غوطه دمشق
Ghouta - Ghûta
غوطة دمشق
تشغل غوطة دمشق الثلث الغربي من حوض دمشق الواقع إلى الشمال من هضبة حوران، بينما تعرف بقية أجزائه باسم «المرج»؛ وعلى الرغم من كثرة ما كتب عن غوطة دمشق، شعراً ونثراً، فإنه يندر أن يوجد بينها من يتحدث عن تحديد هذه المنطقة تحديداً واضحاً؛ فقد اكتفى بعضهم بالإشارة إلى اتساع رقعة الغوطة فقط، محدداً ذلك بالمقاييس المعروفة آنذاك، ومن أمثلة ذلك قول ياقوت الحموي: «إن استدارتها ثمانية عشر ميلاً» (أي ما يزيد قليلاً على 34كم).
وقد خلط أكثرهم بين الغوطة والمرج الذي يمتد إلى الشرق من الغوطة؛ ومن هؤلاء «ابن طولون الصالحي»، فقد ذكر أن بالغوطة سبعين قرية بعضها الآن دارس، وبعضها الآخر من قرى المرج، مثل بيت نايم وتل كردي وحرستا القنطرة الجديدة والعبادة وعدرا وغيرها.
وقد وُفِّق «تومان» Thoumin الفرنسي إلى رسم حدود طبيعية واضحة لغوطة دمشق، تتفق مع المظهر الطبيعي العام، فهي تسير شمالاً مع نهر يزيد وغرباً مع نهر المزاوي. أما الحدود الشرقية المجاورة للمرج فوصفها بأنها غير واضحة، لأنها تمثل منطقة انتقالية، وكذلك في الجنوب، حيث تأخذ مساحة الغوطة في الضيق كلما ابتعدنا عن دمشق.
أما محمد كرد علي «صاحب كتاب غوطة دمشق»، فقد عرّف غوطة دمشق بأنها «كل ما أحاط بدمشق من قرى شجراء، وكان من الأرض المطمئنة التي تروى من نهر بردى، وما اشتق منه من الجداول والأنهار الصغيرة أو القني».
ولا تختلف هذه التعريفات كثيراً عما جاء في تعريف أحمد وصفي زكريا، أو عما جاء في وصف الموسوعة الإسلامية لغوطة دمشق، بأنها «نطاق من البساتين يعتمد على الزراعة الكثيفة، ويروى من بردى وفروعه».
أما الأمير مصطفى الشهابي، فقد اتخذ العرف أساساً للتمييز بين قرى الغوطة وسواها، ورسم لها حدوداً واضحة. وهذا التحديد الـذي وضعه الشهابي - كما يبدو - تحديد قريب من الواقع، ويتفق إلى حد ما مع المظهر الطبيعي العام.
وينتهي المطاف أخيراً، عند التحديد الإداري للغوطة، حيث يقسمها إلى ناحيتين:
ـ ناحية الغوطة الشرقية، ومركزها عربين، وتقدر مساحتها بنحو 110كم2، وفيها 19 قرية.
ـ ناحية الغوطة الغربية، ومركزها داريا، وتقدر مساحتها بنحو 120كم2، وفيها 20 قرية.
ومن استعراض الآراء المختلفة في تحديد غوطة دمشق، يمكن تحديد الغوطة على النحو الآتي:
في الشمال: تسير الحدود مع نهر يزيد في حي المهاجرين وجنوبي حي الأكراد، ثم تتجه إلى برزة (باستثناء القسم الجبلي منها) وحرستا.
في الغرب: يحدد فرعا بردى (المزاوي والداراني) اتساع الغوطة في هذا الاتجاه، فتشمل الأقسام المروية من أراضي المزة وداريا وصحنايا.
في الجنوب: تأخذ الغوطة بالانكماش تدريجياً، لتحل محلها المظاهر السهبية التي تنتهي بالتلال البركانية، التي تفصل ما بين حوضي بردى والأعوج.
في الشرق: ليس للغوطة حدود ظاهرة، فكلما اتجهنا شرقاً، أخذ الغطاء النباتي الشجري في التضاؤل والانكماش، ولا يلبث أن ينحصر في أطراف المجاري المائية الصغيرة، وحول الآبار، إلى أن يختفي تماماً، وتظهر آنذاك منطقة السهوب.
