصيح:
«يمكنني أن أقول للّحظة:
تريثي قليلاً، فما أجملك!
إن أثر أيامي الأرضية
لا يمكن أن يسقط في الآباد.
وفي الإحساس بمثل هذه السعادة
أستمتع الآن بأكمل لحظة».
وفي منتصف شهر آذار عام 1832 أصيب غوته بنزلة صدرية حادة. وكانت أوتيليِه Ottilie زوجة ابنه تقوم على رعايته بمساعدة خادمه العتيق هاينريش Heinrich. وقد شهدا بأن آخر ما لفظه لسان غوته كان جملة: «افتحا مصراع الشباك، حتى يدخل مزيد من النور». ولفظ غوته أنفاسه جالساً في كرسيه الوثير. وتحمل شاهدة قبره سطوراً كتبها مسبقاً عام 1814، تقول:
«صبياً، كنتَ عَزوفاً عنيداً
شاباً، كنتَ مغروراً مبهوراً
رجلاً، كنتَ للأعمال مريداً
شيخاً، كنتَ ذا طيش ورعونة!
وعلى شاهد قبرك سيقرأ الناس:
إنك كنتَ بحق إنساناً».
نبيل الحفار
Goethe (Johann Wolfgang von-) - Goethe (Johann Wolfgang von-)
غوته (يوهان ڤولفغانغ -)
(1749-1832)
غادر غوته مسقط رأسه عام 1765 متوجهاً إلى لايبزيغ Leipzig لدراسة الحقوق نزولاً عند رغبة أبيه. لكنه أبدى اهتماماً كبيراً بمحاضرات الأدب للأديبين غوتشِد[ر] Gotsched وغِلّرت[ر] Gellert كما اتصل بعدد كبير من الأدباء والفنانين في المسرح والأوبرا، والتقى آنّا كترينا شونكوبف Anna Kathrina Schönkopf ابنة صاحب الفندق وتاجر النبيذ، فعشقها، إلا أن غيرته المفرطة أزعجتها فابتعدت عنه، مما آلمه حتى المرض، فعاد إلى فرانكفورت للعلاج. وقد ظهرت هذه التجربة في القصائد الغنائية لديوان «أنِتّه» Annette. وعندما شُفي من مرضه وأزمته النفسية توجه عام 1770 إلى مدينة شتراسبورغ Strassburg ذات الهوية المزدوجة الألمانية الفرنسية لينهي دراسته في جامعتها، ويُعد لقاؤه هناك بالأديب والباحث هردر[ر] Herder منعطفاً في حياته الفكرية والأدبية، ولاسيما أن هِردر، كان يرى أن الشعر ينبع من الوجدان لا من الفكر، وأن أعظم الشعر هو الشعبي منه، وشعر عباقرة الفطرة مثل هوميروس وشكسبير، وبعض شعراء الفرس والعرب، فأخذ غوته بقراءة ودراسة هؤلاء متابعاً إرشاد هردر. وفي الوقت نفسه تردد على محاضرات التشريح الطبي زيادةً في العلم، كما اكتشف الصرح المعماري الألماني القوطي (الغوطي)، أي كنيسة مونْسْتَر Das Münster من بين كثير من الصروح الألمانية في المدينة، فدرسه من حيث جمالية النسب المعمارية التي تظهر قوة النفس الألمانية وصلابتها، ثم وضع كتابه «في فن العمارة الألماني» Von deutscher Baukunst عام (1773). وفي شتراسبورغ أيضاً أحب غوته الصبية فريدريكه بريون Friedericke Brion التي ألهمته بعض أجمل قصائده وقصصه التي ضمنّها دواوينه ومسرحياته اللاحقة، لكنه تخلى عن الفتاة فجأة دونما سبب واضح، وفي نهاية السنة اللاحقة حصل غوته على الإجازة في الحقوق وعاد في نهاية عام 1771 إلى فرانكفورت ليمارس المهنة، إلا أن والده وأحد أقربائه هما اللذان أدارا العمل، في حين التفت غوته إلى كتاباته الأدبية، فبدأ التخطيط لمسرحية «غوتس فون برليشنغن» Götz von Berlichingen وأخرجها عام 1773 فتكللت بالنجاح الواسع، ولفتت انتباه أنصار حركة «العاصفة والاندفاع» Sturm und Drang الأدبية الفكرية، إذ شعروا بشكسبير يُبعث ألمانياً، ففي هذا النص طبَّق غوته بحرص كل النظريات الجديدة في المسرح، ويعود موضوع المسرحية إلى مرحلة «حرب الفلاحين» في عامي (1524-1525). وكانت النتيجة الجدل الحاد الذي تفجر حول شخصية غوتس المحارب القوي الواثق من نفسه، الذي عجز عن المطالبة بحقه الطبيعي في حرية السلوك والتفكير في عصره. تحتوي المسرحية على شخوص من جميع طبقات وشرائح المجتمع، ويتحدث كل منها بلغته التي تتناسب وخلفيته الاجتماعية والثقافية. وهنا يتضح تأثير كل من مارتين لوتر وهانس ساكس[ر] H.Sachs في صياغة المسرحية لغوياً.
