سلي الجمر هل غالى وجنّ و عذّبا
كفرت به حتّى يشوق و يعذبا
و لا تحرميني جذوة بعد جذوة
فما اخضلّ هذا القلب حتّى تلهّبا
و ما نال معنى القلب إلاّ لأنّه
تمرّغ في سكب اللّظى و تقلّبا
هبيني حزنا لم يمرّ بمهجة
فما كنت أرضى منك حزنا مجرّبا
و صوغيه لي وحدي فريدا و أشفقي
على سرّه المكنون أن يتسرّبا
مصونا كأغلى الدرّ عزّ يتيمه
فأودع في أخفى الكنوز و غيّبا
و صوغيه مشبوب اللّظى و تخيّري
لآلامه ما كان أقسى و أغربا
و صوغيه كالفنّان يبدع تحفه
و يرمقها نشوان هيمان معجبا
فما الحزن إلاّ كالجمال ، أحبّه
و أترفه ، ما كان أنأى و أصعبا
خيالك يا سمراء ، مرّ بغربتي
فحيّا و رحّبنا طويلا و رحّبا
جلاك لعيني مقلتين و ناهدا
و ثغرا كمطول الرياحين أشنبا
فصانك حبّي في الخيال كرامة
و همّ بما يهواه لكن تهيّبا
و بعض الهوى كالغيث إن فاض تألّق
و بعض الهوى كالغيث إن فاض خرّبا
أرى طيفك المعسول في كلّ ما أرى
وحدت و لكن لم أجد منه مهربا
سقاني الهوى كأسين : يأسا و نعمة
فيالك من طيف أراح و أتعبا
و خالط أجفاني على السّهد و الكرى
فكان إلى عيني من الجفن أقربا
شكونا له السّمراء حتّى رثى لنا
و جرّأنا حتّى عتبنا فأعتبا
و ناولني من أرز لبنان نفحة
فعطّر أحزاني و ندّى و خضّبا
و ثنّى بريّا الغوطتين يذيعها
فهدهد أحلامي وأغلى و طيّبا
و هل دلّلت لي الغوطتان لبانة
أحبّ من النعمى و أحلى و أعذبا
وسيما من الأطفال لولاه لم أخف
_ على الشيب_ أن أنأى و أن أتغرّبا
تودّ النّجوم الزهر لو أنّها دمى
ليختار منها المترفات و يلعبا
و عندي كنوز من حنان و رحمة
نعيمي أن يغرى بهنّ و ينهبا
يجور و بعض الجور حلو محبّب
و لم أر قبل الطفل ظلما محبّبا
و يغضب أحيانا و يرضى و حسبنا
من الصفو أن يرضى علينا و يغضبا
و إن ناله سقم تمنّيت أنّني
فداء له كنت السقيم المعذّبا
و يوجز فيما يشتهي و كأنّه
بإيجازه دلاّ أعاد و أسهبا
يزفّ لنا الأعياد عيدا إذا خطا
و عيدا إذا ناغى و عيدا إذا حبا
كزغب القطا لو أنّه راح صاديا
سكبت له عيني و قلبي ليشربا
و أوثر أن يروى و يشبع ناعما
و أظمأ في النعمى عليه و أسغبا
و ألثم في داج من الخطب ثغره
فأقطف منه كوكبا ثمّ كوكبا
ينام على أشواف قلبي بمهده
حريرا من الوشي اليمانيّ مذهبا
و أسدل أجفاني غطاء يظلّه
و ياليتها كانت أحنّ و أحدبا
و حمّلني أن أقبل الضيم صابرا
و أرغب تحنانا عليه و أرهبا
فأعطيت أهواء الخطوب أعنّتي
كما اقتدت فحلا معرق الزّهو مصعبا
تأبّى طويلا أن يقاد .. و راضه
زمان فراخى من جماح و أصحبا
تدلّهت بالإيثار كهلا و يافعا
فدلّلته جدّا و أرضيته أبا
و تخفق في قلبي قلوب عديدة