ومن الجدير بالذكر، أن التعديلات التي طرأت على التقسيمات الإدارية في الجمهورية العربية السورية، عام 1979، قد خلت تماماً من تسمية الغوطة، وحلت محلها وحدات إدارية لا تفرق بين قرى الغوطة والمرج ولا بين الغوطة الشرقية والغربية. ومن ثم، فقد أصبح من الصعوبة على الباحث أن يرسم صورة الغوطة من جديد، من خلال التعداد الذي جرى عام 1981 وما بعده.
أشكال السطح في الغوطة
تظهر غوطة دمشق على شكل نصف حوض مفتوح من الشرق، تطوقه المرتفعات من الشمال والغرب، ويخترقه نهر بردى في وسطه تقريباً، وهو منحدر خفيف نظمه الإنسان على شكل مصاطب اصطناعية، يراوح منسوب كل منها بين 50-150سم.
تطوق جبال القلمون غوطة دمشق من الشمال والغرب، وتشرف عليها من ارتفاع لا يزيد متوسطه على 500م فوق سهل دمشق، وهي جبال جرداء تتجه من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، ويقطعها وادي بردى عند خانق الربوة، كما يخترقها وادي منين عند قرية برزة. وبين هذين الواديين الرئيسين توجد ثمة أودية صغيرة عدة، قليلة الأهمية تصب مياهها شتاء في نهر يزيد.
وقد تمكنت هذه السيول والأودية الهابطة على قلتها وضعفها من تجزئة هذه السلسلة إلى كتل متميزة تحمل أسماء محلية مختلفة، وهي من الغرب إلى الشرق: جبل قاسيون، يليه جبل الصالحية ثم جبل برزة.
والمتتبع لهذه السلسلة إلى الغرب من خانق الربوة؛ يطالعه أولاً جبل المزة (917م) الذي يطل على وادي بردى، وسفحه الشمالي قائم عمودي، لا يقل ارتفاعه عن 250م، بينما يشكل سفحه الشمالي الشرقي مهماز جبل المزة، ويليه شرقاً جبل عازوقا (990م) ثم جبل داريا (1085م) الذي يفصله عن سابقه وادي عريفا، وتنتهي هذه السلسلة أخيراً بجبل عنتر (1005م) قرب بلدة قطنا.
ولهذه الجبال، ولاسيما قاسيون والمزة اللذين يشرفان على خانق الربوة الضيق من الشمال والجنوب ويتحكمان فيه، أهمية استراتيجية لإشرافها على أهم الطرق المؤدية إلى منطقة دمشق.
وعلى الأطراف الجنوبية لحوض دمشق؛ تشكل الحمم البركانية سلسلة من التلال البركانية الممتدة من الغرب إلى الشرق، وهي لا تعادل ارتفاع القلمون، ولكنها تظهر واضحة في الأفق تسده من الجنوب، وتفصل حوض دمشق عن وادي الأعوج وهضاب حوران. وأهم هذه التلال البركانية التي تمثل الإطار الجنوبي لحوض دمشق، من الغرب إلى الشرق، كما يأتي: جبل التوت (806م) وجبل المزار (899م) وهما يقعان إلى الجنوب من قرية صحنايا، ثم جبل الأشرفية (806م) وجبل الكلب (843م)، ويمر بينهما طريق السيارات الذاهب إلى حوران، ويلي ذلك جبل تنورية (792م) ويفصله عن سابقه منخفض يعبره الخط الحديدي الحجازي، ثم جبل الأسود (829م)، وجبل أبو عطَريز (821م) الواقعان إلى الجنوب من قرية البويضة.
المظاهر الجيومورفولوجية لمنطقة الغوطة
يشكل نهر بردى عند بدء دخوله إلى حوض دمشق مروحة فيضية واسعة تصل حتى مركز الحوض تقريباً. وفوق هذه المروحة تقوم مدينة دمشق والبساتين الشهيرة المحيطة بها (وهي ما يُطلق عليه اسم الغوطة) (الشكل -1). إلا أن الانحدار العام للمروحة نحو الشرق قد دفع المزارعين إلى تنظيمها على شكل مدرجات أفقية، للحيلولة دون انجراف تربتها وتسهيل سقايتها والاحتفاظ بمياهها مدة أطول.