بدأ غوته رواية «آلام الشاب ڤِرْتر» Die Leiden des jungen Werthers عام (1774)، إلا أنه في أثناء إقامته في مدينة ڤتْسلار Wetzlar عام 1772 للحصول على إجازة الدفاع أمام المحاكم الأعلى مرتبة، عشق الصبية شارلوتّه بوف Charlotte Buff التي كانت مخطوبة لأحد الوجهاء، فكبت حبه، والتفت إلى فتاة مثقفة جميلة تدعى مكسيمليانِه لاروش Maximiliane Laroche ألهته عن ذكرى شارلوته الأليمة. وفي الحقبة ذاتها انتحر أحد معارفه من وجهاء المدينة يأساً من حبه لامرأة متزوجة، فدخلت هذه التجارب الثلاث في صلب رواية «ڤِرْتر» التي أحدثت عند نشرها دوياً هائلاً وجعلت من غوته أديباً مشهوراً ومحط اهتمام النقاد، ولاسيما بعد أن نشر وأخرج في العام نفسه مأساة «كلاڤيغو» Clavigo التي تعالج الصراع بين الحب والوفاء من جهة، والطموح المهني والشهرة من جهة أخرى. وفي خضم المرحلة نفسها بدأ غوته العمل على مادة «فاوست» التي شغلت ما يقارب ستة عقود من حياته حتى اكتملت فنياً، كما أبدى اهتماماً عميقاً بمتابعة أعمال معاصريه من أدباء مرحلة «العاصفة والاندفاع» مثل كلوبشتوك[ر] Klopstock ولِنتس[ر] Lentz وهردر. واللافت في سعة اهتمامات غوته هو التفاته إلى شخصية النبي محمد r، وتناولها من وجهة نظر مغايرة كلياً لما كان سائداً آنذاك عن الإسلام ونبيه. ففي أوائل السبعينيات اشتغل غوته على مسرحية بعنوان «محمد» Mohamed، بقيت شذرة غير مكتملة، تعرض شخصية النبي بصفته عبقرياً يحمل قبساً ربانياً يريد نشره بين الناس من أجل خيرهم، لكنهم يقفون في وجهه بقسوة، إلى أن يدرك بعضهم صدق الرسالة فيؤمن ويبصر.
