تنقر على الأرصفة؛ تَهْدِل فوق الرؤوس (هَديْل: صَوت الحَمَام)، تنقضّ بالمئات على ميادين المُدُن، لا يفتأ الحَمَام مَعْلمًا حاضِرًا في المناظر الحَضَريّة الخاصة بمُدُننا والتي ستبدو خالية من دونه.
لكن، وبينما لا يزال كثير من الناس يضمرون استياءهم حول هذه المخلوقات المنتشرة، مطلقين عليهم مسمى “جِرْذان بأجنحة”، قليل منّا فقط من يستوقف نفسه ويتساءل كيف يمكن للحَمَام أن تصبح بهذه الأعداد الهائلة أصلًا، وما هو دورنا في استيطانهم الحَضَريّ.
في الواقع هناك اليوم ما يزيد عن 400 مليون حَمَامة حول العالم، معظمها تعيش في المُدُن. لكن ليست تلك هي القضيّة.
حَمَام المدينة الذي نعرفه اليوم هو في الحقيقة ينحدر من مخلوقٍ بريّ يُعرف بـ (الحَمَام الجبليّ – rock dove) الاسم العلميّ “Columba livia”، وكما يظهر من اسمها تفضّل هذه الطيور العيش في بيئة طبيعيّة -على المنحدرات الصخريّة السّاحلية- على أن تعيش في المُدُن.
ولكن بالعودة إلى ما قبل 10 آلاف سنةٍ ماضية، تُظهِر السّجلات المكتوبة والأُحفوريّة أنّ الناس الذين عاشوا في بلاد الرافدين -العراق اليوم- ومصر القديمة كانوا قد بدؤوا باستمالة هذا الحَمَام البريّ بواسطة الغذاء المتواجد في المناطق المأهولة بالبشر، داعيهم للتعشيش والتكاثر في أراضيهم.
يتحدث (ستيف بُرتغال – Steve Portugal) لموقع (لايف ساينس – Live Science) -وهو مختصّ (الفيسيولوجيا البيئيّة المقارنة – comparative ecophysiologist)، كما يدرس رحلة الطيور وسلوكياتها- : «في ذلك الوقت، جلبنا الحَمَام الجبليّ للعيش في المُدُن للتغذية، كنوعٍ من الدواجن».
ثمّ أمست الطيور اليانعة السمينة -تُعرف بالزغاليل (فرخ الحَمَام)- مصدرًا للبروتينات والدهون. بدأ الناس بعدها بتدجين الطيور وتربيتها للغذاء، منشئين (نُوَيعًا – subspecies) منها أدّى إلى تنوّع الحَمَام الحَضَريّ المعروف اليوم.
ومع الوقت، أدرك البشر أنّ للحَمَام فوائد تتعدى لَحْمها.
فبانتشار الحَمَام أكثر في الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا الغربية خلال القرون العاقبة، بدأ البشر استغلال موهبتها الفطريّة في الملاحة، نفس المهارة التي جعلت من الحَمَام الزاجل شهيرًا اليوم.
تُظهر السجلات القديمة أنّ بحّارة مياه المتوسط استعملوا الطيور لإرشاد السفن المتعثّرة نحو اليابسة.
ولكن خلال الوقت، أضحى الحَمَام مُراسِلين جوّيين ينقلون الرسائل المهمة خلال المسافات البعيدة.
من هنا زاد التقدير الإنسانيّ للحيوانات. بالرغم من أنّ الحَمَام دُجّن في البداية للأكل، تصرّح (إليزابيث كارلن – Elizabeth Carlen) -طالبة الدكتوراة في جامعة فوردهام في مدينة نيويورك والتي تدرس تطور الحَمَام الحَضَريّ- : «في حين أصبحت بقيّة الطيور الداجنة أكثر ظهورًا، قلّ اهتمام الناس بتربيتها للأكل وبدؤوا بتربيتها كَهواية».
في القرن السابع عشر، وصل الحَمَام الجبليّ-الدخيل إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة -إلى أمريكا الشماليّة- منقولًا بالآلاف عبر السفن.