إلا أن جبال قاسيون العارية والمشرفة على مدينة دمشق، كانت في وقت ما تغطيها تربة سطحية طينية كلسية بنية اللون، وقد زحفت هذه التربة السطحية إلى الأسفل في أواخر عصر البليستوسين أو ما بعده، وتراكمت الرواسب السفحية فوق سطح مروحة بردى الحصوية، وبفضل هذه التربة اكتسبت بساتين دمشق خصوبتها وغناها، ومازال إرساب التكوينات السفحية والنهرية مستمراً حتى اليوم هذا، ولكن بمعدل أقل مما كان عليه، وبطءٍ أشد. وتغطي أغلب مساحة حوض دمشق الآن رواسب ترجع إلى الزمن الرابع، منها ما هو على شكل كونغلوميرات، ومنها ما هو على شكل طبقات من الطين الناعم. وتكون هذه الكونغلوميرات عادة قرب السفوح الجبلية، وعند مخارج السيول منها، كما هي الحال على طرفي خانق الربوة.
وعبر هذه التكوينات السفحية والنهرية، شق النهر واديه في المروحة الحصوية، ووصل عمقه إلى20-30م، واتساعه بين 100-200م، وتشرف حافتاه على سهله الفيضي المنبسط، أما المجرى الحالي للنهر فلا يزيد عرضه على 20-30م.
يمثل هذا الوادي أبرز المظاهر الطبيعية في غوطة دمشق، فعند خروجه من خانق الربوة من الغرب، يدخل مروحته التي حفر فيها مجراه، ويجري على أرض منبسطة، فتشرف حافاته من ارتفاع يقرب من 30م، وتندمج بعد ذلك بالتدريج بالهضاب المجاورة، وهي لا تتعدى 2-3م عند الوصول إلى أقصى شرقي مدينة دمشق. وبعد ذلك ينفسح السهل، ويأخذ في الانخفاض نحو الجنوب على يمين النهر، بينما يرتفع على شكل منحدر قليل الميل على الضفة اليسرى حتى جبل قاسيون. وإلى الشرق من مدينة دمشق، يتسع الوادي، ويفقد مظهره - وادياً - كما كان يُرى من الربوة حتى دمشق.
وعند خروج وادي منين إلى غوطة دمشق عند قرية برزة، يشكل مروحة فيضية صغيرة تنبسط فوق مروحة دمشق الفيضية الكبيرة. ومن مجموعة المراوح الفيضية التي تجاورت والتحمت تتألف منطقة السفوح، وهذا ما يفسر مشهد هذه السفوح المؤلف من تموجات خفيفة عمودية على اتجاه النطاق الجبلي، مع انحدار واضح باتجاه الشرق والجنوب الشرقي، إذ يبلغ الفرق في الارتفاع بين قريتي برزة والقابون مثلاً نحو 40 متراً على مساحة كيلومترين تقريباً.
ولا تختلف هذه الصورة كثيراً عن الغوطة الغربية، فعند الانتقال إلى أرض المزة التي تمثل أكثر جهات الغوطة الغربية ارتفاعاً، يُلاحظ أن أغلبها يتألف من أرض سهلية ذات سطح مستوٍ مائل نحو الشرق، يقطع استمراره بين مسافة وأخرى درجة يراوح سمكها بين 1-2م.
وإذا أُلقيت نظرة على المقطع الطولي للغوطة (بين برزة والبويضة) يُلاحظ ميلٌ من الشمال إلى الجنوب، يبدو شديداً نوعاً ما حتى أطراف دمشق، وبعد ذلك تنبسط الأرض ويخف الانحدار كثيراً حتى قرية البويضة.
أما المقطع العرضي للغوطة (بين داريا وقرب مزرعة الخيارة) فيشير إلى انحدار تدريجي خفيف منتظم، ولكن هذا الانحدار يصبح أشد من ذلك في المقطع العرضي الثاني (بين برزة وحوس المحمدية) الذي يتجه من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، عند الانتقال من سفح برزة إلى الأطراف الشرقية المنخفضة لغوطة دمشق.
والخلاصة، تتألف غوطة دمشق من أرض منبسطة واسعة، يرتفع سطحها عند أطرافها الشمالية والغربية، وتأخذ في الانخفاض تدريجياً نحو الشرق، مما يساعد على جودة عملية الصرف، وقد قام الإنسان منذ القديم بتنظيم هذا المنحدر الخفيف على شكل مصاطب اصطناعية لتسهيل عملية الري وحفظ التربة من الانجراف.
المناخ والتربة
لا تبعد غوطة دمشق عن ساحل البحر المتوسط أكثر من 80 كيلومتراً (مقيسة في خط مستقيم)، ومع ذلك فإن مناخ غوطة دمشق يمثل منطقة انتقالية بين المناخ شبه الجاف والمناخ الصحراوي الجاف، وإن كان في إطلاق صفة المناخ شبه الجاف على غوطة دمشق بكاملها عمل غير بعيد عن الحقيقة، لأن خصائص هذا المناخ تشمل القسم الأعظم من أرض الغوطة.