آلام الشاب فِرتر |
تلقى غوته عام 1775 دعوة إلى ڤايمار من أميرها كارل أوغست فلباها بلهفة، واستدعى هردر من شتراسبورغ لينضم إليه. وفي ڤايمار عشق غوته السيدة شارلوته فون شتاين Charlotte von Stein وهي أم لسبعة أطفال، وتكبره بسنوات عدة، وهي سيدة واسعة الثقافة، رزينة ذات خبرة حياتية رصينة، استطاعت أن تلجم تهور غوته حياتياً وتكبح جماحه، فكانت علاقتهما نموذجاً للصداقة الحميمية الراقية والمؤثرة في تبلور شخصية غوته وتحول كتاباته بالتدريج من الاندفاعات العاطفية إلى رزانة العقل، ممهدة بذلك للمرحلة الكلاسيكية. ويرى بعض الباحثين أنه لولا السيدة فون شتاين لما بقي غوته في ڤايمار التي كانت آنئذ قرية كبيرة أكثر منها مدينة، مقارنة بفرانكفورت ولايبزيغ وشتراسبورغ. لكن الأمير المحب والمشجع للآداب والفنون استدعى إليها عدداً من كبار الأدباء والفنانين والعلماء، فحوَّلها بجهودهم في مدة قصيرة إلى حاضرة للمسرح والثقافة، ولاسيما بعد انضمام هردر ثم شيلر إلى غوته الذي صار عام 1776 مستشاراً للأمير فانغمس في أعباء إدارة الإمارة. وفي عام 1779 رفّعه الأمير إلى مرتبة وزير، ثم حصل له من القيصر يوزف الثاني Josef II عام 1783 على لقب «نبيل»، فصار اسمه فون غوته von Goethe. نجح غوته في تسيير دفة الإمارة مالياً واقتصادياً وثقافياً، وكان نِعم المرشد للأمير في الشؤون السياسية، ولكن من دون تدخل مباشر. وكان يفضل لإمارة ڤايمار وغيرها من الإمارات الصغيرة أن تتحد في حلف يحافظ على استقلالها بعيداً عن هيمنة بروسيا في الشمال أو النمسا في الجنوب، إلا أن مشروعه السياسي لم يتحقق إلا على يد نابليون، وإن لسنوات قليلة.
حصل غوته من الأمير على منزل ذي حديقة واسعة، ولكن فقيرة، فاعتنى بها بشغف، اقتداءً بفلسفة روسو[ر] J.J.Rousseau واسبينوزا[ر] B.Spinoza التي تدعو إلى التوحد مع الطبيعة، وبعد سنوات قليلة اضطر غوته، آسفاً وحزيناً، للانتقال إلى منزل واسع في وسط المدينة يفي بأعبائه المتنامية على صعيد الإدارة والتنظيم اقتصادياً وثقافياً. وفي أثناء هذه المرحلة الـڤايمارية قام غوته بعدد من الرحلات المهمة داخل ألمانيا وخارجها، كان لها كبير الأثر في توسيع معارفه واتصاله بالبشر وبالطبيعة، كرحلته برفقة الأمير إلى جبال الهارتس Harz عام 1777 والرحلة السويسرية 1779 وزياراته لشتوتغارت وفرانكفورت وشتراسبورغ. وكان من ثمار هذه المرحلة شعر غنائي غزير وقصائد مناسبات كثيرة وعدد من التمثيليات الترفيهية لحفلات البلاط، إلى جانب بعض مسرحيات الفصل الواحد، مثل «أخ وأخت» Die Geschwister عام (1776)، و«انتصار الوجدانية» Triumph der Empfindsamkeit عام (1778)، ثم الصيغة النثرية لمسرحية «إفيغينيه» Iphigenie عام (1779)، إلى جانب بعض أجزاء مسرحية «إغمونت» ومسرحية «تاسو» Tasso ومشروع رواية «ڤيلهلم مايستر» Wilhelm Meister. وعندما تأكد الشاعر من أن جل وقته الثمين يضيع هدراً في العمل الإداري والتنظيمي ومن أن مصادر إلهامه آخذة بالنضوب تملَّكته فكرة ضرورة الهروب من السائد إلى أجواء جديدة مغايرة. وفي أثناء وجوده في منتجع كارلسباد Karlsbad في شهر أيلول من عام 1786 حزم أمره وغادر إلى إيطاليا. وفي حين أثنى الأمير على قرار غوته، فقد أثار سفره المباغت نقمة السيدة فون شتاين، مما أدى إلى القطيعة بينهما. نضج غوته بما يكفي لمواجهة