لا الغوطتان و لا الشباب أدعو هواي فلا أجاب
أين الشام من البحيرة و المآذن و القباب
و قبور إخواني و ما أبقى من السيف الضراب
الصامتات و للطيور على مشارفها اصطخاب
الغافيات فلم ترع منها الزماجر و الوثاب
أشتاق أحضنها و ألثمها و للدمع انسكاب
تحنو الدموع على القبور فتورق الصمّ الصلاب
و لها إلينا لهفة و لطول غربتنا انتحاب
يا شام : يا لدة الخلود و ضمّ مجدكما انتساب
من لي بنزر من ثراك و قد ألحّ بي اغتراب
فأشمّه و كأنّه لعس النواهد و الملاب
و أضمّه فترى الجواهر كيف يكتنز التراب
هذا الأديم شمائل غرّ و أحلام عذاب
و أمومة و طفولة و رؤى كما عبر الشهاب
و تحيّة مسكيّة من سالفين هووا و غابوا
و من الأبوّة و الجدود لأهل ودّهم خطاب
هذا الأديم أبي و أمّي و البداية و المآب
و وسائدي و قلائدي و دمى الطّفولة و السخاب
ودد يباع له الوقار و لا ندامة و الصواب
أغلى عليّ من النجوم و لا ألام و لا أعاب
الروح من غيب السماء و منك قد نسج الإهاب
أشتاق شمسك و الضحى أنا و البحيرة و الضباب
و مضفّرات بالثلوج كأنّما نصل الخضاب
تعوي الرّياح فما القساور في الفلاة و ما الذئاب
و الثلج جنّ فلم تبن سبل و لم تعرف شعاب
أخفى المعالم لا السفوح هي السفوح و لا الهضاب
يا شمس غبت فكيف تمّ ? و لا طلوع لك ? الغياب
إن كنت مسلمة الهوى فتألّقي رفع الحجاب
ملّ السحاب من السماء وقرّ في الأرض السحاب
و كأنّ ملء الأرض ملء الأفق آلهة غضاب
حسن يهاب و ما سما حسن يحبّ و لا يهاب
***
دوح البحيرة أين سامرك المعطّر و الشراب
و الراقصون ونوا فحين دعاهم النغم ، استجابوا
و القاطفون شفاههم كورودهم حمر رطاب
ثغر على ثغر . تسرّب فيه ، فاختلط الرضاب
قبل ، أغاريد الشفاه فتستعاد و تستطاب
و تكاد تقطف كالرّياحين المجانة و الدعاب
أهي العقود على الرّقاب بل المعاصم و الرقاب
بيني و بين الدوح في أحزانه النسب القراب
من كلّ موحشة فأين الطيب و الوهج المذاب
و غدا يعود لك الشباب و لن يعود لي الشباب
الدّهر ملك يمينه و الشمس من يسراه قاب
طابت سلافته تدار على سكارها و طابوا
لهفي عليه فطالما أشقاه لوم و اغتياب
نعم الملائك بالشباب فما لنعمته استلاب
و يزورنا لمع البروق فما للامعه اصطحاب
و العمر أيام قد اختصرت و آمال رحاب
ليت الملائك يشفقون على الألى عبثوا و خابوا
قدر تعجّل أن نعاقب مؤمنين و أن يثابوا
عد يا شباب و لن أطامن من جماحك يا شباب
***
في غربة أنا و الإباء المرّ و الأدب اللباب
كالسيف حلّته الفتوح و ربّما بلي القراب
طود أشمّ فكيف ترشقني السّهام و لا أصاب
يخفي البغاث فلا تلمّ به و لا يخفى العقاب
الكبر عندي للعظيم إذ تكبّر لا العتاب
عندي له زهد يدلّ على الكواكب و اجتناب
يزهو الكريم و قلبه قطع تمزّقها الحراب