وتتألف تربة الغوطة من غطاء سميك من الرواسب السفحية والنهرية، يعود الفضل إليها في خصوبة المنطقة وغناها، وتتصف بتماثل نشأتها وتشابه تركيبها في معظم أنحاء الغوطة، مما يجعل أثرها ثانوياً - إلى حد ما - في توزيع المحاصيل الزراعية المختلفة في هذه المنطقة، وتبقى المياه أشد الضوابط الطبيعية أثراً في الإنتاج الزراعي وتوزيعه.
المياه
تتألف غوطة دمشق من بقعة خضراء واسعة، تضم جميع أنواع الزراعات من حبوب وأشجار مثمرة وخضر، تدين بوجودها إلى مياه بردى[ر. بردى] التي تتفرع في داخلها كالشرايين في جسم الإنسان. وتدل على ضخامة الجهود التي بذلها الإنسان منذ القديم لنقل مياه بردى والأعوج ومنين من أجل ري حوضة دمشق واستثمار خيراتها، وتحويلها من سهوب جافة إلى جنان حقيقية في قلب البادية.
وإذا ذُكر أن متوسط كمية الأمطار التي تسقط على غوطة دمشق لا تزيد على 215مم سنوياً، يُدرك مدى الأهمية التي تُعلق على نهر بردى، ذلك النهر الذي يشكل في دمشق وحولها ما يشبه دلتا صغيرة يحمل إليها الرطوبة والخصوبة.
والخلاصة، لقد نجح الإنسان فعلاً في انتزاع هذه المساحة من البادية، وفي أن يجعل منها أرضاً من أفضل الأقاليم الزراعية في سورية كلها، وتطلّب ذلك منه استغلال المياه على خير وجه، مستخدماً جميع مصادر طاقته ومهارته، ومستفيداً من وجود المياه المتوفرة في هذه المنطقة.
سكان غوطة دمشق
أجرت الدولة العثمانية إحصاء عام 1884م، بلغ فيه عدد سكان الغوطة (بحدودها الطبيعية) أكثر من 42 ألف نسمة، وفي عام 1905 أجرت الدولة العثمانية إحصاء آخر، بلغ فيه عدد سكان الغوطة (بحدودها الطبيعية) أكثر من 50 ألف نسمة، إلا أن هذه الأرقام لابد أن تؤخذ بشيء من الحذر، فالخوف من الجندية والضرائب العالية، والخوف من السلطة الحاكمة، والركود الاقتصادي، كل ذلك كان يسود أرجاء البلاد، فيبعث على الحذر ويدفع إلى التكتم.
وفي أوائل عهد الانتداب الفرنسي، جرى أول تعداد للسكان عام 1922، بلغ فيه عدد سكان الغوطة 49456 نسمة، ولكن هذه الأرقام ليست موثوقة كل الثقة، ذلك لأن الموظفين المكلفين بعمليات التعداد، لم يكن لديهم من الخبرة والكفاءة ما يؤهلهم للقيام بهذه المهمة، كما أن عاملي الخوف والحذر من السلطة الحاكمة لم يكونا في عهد الفرنسيين أقل منه في عهد العثمانيين الأتراك، ولذلك جاءت هذه الأرقام أقل من الواقع على ما يُظنّ.
وفي عهد الاستقلال، ارتفع عدد سكان الغوطة (بحدودها الإدارية) إلى أكثر من 195 ألف نسمة تقريباً في تعداد 1960، وإلى أكثر من 241 ألف نسمة في تعداد 1970.
ويبدو أن التعديلات التي طرأت على التقسيمات الإدارية فيما بعد، قد أدت إلى اعتماد وحدات إدارية جديدة، لا تظهر فيها غوطة دمشق كوحدة طبيعية وإدارية مستقلة، ولم تعد الوحدات الإدارية الجديدة تفرق بين الغوطة والمرج أو بين الغوطة الشرقية والغوطة الغربية. وأخيراً، لابد من الإشارة إلى أن نكبات الجفاف التي حلت بالبلاد، منذ عام 1954 حتى اليوم، بدلت من معالم الغوطة تبديلاً واسعاً، فقد جفت معظم القنوات المائية، وشحت مياه الينابيع التي تغذي الأنهار، وهبط منسوب المياه الجوفية بسبب قلة الأمطار وكثرة الآبار التي تضخ المياه، وبذلك أخذت الغوطة تفقد طابعها المتميز، بسبب انتشار الخضرة وامتدادها في أرض المرج المحدقة بالغوطة.