الحياة من دون مرشد أو كابح لجموح عاطفته، ولهذا لم يحاول إعادة المياه إلى مجاريها بينه وبين شارلوته فون شتاين. جال غوته في إيطاليا مدة عامين، شكَّلا المخاض الملائم لولادته الجديدة رائداً للحركة الكلاسيكية الألمانية، فقد خبر فيهما تجارب ثرية وعميقة على الصعيد الفني والأدبي والعلمي، وعلى مستوى الاحتكاك المباشر بالناس والطبيعة بعيداً عن الممارسات المألوفة. وإلى جانب ذلك كله أتيح له الوقت وصفاء المزاج ليتم جميع المسرحيات التي كان قد بدأ بها، ولاسيما الصيغة الشعرية من «إفيغينيه في تاورِس» Iphigenie auf Tauris فاتحة الحقبة الكلاسيكية الألمانية، وهي اقتباس من نص أوربيدس[ر]، وقد أضفى على الصيغة الشعرية الشكل الكلاسيكي كي تتناسب اللغة مع المضمون الواضح والمتسق، وأراد من خلالها التعبير عن كل الطاقات والقوى الإنسانية في سياق منسجم مترابط. فالمثل الأعلى لم يعد كثيراً من التعقل - كما في عصر التنوير - أو كثيراً من المشاعر - كما في مرحلة العاصفة والاندفاع - بل صار المثل الأعلى للجمال هو المثل الأبولوني المتسم بالاعتدال والصرامة في الوقت نفسه، وبالسمو والجلال الهادئ والفرح العاقل، كما دوّن كماً من اليوميات ساعدته لاحقاً على تأليف كتاب «الرحلة الإيطالية» Die italienische Reise.
عندما عاد غوته إلى ڤايمار في حزيران عام 1788 طلب من الأمير أن يخفف عنه جملة من الأعباء الإدارية، كي يتفرغ أكثر للفن والعلم والأدب، فسلمه الأمير إدارة مسرح البلاط، فنجح في ذلك فصار مسرح ڤايمار بالتعاون مع شيلر قدوة للحركة المسرحية المتطورة في ألمانيا كلها، ولاسيما على صعيد التخطيط الثقافي للموسم المسرحي كله، والالتفات إلى إعداد النصوص المسرحية للخشبة بما يلائم جمهور ڤايمار الآن وهنا وما يثير تفكيره وتساؤلاته، هذا إلى جانب تنامي التركيز على دور المخرج والمرشد المسرحي Dramaturg في عملية إبداع العرض المسرحي. أشرف غوته أيضاً على جامعة يينا Jena، فاجتذب إليها نخبة الفلاسفة، من مثل فيشتِه[ر] (فيخته) Fichte وهيغل[ر] Hegel وشِلينغ Schelling وأبرز الأدباء آنذاك من مثل برنتانو[ر] Brentano وتيك Tieck وڤوس Voss. والتفت في الوقت نفسه إلى بحوثه العلمية في البصريات، ولاسيما في الألوان والطيف، التي مازالت موضع اهتمام الباحثين حتى اليوم. وعكف على علم الحيوان وعلم النبات فأنشأ علم المورفولوجيا Morphologie الجديد (علم الشكل) المنبثق في رأيه من تداخلهما، ووضع نظريته في قانون ضرورة وجود القطبين المتضادين شرطاً للحياة واستمراريتها، كوجود الذكر والأنثى والدافئ والبارد والصالح والطالح. وعلى الرغم من هذا الانشغال الكثيف في العلوم نشر غوته مجموعة قصائد «المراثي الرومية» Romische Elegien عام (1790) إلى جانب بعض المسرحيات الترفيهية للبلاط. وفي هذه الأجواء التي أدت إلى ضعف علاقات غوته اجتماعياً وانعزاله النسبي مال قلبه إلى كريستيانه ڤولبيوس Christiane Vulpius بين عامي (1765-1816) وهي صبية من عامة الشعب شبه أمية، فأقامت في منزله مع أختها وإحدى قريباتها، إلا أنه لم يستطع الاقتران بها رسمياً، خوفاً من ملامة البلاط والوسط الاجتماعي، لكنها ظلت معه نِعم الرفيقة حتى عام 1806 عندما دافعت عنه ببسالة في وجه جنود نابليون، فأعلن زواجهما، واعترف بأبوته لابنهما أوغست الذي كان في السابعة عشرة من عمره حينذاك.