لقد كان شعبا واحدا فتشعّبا
و يا ربّ من أجل الطفولة وحدها
أفض بركات السلم شرقا و مغربا
و ردّ الأذى عن كلّ شعب و إن يكن
كفورا و أحببه و إن كان مذنبا
و صن ضحكة الأطفال يا ربّ إنّها
إذا غرّدت في موحش الرمل أعشبا
ملائك لا الجنّات أنجبن مثلهم
و لا خلدها _ أستغفر الله _ أنجبا
و يا ربّ حبّب كلّ طفل فلا يرى
و إن لجّ في الإعنات وجها مقطّبا
و هيّئ له في كلّ قلب صبابة
و في كلّ لقيا مرحبا ثمّ مرحبا
و يا ربّ : إنّ القلب ملكك إن تشأ
رددت محيل القلب ريّان مخصبا
و يا ربّ في ضيق الزّمان و عسره
أرى الصّبر آفاقا أعزّ و أرحبا
صليب على غمز الخطوب و عسفها
و لولا زغاليل القطا كنت أصلبا
و لي صاحب أعقيته من موّدتي
و ما كان مجنون الغرور ليصحبا
غريبان لكنّي وفي و ما وفى
و نازع حبل الودّ حتّى تقضّبا
و با ربّ هذي مهجتي و جراحها
سيبقين إلاّ عنك سرّا محجّبا
فما عرفت إلاّ قبور أحبّتي
و إلاّ لداتي في دجى الموت غيّبا
و ما لمت في سكب الدّموع فلم تكن
خلقت دموع العين إلاّ لتسكبا
و لكنّ لي في صون دمعي مذهبا
فمن شاء عاناه و من شاء نكّبا
و يا ربّ لأحزاني وضاء كأنّني
سكبت عليهنّ الأصيل المذهّبا
ترصّد نجم الصبح منهنّ نظرة
و أشرف من عليائه و ترقّبا
فأرخيت آلاف الستور كأنّني
أمدّ على حال من النّور غيهبا
فغوّر نجم الصّبح يأسا و ما أرى
على طهره _ حتّى بنانا مخضّبا
و قد تبهر الأحزان و هي سوافر
و لكنّ أحلاهنّ حزن تنقّبا
و يا ربّ : درب الحياة سلكته
و ما حدت عنه لو عرفت المغيّبا
و لي وطن أكبرته عن ملامة
و أغليه أن يدعى _ على الذّنب مذنبا
و أغليه حتّى قذ فتحت جوانحي
أدلّل فيهنّ الرّجاء المخيّبا
تنكّر لي عند المشيب _ و لا قلى _
فمن بعض نعماه الكهولة و الصبا
و من حقّه أن أحمل الجرح راضيا
و من حقّه أن لا ألوم و أعتبا
و ما ضقت ذرعا بالمشيب فإنّني
رأيت الضحى كالسّيف عريان أشيبا
يمزّق قلبي البعد عمّن أحبّهم
و لكن رأيت الذلّ أخشن مركبا
و أستعطف التاريخ ضنّا بأمّتي
ليمحو ما أجزى به لا ليكتبا
و يا ربّ : عزّ من أميّة لا انطوى
و يا ربّ : نور وهّج الشرق لا خبا
و أعشق برق الشام إن كان ممطرا
حنونا بسقياه و إن كان خلّبا
و أهوى الأديم السّمح ريّان مخصبا
سنابله نشوى و أهواه مجدبا
مآرب لي في الرّبوتين و دمّر
فمن شمّ عطرا شمّ لي فيه مأربا
سقى الله عند اللاذقيّة شاطئا
مراحا لأحلامي و مغنى و ملعبا
و أرضى ذرى الطّود الأشمّ فطالما
تحدّى و سامى كلّ نجم و أتعبا
و جاد ثرى الشهباء عطرا كأنّه
على القبر من قلبي أريق و ذوّبا
و حيّا فلم يخطئ حماة غمامه
وزفّ لحمص العيش ريّان طيّبا