أما الخطر الذي هدد الغوطة وكاد يقضي على مظهرها، فهو زحف المدينة بعمرانها ومصانعها يوماً بعد يوم، والتهامها بساتين الغوطة واحداً بعد آخر، مما يبعث القلق في نفوس المزارعين، ولاسيما القريبين من المدينة، فيقعدهم عن العمل منتظرين مصير أرضهم المحتوم، وقد يحولهم من الزراعة إلى تجارة البناء.
والخلاصة، لقد خرجت غوطة دمشق من دائرة الجغرافيا، ودخلت ميدان التاريخ، ولم تعد تلك الغوطة التي تغنى بها الشعراء وتبارى في وصفها الكتاب والأدباء. ولم تعد جنة الأرض لنضارتها وكثرة مياهها وبساتينها وحدائقها، ومع ذلك، فهي مازالت تجذب إليها أبناء المدينة، لقضاء أوقات فراغهم بين ربوعها الفيحاء، وخاصة في أيام الربيع، حيث يقصدها الناس من كل مكان، وينتشرون في حقولها وتحت ظلالها وعلى أطراف طرقاتها، أو بتعبير آخر فيما تبقى منها.
صفوح خير
Ghouta - Ghûta
غوطة دمشق
وقد خلط أكثرهم بين الغوطة والمرج الذي يمتد إلى الشرق من الغوطة؛ ومن هؤلاء «ابن طولون الصالحي»، فقد ذكر أن بالغوطة سبعين قرية بعضها الآن دارس، وبعضها الآخر من قرى المرج، مثل بيت نايم وتل كردي وحرستا القنطرة الجديدة والعبادة وعدرا وغيرها.
وقد وُفِّق «تومان» Thoumin الفرنسي إلى رسم حدود طبيعية واضحة لغوطة دمشق، تتفق مع المظهر الطبيعي العام، فهي تسير شمالاً مع نهر يزيد وغرباً مع نهر المزاوي. أما الحدود الشرقية المجاورة للمرج فوصفها بأنها غير واضحة، لأنها تمثل منطقة انتقالية، وكذلك في الجنوب، حيث تأخذ مساحة الغوطة في الضيق كلما ابتعدنا عن دمشق.
أما محمد كرد علي «صاحب كتاب غوطة دمشق»، فقد عرّف غوطة دمشق بأنها «كل ما أحاط بدمشق من قرى شجراء، وكان من الأرض المطمئنة التي تروى من نهر بردى، وما اشتق منه من الجداول والأنهار الصغيرة أو القني».
ولا تختلف هذه التعريفات كثيراً عما جاء في تعريف أحمد وصفي زكريا، أو عما جاء في وصف الموسوعة الإسلامية لغوطة دمشق، بأنها «نطاق من البساتين يعتمد على الزراعة الكثيفة، ويروى من بردى وفروعه».
أما الأمير مصطفى الشهابي، فقد اتخذ العرف أساساً للتمييز بين قرى الغوطة وسواها، ورسم لها حدوداً واضحة. وهذا التحديد الـذي وضعه الشهابي - كما يبدو - تحديد قريب من الواقع، ويتفق إلى حد ما مع المظهر الطبيعي العام.
وينتهي المطاف أخيراً، عند التحديد الإداري للغوطة، حيث يقسمها إلى ناحيتين:
ـ ناحية الغوطة الشرقية، ومركزها عربين، وتقدر مساحتها بنحو 110كم2، وفيها 19 قرية.
ـ ناحية الغوطة الغربية، ومركزها داريا، وتقدر مساحتها بنحو 120كم2، وفيها 20 قرية.
ومن استعراض الآراء المختلفة في تحديد غوطة دمشق، يمكن تحديد الغوطة على النحو الآتي:
في الشمال: تسير الحدود مع نهر يزيد في حي المهاجرين وجنوبي حي الأكراد، ثم تتجه إلى برزة (باستثناء القسم الجبلي منها) وحرستا.
في الغرب: يحدد فرعا بردى (المزاوي والداراني) اتساع الغوطة في هذا الاتجاه، فتشمل الأقسام المروية من أراضي المزة وداريا وصحنايا.
في الجنوب: تأخذ الغوطة بالانكماش تدريجياً، لتحل محلها المظاهر السهبية التي تنتهي بالتلال البركانية، التي تفصل ما بين حوضي بردى والأعوج.