يذكر (مايكل حبيب – Michael Habib) -مختصّ علم الحفريّات في معهد الديناصورات في متحف لوس أنجلوس للتاريخ الطبيعيّ وفِي جامعة جنوب كاليفورنيا- أنّه فضلًا عن جلب الطيور لتكون مصدرًا للغذاء، بدا أنّها أُحضِرت من أوروبا لتلبية متطلبات الموضة المتنامية من تربية الحَمَام بين الهواة آنذاك.
بلا مفر، انفكت الطيور من الأَسْر، وراحت تتكاثر بحُريّةٍ في المُدُن الأمريكيّة. يقول حبيب لِلايف ساينس: «أنشأنا هذا الموطن الجديد (الحَضَريّ) ومن ثمّ صممّنا بكلّ بساطة حيوانًا متكيفًا بشكلٍ تام مع هذا الموطن الجديد. نجح الحمام في العيش في المُدُن لأنّنا أنشأناه على التأقلم على العيش قرب الإنسان».
أضحت المُدُن السبب وراء نجاح الحَمَام الباهر.
تخبر كارلين لايف ساينس وتقول: «الحَمَام بطبيعة الحال سكّان جبالٍ، والبنايات الطويلة تمثّل دورًا رائعًا محاكيةً الجبال.
إذ تعمل الواجهات المزخرفة، وعتبات النوافذ ووحدات التكييف كأعشاشٍ ومجاثم للحَمَام، مشابهةً للصدوع والشقوق الموجودة على جنبات الجبال».
خاصيّة أخرى تجعل الحَمَام أكثر تكيّفًا وهي شهيّتها. فبينما تعتمد الأنواع الأخرى من الطيور على الثمار والبذور والحشرات في أكلها، يستطيع الحَمَام أكل أيّ شيء يرمي به البشر في قماماتهم.
يقول بُرتغال: «الأنواع أخرى انتقائيّة (أخصائيّة – specialists)، والحَمَام ليس كذلك (ultimate generalists). الطعام غير محدود، ولا أعتقد أنّ الحَمَام يبيت جائعًا!».
طبيعة تكاثر الحَمَام تحسم الجدل.
يغذّي الحَمَام فراخه على طعام خاص وهو عبارة عن لبنٍ غنيّ بالبروتينات والدهون يتواجد في جِرْب بحلوقه ويسمى (الحَوْصَلة – crop) (المترجم: يسمى هذا الحليب بلبن العصفور أو حليب الحوصلة).
لذا بدلًا من الاعتماد على الحشرات والديدان والبذور لإطعام الصغار -وهي موارد نادرة الوجود في المُدُن- يستطيع الحَمَام تزويد أبنائه بما يشاء.
يقول بُرتغال: «يستطيع الصغار الأكل، طالما استطاع البالغون ذلك».
كل هذه الخصائص أعطت الحَمَام ميّزةً تنافسيّةً مقارنةً بغيره من الأنواع الأخرى التي تكافح للعيش في المُدُن.
أضف إلى ذلك، قدرة الحَمَام الهائلة على التكاثر -حيث يستطيع الحَمَام إنتاج 10 بيضات في السنة- ما يُيسّر علينا فهم تواجده بهذه الكميّة الكبيرة حول العالم.
لا يتّفق جميع الناس على إطلاق لقب “جِرْذان بأجنحة”.
لكنّ الأمر يُصبح مفهومًا إلى حدّ ما حين نعلم أنّ الحَمَام قادر على نشر الأمراض، وأنّ أكوام الذُراق -مخلّفات الطيور- الذي يتركه خلفه على المباني يُعتبَر عبءاً وحِمْلًا مكلّفًا عند تنظيفه.
بالرغم من هذا، يرى بُرتغال فائدةً من تواجده حول بيئتنا الحَضَريّة، ويقول: «يُعتبَرُ الحمام أحد الأجزاء القليلة من الحيوات البريّة والتي استطاع الإنسان التفاعل معها في المُدُن اليوم. وما هو أكثر من ذلك، إنهّ متكيّف وناجح؛ إنّه ناجٍ جَلِد. في الواقع نستطيع التعلم منه كثيرًا»