و نضّر في حوران سهلا و شاهقا
و باكر بالنّعمى غنّيا و متربا
و جلجل في أرض الجزيرة صيّب
يزاحم في السّقيا و في الحسن صيّبا
سحائب من شرق و غرب يلمّها
من الريح راع أهوج العنف مفضبا
له البرق سوط لا تندّ غمامة
لتشرد إلاّ حزّ فيها و ألهبا
يؤلفها حينا و تطفر جفّلا
و حاول لم يقنط إلى أن تغلّبا
أنخن على طول السماء و عرضها
يزاحم منها المنكب الضخم منكبا
فلم أدر هل أمّ السماء قطيعه
من الغيم أو أمّ الخباء المطنّبا
تبرّج للصحراء قبل انسكابه
فلو كان للصحراء ريق تحلّبا
و تعذر طلّ الفجر لم يرو صاديا
و لكنّه بلّ الرّمال و رطّبا
و يسكرها أن تشهد الغيم مقبلا
و أن تتملاّه و أن تترقّبا
كأنّ طباع الغيد فيه فإن دنا
قليلا . نأى حتّى لقد عزّ مطلبا
و يطمعها حتّى إذا جنّ شوقها
إليه انثنى عن دربها و تجنّبا
تعدّ ليالي هجره و سجيّة
بكلّ مشوق أن يعدّ و يحسبا
و يبده بالسقيا على غير موعد
فما هي إلاّ لمحة وتصبّبا
كذلك لطف الله في كلّ محنة
و إن حشد الدّهر القنوط و ألّبا
إلى أن جلاها كالكعاب تزيّنت
لتحسد من أترابها أو لتخطبا
و مرّت على سمر الخيام غمامة
تجرّ على صاد من الرّمل هيدبا
نطاف عذاب رشّها الغيم لؤلؤا
وتبرا فما أغنى و أزهى و أعجبا
حبت كلّ ذي روح كريم عطائها
فلم تنس آراما و لم تنس أذؤبا
و جنّت مهاة الرّمل حتّى لغازلت
و جنّ حمام الأيك حتّى لشبّبا
و طاف الحمام السمح في البيد ناسكا
إلى الله في سقيا الظماء تقرّبا
عواطل مرّ المزن فيهنّ صائغا
ففضّض في تلك السّهول و ذهّبا
و ردّ الرّمال السمر خضرا و حاكها
سماء و أغناها و رشّ و كوكبا
و ردّ ضروع الشاء بالدرّ حفّلا
لترضع حملانا جياعا و تحلبا
و حرّك في البيد الحياة و سرّها
فما هامد في البيد إلا توثّبا
و لا عب في حال من الرّمل ربربا
و ضاحك في غال من الوشي ربربا
و جمّع ألوان الضياء و رشّها
فأحمر ورديّا و أشقر أصهبا
و أخضر بين الأيك و البحر حائرا
و أبيض بالوهج السماوي مشربا
و لونا من السّمراء صيغت فتونه
بياضا نعم لكن بياضا تعرّبا
أتدري الرّبى أنّ السماوات سافرت
لتشهد دنيانا فأغفلت على الربى
ألمّ بكفي النجوم و أنتقي
مزرّرها في باقتي و المعصّبا
دياري و أهلي بارك الله فيهما
و ردّ الرّياح الهوج أحنى من الصبا
و أقسم أنّي ما سألت بحبّها
جزاء و لا أغليت جاها و منصبا
و لا كان قلبي منزل الحقد و الأذى
فإنّي رأيت الحقد خزيان متعبا
تغرّب عن مخضلّة الدوح بلبل
فشرّق في الدنيا وحيدا و غرّبا
و غمّس في العطر الإلهيّ جانحا
و زفّ من النّور الإلهيّ موكبا
تحمّل جرحا داميا في فؤاده
و غنّى على نأي فأشجى و أطربا