في الشرق: ليس للغوطة حدود ظاهرة، فكلما اتجهنا شرقاً، أخذ الغطاء النباتي الشجري في التضاؤل والانكماش، ولا يلبث أن ينحصر في أطراف المجاري المائية الصغيرة، وحول الآبار، إلى أن يختفي تماماً، وتظهر آنذاك منطقة السهوب.
ومن الجدير بالذكر، أن التعديلات التي طرأت على التقسيمات الإدارية في الجمهورية العربية السورية، عام 1979، قد خلت تماماً من تسمية الغوطة، وحلت محلها وحدات إدارية لا تفرق بين قرى الغوطة والمرج ولا بين الغوطة الشرقية والغربية. ومن ثم، فقد أصبح من الصعوبة على الباحث أن يرسم صورة الغوطة من جديد، من خلال التعداد الذي جرى عام 1981 وما بعده.
أشكال السطح في الغوطة
تطوق جبال القلمون غوطة دمشق من الشمال والغرب، وتشرف عليها من ارتفاع لا يزيد متوسطه على 500م فوق سهل دمشق، وهي جبال جرداء تتجه من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، ويقطعها وادي بردى عند خانق الربوة، كما يخترقها وادي منين عند قرية برزة. وبين هذين الواديين الرئيسين توجد ثمة أودية صغيرة عدة، قليلة الأهمية تصب مياهها شتاء في نهر يزيد.
وقد تمكنت هذه السيول والأودية الهابطة على قلتها وضعفها من تجزئة هذه السلسلة إلى كتل متميزة تحمل أسماء محلية مختلفة، وهي من الغرب إلى الشرق: جبل قاسيون، يليه جبل الصالحية ثم جبل برزة.
والمتتبع لهذه السلسلة إلى الغرب من خانق الربوة؛ يطالعه أولاً جبل المزة (917م) الذي يطل على وادي بردى، وسفحه الشمالي قائم عمودي، لا يقل ارتفاعه عن 250م، بينما يشكل سفحه الشمالي الشرقي مهماز جبل المزة، ويليه شرقاً جبل عازوقا (990م) ثم جبل داريا (1085م) الذي يفصله عن سابقه وادي عريفا، وتنتهي هذه السلسلة أخيراً بجبل عنتر (1005م) قرب بلدة قطنا.
ولهذه الجبال، ولاسيما قاسيون والمزة اللذين يشرفان على خانق الربوة الضيق من الشمال والجنوب ويتحكمان فيه، أهمية استراتيجية لإشرافها على أهم الطرق المؤدية إلى منطقة دمشق.
وعلى الأطراف الجنوبية لحوض دمشق؛ تشكل الحمم البركانية سلسلة من التلال البركانية الممتدة من الغرب إلى الشرق، وهي لا تعادل ارتفاع القلمون، ولكنها تظهر واضحة في الأفق تسده من الجنوب، وتفصل حوض دمشق عن وادي الأعوج وهضاب حوران. وأهم هذه التلال البركانية التي تمثل الإطار الجنوبي لحوض دمشق، من الغرب إلى الشرق، كما يأتي: جبل التوت (806م) وجبل المزار (899م) وهما يقعان إلى الجنوب من قرية صحنايا، ثم جبل الأشرفية (806م) وجبل الكلب (843م)، ويمر بينهما طريق السيارات الذاهب إلى حوران، ويلي ذلك جبل تنورية (792م) ويفصله عن سابقه منخفض يعبره الخط الحديدي الحجازي، ثم جبل الأسود (829م)، وجبل أبو عطَريز (821م) الواقعان إلى الجنوب من قرية البويضة.
المظاهر الجيومورفولوجية لمنطقة الغوطة
يشكل نهر بردى عند بدء دخوله إلى حوض دمشق مروحة فيضية واسعة تصل حتى مركز الحوض تقريباً. وفوق هذه المروحة تقوم مدينة دمشق والبساتين الشهيرة المحيطة بها (وهي ما يُطلق عليه اسم الغوطة) (الشكل -1). إلا أن الانحدار العام للمروحة نحو الشرق قد دفع المزارعين إلى تنظيمها على شكل مدرجات أفقية، للحيلولة دون انجراف تربتها وتسهيل سقايتها والاحتفاظ بمياهها مدة أطول.
