لقد عرف التراث العربي القديم شعراً يؤلفه أطفال أصبحوا في ما بعد من كبار شعراء العربية. كان من بينهم الشعراء طرفة بن العبد وكعب بن زهير ولبيد بن ربيعة وأبي الطيب المتنبي وعبد الله بن المعتز. كان إنتاجهم للشعر هو نتاج تدريب وتمرُّن. فالشاعر يولد في القبيلة، ويجد أن للشعر دوراً متميزاً في تشكيل الحياة الاجتماعية. فهو مصدر من مصادر رأس مال القبيلة. هو الحاضنة التاريخية لتصورات القبيلة عن نفسها وتاريخ حروبها وقيمها ونسبها الذي يميزها من غيرها من القبائل فكان ميلاد شاعر حدثاً اجتماعياً يُحتفى به. ولم يكن الشعر كواحد من وجوه الممارسة الأدبية المتعددة نتاجَ الموهبة الفطرية لكنه كان وليد الاكتساب الذي يبدأ منذ لحظة الميلاد. فالطفل الرضيع ينصت إلى شعر تردده له أمه يعبر عن مشاعرها الخاصة تارة وينقل ويغرس القيم العليا للجماعة القبلية. ثم يكبر ويبدأ، حال إحساسه بالرغبة في ممارسة إنشاد الشعر، بالتعرُّض لما يمكن تسميته التعميد الشعري؛ وهو أن يمر الفرد بتدريب شاق على فن الشعر. يبدأ بحفظ عدد كبير من الأبيات حتى رواية الشعر ثم تأليفه كآخر المحطات.
ويطلعنا التراث العربي على نماذج من هذه العملية المتدرجة عبر نموذجين؛ أولهما حالة كعب بن زهير والثانية حالة أبي نواس. فالأول يمنعه والده من الإنشاد خوفاً على مجد القبيلة أن يزول ويأتي بشعر على غير المتوقع لدى جموع المتلقين، ما يصيب القبيلة بالعار. لكن التراث لا يغفل الإشارة إلى عملية التدريب التي كان يقوم بها لولده. وهي العملية ذاتها التي يقوم بها بعض المهتمين المعاصرين بتدريس الأدب، إذ كان يدرب ولده عبر طريقة التعلم بالممارسة، حيث كان ينشد بيتاً، ويرد ولده ببيت. وهكذا معاً ينشئان نصاً مشتركاً، نصاً جماعياً. وهو عين ما قام به تولستوي حين أراد أن يعلم تدريس الأدب الروسي، بأن يدرس طلابه فن القص. كان تولستوي وقتها قد كف عن الكتابة كلية، ولكنه عبر التفاعل مع هؤلاء الصغار استطاع أن يجدد من ملكته الإبداعية، وأن يقدم في ما بعد روايته الحرب والسلام.
ثانيهما، لما أراد أبو نواس أن يكون شاعراً ذهب إلى الراوية خلف الأحمر وعرض عليه الأمر فما كان من الأخير إلا أن طلب منه حفظ ألف بيت من الشعر وأن يأتيه بعدها، فلما جاءه في حينه أبى إلا أن ينساها، فلما فعل، قال له الآن يمكنك أن تنشد الشعر. يقدم إلينا المثال الثاني جانباً من آليات التعلم القائم على اكتساب بنية الكتابة عبر الحفظ، وذلك يقترب من مفهوم جان بياجيه عن «غير الوعي»، وهو ما يعنيه ابن خلدون حين تحدث عن صنعة الحائك في صناعته، فهو يحيك الثوب، ويقوم بعمل آخر، من دون أن يلتفت لما يقوم به. الجسد قد حفظ عملية الحياكة، ومن ثم يمكنه أن يقوم بعمل آخر لا يعوق صنعته.
ومن النماذج التي يمكن التدليل بها على أدب الطفل، ما نظمه طرفة بن العبد صغيراً في سن مبكرة، فيما أورده الدميري في حياة الحيوان الكبرى، حين خرج مع عمه على سفر، فاستهواه صيد (القبّرة)، فقال:
يا لـك مـن قبـرة بمعمـر
خلا لك الجو فبيضي واصفـري
قد رفـع الفـخ فماذا تحذري
ونقـري مـا شئت أن تنقـري
قد ذهب الصياد عنك فأبشري
لا بـد مـن أخذك يوماً فاحذري
والشيء اللافت حقاً أن النماذج المقدمة لتلك الأعمال الشعرية التي أنشدها الشعراء صغـاراً، تدلل بقوة على طبيعة التوجه الفكري والجمالي الذي سيسود إبداع الشاعر حين ينبغ. ومن هذه النماذج قول المتنبي:
يا أبي من وددته فافترقنـا
وقضى الله بعد ذلك اجتماعـا
فافترقنا حولاً فلما التقينـا
كـان تسليمـه علي وداعـا
فالبيتان يلخصان منهجية المتنبي في التأليف القائمة على التلاعب اللغوي بالمفردات، وشغل الأذن وعقل المتلقي في آن عبر استخدام المفارقة، وهي طريقة معتمدة جداً في ما قدمه بعد ذلك.
ولكن «تدوين شعر مرحلة الطفولة عند معظم الشعراء لم يتحقق بالقدر المقنع، فضـلاً عن عدم اكتراث الشعراء أنفسهم في مرحلة صباهم بتدوين محاولاتهم الأولى»