عندما قامت الثورة الفرنسية استقبلها غوته بغضب وحنق شديدين، وعدها من أبشع أحداث التاريخ، لما تمخضت عنه من مذابح وفظاعات غير إنسانية، فقد كان بطبيعته العلمية يميل إلى التطور الطبيعي ويكره الطفرة أو الثورة. وفي عام 1792 عندما حشدت الملكيات الأوربية قواتها لنصرة الملكية الفرنسية المنهارة، شارك غوته فيها باسم ڤايمار، فخبر حقيقتها ونتائجها وتحول إلى نصير لأفكار الثورة الرئيسية، المرتبطة بالحرية والعدالة والأخوة في وطن واحد للجميع. وقد عبر غوته عن موقفه من الثورة ورجالها وأخلاقياتها في صياغته الروائية للقصة الشعبية «الثعلب راينِكه» Reinecke Fuchs عام (1794) التي تعود إلى أوائل القرون الوسطى، وكذلك في ملحمة «هرمَن ودوروتيا».
لم تتوطد أواصر الصداقة بين غوته وشيلر إلا في عام 1794، فأثمر اللقاء بين العبقريتين الفريدتين أدبياً ومسرحياً وعلمياً عقلانية الكلاسيكية الألمانية التي ظهر تأثيرها عميقاً في معظم أنحاء أوربا. أحس كلاهما بحاجة أحدهما للآخر وبضرورة تكاملهما: غوته بحسيته العالية وواقعيته وشيلر بعقلانيته المثالية. وفي عام 1794 كتب شيلر إلى غوته يقول: «وإني لآمل أن نسير ما بقي من طريقنا معاً، ولآمل أن يكون في ذلك نفع أكبر، فإن رفاق السفر الذين يلتقون متأخراً بعد رحلة طويلة يكون لديهم بقدر التأخر ما يحكيه بعضهم للبعض الآخر». وقد تحقق أمل شيلر، إذ استجاب غوته لندائه، فأثمر التعاون الوثيق مجموعة من روائع الكلاسيكية الألمانية. ففي العام نفسه نشر غوته في مجلة شيلر «ربات الفصول الأربعة» Die Horen قصصاً مستلهمة من أجواء «ألف ليلة وليلة»، ثم نشر روايته «سنوات تعلم ڤيلهلم مايستر» Wilhelm Meisters Lehrjahre بين عامي (1795-1796) في أربعة أجزاء، التي مهدت الطريق لظهور الرواية التربوية Bildungsroman في أوربا، وهي في الوقت نفسه استمرار لرواية «رسالة ڤيلهلم مايستر المسرحية» Wilhelm Meisters theatralische Sendung عام (1785) التي استشرفت ظهور المسرح القومي الألماني. وبين عامي 1796-1797 نشر غوته في مجلة شيلر الجديدة «تقويم ربات الفنون» Musenalmanach مجموعة «قصائد ڤينيسية هجائية قصيرة» Venezianische Epigramme ومجموعة قصائد «هدايا المائدة» Xenien الهجائية السياسية بالاشتراك مع شيلر. وفي عام 1797 ظهرت ملحمة «هرمن ودوروتيا» التي عدها شيلر ذروة الأدب الألماني، وعالج فيها غوته قضايا الأخلاق البرجوازية بحس عالٍ بالمسؤولية. وفي عام 1803 نشر غوته مسرحية «الابنة الطبيعية» Die naturaliche Tochter التي يذكّر عنوانها مباشرة بمسرحية «الابن الطبيعي» Le Fils naturel عام (1757) لمعاصره الفرنسي ديدرو[ر] D.Diderot. وبعد سنتين ترجم عنه غوته حوارية «ابن أخ رامو» Le neveu de Rameau عام (1763) ذات المعالجة الجدلية الساخرة للأخلاق الاجتماعية البرجوازية. وفي المرحلة نفسها عاد غوته لمعالجة موضوعته الأثيرة فاوست، فنشر عام 1801 «فاوست - شذرة» Faust ein Fragment إلى جانب مجموعة من أروع البالادات.