وعبر هذه التكوينات السفحية والنهرية، شق النهر واديه في المروحة الحصوية، ووصل عمقه إلى20-30م، واتساعه بين 100-200م، وتشرف حافتاه على سهله الفيضي المنبسط، أما المجرى الحالي للنهر فلا يزيد عرضه على 20-30م.
يمثل هذا الوادي أبرز المظاهر الطبيعية في غوطة دمشق، فعند خروجه من خانق الربوة من الغرب، يدخل مروحته التي حفر فيها مجراه، ويجري على أرض منبسطة، فتشرف حافاته من ارتفاع يقرب من 30م، وتندمج بعد ذلك بالتدريج بالهضاب المجاورة، وهي لا تتعدى 2-3م عند الوصول إلى أقصى شرقي مدينة دمشق. وبعد ذلك ينفسح السهل، ويأخذ في الانخفاض نحو الجنوب على يمين النهر، بينما يرتفع على شكل منحدر قليل الميل على الضفة اليسرى حتى جبل قاسيون. وإلى الشرق من مدينة دمشق، يتسع الوادي، ويفقد مظهره - وادياً - كما كان يُرى من الربوة حتى دمشق.
وعند خروج وادي منين إلى غوطة دمشق عند قرية برزة، يشكل مروحة فيضية صغيرة تنبسط فوق مروحة دمشق الفيضية الكبيرة. ومن مجموعة المراوح الفيضية التي تجاورت والتحمت تتألف منطقة السفوح، وهذا ما يفسر مشهد هذه السفوح المؤلف من تموجات خفيفة عمودية على اتجاه النطاق الجبلي، مع انحدار واضح باتجاه الشرق والجنوب الشرقي، إذ يبلغ الفرق في الارتفاع بين قريتي برزة والقابون مثلاً نحو 40 متراً على مساحة كيلومترين تقريباً.
ولا تختلف هذه الصورة كثيراً عن الغوطة الغربية، فعند الانتقال إلى أرض المزة التي تمثل أكثر جهات الغوطة الغربية ارتفاعاً، يُلاحظ أن أغلبها يتألف من أرض سهلية ذات سطح مستوٍ مائل نحو الشرق، يقطع استمراره بين مسافة وأخرى درجة يراوح سمكها بين 1-2م.
وإذا أُلقيت نظرة على المقطع الطولي للغوطة (بين برزة والبويضة) يُلاحظ ميلٌ من الشمال إلى الجنوب، يبدو شديداً نوعاً ما حتى أطراف دمشق، وبعد ذلك تنبسط الأرض ويخف الانحدار كثيراً حتى قرية البويضة.
أما المقطع العرضي للغوطة (بين داريا وقرب مزرعة الخيارة) فيشير إلى انحدار تدريجي خفيف منتظم، ولكن هذا الانحدار يصبح أشد من ذلك في المقطع العرضي الثاني (بين برزة وحوس المحمدية) الذي يتجه من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، عند الانتقال من سفح برزة إلى الأطراف الشرقية المنخفضة لغوطة دمشق.
والخلاصة، تتألف غوطة دمشق من أرض منبسطة واسعة، يرتفع سطحها عند أطرافها الشمالية والغربية، وتأخذ في الانخفاض تدريجياً نحو الشرق، مما يساعد على جودة عملية الصرف، وقد قام الإنسان منذ القديم بتنظيم هذا المنحدر الخفيف على شكل مصاطب اصطناعية لتسهيل عملية الري وحفظ التربة من الانجراف.
المناخ والتربة
لا تبعد غوطة دمشق عن ساحل البحر المتوسط أكثر من 80 كيلومتراً (مقيسة في خط مستقيم)، ومع ذلك فإن مناخ غوطة دمشق يمثل منطقة انتقالية بين المناخ شبه الجاف والمناخ الصحراوي الجاف، وإن كان في إطلاق صفة المناخ شبه الجاف على غوطة دمشق بكاملها عمل غير بعيد عن الحقيقة، لأن خصائص هذا المناخ تشمل القسم الأعظم من أرض الغوطة.
وتتألف تربة الغوطة من غطاء سميك من الرواسب السفحية والنهرية، يعود الفضل إليها في خصوبة المنطقة وغناها، وتتصف بتماثل نشأتها وتشابه تركيبها في معظم أنحاء الغوطة، مما يجعل أثرها ثانوياً - إلى حد ما - في توزيع المحاصيل الزراعية المختلفة في هذه المنطقة، وتبقى المياه أشد الضوابط الطبيعية أثراً في الإنتاج الزراعي وتوزيعه.