أغلى المروءة شيمة طبعت و أرخصها اكتساب
***
أنا ما عتبت على الصحاب فليس في الدنيا صحاب
خرس و لكن قد تفاصحت الخواتم و الثياب
عقمت مروءتهم و تطمع أن يدغدغها احتلاب
و اعفّ عن سبّ اللئيم و ربّما نبل السباب
حيّا فبشر سلامه نزر و بسمته اغتصاب
يا من يمنّ بودّه و الشهد . حين يمنّ ? صاب
أنا كالمسافر لاح لي أيك و أغرتني قباب
و تفتّحت حولي الرياض الخضر و اصطفق العباب
و وثقت أنّ النهر ملك يدي ففاجأني السراب
***
أنا لا أرجّي غير جبّار السماء و لا أهاب
بيني و بين الله من ثقتي بلطف الله باب
أبدا ألوذ به و تعرفني الأرائك و الرّحاب
لي عنده من أدمعي كنز تضيق به العياب
***
يا ربّ : بابك لا يردّ اللائذين به حجاب
مفتاحه بيديّ يقين لا يلمّ به ارتياب
و محبّة لك لا تكدّر بالرّياء و لا تشاب
و عبادة لا الحشر أملاها عليّ و لا الحساب
وإذا سألت عن الذنوب فإن ّ أدمعي الجواب
هي في يميني حين أبسطها لرحمتك الكتاب
إنّي لأغبط عاكفين على الذنوب و ما أنابوا
لو لم يكونوا واثقين بعفوك الهاني لتابوا
منهم غدا لكنوز رحمتك اختطاف و انتهاب
و لهم غدا بيقينهم من فيء سدرتك اقتراب
و سقيت جنّتك الدموع فروّت النطف العذاب
و سكبت في نيرانك العبرات فابترد العذاب
تنهل في عدن فنوّر كوكب و نمت كعاب
قرّبتها زلفى هواك فلا الثواب و لا العقاب
أنت المرجّى لا تناخ بغير ساحتك الركاب
الأفق كأسك و النجوم الطافيات به حباب
أنا من بحارك قطرة مّما تحمّله الرباب
ألقى بها بعد السّفار فضمّها قفر يباب
ألبحر غايتها فلا واد يصدّ و لا عقاب
يا دمعة المزن اغتربت و شطّ أهلك و الجناب
حثّي خطاك فللفروع إلى أرومتها انجذاب
حثّي خطاك فشاهق يرقى و موحشة تجاب
ألبحر معدنك الأصيل و شوق روحك و الحباب
و غدا للجّته و إن بعدت يتمّ لك انسياب
***
أنا لا أطيل إذا ابتهلت و قد تحدّتني الصّعاب
لا أشتكي و بمهجتي ظفر يمزّقها و ناب
مسح الحياء على الدموع و أكرم الشكوى اقتضاب
تكفي ببابك وقفة و أسى تجمّل و اكتئاب
***
يا شام عطر سريرتي حبّ لجمرته التهاب
أنت اللبانة في الجوانح لا النوار و لا الرباب
لك مهجتي و قبولها منك الهديّة و الثواب
و النور في عيني و لا منّ عليك و لا كذاب
أنا من عرفت : تجلّد عند النوائب و احتساب
و لئن عثرت فربّما عثرت مجليّة عراب
يعيا بحقّك من يسوّفه و لا يعيا الطلاب
غالبت أشواقي إليك و يضرم الشوق الغلاب
و وددت لو عمرت رباك و ألف عامرة خراب
أنا طيرك الشادي و للأنغام من كبدي انسراب
سكبت أغاريدي و للأمواج زأر و احتراب
فصغت تسمعها الريّاح و قرّ في الموج اضطراب
أنا و الربيع مشرّدان و للشذا معنا ذهاب
لا الأيك بعد غيابنا غرد الطيوب و لا الرباب
و النور يسأل و الخمائل و الجمال متى الإياب ؟