في عام 1805 توفي شيلر بمرض رئوي أجهز عليه في مقتبل العمر، فقال غوته: «لقد ضاع مني بضياعه نصف وجودي…» وبموت شيلر بدأت شيخوخة غوته، فكثرت أمراضه وتلاحقت، لكنه لم يفقد أبداً صفاء ذهنه ولم يتوان عن الكتابة المنتجة. وكانت السنوات بين وفاة شيلر ووفاة زوجته كريستيانه صاخبة بالأحداث المؤلمة والحزينة على الصعيدين العام والخاص، مما دفعه إلى المزيد من التركيز على مشروعاته الأدبية، ولكأنه يسابق الزمن، فنشر عام 1808 الجزء الأول الكامل من «فاوست» Faust I، وتلتها عام 1809 مسرحية «باندورا» Pandora ورواية «الأنساب المختارة» Die Wahlverwandtschaften التي نقل فيها ظاهرة التبادلات المزودجة من ميدان الكيمياء إلى مجال العلاقات البشرية، ولاسيما علاقات الحب، كما بدأ كتابة الجزء الأول من سيرته الذاتية «من حياتي: أدب وحقيقة» Aus meinem Leben, Dichtung und Wahrheit، ثم نشر الجزء الثاني عام 1800 والثالث 1814، أما الرابع والأخير فإنه لم ينشر إلا عام 1833 لتعرضه لأشخاص مازالوا على قيد الحياة.
تعرف غوته عام 1811 في فرانكفورت إلى ماريانّه يونغ Marianne Jung ذات الثلاثين عاماً فتطورت بينهما علاقة حب كبير، فريدة في نوعها، استمرت حتى وفاته، وكانت أجمل لقاءاتهما تتمحور حول مباريات قرض الشعر بينهما. وفي ربيع عام 1814 قرأ غوته ترجمة المستشرق النمساوي يوزِف فون هامر - بورغْشْتَل Josef von Hammer- Purgstall لديوان الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي[ر]، فنتج من لقائه الثنائي بماريانه وحافظ «الديوان الغربي الشرقي» West östlicher Diwan الذي صدر عام 1819، ويحتل المكان الثاني في الأهمية بعد «فاوست» بين مؤلفات غوته كلها. وفي عام 1827 نشر غوته الصيغة النهائية الكاملة للديوان، الذي قسمه على خطى الشاعر حافظ إلى أبواب بموضوعات مختلفة، فهذا للحب وذاك للخمرة أو للحكمة، إلخ. ويعبر الشاعر في ديوانه هذا بأسلوب الشعر الشرقي عن حبه الكبير لماريانه، وكذلك عن أحد موضوعاته الأثيرة، العزوف عن الحياة. وتتصل قصائد الديوان ببعضها اتصال حلقات السلسة، والكتاب التاسع «كتاب زُليخة» Buch Suleika هو حوارية شعرية بين حبيبين هما حاتم وزليخة، أي بين غوته وماريانه، ويتضمن الكتاب قصيدة «جينجو بيلوبا» التي تعبر عن أهم موضوع في العصر الكلاسيكي، وهو الطموح إلى التناغم والانسجام بين الأشياء التي تبدو متباينة ومختلفة.
ويعد «الديوان الغربي الشرقي» أبرز وثيقة عبّر فيها غوته عن موقفه من مسألة الأديان (اليهودية والمسيحية والإسلام والمجوسية)، وكان نصيب الإسلام الأوفر، ولاسيما أن الديوان قد نشأ تحت تأثير إسلامي خالص عبْر أشعار حافظ الشيرازي، التي قال عنها في مذكراته عام 1815: «لقد أثرت مجموعة أشعاره فيَّ تأثيراً عميقاً قوياً، حملتني على أن أنتج وأفيض بما أحس وأشعر، لأني لم أكن قادراً على مقاومة هذا التأثير القوي على نحو آخر، لقد كان التأثير حياً قوياً»؛ ولهذا فإن الطابع الإسلامي غالب على كل شيء فيه، فحتى القصص التي وجدت أصولها في المسيحية ووردت في القرآن، أخذها غوته عن القرآن، كما فعل في قصة أهل الكهف مثلاً. ولطالما أظهر غوته إعجابه الشديد بالإسلام، حتى عدّه والتقوى شيئاً واحداً، وقد قال فيه أيضاً: «إذا كان معنى الإسلام هو التسليم لله، فعلى الإسلام نحيا ونموت جميعاً». وفي كتابه «المسيحية وأديان العالم»Christentum und die Weltreligionen عام (1970) قال الباحث اللاهوتي السويسري هانس كونغ Hans Küng: «ما من أحد ساهم في إعادة الاعتبار للإسلام في أوربا بعد تهكم ڤولتير مثل غوته في الديوان الغربي الشرقي».