المياه
تتألف غوطة دمشق من بقعة خضراء واسعة، تضم جميع أنواع الزراعات من حبوب وأشجار مثمرة وخضر، تدين بوجودها إلى مياه بردى[ر. بردى] التي تتفرع في داخلها كالشرايين في جسم الإنسان. وتدل على ضخامة الجهود التي بذلها الإنسان منذ القديم لنقل مياه بردى والأعوج ومنين من أجل ري حوضة دمشق واستثمار خيراتها، وتحويلها من سهوب جافة إلى جنان حقيقية في قلب البادية.
وإذا ذُكر أن متوسط كمية الأمطار التي تسقط على غوطة دمشق لا تزيد على 215مم سنوياً، يُدرك مدى الأهمية التي تُعلق على نهر بردى، ذلك النهر الذي يشكل في دمشق وحولها ما يشبه دلتا صغيرة يحمل إليها الرطوبة والخصوبة.
والخلاصة، لقد نجح الإنسان فعلاً في انتزاع هذه المساحة من البادية، وفي أن يجعل منها أرضاً من أفضل الأقاليم الزراعية في سورية كلها، وتطلّب ذلك منه استغلال المياه على خير وجه، مستخدماً جميع مصادر طاقته ومهارته، ومستفيداً من وجود المياه المتوفرة في هذه المنطقة.
سكان غوطة دمشق
بستان في غوطة دمشق |
وفي أوائل عهد الانتداب الفرنسي، جرى أول تعداد للسكان عام 1922، بلغ فيه عدد سكان الغوطة 49456 نسمة، ولكن هذه الأرقام ليست موثوقة كل الثقة، ذلك لأن الموظفين المكلفين بعمليات التعداد، لم يكن لديهم من الخبرة والكفاءة ما يؤهلهم للقيام بهذه المهمة، كما أن عاملي الخوف والحذر من السلطة الحاكمة لم يكونا في عهد الفرنسيين أقل منه في عهد العثمانيين الأتراك، ولذلك جاءت هذه الأرقام أقل من الواقع على ما يُظنّ.
وفي عهد الاستقلال، ارتفع عدد سكان الغوطة (بحدودها الإدارية) إلى أكثر من 195 ألف نسمة تقريباً في تعداد 1960، وإلى أكثر من 241 ألف نسمة في تعداد 1970.
ويبدو أن التعديلات التي طرأت على التقسيمات الإدارية فيما بعد، قد أدت إلى اعتماد وحدات إدارية جديدة، لا تظهر فيها غوطة دمشق كوحدة طبيعية وإدارية مستقلة، ولم تعد الوحدات الإدارية الجديدة تفرق بين الغوطة والمرج أو بين الغوطة الشرقية والغوطة الغربية. وأخيراً، لابد من الإشارة إلى أن نكبات الجفاف التي حلت بالبلاد، منذ عام 1954 حتى اليوم، بدلت من معالم الغوطة تبديلاً واسعاً، فقد جفت معظم القنوات المائية، وشحت مياه الينابيع التي تغذي الأنهار، وهبط منسوب المياه الجوفية بسبب قلة الأمطار وكثرة الآبار التي تضخ المياه، وبذلك أخذت الغوطة تفقد طابعها المتميز، بسبب انتشار الخضرة وامتدادها في أرض المرج المحدقة بالغوطة.
أما الخطر الذي هدد الغوطة وكاد يقضي على مظهرها، فهو زحف المدينة بعمرانها ومصانعها يوماً بعد يوم، والتهامها بساتين الغوطة واحداً بعد آخر، مما يبعث القلق في نفوس المزارعين، ولاسيما القريبين من المدينة، فيقعدهم عن العمل منتظرين مصير أرضهم المحتوم، وقد يحولهم من الزراعة إلى تجارة البناء.
والخلاصة، لقد خرجت غوطة دمشق من دائرة الجغرافيا، ودخلت ميدان التاريخ، ولم تعد تلك الغوطة التي تغنى بها الشعراء وتبارى في وصفها الكتاب والأدباء. ولم تعد جنة الأرض لنضارتها وكثرة مياهها وبساتينها وحدائقها، ومع ذلك، فهي مازالت تجذب إليها أبناء المدينة، لقضاء أوقات فراغهم بين ربوعها الفيحاء، وخاصة في أيام الربيع، حيث يقصدها الناس من كل مكان، وينتشرون في حقولها وتحت ظلالها وعلى أطراف طرقاتها، أو بتعبير آخر فيما تبقى منها.
صفوح خير