نصب مُتَّخيَّل لغوته |
مع مطلع عام 1832 أتم غوته «مأساة فاوست ـ الجزء الثاني» Der Tragödie zweiter Teil، وبذلك يكون الشاعر قد أنجز العمل الجبار الذي رافقه طوال ستين عاماً من عمره. وفيه أعاد صياغة الموضوع الشعبي في الشكل الكلاسيكي: «مقدمة في السماء» تتبعها خمسة فصول. وتتكون المأساة من أبيات مقفاة أصبح معظمها مقولات مأثورة. وعلى الصعيد الفلسفي صار قدر العالم فاوست، الذي لا تستطيع دراسة العلوم أن ترضيه، ممثلاً لقدر كل إنسان طموح أخطأ الطريق، فيظهر الشيطان مفيستوفيلِس Mephistopheles ليعرض عليه خدماته، مطالباً بروح فاوست ثمناً لمساعدته. ويصير العقد مع الشيطان رهاناً بين الاثنين. ويقود مفيستوفيلس فاوست عبر مختلف مجالات الحياة الاجتماعية في ظل هيمنة الكنيسة الكاثوليكية على مقاليد الأمور كافة في العصور الوسطى. وفي هذا الجزء تحتل مأساة الفتاة البرجوازية اليافعة غرِتْشِن Gretchen الحيز الأكبر، فهي تسقط تراجيدياً ضحية ضيق أفق الأخلاق البرجوازية وصرامة التعاليم الكنسية. وفي الجزء الثاني بدأ غوته بشخصية هِلينا الإغريقية Helena ممثلةً لكمال الجمال والثقافة الكلاسيكيين بوصفها نموذجاً يطمح فاوست إلى استعادته. ثم تعود الأحداث إلى العصور الوسطى لتتداخل مع العصر الإغريقي في محاولة لتوحيد الثقافتين عن طريق شخصية يوفوريون Euphorion ابن هِلينا وفاوست. وفي جزأي المأساة يتضح مبدأ التوازي، ومبدأ التصاعد في تكرار بعض الأحداث من عصور مختلفة. أما الخلاص من الرهان بين فاوست ومفيستو في الجزء الثاني فيبرِز مفهومين مختلفين للعصر، ففي حين يعلم مفيستو أن اللحظة محدودة في الزمن يراهن العالم المتنور والطموح فاوست على خلودها ويصيح:
«يمكنني أن أقول للّحظة:
تريثي قليلاً، فما أجملك!
إن أثر أيامي الأرضية
لا يمكن أن يسقط في الآباد.
وفي الإحساس بمثل هذه السعادة
أستمتع الآن بأكمل لحظة».
وفي منتصف شهر آذار عام 1832 أصيب غوته بنزلة صدرية حادة. وكانت أوتيليِه Ottilie زوجة ابنه تقوم على رعايته بمساعدة خادمه العتيق هاينريش Heinrich. وقد شهدا بأن آخر ما لفظه لسان غوته كان جملة: «افتحا مصراع الشباك، حتى يدخل مزيد من النور». ولفظ غوته أنفاسه جالساً في كرسيه الوثير. وتحمل شاهدة قبره سطوراً كتبها مسبقاً عام 1814، تقول:
«صبياً، كنتَ عَزوفاً عنيداً
شاباً، كنتَ مغروراً مبهوراً
رجلاً، كنتَ للأعمال مريداً
شيخاً، كنتَ ذا طيش ورعونة!
وعلى شاهد قبرك سيقرأ الناس:
إنك كنتَ بحق إنساناً».
نبيل الحفار